العقائد الإسلاميّة - ج ٣

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية

العقائد الإسلاميّة - ج ٣

المؤلف:

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-120-6
ISBN الدورة:
964-319-117-6

الصفحات: ٤٩٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

فهم يضعون العقيدة فوق العمل .

وكانت آراؤهم تتفق تماماً مع رجال البلاط الأموي ومن يلوذ به ، بحيث لا يستطيع أحد من الشيعيين أو الخوارج أن يعيش بينهم ، في الوقت الذي تمكن فيه المسيحيون وغيرهم من المسلمين أن ينالوا الحظوة لديهم ، أو يشغلوا المناصب العالية ! . انتهى .

ويمكنك ملاحظة التناقض بين ما ذكره الدكتور والمستشرقون عن تقوى المرجئة وتحرجهم عن إدانة أي مسلم مهما كانت الذنوب التي اقترفها وحكمهم عليه بأنه من أهل الجنة بحكم عقيدتهم ، وبين تقواهم في أنهم كانوا يتعايشون مع الحكام الأمويين والنصارى واليهود ولا يتعايشون مع من خالفهم من المسلمين .

ولعل السبب في ذلك أن الحكام الأمويون أساتذتهم في عملية إسقاط المحرمات ، بينما اليهود والنصارى أساتذتهم في نظرية إسقاط المحرمات ! !

ثم قال الدكتور حسن إبراهيم :

وبزوال الدولة الأموية أفل نجم طائفة المرجئة ولم تصبح بعد حزباً مستقلاً ، ومع ذلك فقد ظهر من بينهم أبو حنيفة صاحب المذهب المشهور . انتهى .

ولكن حكمه بزوال المرجئة مع أسيادهم الأمويين غير دقيق ، لأنهم سقطوا سياسياً لا ثقافياً ، فقد بقيت أفكارهم ورواياتهم وعقائدهم في مصادر المسلمين . . ويكفي دليلاً على ذلك اتهام أبي حنيفة وغيره بأنهم منهم . . فإن خط المرجئة عاد إلى النفوذ والحكم بقرار من الدولة العباسية لكي تواجه به أهل البيت عليهم‌السلام .

غاية الأمر أن اسمهم صار الأشعرية والحنابلة وأهل الحديث وأهل السنة ، فإن أكثرية هؤلاء من المرجئة !

ويكفي دليلاً على ذلك أن كبار علمائهم لا يستطيعون التفريق بين رأيهم في الشفاعة وبين رأي المرجئة ، وأن إطاعتهم للعباسيين كإطاعة المرجئة للأمويين !

٣٦١
 &

بل يمكن القول إنه بعد زوال العباسيين وكثير من الفرق لم ينته المرجئة ، لأن أساس مذهبهم ومنبع أفكارهم الأحاديث التي دخلت الصحاح كما رأيت ، ومن أراد أن يأخذ بها ويلتزم بلوازمها فلا بد له أن يكون مرجئاً ويقول بسقوط المحرمات عملياً ، ويكتفي بالشهادتين كما مر في توسيع الشفاعة ! !

*       *

وأخيراً فقد نقل الدكتور المذكور تأسف المستشرق فون كريمر على ضياع تاريخ المرجئة بعد زوالهم قال في ج ١ ص ٤١٨ :

ويقول فون كريمر : ومما يؤسف له كثيراً أنه ليس لدينا غير القيل من الأخبار الصحيحة عن هذه الطائفة ، فقد استمروا طوال ذلك العصر وذاقوا حلوه ومره ، وقد ضاعت جميع المصادر التاريخية العربية عن الأمويين ، حتى أن أقدم المصادر التاريخية التي وصلت إلينا إنما ترجع إلى عهد العباسيين ، ومن ثَمَّ كان لزوماً علينا أن نستقي معلوماتنا عن المرجئة من تلك الشذرات المبعثرة في مؤلفات كتاب العرب في ذلك العصر الثاني . انتهى .

وهو تأسف ظاهره علمي وواقعه البكاء على المرجئة لما اشتهر عنهم وعن الأمويين من تفضيلهم التعايش مع المسيحيين واليهود على التعايش مع من خالفهم من المسلمين . . وهو تأسف يجعلنا نلمس صدق قول الإمام محمد الباقر عليه‌السلام عن المرجئة بأنهم أشبه باليهود من الليل بالليل ، وذلك لجرأتهم على إسقاط قانون العقوبة الإلۤهي ، وقولهم إن المسلم مهما ارتكب من جرائم فلن تمسه النار حتى أياماً معدودة ، فليس غريباً أن يحبهم ويتأسف عليهم المستشرقون من اليهود والنصارى !

*       *

المرجئة والجبرية شقيقان لأب وأم

مع أن مذهب المرجئة مذهبٌ في الثواب والعقاب ولا علاقة له بالقضاء والقدر

٣٦٢
 &

والجبر والتفويض . . ومع أن النسبة بين المرجئة وبين القدرية والمفوضة عمومٌ من وجه ، لأن المرجئ في الأعمال قد يكون مفوضاً أو قدرياً ، كما أن القدري والمفوض قد يكون مرجئاً أو غير مرجئ . .

ولكن ذلك كله في مقام الإثبات والنظرية ، أما في مقام الثبوت والتطبيق فالأعم الأغلب في المرجئة أنهم قدرية جبرية ، والسبب في ذلك أن الأحاديث التي استندوا إليها في القول بالإرجاء أو ( تشبثوا ) بها على حد تعبير اللكنوي رافقتها أحاديث الجبر التي تنسب أفعال الإنسان إلى الله تعالى وتحمله مسؤوليتها ، لكي ترفعها عن الإنسان ، كما رأيت في أحاديث توسيع الشفاعة وفناء النار !

وبما أن مسائل القضاء والقدر متعددة ، لذا نكتفي هنا بإعطاء تصورٍ كلي عنها ليتضح ارتباطها بموضوع الشفاعة والإرجاء فنقول :

ورد تعريف القدر الإلۤهي في نص بديع عن الإمام الرضا عليه‌السلام بأنه ( الهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء ) كما سيأتي . وقد وقع الخلاف بين المسلمين في مسائله العديدة ، وتكونت على أساس آرائهم مذاهبهم العقائدية .

ـ قال السيد الطباطبائي في هامش الكافي ج ١ ص ١٥٧

واعلم أن البحث عن القضاء والقدر كان في أول الأمر مسألة واحدة ثم تحول ثلاث مسائل أصلية الأولى : مسألة القضاء وهو تعلق الإرادة الإلۤهية الحتمية بكل شيء والأخبار تقضي فيها بالإثبات . . .

الثانية : مسألة القدر وهو ثبوت تأثير ما له تعالى في الأفعال والأخبار تدل فيها أيضاً على الإثبات .

الثالثة : مسألة الجبر والتفويض والأخبار تشير فيها إلى نفي كلا القولين وتثبت قولاً ثالثاً وهو الأمر بين الأمرين لا ملكاً لله فقط من غير ملك للإنسان ولا بالعكس بل ملكاً في طول ملك وسلطنة في ظرف سلطنة .

واعلم أيضاً أن تسمية هؤلاء بالقدرية مأخوذة مما صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ( إن القدرية

٣٦٣
 &

مجوس هذه الأمة الحديث ) فأخذت المجبرة تسمي المفوضة بالقدرية لأنهم ينكرون القدر ويتكلمون عليه والمفوضة تسمي المجبرة بالقدرية لأنهم يثبتون القدر . والذي يتحصل من أخبار أئمة أهل البيت عليهم‌السلام أنهم يسمون كلتا الفرقتين بالقدرية ويطلقون الحديث النبوي عليهما .

أما المجبرة فلانهم ينسبون الخير والشر والطاعة والمعصية جميعاً إلى غير الإنسان كما أن المجوس قائلون بكون فاعل الخير والشر جميعاً غير الإنسان وقوله عليه‌السلام في هذا الخبر مبني على هذا النظر .

وأما المفوضة فلانهم قائلون بخالقين في العالم هما الإنسان بالنسبة إلى أفعاله والله سبحانه بالنسبة إلى غيرها كما أن المجوس قائلون بإله الخير وإله الشر وقوله عليه‌السلام في الروايات التالية ( لا جبر ولا قدر ) ناظر إلى هذا الإعتبار . انتهى .

ونضيف إلى ما ذكره السيد الطباطبائي رحمه‌الله : مسألة البداء ، وهي هل أن تقدير الله تعالى في كل الأمور حتمي عليه ، فلا يمكنه تغيير شيء منه ، لأنه فرغ من الأمر على حد تعبير بعض المسلمين ، أو لأن يده مغلولة على حد تعبير اليهود . . أم أن القدر مفتوح له تعالى ، وله الحق والقدرة على البداء والتغيير كما يشاء ، لأنه فرغ من الأمر ولم يفرغ منه على حد تعبير أهل البيت عليهم‌السلام .

القدرية المفوضة ( الذين ينفون القدر )

محور الخلاف في مسألة القدر هو : سلطة الله تعالى على أفعال الإنسان وحركة الطبيعة والكون ، وفعله فيها .

فالذين ينفون هذه السلطة يسمون ( المفوضة ) لأنهم يزعمون أن الإنسان مفوضٌ في أعماله ، ولا دخل لله تعالى ولا لسلطته فيها .

وقد يكون المفوضة مؤمنين بوجود الله تعالى ، ولكنهم يقولون إنه فوض ذلك إلى الإنسان وقوانين الطبيعة . .

٣٦٤
 &

وقد يكونون ملحدين دهريين أو مشككين ، ويعبر عنهم بالمفوضة أيضاً ، لأنهم ينفون سلطة الله تعالى وفاعليته في أفعال الإنسان وحركة الطبيعة .

وهم في عصرنا فئات الماديين من الملحدين والطبيعيين وأكثر العلمانيين ، وبعض المتأثرين بالثقافة الغربية من المسلمين .

والتفويض في القدر مرفوض كلياً عند أهل البيت عليهم‌السلام ومنه التفويض الذي يذهب إليه أكثر المعتزلة أيضاً . قال في شرح المواقف ج ٨ ص ١٤٦ : وقالت المعتزلة أي أكثرهم : هي ( الأفعال الإختيارية ) واقعة بقدرة العبد وحدها على سبيل الإستقلال بلا إيجاب بل باختيار .

ـ وقال الكليني في الكافي ج ١ ص ١٥٧

علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن إسماعيل بن مرار ، عن يونس بن عبد الرحمن قال : قال لي أبو الحسن الرضا عليه‌السلام :

يا يونس ، لا تقل بقول القدرية فإن القدرية لم يقولوا بقول أهل الجنة ، ولا بقول أهل النار ، ولا بقول إبليس !

فإن أهل الجنة قالوا : الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .

وقال أهل النار : ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين .

وقال إبليس : رب بما أغويتني .

فقلت : والله ما أقول بقولهم ولكني أقول : لا يكون إلا بما شاء الله وأراد وقدر وقضى .

فقال : يا يونس ليس هكذا ، لا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى .

يا يونس تعلم ما المشيئة ؟

قلت : لا .

قال : هي الذكر الأول .

فتعلم ما الإرادة ؟

٣٦٥
 &

قلت : لا .

قال : هي العزيمة على ما يشاء .

فتعلم ما القدر ؟

قلت : لا .

قال : هو الهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء .

قال ثم قال : والقضاء هو الإبرام وإقامة العين .

قال : فاستأذنته أن أقبل رأسه وقلت : فتحت لي شيئاً كنت عنه في غفلة . انتهى .

ـ وفي مجمع الزوائد ج ٧ ص ٢٠٥

عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القدرية مجوس هذه الأمة ، إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم . رواه الطبراني في الأوسط وفيه زكريا بن منظور وثقه أحمد بن صالح وغيره وضعفه جماعة . انتهى . ورواه البيهقي في سننه ج ١٠ ص ٢٠٢ وقال : أخرجه أبو داود في كتاب السنن هكذا . انتهى .

فهذان النصان يردَّان على القدرية المفوضة .

وينبغي الإلتفات إلى أن اسم المرجئة لا يستعمل في الأحاديث في ضد معناه ، بينما يستعمل اسم القدرية للمؤمن بالقدر ولمنكر القدر . . ويعرف ذلك من سياق الكلام .

القدرية الجبرية ( الذين يثبتون القدر )

أما الذين يثبتون فعل الله تعالى في حركة الكون وأفعال الإنسان فيسمون ( القدرية ) لأنهم يؤمنون بوجود سلطة لله تعالى على أفعال الإنسان وحركة الطبيعة بشكل من الاشكال ، وهؤلاء منهم من يفرط في إثبات الفعل الإلۤهي في أفعال الإنسان فينسبون أفعال الإنسان إلى الله تعالى نسبةً كاملة فيسمون ( الجبرية ) وهم أكثر المرجئة ، ولعلهم أكثر إخواننا السنة ، وإن لم يصرحوا بذلك . . والسبب في ذلك

٣٦٦
 &

وجود أحاديث ثبتت عندهم عن الخليفة عمر ومن تبعه من الصحابة توجب القول بذلك ، وهي نقطة التقاء شديدة بينهم وبين المرجئة وقد أشرنا إلى أن السبب في جبرية المرجئة أن أحاديث الإرجاء التي صحت عندهم رافقتها أحاديث الجبر مرافقة الأخت لأختها ، بل كانت نفسها في بعض الأحيان . . ومن هنا قلنا إن الإرجاء والجبر أخوان شقيقان لأب وأم .

ـ قال في شرح المواقف ج ٨ ص ١٤٦

المقصد الأول في أن أفعال العباد الإختيارية واقعة بقدرة الله سبحانه وتعالى وحدها ، وليس لقدرتهم تأثير فيها بل الله سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرةً واختياراً ، فإذا لم يكن هناك مانعٌ أوجد فيه فعله المقدور مقارناً لهما ، فيكون فعل العبد مخلوقاً لله إبداعاً وإحداثاً ، ومكسوباً للعبد ، والمراد بكسبه إياه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلاً له ! وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري . انتهى .

وأقدم الأحاديث في الجبر مروية عن الخليفة عمر وكعب الأحبار ، وقد تقدم عدد منها في توسيع الشفاعة وفناء النار ، ونذكر فيما يلي بعضها :

ـ روى أحمد في مسنده ج ١ ص ٢٩

عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أرأيت ما نعمل فيه أقد فرغ منه أو في شيء مبتدأ أو أمر مبتدع ؟ قال : فيما قد فرغ منه . فقال عمر ألا نتكل ؟ فقال : إعمل يا ابن الخطاب فكل ميسر ، أما من كان من أهل السعادة فيعمل للسعادة ، وأما أهل الشقاء فيعمل للشقاء !

ورواه في ج ٢ ص ٧٧ ، ونحوه في الترمذي ج ٤ ص ٣٥٢ ونحوه الحاكم ج ٢ ص ٤٦٢ وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه .

ورواه في مجمع الزوائد ج ٧ ص ١٩٤ عن أبي بكر وعن عمر وقال : رواه البزار ورجاله رجال الصحيح . ورواه في كنز العمال بعدة روايات في ج ١ ص ١٢٨ وص ٣٣٩

٣٦٧
 &

ـ ورواه البخاري بصيغة أخرى تذكر أن الله تعالى يتحمل مسؤولية خطيئة آدم عليه‌السلام ، عيناً كما في التوراة ! . . قال في صحيحه ج ٤ ص ١٣١

عن أبي هريرة : قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : احتج آدم وموسى فقال له موسى : أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة ؟ فقال له آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه ثم تلومني على أمر قدر علي قبل أن أخلق ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فحج آدم موسى مرتين ! انتهى .

ورواه بصيغة أخرى أيضاً فيها تعنيفٌ لآدم قال في ج ٧ ص ٢١٤ فيها ( فقال له موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة ) ، وروى نحوه أيضاً في ج ٨ ص ٢٠٣

فهذه النصوص الصحيحة عندهم تقول بالجبر في أفعال الإنسان ، وفي تكوين الكون معاً .

القدر عند أهل البيت عليهم‌السلام : لا جبر ولا تفويض

أما مذهب أهل البيت عليهم‌السلام فهو يثبت القدر ويؤمن بسلطة الله تعالى على أفعال الإنسان وفعله فيها ، ولكنه يقول لا تصح نسبة المعصية إليه تعالى وإن كان الإقدار عليها منه تعالى ، أما نسبتها التي تستلزم تحمل مسؤوليتها فهي لفاعلها الذي هو الإنسان . .

فالإنسان في هذا المذهب ليس مجبوراً في أفعاله الإختيارية ولا مفوضاً إليه ، ولا مجرد مجرى لافعاله كمجرى النهار ، بل حاله من نوع آخر يوجد فيه القدر الإلۤهي بشكل كامل لصغير الأمور وكبيرها ويوجد فيه حرية الإنسان ومسؤوليته . وهذا معنى ( لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين ) .

وقد أكد أهل البيت عليهم‌السلام على هذا النوع من القدر ، وقاوموا المفوضة لإنكارهم سلطان الله تعالى على صغير الأمور وكبيرها . كما قاوموا القائلين بالجبر في أفعال الإنسان لأنهم ينسبون المعاصي إلى الله تعالى ، وينسبون إليه الظلم بمجازاة الإنسان

٣٦٨
 &

عليها ! وكذلك القائلين بالجبر في الخلق والتكوين والتخطيط ، لأنهم يريدون تصوير الكون بأنه آلة وضع الله مخططها وأطلقها ولا يمكنه البداء والتغيير والتبديل فيها وهم اليهود الذين قالوا ( يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) والمسلمون الذين قلدوهم فقالوا ( فرغ من الأمر ) .

ـ روى الصدوق في معاني الأخبار ص ١٨

عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال في قول الله عز وجل : وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ، لم يعنوا أنه هكذا ولكنهم قالوا : قد فرغ من الأمر فلا يزيد ولا ينقص ، فقال الله جل جلاله تكذيباً لقولهم : غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ . ألم تسمع الله عز وجل يقول : يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ .

ـ وقال الحويزي في تفسير نور الثقلين ج ٢ ص ٥١٤

في عيون الأخبار في باب مجلس الرضا عليه‌السلام مع سليمان المروزي قال الرضا عليه‌السلام بعد كلام طويل لسليمان : ومن أين قلت ذلك وما الدليل على أن إرادته علمه ؟ وقد يعلم ما لا يريده أبداً وذلك قوله تعالى : وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ فهو يعلم كيف يذهب به ولا يذهب به أبداً ؟

قال سليمان : لأنه قد فرغ من الأمر فليس يزيد فيه شيئاً .

قال الرضا عليه‌السلام : هذا قول اليهود ، فكيف قال : أدعوني أستجب لكم ؟

قال سليمان : إنما عنى بذلك أنه قادر عليه !

قال : أفيعد بما لا يفي به ؟ ! فكيف قال : يزيد في الخلق ما يشاء ؟ وقال عز وجل : يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ، وقد فرغ من الأمر ؟ !

فلم يَحِرْ جواباً .

وفي هذا المجلس أيضاً قال الرضا عليه‌السلام :

يا سليمان إن من الأمور أموراً موقوفة عند الله تعالى ، يقدم منها ما يشاء ويؤخر ما يشاء .

٣٦٩
 &

يا سليمان إن علياً عليه‌السلام كان يقول : العلم علمان ، فعلم علمه الله ملائكته ورسله فإنه يكون ولا يكذب نفسه ولا ملائكته ورسله .

وعلم عنده مخزونٌ لم يطلع عليه أحداً من خلقه ، يقدم منه ما يشاء ويؤخر ما يشاء ، ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء . انتهى .

وبذلك يتضح أن البداء الذي يؤكد أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على أنه جزءٌ من الإسلام ، وأنه ما عبد الله بشيء كما عبد به ، إنما هو نفي الجبرية على الله تعالى ، ونفي زعم اليهود أن يده مغلولة بحجة أنه فرغ من الأمر !

ويتضح منه أن الذين يشنعون على الشيعة بعقيدة البداء . . لم يفهموها !

ردة فعل الخوارج على توسيع الدولة للشفاعة

من الواضح للباحث أن بذور تفكير الخوارج ولدت في عهد الخليفة عمر ، وكانت تأخذ شكل اعتراضات على عدم تطبيق الخليفة للقرآن ، كما نلاحظ في أسئلة الوفد المصري ( الدر المنثور ج ٢ ص ١٤٥ )

ثم نمت في عهد الخليفة عثمان . .

ثم أخذت شكل اتجاه فكري في فهم الدين ، وشكل حزب سياسي معارض في عهد الإمام علي عليه‌السلام .

ثم استمرت مذهباً وحزباً مسلحاً في معارضة الأمويين والعباسيين وتكفيرهم وقتالهم . .

ومن أبرز صفات الخوارج الفكرية : جمودهم في فهم الدين ، وميلهم إلى إصدار الأحكام الكلية بدون شروط ولا تفاصيل ولا استثناءات ، وتكفيرهم من خالفهم من فرق المسلمين ، وفتواهم بهدر دمائهم ووجوب جهادهم .

وهذا المنحى الذهني يقع في الجهة المضادة لمذهب المرجئة الذي تتبناه السلطة ، المنحى المتساهل في أداء الواجبات وترك المحرمات ، المفرط في تأميل

٣٧٠
 &

الناس بالشفاعة والجنة مهما عصوا . . ما عدا المعارضين للدولة طبعاً .

لقد ساعد مذهب الإرجاء الدولة وأتباعها في تخفيف المسؤولية المشددة في القرآن والسنة على الحكام ، ولكنه سبب ردات فعلٍ في الأمة فظهرت فئات تنكر أصل الشفاعة التي تتذرع بها الدولة ، وتكذب كل أحاديثها وتؤول كل آياتها . . ولم يكن ذلك منحصراً بالخوارج ، وإن اشتهروا به .

بل تدل روايات السنيين على أن ردود الفعل على توسيع الشفاعة بدأت من زمن الخليفة عمر ، ولكنه لم يستطع أن يؤدب أصحابها بالسوط ، إما لأنه لم يعرفهم بالضبط ، أو لسبب آخر ، فخطب محذراً منهم بشدة !

ـ قال في مجمع الزوائد ج ٧ ص ٢٠٧

عن ابن عباس قال : خطب عمر بن الخطاب فحمد الله وأثنى عليه فقال : ألا إنه سيكون من بعدكم قوم يكذبون بالرجم وبالدجال وبالشفاعة !

وروى نحوه في مسند أحمد ج ١ ص ٢٣ وفي الدر المنثور ج ٣ ص ٦٠ : عن سعيد بن منصور والبيهقي عن ابن عباس وفي كنز العمال ج ١ ص ٣٨٧ وج ٥ ص ٤٢٩ وص ٤٣١ وفيه ( قال أمر عمر بن الخطاب منادياً فنادى أن الصلاة جامعة ، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال . . . ) .

ويظهر من النص التالي أن بني أمية أفرطوا في التأكيد على الشفاعة أيضاً ، ففي فردوس الأخبار للديلمي ج ١ ص ١١٦ ح ٢٥٤ : عن معاوية : إشفعوا إليَّ تؤجروا ، فإن الرجل ليسألني الحاجة فأرده كي تشفعوا له فتؤجروا ! . انتهى .

أما الخوارج فقد ثبت أنهم كانوا يقولون : إن مرتكب المعصية الكبيرة أو الصغيرة كافر ، وإذا مات ولم يتب فهو مخلد في النار ، وأنه لا شفاعة لأحد أبداً ولا خروج من النار !

وأول من تصدى لرد مقولتهم الأئمة من أهل البيت : ثم تبعهم غيرهم .

٣٧١
 &

ـ قال البرقي في المحاسن ج ١ ص ١٨٤

عن علي بن أبي حمزة قال : قال رجل لأبي عبد الله عليه‌السلام : إن لنا جاراً من الخوارج يقول : إن محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم القيامة همه نفسه فكيف يشفع ؟ ! فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : ما أحدٌ من الأولين والآخرين إلا وهو يحتاج إلى شفاعة محمدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم القيامة .

ـ وقال العياشي في تفسيره ج ٢ ص ٣١٤

عن عبيد بن زرارة قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن المؤمن هل له شفاعة ؟ قال : نعم ، فقال له رجل من القوم : هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمد يومئذ ؟ قال : نعم إن للمؤمنين خطايا وذنوباً ، وما من أحد إلا ويحتاج إلى شفاعة محمدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله يومئذ .

قال : وسأله رجل عن قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا سيد ولد آدم ولا فخر ؟ قال : نعم ، يأخذ حلقة باب الجنة فيفتحها فيخر ساجداً فيقول الله : إرفع رأسك إشفع تشفع أطلب تعط ، فيرفع رأسه ثم يخر ساجداً فيقول الله : إرفع رأسك إشفع تشفع واطلب تعط ، ثم يرفع رأسه فيشفع فيشفع ، ويطلب فيعطى .

ـ وفي تفسير القمي ج ٢ ص ٢٠١

قال : حدثني أبي ، عن ابن أبي عمير ، عن معاوية بن عمار ، عن أبي العباس المكبر قال : دخل مولى لامرأة علي بن الحسين عليه‌السلام على أبي جعفر عليه‌السلام يقال له أبو أيمن فقال : يا أبا جعفر يغرون الناس ويقولون شفاعة محمد شفاعة محمد ؟ !

فغضب أبو جعفر عليه‌السلام حتى تربَّدَ وجهه ، ثم قال : ويحك يا أبا أيمن ! أغرَّك أن عفَّ بطنك وفرجك ؟ ! أما لو قد رأيت أفزاع القيامة لقد احتجت إلى شفاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ! ويلك ! فهل يشفع إلا لمن وجبت له النار ؟ !

ثم قال : ما أحد من الأولين والآخرين إلا وهو محتاج إلى شفاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم القيامة .

ثم قال أبو جعفر عليه‌السلام : إن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الشفاعة في أمته ، ولنا الشفاعة في شيعتنا ، ولشيعتنا الشفاعة في أهاليهم .

٣٧٢
 &

ثم قال : وإن المؤمن ليشفع في مثل ربيعة ومضر ، فإن المؤمن ليشفع حتى لخادمه ويقول : يا رب حق خدمتي كان يقيني الحر والبرد . ورواه في بحار الأنوار ج ٨ ص ٣٨ وفي تفسير نور الثقلين ج ٤ ص ١٠٢ و ٣٣٤

ـ وفي الأدب المفرد للبخاري ص ٢٢٤

عن طلق بن حبيب قال : كنت أشد الناس تكذيباً بالشفاعة فسألت جابراً فقال : يا طلق سمعت النبي يقول : يخرجون من النار بعد الدخول .

ـ وقال السيوطي في الدر المنثور ج ٦ ص ٢٨٦

وأخرج ابن مردويه عن صهيب الفقير قال : كنا بمكة ومعي طلق بن حبيب ، وكنا نرى رأي الخوارج ، فبلغنا أن جابر بن عبد الله يقول في الشفاعة فأتيناه فقلنا له : بلغنا عنك في الشفاعة قول الله مخالف لك فيها في كتابه ! فنظر في وجوهنا فقال : من أهل العراق أنتم ؟ ! قلنا نعم ، فتبسم وقال : وأين تجدون في كتاب الله ؟ قلت : حيث يقول : ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ، ويريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ، وكلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها ، وأشباه هذا من القرآن .

فقال : أنتم أعلم بكتاب الله أم أنا ؟ قلنا بل أنت أعلم به منا . قال : فوالله لقد شهدت تنزيل هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وشفاعة الشافعين ، ولقد سمعت تأويله من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الشفاعة لنبيه في كتاب الله ، قال في السورة التي تذكر فيها المدثر : مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ؟ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ الآية . ألا ترون أنها حلت لمن مات لم يشرك بالله شيئاً ؟ ! .

ـ وفي تفسير الطبري ج ٤ ص ١٤١

عن الأشعث الحملي قال قلت للحسن : يا أبا سعيد أرأيت ما تذكر من الشفاعه حق هو ؟ قال : نعم حق .

٣٧٣
 &

ـ وفي فتح القدير للشوكاني ج ٥ ص ٥٦٧

وأخرج بن المنذر عن طريق حرب بن شريح قال : قلت لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين : أرأيت هذه الشفاعة التي يتحدث بها أهل العراق أحقٌّ هي ؟ قال : إي والله .

ـ وفي دلائل النبوة للبيهقي ج ١ ص ٢٥

عن شبيب بن أبي فضالة المالكي : لما بنى مسجد الجامع ذكروا عند عمران بن حصين الشفاعة فقال رجل من القوم : إنكم تحدثونا بأحاديث لم نجد لها أصلاً في كتاب الله ، وعمران يقول أنتم أخذتم هذا الشأن منا ، وأخذنا نحن عن نبي الله .

ـ وفي الجواهر الحسان للثعالبي ج ١ ص ٣٥٦

قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ . . . قالت المعتزله : إذا كان صاحب كبيرة فهو في النار ولا بد ، وقالت الخوارج إذا كان صاحب كبيره أو صغيره فهو في النار مخلد .

ـ وفي تطهير الجنان لابن حجر ص ٣٨

إن قلت : في هذا الحديث ( كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا رجل يموت كافراً أو يقتل مؤمناً متعمداً ) دليل للمعتزلة والخوارج قبحهم الله تعالى على أن الكبيرة لا تغفر ؟

قلت : لا دليل لهم فيها أبداً ، لقوله تعالى : وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا ، لوجوب حملها على المستحل . . . بدليل قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ، وهو مخصص أيضاً بقوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا . . . قد ضل . . . فرقٌ من فرق الضلالة القائلون بأن مرتكب الكبيرة إذا مات بلا توبة يخلد ، وهؤلاء المعتزلة والخوارج ، والفرق بينهما إنما هو من حديث إن الميت فاسقاً هل هو كافر أو لا مؤمن ولا كافر ؟ فالخوارج على الأول والمعتزلة على الثاني .

٣٧٤
 &

ـ وفي مقالات الإسلاميين للأشعري ج ١ ص ١٢٤

وأما الوعيد فقول المعتزلة فيه وقول الخوارج قولٌ واحد ، لأنهم يقولون أن أهل الكبائر الذين يموتون على كبائرهم في النار خالدون .

ـ وفي مقالات الإسلاميين ج ١ ص ٨٦ ـ ٨٧

وأجمعوا ( الخوارج ) على أن كل كبيرة كفر إلا النجدات ، فإنها لا تقول ذلك . وأجمعوا أن الله سبحانه يعذب أصحاب الكبائر عذاباً دائماً إلا النجدات .

والأزارقة ( من الخوارج ) تقول إن كل كبيرة كفر ، وإن الدار دار كفر يعنون دار مخالفيهم ، وإن كل مرتكب معصية كبيرة ففي النار خالداً مخلداً ، ويكفرون علياً رضي‌الله‌عنه في التحكيم .

ـ وقال في شرح المواقف ج ٤ جزء ٨ ص ٣٣٤

إن مرتكب الكبيره من أهل الصلاة . . . مؤمن . . . ذهب الخوارج إلى أنه كافر ، والحسن البصري إلى أنه منافق ، والمعتزلة إلى أنه مؤمن ولا كافر .

ـ وقال الرازي في تفسيره ج ١ جزء ٣ ص ٢٣٨

إن المعصية عند المعتزلة وعندنا لا توجب الكفر ، أما عندنا فلأن صاحب الكبيرة مؤمن ، وأما عند المعتزلة فلأنه وإن خرج عن الإيمان فلم يدخل في الكفر ، وأما عند الخوارج فكل معصية كفر .

ـ وقال الرازي في تفسيره ج ٦ جزء ١٢ ص ٥

قالت الخوارج : كل من عصى الله فهو كافر . . . احتجوا بهذه الآية ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم . . . ) وقالوا إنها نص في أن كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر ، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله ، فوجب أن يكون كافراً .

ـ وقال الرازي في ج ١٥ جزء ٣٠ ص ٢٣٩

إن الخوارج احتجوا بهذه الآية ( إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ) على أنه لا واسطة بين

٣٧٥
 &

المطيع والكافر قالوا : لأن الشاكر هو المطيع والكفور هو الكافر ، والله تعالى نفى الواسطة وذلك يقتضي أن يكون كل ذنب كفراً .

ـ وقال النووي في شرح مسلم ج ١ جزء ١ ص ٢١٨

قال القاضي عياض : اختلف الناس فيمن عصى الله من أهل الشهادتين ، فقالت المرجئة : لا تضره المعصية ، وقالت الخوارج : تضره ويكفر بها ، وقالت المعتزلة : يخلد في النار ، وقالت الأشعرية : بل هو مؤمن . .

ـ وقال المجلسي في بحار الأنوار ج ٨ ص ٦٢

وقال النووي في شرح صحيح مسلم : قال القاضي عياض : مذهب أهل السنة جواز الشفاعة عقلاً ، ووجوبها سمعاً بصريح الآيات وبخبر الصادق ، وقد جاءت الآثار التي بلغت بمجموعها التواتر بصحة الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين ، وأجمع السلف الصالح ومن بعدهم من أهل السنة عليها . ومنعت الخوارج وبعض المعتزلة منها ، وتعلقوا بمذاهبهم في تخليد المذنبين في النار ، واحتجوا بقوله تعالى : فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ وأمثاله وهي في الكفار .

وأما تأويلهم أحاديث الشفاعة بكونها في زيادة الدرجات فباطل ، وألفاظ الأحاديث في الكتاب وغيره صريحة في بطلان مذهبهم وإخراج من استوجب النار .

( راجع شرح مسلم للنووي ج ٢ جزء ٣ ص ٣٥ )

ـ وفي شرح مسلم للنووي ج ٢ جزء ٣ ص ٥٠

رأي الخوارج . . أنهم يرون أن أصحاب الكبائر يخلدون في النار .

ـ وفي إرشاد الساري للقسطلاني ج ١ ص ١١٥

لا ينسب إلى الكفر باكتساب المعاصي والإتيان بها إلا بالشرك أي بارتكابه ، خلافاً للخوارج القائلين بتكفيره بالكبيرة ، والمعتزلة القائلين بأنه لا مؤمن ولا كافر .

٣٧٦
 &

ـ وفي فتاوي ابن باز ج ٢ ص ٢٧

وذهب الخوارج إلى أن صاحب المعصية مخلد في النار وهو بالمعاصي كافر أيضاً ووافقهم المعتزلة بتخليده في النار .

ـ وفي فتاوي ابن باز ج ٣ ص ٣٦٧

قول أهل السنة والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة . . . المعاصي التي دون الشرك لا تحبط الأعمال الصالحة ولا تبطل ثوابها . .

*       *

ـ وفي بحار الأنوار ج ٨ ص ٣٦٤

قال العلامة رحمه‌الله في شرحه على التجريد : أجمع المسلمون كافة على أن عذاب الكافر مؤبد لا ينقطع ، واختلفوا في أصحاب الكبائر من المسلمين ، فالوعيدية على أنه كذلك ، وذهبت الإمامية وطائفة كثيرة من المعتزلة والأشاعرة إلى أن عذابه منقطع . والحق أن عقابهم منقطع لوجهين :

الأول ، أنه يستحق الثواب بإيمانه لقوله تعالى : فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ .

والإيمان أعظم أفعال الخير فإذا استحق العقاب بالمعصية فإما يقدم الثواب على العقاب وهو باطل بالإجماع ، لأن الثواب المستحق بالإيمان دائم على ما تقدم ، أو بالعكس وهو المراد ، والجمع محال .

الثاني ، يلزم أن يكون من عبد الله تعالى مدة عمره بأنواع القربات إليه ثم عصى في آخر عمره معصية واحدة مع بقاء إيمانه مخلداً في النار كمن أشرك بالله مدة عمره ، وذلك محال لقبحه عند العقلاء . انتهى .

ـ وفي بحار الأنوار ج ٨ ص ٣٧٠

وقال شارح المقاصد : اختلف أهل الإسلام فيمن ارتكب الكبيرة من المؤمنين ومات قبل التوبة ، فالمذهب عندنا عدم القطع بالعفو ولا بالعقاب بل كلاهما في مشيئة الله تعالى ، لكن على تقدير التعذيب نقطع بأنه لا يخلد في النار بل يخرج

٣٧٧
 &

البتة ، لا بطريق الوجوب على الله تعالى ، بل مقتضى ما سبق من الوعد وثبت بالدليل كتخليد أهل الجنة .

وعند المعتزلة القطع بالعذاب الدائم ، من غير عفو ولا إخراج من النار ، وما وقع في كلام البعض من أن صاحب الكبيرة عند المعتزلة ليس في الجنة ولا في النار فغلطٌ نشأ من قولهم : إن له المنزلة بين المنزلتين ، أي حالة غير الإيمان والكفر .

وأما ما ذهب إليه مقاتل بن سليمان وبعض المرجئة من أن عصاة المؤمنين لا يعذبون أصلاً وإنما النار للكفار تمسكاً بالآيات الدالة على اختصاص العذاب بالكفار مثل : قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ، إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ .

فجوابه : تخصيص ذلك العذاب بما يكون على سبيل الخلود .

وأما تمسكهم بمثل قوله عليه‌السلام : من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق ، فضعيف ، لأنه إنما ينفي الخلود لا الدخول .

لنا وجوه : الأول ، وهو العمدة : الآيات والأحاديث الدالة على أن المؤمنين يدخلون الجنة البتة ، وليس ذلك قبل دخول النار وفاقاً ، فتعين أن يكون بعده وهو مسألة انقطاع العذاب ، أو بدونه وهو مسألة العفو التام ، قال الله تعالى : فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . من عمل صالحاً منكم من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة .

تبادل المواقع بين الخوارج والمرجئة !

يحسن هنا أن نسجل أمراً طريفاً نلاحظه في عصرنا ، وهو تبادل المواقع بين ورثة الخوارج ، وورثة الخلافة الأمويين والمرجئة !

فورثة الخوارج ( الأباضيون ) تنازلوا عن العنف الفكري وسجلوا ليونتهم العقائدية والفقهية تجاه فرق المسلمين . . بينما ورثة الخلافة الأموية ( التكفير

٣٧٨
 &

والهجرة والوهابيون ) تخلوا عن أفكار الليونة والتسامح ، وتبنوا مذهب العنف والشدة ، وأفتوا بكفر كل فرق المسلمين ، ما عدا فرقتهم ! ولعلهم يتخلون أيضاً عن شمول الشفاعة لكل المسلمين ويحصرونها بفرقتهم . . كما يشم ذلك من فكرهم !

وهكذا تتغير المواقع الفكرية والسياسية مع العصور من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار . . وسبحان من لا يتغير .

المعتزلة مثقفون متوسطون بين الدولة والخوارج

ـ قال ابن ناصر الدين في توضيح المشتبه ج ٨ ص ٢٠٤

ولد واصل سنة ثمانين بالمدينة وكان يجلس إلى الحسن البصري ، فلما ظهر بين أهل السنة القول من الخوارج بتكفير أهل الكبائر ، ومن المرجئة بجعلهم إيمان أهل الكبائر كإيمان جبرئيل وميكائيل ، أبدع واصل ( بن عطاء مولى بني ضبة ) قوله في المنزلة بين المنزلتين . . . مات واصل سنة إحدى وثلاثين ومئة .

الصغائر تغفر والكبائر لا تغفر إلا بالتوبة

ـ مقالات الإسلاميين للأشعري ج ١ ص ٢٧٠

واختلفت المعتزلة . . في الصغائر والكبائر . . فقال قائلون منهم : كل ما أتى فيه الوعيد فهو كبير ، وكل ما لم يأت فيه الوعيد فهو صغير . . وقال جعفر بن ميثر : كل عمد كبير وكل مرتكب لمعصية متعمداً لها فهو مرتكب لكبيرة . . .

واختلفت المعتزلة في غفران الصغائر . . . فقال قائلون : إن الله سبحانه يغفر الصغائر إذا اجتنبت الكبائر تفضلاً . . وقال قائلون : لا يغفر الصغائر إلا بالتوبة .

ـ وقال في شرح المواقف ج ٨ ص ٣٠٣

أوجب جميع المعتزلة والخوارج عقاب صاحب الكبيرة إذا مات بلا توبة ، ولم يجوزوا أن يعفو الله عنه ، لوجهين : الأول أنه تعالى أوعد بالعقاب على الكبائر وأخبر

٣٧٩
 &

به أي بالعقاب عليها ، فلو لم يعاقب على الكبيرة وعفا لزم الخلف في وعيده والكذب في خبره ، وإنه محال .

الجواب : غايته وقوع العقاب فأين وجوبه الذي كلامنا فيه ، إذ لا شبهة في أن عد الوجوب مع الوقوع لا يستلزم خلفاً ولا كذباً .

قالت المعتزلة والخوارج : صاحب الكبيرة إذا لم يتب عنها مخلد في النار ولا يخرج منها أبداً . وعمدتهم في إثبات ما ادعوه دليل عقلي هو أن الفاسق يستحق العقاب بفسقه ، واستحقاق العقاب بل العقاب مضرة خالصة لا يشوبها ما يخالفها دائمة لا تنقطع أبداً . واستحقاق الثواب بل الثواب منفعة خالصة عن الشوائب دائمة . والجمع بينهما أي بين استحقاقهما محال ، كما أن الجمع بينهما محال .

ـ وقال في شرح المواقف ج ٨ ص ٣٣٤

مرتكب الكبيرة من أهل الصلاة أي من أهل القبلة مؤمن ، وقد تقدم بيانه في مسألة حقيقة الإيمان وغرضنا هاهنا ذكر مذهب المخالفين والجواب عن شبهتهم : ذهب الخوارج إلى أنه كافر ، والحسن البصري إلى أنه منافق ، والمعتزلة إلى أنه لا مؤمن ولا كافر .

حجة الخوارج وجوه : الأول قوله تعالى : وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ، فإن كلمة (من ) عامة في كل من لم يحكم بما أنزل ، فيدخل فيه الفاسق المصدق . وأيضاً فقد علل كفرهم بعدم الحكم ، فكل من لم يحكم بما أنزل الله كان كافراً ، والفاسق لم يحكم بما أنزل الله .

قلنا : الموصولات لم توضع للعموم ، بل هي للجنس تحتمل العموم والخصوص .

ـ وفي ثمرات الأوراق بهامش المستطرف ص ١٣

المعتزلة طائفة من المسلمين يرون أن أفعال الخير من الله وأفعال الشر من الإنسان وأن القرآن مخلوق محدث ليس بقديم وان الله تعالى غير مرئي يوم القيامة ، وأن المؤمن إذا ارتكب الذنب مثل الزنا وشرب الخمر كان في منزلة بين منزلتين .

٣٨٠