شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

بعمومها وبإطلاقها على الأحكام معناها أنّ الأحكام الواقعيّة التي يسلّم هؤلاء بوجودها مطلقة وعامّة وليست مقيّدة ، فالتقييد مخالف للظاهر من الأدلّة.

وثانيا : مخالف للإجماع والتسالم على أنّ الأحكام الواقعيّة مشتركة بين العالم بها والجاهل على حدّ سواء. فإنّ اشتراكهما في الأحكام يعني أنّ الأحكام الإلهيّة ثابتة مطلقا سواء علم بها أو جهل ولا تتبدّل ولا تتغيّر (١).

__________________

(١) ثمّ لا بأس بالتنبيه على النكتة التي أدّت للقول بالتصويب بأحد نحويه فنقول :

ذكروا أنّ أحكام الله تعالى ليست شاملة لكلّ الحوادث والجزئيّات وإلا للزم بيان أحكامها في الكتاب أو السنّة ، ومن المعلوم أنّ الكتاب والسنّة محدودان في عدد من المسائل والحوادث لا كلّها. وأمّا الحوادث التي لم يتعرّض الكتاب أو السنّة لبيانها ، فهي موكولة إلى علماء الإسلام القادرين على الاجتهاد وبذل الجهد والوسع لمعرفة أحكامها من الأدلّة والأصول التي جعلت لها الحجيّة. وهذا يعني أنّه لا يوجد حكم إلهي واقعي مسبقا ، وإنّما الحكم الإلهي لهذه الحوادث والجزئيّات يتبع رأي المجتهد ونظره ، ولذلك تكون أحكام المجتهد مصيبة دائما.

وهذه النكتة غير مقبولة ؛ لأنّ لازمها وجود أحكام واقعيّة متناقضة ومتعارضة في الحادثة الواحدة ؛ وذلك فيما إذا اختلفت آراء المجتهدين فيها تحريما وتحليلا مثلا ، فتكون حادثة واحدة واجبة ومباحة أو محرّمة ومحلّلة واقعا وهذا مستحيل ؛ لأنّه يعني اجتماع الضدّين واقعا ويعني أنّ الله تعالى يحكم بالضدّين معا وهو محال.

٦١
٦٢

الحكم الواقعي والظاهري

٦٣
٦٤

الحكم الواقعي والظاهري

ينقسم الحكم الشرعي ـ كما عرفنا سابقا ـ إلى واقعي لم يؤخذ في موضوعه الشكّ ، وظاهري أخذ في موضوعه الشكّ في حكم شرعي مسبق. وقد كنّا نقصد حتّى الآن في حديثنا عن الحكم الأحكام الواقعيّة.

تقدّم في الحلقة الثانية أنّ الحكم الشرعي ينقسم إلى حكم واقعي وإلى حكم ظاهري.

فالحكم الواقعي : هو ما لم يؤخذ في موضوعه الشكّ ، بل الحكم ثابت على موضوعه ابتداء من دون قيد أو شرط زائد على الموضوع ، سواء كان الحكم مطلقا أو مقيّدا ، كالحكم بوجوب الصلاة الثابت للصلاة نفسها من دون أيّة مدخليّة لشيء آخر.

والحكم الظاهري : هو ما أخذ في موضوعه الشكّ سواء كان الشكّ تمام الموضوع أو جزأه ، فالأوّل كالأصول العمليّة والثاني كالأمارات الظنيّة الكاشفة. فيكون الحكم الظاهري موضوعه الشكّ في الحكم الواقعي ، وهذا يفترض أنّ الحكم الواقعي سابق رتبة في وجوده عن الحكم الظاهري ؛ لأنّ الحكم الواقعي قد أخذ الشكّ فيه موضوعا للحكم الظاهري. ومن المعلوم أنّ الموضوع متقدّم في وجوده على الحكم ولو رتبة. وعليه ، فإذا علم بالحكم الواقعي ارتفع موضوع الحكم الظاهري ؛ لارتفاع موضوعه إذ مع العلم لا شكّ. ثمّ إنّ الكلام يقع في كلا القسمين :

أمّا الحكم الواقعي : فهو يشتمل على الملاك والإرادة والاعتبار ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

وقد مرّ بنا في الحلقة السابقة (١) أنّ مرحلة الثبوت للحكم ـ الحكم الواقعي ـ

__________________

(١) ضمن مباحث التمهيد ، تحت عنوان : مبادئ الحكم التكليفي.

٦٥

تشتمل على ثلاثة عناصر ، وهي : الملاك والإرادة والاعتبار. وقلنا : إنّ الاعتبار ليس عنصرا ضروريا ، بل يستخدم غالبا كعمل تنظيمي وصياغي.

ونريد أن نشير الآن إلى حقيقة العنصر الثالث الذي يقوم الاعتبار بدور التعبير عنه غالبا.

تقدّم في الحلقة الثانية أنّ مرحلة ثبوت الحكم التي هي عالم الجعل والتشريع تحتوي على ثلاثة عناصر ، فالشارع إذا أراد تشريع حكم فإنّ هذا الحكم ثبوتا يمرّ في ثلاث مراحل ، ثمّ بعد ذلك يخرج إلى عالم الإثبات والجعل على ذمّة المكلّف والدخول في عهدته. وهذه المراحل الثلاث هي : الملاك والإرادة والاعتبار.

فالملاك : هو المصلحة أو المفسدة التي يشتمل عليها الفعل.

والإرادة : هي المحبوبيّة أو المبغوضيّة التي تنشأ على ضوء المصلحة أو المفسدة في الفعل.

والاعتبار ـ وهو في الغالب يستخدم لأجل صياغة وإنشاء الحكم ـ : هو عنصر ليس من الضروري وجوده في عالم الثبوت وليس من مراحل ثبوت الحكم ؛ لأنّه عمل تنظيمي صياغي إنشائي للحكم.

والعنصر الثالث هو نفسه الاعتبار وليس شيئا آخر مغايرا له ، وإنّما عبّر السيّد الشهيد بما يوهم التغاير لأجل الدلالة على أنّ المولى في الغالب يستخدم نفس الاعتبار للدلالة على حكمه وتشريعه ، إلا أنّه قد يبرز الإرادة والملاك والشوق من دون توسّط الاعتبار كما سيأتي توضيحه ، إذا فهناك نحوان من الاعتبار :

أحدهما الاعتبار في مرحلة الثبوت : وهو يعني الشوق المدلولي وحقّ الطاعة.

والآخر الاعتبار في مرحلة الإثبات : وهو يعني الصياغة الإنشائيّة لهذا الشوق والحقّ ، وقد يتّحدان وقد يختلفان.

وتوضيحه أنّ المولى كما أنّ له حقّ الطاعة على المكلّف فيما يريده منه ، كذلك له حقّ تحديد مركز حقّ الطاعة في حالات إرادته شيئا من المكلّف ، فليس ضروريا ـ إذا تمّ الملاك في شيء وأراده المولى ـ أن يجعل نفس ذلك الشيء في عهدة المكلّف مصبّا لحقّ الطاعة ، بل يمكنه أن يجعل مقدّمة ذلك الشيء التي يعلم المولى بأنّها مؤدّية إليه في عهدة المكلّف دون نفس الشيء ،

٦٦

فيكون حقّ الطاعة منصبّا على المقدّمة ابتداء وإن كان الشوق المولوي غير متعلّق بها إلا تبعا.

حاصل ما يمكن أن يقال في توضيح حقيقة العنصر الثالث المسمّى بالاعتبار في الغالب : إنّ المولى له حقّ الطاعة على عبيده في كلّ الأمور التي يريدها منهم ، وكذلك له الحقّ في تحديد مركز حقّ الطاعة وأنّه في هذا الشيء دون ذاك. فإنّ ذلك كلّه من شئون مولويّته التي يعملها كيفما شاء وحيثما شاء. وعليه ، فإذا أراد المولى شيئا من المكلّف ، بأن يكون حصل له ملاك وإرادة ومحبوبيّة وشوق لهذا الفعل مثلا كالصلاة ، فليس من الضروري إذا اكتملت مبادئ الحكم من ملاك وإرادة وشوق في هذا الفعل المراد أن يجعل المولى نفس ذلك الشيء الذي هو الصلاة في عهده المكلّف ، بحيث يكون مصبّ حقّ الطاعة هو نفس الصلاة بأن يقول : ( صلّ ) أو ( أقيموا الصلاة ) ، بل بالإمكان أن يجعل مصبّ حقّ الطاعة شيئا آخر غير نفس الشيء الذي أراده ، بأن يجعل مصبّ حقّ الطاعة على مقدّمة ذاك الفعل التي تؤدّي إليه دائما ولا تنفكّ عنه ، فيأمر بتلك المقدّمة على نحو الاستقلاليّة إثباتا وإن لم تكن مشتملة على مبادئ الحكم من ملاك وإرادة وشوق مولوي ، حيث إنّ هذه المبادئ متعلّقة بالفعل نفسه لا بمقدّمته.

وهذا معناه أنّ الشوق المولوي والإرادة قد تعلّقا بشيء وهو ذات الفعل كالصلاة ، بينما مصبّ حقّ الطاعة كان متعلّقا بشيء آخر مغاير لما يتعلّق به الشوق المولوي ، إلا أنّه توجد علاقة وارتباط بين هذا الشيء وبين مقدّمته بحيث إنّه يترتّب الفعل عليها دائما ولا يتخلّف عنها.

فلا فرق بين أن يكون مصبّ حقّ الطاعة على ذات الفعل الذي تعلّق به الشوق المولوي ابتداء وأصالة ، وبين أن يكون مصبّ حقّ الطاعة مقدّمة هذا الشيء الموصلة له دائما ، فيكون الشوق المولوي متعلّقا بها بالتبعيّة لذي المقدّمة. فالنتيجة في الحالين واحدة وهو أنّ الفعل المراد لا بدّ من امتثاله وتحقّقه من المكلّف.

وهذا يعني أنّ حقّ الطاعة ينصبّ على ما يحدّده المولى عند إرادته لشيء مصبّا له ويدخله في عهدة المكلّف ، والاعتبار هو الذي يستخدم عادة للكشف عن المصبّ الذي عيّنه المولى لحقّ الطاعة ، فقد يتّحد مع مصبّ إرادته وقد يتغاير.

٦٧

والنتيجة هي أنّ المولى على أساس حقّ الطاعة الثابت له بمولويّته الذاتيّة على المكلّفين له الحقّ بأن يحدّد مصبّ حقّ الطاعة ، كما له حقّ الطاعة على المكلّفين. فإذا أراد شيئا فإمّا أن يجعل مصبّ حقّ الطاعة نفس ذلك الشيء ، وإمّا أن يجعل مصبّ حقّ الطاعة شيئا آخر يؤدّي إلى ذلك الشيء المراد حتما. فيكون الداخل في عهدة المكلّف هو هذا المصبّ لحقّ الطاعة ، وحينئذ فالاعتبار حقيقته هو الكشف عن هذا المصب ، الذي جعله المولى لحقّ طاعته. والاعتبار هو الذي يستخدم غالبا وعادة لبيان هذا المصبّ ، وإلا فبإمكان المولى أن يبيّن مصبّ حقّ الطاعة بنحو آخر غير الاعتبار ، بأن يبيّن الملاك للمكلّف مباشرة من دون توسّط الوجوب ونحوه. وهذا يتحقّق في القضايا الخارجيّة غالبا ، وهذا النحو يسمّى بالإبراز الذي يشمل الاعتبار أيضا (١)

ومن هنا فالاعتبار قد يتّحد مع مصبّ إرادة المولى بأن يكون الاعتبار كاشفا عن المصبّ الذي أراده المولى مباشرة ، وقد يكون الاعتبار مغايرا لمصبّ إرادة المولى بأن يصوغ المولى الحكم على المقدّمة المؤدّية إلى الشيء المراد ، ومثاله : أن يكون الغرض المولوي والمطلوب الحقيقي هو الانتهاء عن الفحشاء والمنكر. فهنا إمّا أن يصوغ الاعتبار بنحو متّحد مع هذا المراد فينهى عن الفحشاء بأحد الصيغ ، أو يصوغ الاعتبار على المقدّمة الموصلة لهذا الانتهاء كالصلاة مثلا فيأمر بها ؛ لأنّها مؤدّية إلى الانتهاء بنظر الشرع.

هذا بالنسبة للحكم الواقعي.

وأمّا الأحكام الظاهريّة فهي مثار لبحث واسع ، وجّهت فيه عدّة اعتراضات للحكم الظاهري تبرهن على استحالة جعله عقلا (٢) ، ويمكن تلخيص هذه البراهين فيما يلي :

__________________

(١) فالإبراز أعمّ من الاعتبار ؛ لأنّه يشمل حالات إبراز الملاك من دون جعل الحكم والوجوب ومن دون اعتبار له على ذمّة المكلّف ، بينما الاعتبار معناه خصوص إبراز الملاك والحكم ، فجعله على ذمّة المكلّف بنحو فيه إعمال للقانونيّة التشريعيّة المولويّة.

(٢) أثيرت هذه الشبهة حول حجيّة خبر الواحد غير القطعي من قبل محمّد بن عبد الرحمن المعروف بابن قبة على ما نسب إليه في المعالم : ١٨٩ ، كما نسب إليه الشبهة المذكورة أيضا حول حجيّة مطلق الأمارات غير القطعيّة في كتاب أجود التقريرات ٢ : ٦٣.

٦٨

أمّا الأحكام الظاهريّة المجعولة في مقام الشكّ في الحكم الواقعي فقد وقعت محلاّ للبحث الواسع بين الأصوليّين بين مؤيّد ومنكر لها. وهناك عدّة اعتراضات تبيّن أن جعل الأحكام الظاهريّة مستحيل وغير ممكن الوقوع. ويمكن تلخيص هذه الشبهات التي جعلوها براهين على الاستحالة بثلاثة ، يطلق عليها شبهات ابن قبة.

وفي الحقيقة كان لهذه الشبهات والاعتراضات الأثر الكبير على علم الأصول حيث نقّحت مسائله وأدّت إلى تطوير وتوسيع البحث فيه. فكان لها دور مهم في ذلك ، وهذه الشبهات هي :

الأولى : إنّ جعل الحكم الظاهري يؤدّي إلى اجتماع الضدّين أو المثلين ؛ لأنّ الحكم الواقعي ثابت في فرض الشكّ بحكم قاعدة الاشتراك المتقدّمة ، وحينئذ فإن كان الحكم الظاهري المجعول على الشاكّ مغايرا للحكم الواقعي نوعا كالحليّة والحرمة لزم اجتماع الضدّين ، وإلا لزم اجتماع المثلين.

مفاد هذه الشبهة أنّ جعل الحكم الظاهري يؤدّي إلى المستحيل فهو غير ممكن ؛ وذلك لأنّه إمّا أن يؤدّي إلى اجتماع الضدّين أو إلى اجتماع المثلين وكلاهما محال ، إذن جعله محال أيضا ؛ لأنّ ما يؤدّي إلى المحال محال كذلك. وبيان هذه الاستحالة :

إنّه بناء على القول الصحيح من كون الأحكام مشتركة بحقّ العالم بها والجاهل لازمه أنّ الحكم الواقعي ثابت ولا يتغيّر حتّى في فرض الجهل والشكّ به ، وحينئذ ففي فرض الشكّ يكون الحكم الواقعي ثابتا إلا أنّ الشاكّ لا يعلم به ، ولذلك يجري الأصول أو الأمارات لتحديد وظيفته اتّجاه هذا الواقع المشكوك. فإن أدّى إجراؤه للحكم الظاهري إلى إثبات حكم آخر مغاير للحكم الواقعي في نوعه كأن يكون الحكم الواقعي الحرمة ، ويكون مؤدّى الحكم الظاهري الحليّة أو العكس ، فهنا سوف يجتمع حكمان متضادّان على واقعة واحدة وهذا مستحيل ؛ لأنّه في الواقعة الواحدة لا يوجد إلا حكم تكليفي واحد لا حكمان. وإذا أدّى الحكم الظاهري إلى إثبات حكم مماثل للحكم الواقعي كأن يكونا معا واجبين فيؤدّي إلى اجتماع المثلين وهو محال أيضا ؛ لأنّه تحصيل للحاصل فيكون جعله لغوا. ففي كلا الحالين لا مجال لجعل الحكم الظاهري ؛ لأنّه يؤدّي إلى المحال (١).

__________________

(١) وهذا الإشكال إنّما يرد على القول بالتخطئة كما هو الصحيح عندنا. وأمّا على القول ...... بالتصويب سواء عند الأشاعرة أو المعتزلة فلا يرد هذا الإشكال ؛ لأنّه لا يوجد حكم واقعي أو أنّه يتغيّر وفقا للحكم الظاهري ، فلا يؤدّي جعل الحكم الظاهري إلى وجود حكمين متضادّين أو متماثلين.

٦٩

وما قيل سابقا (١) من أنّه لا تنافي بين الحكم الواقعي والظاهري ؛ لأنّهما سنخان ، مجرّد كلام صوري إذا لم يعط مضمونا محدّدا ؛ لأنّ مجرّد تسمية هذا بالواقعي وهذا بالظاهري لا يخرجهما عن كونهما حكمين من الأحكام التكليفيّة وهي متضادّة.

هذا جواب عن الشبهة وردّه :

أمّا الجواب ، فقد قال الشيخ الأنصاري وتلميذه الشيرازي : إنّ هذه الشبهة تندفع بأن يقال : إنّه لا مانع من اجتماع حكمين متضادّين أو متماثلين أحدهما واقعي والآخر ظاهري ؛ وذلك لأنّ كلاّ منهما له سنخيّة تختلف عن الآخر. فإذا كانت لكلّ منهما سنخيّة غير الأخرى فهذا يعني اختلاف الجهة في الحكمين المتضادّين أو المتماثلين فلا استحالة. وهذه السنخيّة هي أنّ الحكم الواقعي لم يؤخذ في موضوعه الشكّ بينما الحكم الظاهري قد أخذ في موضوعه الشكّ في حكم مسبق ، وهذا يعني الطوليّة بين الحكمين فلم يكن هناك اجتماع بينهما ؛ لأنّه عند تحقّق الحكم الواقعي يرتفع موضوع الحكم الظاهري ، وعند تحقّق موضوع الحكم الظاهري لا تحقّق للحكم الواقعي ، فإذا وجد أحدهما ارتفع الآخر ولا يمكن اجتماعهما في رتبة واحدة. وأمّا الردّ فهو أنّ هذا الكلام مجرّد كلام صوري وشكلي ؛ لأنّه لم يحاول أن يبيّن حقيقة الحكمين الواقعي والظاهري ، وإنّما فرّق بينهما بلحاظ السنخيّة المذكورة وهذه ليست إلاّ مجرّد تسمية ، وهي لا تحلّ الإشكال ؛ لأنّ تسمية هذا الحكم بالواقعي وذاك بالظاهري لا يرفع غائلة اجتماع الضدّين أو المثلين ؛ وذلك لأنّهما لا يخرجان عن كونهما حكمين من الأحكام التكليفيّة ، وقد تقدّم أنّها متضادّة يستحيل اجتماعها (٢) في مورد واحد ، وبهذا

__________________

(١) في الحلقة الثانية من هذا الكتاب ضمن مباحث التمهيد ، تحت عنوان : اجتماع الحكم الواقعي والظاهري.

(٢) واجتماعهما يكون بلحاظ ثبوت الحكم الواقعي سواء علم المكلّف به أم لا ، ممّا يعني أنّ ..... وصول الحكم الظاهري سواء كان مطابقا أم مغايرا للحكم الظاهري سوف يؤدّي إلى التضاد أو التماثل. وما قيل : من أنّه إذا تحقّق موضوع أحدهما ارتفع موضوع الآخر ناظر إلى مرحلة الفعليّة والتنجيز بالنسبة للمكلّف ، وليس ناظرا إلى الواقع ؛ لأنّ الحكم الواقعي لا يرتفع بوصول الحكم الظاهري إلى المكلّف وإلا كان تصويبا باطلا كما لا يخفى. كما أنّه في حالة اجتماع المثلين لا يكون الثاني مؤكّدا للأوّل ؛ لأنّها إمّا أن توجد أو لا ، فإذا وجدت كانت كاملة وتامّة من جميع الجهات ولا تحتاج لشيء زائد فيكون التأكيد لغوا لكونه تحصيلا للحاصل.

٧٠

يتّضح أنّ الشبهة لا تزال مستحكمة ؛ لأنّ مجرّد الاختلاف في المحمول وكون هذا ظاهريّا وذاك واقعيّا لا يفيد ؛ لأنّهما حكمان تكليفيّان متضادّان وقد اجتمعا في واقعة واحدة وهو مستحيل ، وهذه الاستحالة يدركها العقل النظري الذي يدرك ما هو كائن وواقع.

الثانية : أنّ الحكم الظاهري إذا خالف الحكم الواقعي ـ فحيث إنّ الحكم الواقعي بمبادئه محفوظ في هذا الفرض بحكم قاعدة الاشتراك ـ يلزم من جعل الحكم الظاهري في هذه الحالة نقض المولى لغرضه الواقعي بالسماح للمكلّف بتفويته اعتمادا على الحكم الظاهري في حالات عدم تطابقه مع الواقع ، وهو يعني إلقاء المكلّف في المفسدة وتفويت المصالح الواقعيّة المهمّة عليه.

تقدّم أنّ الأحكام الواقعيّة ثابتة حتّى في فرض الجهل بها بناء على اشتراك الأحكام للعالم والجاهل ، وهذا معناه أنّ الحكم الواقعي محفوظ بمبادئه المتقدّمة وهي الملاك والإرادة حتّى في صورة الشكّ.

وحينئذ يقال : إنّ جعل الحكم الظاهري في صورة مخالفته للحكم الواقعي المحفوظ بمبادئه كلّها يلزم منه ثلاثة محاذير :

الأوّل : نقض المولى لغرضه ببيان : أنّ الحكم الواقعي محفوظ بمبادئه ، وهذا يعني أنّ المولى له ملاك وإرادة وشوق في هذا الحكم الواقعي ، فإذا كان للمولى غرض في جعل الحكم الواقعي فكيف يسمح بتفويت هذا الغرض من المكلّف في صورة اعتماده على الحكم الظاهري المخالف للواقع؟! والحال أنّ الشارع الحكيم يكون ملتفتا إلى أنّ الاعتماد على الحكم الظاهري سوف يفوّت غرضه في صورة مخالفته للواقع ، فكيف يعقل بحقّه جعل مثل هذا الحكم؟!

٧١

الثاني : إلقاء المكلّف في المفسدة ؛ لأنّ الاعتماد على الحكم الظاهري المخالف للواقع معناه أنّ المكلّف قد فعل ما يجب تركه أو ترك ما يجب فعله ، وهذا معناه إلقاؤه في المفسدة المترتّبة على مخالفة المبادئ الواقعيّة للحكم.

ومثل هذا يقبح صدوره من الشارع الحكيم العادل بناء على مذهب العدليّة من المعتزلة والإماميّة. فإنّ الله عزّ وجلّ يستحيل أن يصدر منه خلاف العدل ، والإلقاء في المفسدة خلاف عدله.

الثالث : تفويت المصالح الواقعيّة المهمّة على المكلّف ؛ وذلك لأنّ مبادئ الحكم الواقعي محفوظة حتّى في صورة الشكّ والجهل بالواقع ، وهذا يعني أنّ المصلحة الموجودة في الفعل أو الترك واقعا سوف تفوت على المكلّف في صورة مخالفة الحكم الظاهري للواقع ، وتفويت المصالح على المكلّفين من الشارع الحكيم قبيح (١).

الثالثة : أنّ الحكم الظاهري من المستحيل أن يكون منجّزا للتكليف الواقعي المشكوك ومصحّحا للعقاب على مخالفة الواقع ؛ لأنّ الواقع لا يخرج عن كونه مشكوكا بقيام الأصل أو الأمارة المثبتين للتكليف. ومعه يشمله حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ـ بناء على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ والأحكام العقليّة غير قابلة للتخصيص.

مفاد هذه الشبهة هو أنّ جعل الحكم الظاهري يتعارض مع قاعدة قبح العقاب بلا بيان. توضيح ذلك : إنّ الحكم الظاهري تارة يكون مؤمّنا عن التكليف وأخرى يكون منجّزا له.

__________________

(١) وهذه المحاذير الثلاثة يدركها العقل العملي الحاكم بما ينبغي أن يكون ، فيدرك أنّ الشارع العاقل الحكيم العادل لا ينبغي أن يصدر منه مثل هذه الأمور ؛ لأنّ تفويت الغرض خلاف الحكمة ، والإلقاء في المفسدة خلاف العدل ، وتفويت المصلحة على العباد قبيح. وما دامت هذه المحاذير مترتّبة على جعل الحكم الظاهري ، فهذا معناه أنّ مثل هذا الجعل لا يمكن صدوره عن الشارع وإلاّ لزم هذه النتائج المستحيلة ، وما يؤدّي إلى المحال يكون محالا مثله. وأمّا على غير مذهب العدليّة فعندهم أنّه لا يقبح صدور شيء من هذه الأمور من الشارع ؛ لأنّ ما يصدر منه حسن دائما حتّى هذه الأمور ، فإنّها إذا صدرت من الشارع فيحكم بحسنها.

٧٢

فإذا كان الحكم الظاهري مثبتا للتأمين عن التكليف الواقعي المشكوك فهو يؤيّد مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان ولا تعارض بينهما في هذه الصورة ؛ لأنّهما يثبتان معا المؤمّنيّة والمعذّريّة إلا أنّه لا داعي لجعله حينئذ ؛ لأنّه تحصيل للحاصل.

وأمّا إذا كان الحكم الظاهري مثبتا للتنجيز فهذا يعني أنّ مؤدّاه ثبوت التكليف على العهدة ، ولازم ذلك اشتغال الذمّة بالتكليف وصحّة العقاب على تركه ، إلا أنّ هذا مستحيل وذلك لأنّ ظرف جريان الحكم الظاهري سواء الأصل أو الأمارة هو فرض الشكّ في الحكم الواقعي ، ومع فرض الشكّ في الواقع يكون المورد مجرى للقاعدة العقليّة بقبح العقاب بلا بيان التي تثبت التأمين والمعذّريّة ، والأصل والأمارة لا يثبتان البيان والعلم بالواقع ؛ لأنّ غاية ما يمكن أن يستفاد منهما الظنّ بالواقع ومع الظنّ يبقى الواقع مجهولا غير معلوم ؛ لأنّ الشكّ المفترض أعمّ من الشكّ والظنّ ، وحينئذ فلا يخرج هذا المورد عن كونه مشكوكا حتّى مع قيام الأمارة والأصل على إثبات التكليف. وهذا معناه أنّ الحكم الظاهري يستحيل أن يكون منجّزا للتكليف ومصحّحا للعقاب على تركه ؛ لأنّه معارض لحكم العقل بالتأمين في هذا الفرض المشكوك. نعم في صورة قيام الحكم الظاهري على التأمين لا مانع ولا استحالة.

ولا يقال هنا : إنّ الحكم الظاهري المثبت للتكليف والمنجّزيّة يكون مخصّصا للقاعدة العقليّة المذكورة وبالتالي يتقدّم عليها ؛ لأنّ الأخصّ يتقدّم على الأعمّ حيث إنّه مع قيام الحكم الظاهري على التنجيز يثبت البيان.

لأنّه يقال : إنّ القاعدة المذكورة من الأحكام العقليّة ، ومن المعلوم أنّ الأحكام العقليّة غير قابلة للتخصيص أو التقييد ؛ لأنّ موضوعها إمّا أن يتحقّق أو لا يتحقّق ، فهو بمثابة العلّة إذا وجدت وجد المعلول وإذا انتفت انتفى. وهكذا الحال بالنسبة لموضوع القواعد العقليّة فإذا تحقّق فلا مجال لرفع اليد عن الحكم وإلا فلا يتحقّق الحكم أصلا.

وفي مقامنا المورد هو صورة الشكّ والجهل بالواقع وهذا هو نفس موضوع القاعدة العقليّة ، فيتحقّق الحكم وهو قبح العقاب. ولا مجال لرفع اليد عن هذا الحكم ما دام موضوعه ثابتا ومتحقّقا وجدانا ؛ إذ عدم البيان لا يزال ثابتا ومعه يستحيل أن يثبت

٧٣

التنجيز بالحكم الظاهري ؛ لأنّه يعني التخصيص لهذه القاعدة مع ثبوت موضوعها وهو محال ؛ لأنّه أشبه بالتفكيك بين العلّة والمعلول ، وعليه فيستحيل صدور مثل هذا الحكم ؛ لأنّه لا فائدة منه لأنّ ثبوت التنجيز مستحيل وثبوت التأمين حاصل أيضا ، إلا أن يقال بالتخصّص الذي هو ملاك الورود فيكون الحكم الظاهري واردا لا حاكما وسيأتي بيانه.

٧٤

شبهة التضادّ

و

نقض الغرض

٧٥
٧٦

شبهة التضادّ ونقض الغرض

أمّا الاعتراض الأوّل فقد أجيب عليه بوجوه :

منها : ما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله (١) من أنّ إشكال التضادّ نشأ من افتراض أنّ الحكم الظاهري حكم تكليفي ، وأنّ حجيّة خبر الثقة مثلا معناها جعل حكم تكليفي يطابق ما أخبر عنه الثقة من أحكام ، وهو ما يسمّى بجعل الحكم المماثل ، فإن أخبر الثقة بوجوب شيء وكان حراما في الواقع تمثّلت حجيّته في جعل وجوب ظاهري لذلك الشيء وفقا لما أخبر به الثقة ، فيلزم على هذا الأساس اجتماع الضدّين ، وهما : الوجوب الظاهري والحرمة الواقعيّة.

الجواب الأوّل : ما ذكره الميرزا النائيني رحمه‌الله من أنّ إشكال التضادّ المذكور إنّما نشأ من افتراض أنّ الحكم الظاهري كالحكم الواقعي حكمان تكليفيّان فعندئذ يقال : إنّ الحكم الظاهري الذي هو حكم تكليفي معناه جعل الحكم المماثل للحكم الواقعي ، فمثلا خبر الثقة الذي هو حكم ظاهري جعلت الحجيّة له معناه جعل حكم مماثل على طبق ما أخبر عنه الثقة من أحكام تكليفيّة كالوجوب والحرمة ونحوهما.

فهنا إذا كان ما أخبر عنه الثقة من وجوب مطابقا للواقع يكون هناك حكمان تكليفيّان بالوجوب على واقعة واحدة وهو معنى اجتماع المثلين ، وإذا كان ما أخبر عن الثقة من الوجوب مغايرا للواقع بأن كان الحكم الواقعي الحرمة فهذا معناه اجتماع حكمين تكليفيّين متضادّين الوجوب الظاهري والحرمة الواقعيّة.

فالإشكال والمحذور إنّما يتوجّه لو قلنا بأنّ الحكم الظاهري كالواقع حكم تكليفي ، وقلنا بجعل الحكم المماثل في الحكم الظاهري كما هو قول الأصفهاني والخراساني في بعض عباراته.

__________________

(١) فوائد الأصول ٣ : ١٠٥.

٧٧

ولكنّ الافتراض المذكور خطأ ؛ لأنّ الصحيح إنّ معنى حجيّة خبر الثقة مثلا جعله علما وكاشفا تامّا عن مؤدّاه بالاعتبار ، فلا يوجد حكم تكليفي ظاهري زائدا على الحكم التكليفي الواقعي ليلزم اجتماع حكمين تكليفيّين متضادّين ؛ وذلك لأنّ المقصود من جعل الحجيّة للخبر مثلا جعله منجّزا للأحكام الشرعيّة التي يحكي عنها ، وهذا يحصل بجعله علما وبيانا تامّا ؛ لأنّ العلم منجّز سواء كان علما حقيقة كالقطع ، أو علما بحكم الشارع كالأمارة. وهذا ما يسمّى بمسلك جعل الطريقيّة.

وأمّا إذا قلنا بمسلك جعل الطريقيّة والكاشفيّة فلا يتوجّه الإشكال وبيان ذلك :

إنّ المجعول في الحكم الظاهري هو الكاشفيّة والطريقيّة عن الحكم الواقعي ، فجعل الحجيّة معناها الكاشفيّة والطريقيّة وهي حكم وضعي وليست حكما تكليفيّا ، فالحجيّة التي هي الطريقيّة من الأحكام الوضعيّة المتأصّلة في الجعل التي تنالها يد الشارع رفعا ووضعا ابتداء واستقلالا وليست متوقّفة على الحكم التكليفي أصلا بخلاف الأحكام الوضعيّة الانتزاعيّة كالجزئيّة والشرطيّة ، فإنّها تابعة للحكم التكليفي. فجعل الحجيّة لخبر الثقة معناها جعله علما وكاشفا تامّا بعد أن كان خبر الثقة كاشفا ظنيّا ناقصا عن الواقع ، فعند ما اعتبره الشارع حجّة يعني جعله كالعلم فهو يخبر ويكشف عن الواقع لا أنّه يوجد به حكما تكليفيا زائدا عمّا هو موجود في الواقع ، وهذا معناه وجود حكم واقعي تكليفي واحد وخبر الثقة كاشف وطريق يوصل إليه ، فإذا كان مؤدّى خبر الثقة مطابقا للواقع فالمنجّزيّة في الحقيقة للحكم الواقعي وإن أخطأه ، بأن قام خبر الثقة على الوجوب وكان الحكم الواقعي الحرمة فلا ينشأ حكم واقعي آخر مماثل للواقع ، بل يكون حال خبر الثقة عندئذ حال العلم خطأ في كونه معذّرا وموجبا لتوهّم المنجزيّة واستحقاق العقوبة على الترك ، وعليه فلا يلزم من جعل الحجيّة لخبر الثقة اجتماع حكمين تكليفيّين متماثلين أو متضادّين أصلا ، بل جعل الحجيّة لخبر الثقة معناها جعله منجّزا للأحكام الشرعيّة التي يكشف ويحكي عنها ، وجعل المنجّزيّة لخبر الثقة لا يمكن أن يكون ثابتا للخبر بما هو هو ؛ لأنّه بنفسه كاشف ظنّي غير تامّ عن الواقع ، بل لا بدّ من اعتباره بيانا وعلما وكاشفا تامّا عن الواقع لتثبت له المنجّزيّة وهذا ما يسمّى بتتميم الكشف ، فالشارع عند ما جعل الحجيّة تمّم له الكشف الناقص وجعله كاشفا تامّا تعبّدا ، ولذلك تثبت له المنجّزيّة تبعا لصيرورته بيانا وعلما.

٧٨

وعليه فالمنجّزيّة ثابتة للعلم وهو الكاشف التامّ ولا يمكن ثبوتها لخبر الثقة بنفسه ؛ لأنّه كاشف ناقص ولا يمكن جعلها له مباشرة من الشارع ؛ لأنّها ليست بيد الشارع جعلا ورفعا ، إلا أنّ الشارع لمّا جعل الحجيّة لخبر الثقة وتمّم له الكشف الناقص وجعله تامّا وبيانا وكاشفا فهذا يعني أنّه اعتبره علما ، وحينئذ تثبت له المنجّزيّة ؛ لأنّه من شئون العلم سواء كان العلم حقيقيّا كالقطع أو كان العلم تعبّديا ومجعولا من الشارع كالأمارات.

فهذا الإشكال ينحلّ بأنّ المجعول في الحكم الظاهري هو جعل الكاشفيّة والطريقيّة والعلميّة ، وبأنّ هذا الجعل ليس حكما تكليفيّا بل هو حكم وضعي ، فالحكم الواقعي واحد لا يتغيّر ولا يتبدّل أبدا ، ولذلك لا تضادّ ولا تماثل لأنّه لا يوجد حكمان تكليفيّان.

والجواب على ذلك : أنّ التضادّ بين الحكمين التكليفيّين ليس بلحاظ اعتباريهما حتّى يندفع بمجرّد تغيير الاعتبار في الحكم الظاهري من اعتبار الحكم التكليفي إلى اعتبار العلميّة والطريقيّة ، بل بلحاظ مبادئ الحكم كما تقدّم في الحلقة السابقة (١).

إنّ الجواب المذكور من المحقّق النائيني قدس‌سره لا يحلّ مشكلة اجتماع المثلين أو الضدّين ؛ وذلك لأنّ التضادّ بين الأحكام التكليفيّة كالوجوب والحرمة ليس بلحاظ الاعتبار ليقال مثلا بأنّ الحرمة حكم واقعي تكليفي والوجوب حكم ظاهري وضعي بمعنى جعل العلميّة والكاشفيّة التامّة ؛ لما تقدّم من أنّ الاعتبار سهل المئونة ؛ إذ ليس هو إلاّ مجرّد صياغة إنشائيّة لمبادئ الأحكام بما تشتمل عليه من مصلحة أو مفسدة ومن محبوبيّة أو مبغوضيّة. فمجرّد تغيير الاعتبار في الحكم الظاهري من كونه تكليفيّا إلى كونه علما وطريقا لا يفيد في حلّ الإشكال ؛ لأنّه إنّما يتعرّض لعالم الاعتبار والذي لا تضادّ فيه بين الأحكام التكليفيّة. وإنّما التضادّ بين الحكمين التكليفيّين يتصوّر بلحاظ المبادئ ، بأن يكون واقعا يوجد ملاكان أحدهما المصلحة والمحبوبيّة والآخر المفسدة والمبغوضيّة للشيء الواحد ، فإنّ ثبوتهما معا محال ؛ لأنّهما متضادّان لا يعقل وجودهما في واقعة واحدة معا. فيبقى الإشكال المذكور على حاله ولذلك قال السيّد الشهيد :

__________________

(١) ضمن بحث ( الحكم الشرعي وأقسامه ) من مباحث التمهيد ، تحت عنوان : التضادّ بين الأحكام التكليفيّة.

٧٩

وحينئذ فإن قيل بأنّ الحكم الظاهري ناشئ من مصلحة ملزمة وشوق في فعل المكلّف الذي تعلّق به ذلك الحكم ، حصل التنافي بينه وبين الحرمة الواقعيّة مهما كانت الصيغة الاعتباريّة لجعل الحكم الظاهري. وإن قيل بعدم نشوئه من ذلك ـ ولو بافتراض قيام المبادئ بنفس جعل الحكم الظاهري ـ زال التنافي بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري ، سواء جعل هذا حكما تكليفيّا أو بلسان جعل الطريقيّة.

بعد أن اتّضح أنّ مسألة تغيير الاعتبار والصياغة من الحكم التكليفي إلى جعل العلميّة والطريقيّة لا تفيد في حلّ الإشكال نقول : إنّ هذا الحكم الظاهري إمّا أن يكون ناشئا من مبادئ مستقلّة موجودة في نفس الفعل الذي تعلّق به الحكم الظاهري ، وإمّا أن لا يكون ناشئا من ذلك.

فإن كان الحكم الظاهري ناشئا من مبادئ وملاكات وإرادة وشوق ومحبوبيّة في نفس فعل المكلّف الذي قام خبر الثقة على وجوبه فهذا معناه أنّ الوجوب الذي هو مؤدّى خبر الثقة فيه مصلحة ملزمة ومحبوبيّة وشوق مولوي ، وهذا يعني أنّه مشتمل على مبادئ الوجوب فعندئذ يحصل التنافي بينه وبين الحرمة الواقعيّة بلحاظ المبادئ ؛ لأنّ مبادئ الوجوب تتنافى مع مبادئ الحرمة. ولا تحلّ هذه المشكلة سواء قلنا بأنّ الحكم الظاهري مفاده جعل العلميّة والطريقيّة التي هي حكم وضعي أو قلنا بأنّ مفاده جعل حكم مماثل للحكم الواقعي ؛ لأنّ التنافي واقع بينهما لا محالة بلحاظ المبادئ ، وتغيير الصياغة الاعتباريّة المذكورة لا تفيد ولا تضرّ ؛ لأنّه لا تضادّ أصلا بلحاظ الاعتبار والإنشاء الخالي من المبادئ.

وإن لم يكن الحكم الظاهري ناشئا من مبادئ خاصّة ومستقلّة في فعل المكلّف ، بل كانت هذه المبادئ ثابتة في نفس جعل هذا الحكم كما هو قول السيّد الخوئي الآتي مثلا ، فحينئذ لا تعارض ولا تنافي بين الحكمين ( الوجوب والحرمة ) ؛ لأنّه لا يوجد مبادئ في نفس الفعل زائدا عن المبادئ الثابتة واقعا ، ولذلك لا يضرّنا تسمية الحكم الظاهري بجعل الحكم المماثل أو بجعل الطريقيّة ؛ لأنّ هذه مجرّد صياغات اعتباريّة إنشائيّة لا تضادّ فيها.

والحاصل : أنّ المهمّ في الجواب عن الإشكال إنكار وجود مبادئ مستقلّة في نفس الفعل الذي تعلّق به الحكم الظاهري ؛ لأنّ التعارض بين الوجوب والحرمة إنّما هو

٨٠