شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

الموجودة في المعقولات الأوّليّة ، فتكون هذه المعقولات الثانويّة موطنها الذهن ومنشأ انتزاعها الذهن أيضا ، والاتّصاف والعروض في الذهن.

وحينئذ نقول : إنّ العقل إذا التفت ونظر إلى معقولاته الأوّليّة الثلاثة أي ( لحاظ الوصف ولحاظ عدمه وعدم اللحاظين ) أمكنه أن ينتزع منها لحاظا جامعا بينها ينطبق عليها جميعا ويكون محفوظا ضمنها. وهذا اللحاظ هو عنوان : ( لحاظ الماهيّة ) من دون أن يؤخذ في هذا اللحاظ أي لحاظ آخر ، لا لحاظ الوصف ولا لحاظ عدم الوصف ولا لحاظ عدم اللحاظين.

فإنّ لحاظ الماهيّة جامع بين هذه اللحاظات الثلاثة لانحفاظه فيها ، فإنّ لحاظ الوصف يتضمّن لحاظ الماهيّة وزيادة وهي لحاظ الوصف ، ولحاظ عدم الوصف يتضمّن لحاظ الماهيّة مع زيادة وهي لحاظ عدم الوصف ، ولحاظ عدم اللحاظ يتضمّن لحاظ الماهيّة مع زيادة وهي عدم اللحاظين. ولذلك لا يكون ( لحاظ الماهيّة ) قسما مباينا لهذه الأقسام الثلاثة ، بل هو جامع بينها لانحفاظه فيها ، والقسم لا ينحفظ في القسم الآخر.

وهذا جامع بين لحاظات الماهيّة الثلاثة في الذهن ، ويسمّى بالماهيّة اللابشرط المقسمي تمييزا له عن لحاظ الماهيّة اللابشرط القسمي ؛ لأنّ ذاك أحد الأقسام الثلاثة للماهيّة في الذهن ، وهذا هو الجامع بين تلك الأقسام الثلاثة.

وهذا المعقول الثانوي وهو ( لحاظ الماهيّة ) جامع بين المعقولات الأوّليّة الثلاثة ؛ لأنّه محفوظ فيها وليس قسما لأنّ القسم لا ينحفظ في القسم الآخر المباين له. ويسمّى هذا الجامع بالماهيّة اللابشرط المقسمي.

ووجه التسمية بذلك لأجل تمييزه عن اللحاظ الثالث أي لحاظ الماهيّة باللابشرط القسمي.

فإنّ اللابشرط موجود فيهما معا إلا أنّ اللحاظ الثالث كان قسما مباينا للحاظين الآخرين ، ولذلك عبّر عنه بالقسمي أي أنّه قسم ثالث. وأمّا هذا اللحاظ الثانوي فهو جامع بين الأقسام الثلاثة ، ولذلك يعبّر عنه بالمقسمي أي أنّه مقسم لجميع هذه الأقسام ، والمقسم هو الجامع المحفوظ ضمن الأقسام.

وبعبارة أخرى نقول : إنّ لحاظ الماهيّة باللابشرط المقسمي من ناحية اللحاظ

٤٢١

والملحوظ يكون جامعا بين اللحاظات الثلاثة وبين الملحوظ فيها.

بينما لحاظ الماهيّة باللابشرط القسمي من ناحية اللحاظ مباين للقسمين واللحاظين الآخرين ، إلا أنّ الملحوظ فيه جامع بين الملحوظ في اللحاظين الآخرين كما تقدّم.

وبهذا ينتهي الكلام عن هذه المقدّمة. ونعود للكلام عن اسم الجنس.

إذا توضّحت هذه المقدّمة فنقول :

لا شكّ في أنّ اسم الجنس ليس موضوعا للماهيّة اللابشرط المقسمي ؛ لأنّ هذا جامع ـ كما عرفت ـ بين الحصص واللحاظات الذهنيّة لا بين الحصص الخارجيّة.

والآن لا بدّ من معرفة المعنى الموضوع له اسم الجنس الذي وقع الخلاف فيه بين المتقدّمين والمتأخّرين ، فنقول : إنّ اسم الجنس ليس موضوعا للماهيّة اللابشرط المقسمي والذي هو المعقول الثانوي الجامع بين المعقولات الأوّليّة ؛ وذلك لأنّ الواضع عند ما يضع اللفظ للمعنى يضعه للمعنى الموجود في الخارج ، أو يضعه لمعنى يكون حاكيا وكاشفا عن الخارج ، واللابشرط المقسمي جامع بين اللحاظات الذهنيّة فهو لا يحكي إلا عمّا هو موجود في الذهن ومقيّد باللحاظ الذهني ، وما يكون مقيّدا باللحاظ الذهني لا يكون مطابقا للخارج ولا حاكيا عنه ، ولذلك فهو أمر ذهني محض.

وهذا اللحاظ ليس جامعا بين الحصص الخارجيّة ليصحّ وضع اللفظ له.

فلو فرضنا وضع اسم الجنس لهذا اللحاظ لكان معناه ذهنيّا محضا لا ينطبق ولا يحكي عن الخارج ، وهذا خلف الغرض من الوضع ، كما تقدّم بيانه في بحث القضايا الحقيقيّة والخارجيّة.

وملخّصه : أنّ الواضع غرضه من إحضار الصورة الذهنيّة أن تكون حاكية وكاشفة عن الخارج ، فكان الوضع بإزاء الصورة الذهنيّة لا بما هي مقيّدة بالذهن ، ولا بما هي لحاظ ذهني محض ، بل بما هي مرآة للخارج. ومن المعلوم أنّ اللابشرط المقسمي موطنه ومنشأ انتزاعه والعروض والاتّصاف فيه إنّما هو في الذهن فقط. فلم تتمّ الحكاية والكاشفيّة فيه عن الخارج.

كما أنّه ليس موضوعا للماهيّة المأخوذة بشرط شيء أو بشرط لا ؛ لوضوح عدم دلالة اللفظ على القيد غير الداخل في حاقّ المفهوم.

وكذلك فإنّ اسم الجنس ليس موضوعا للماهيّة بشرط شيء أي للإنسان المقيّد

٤٢٢

بالعلم ، ولا للماهيّة بشرط لا أي للإنسان المقيّد بعدم العلم ؛ وذلك لأنّ اسم الجنس لا يدلّ إلا على الطبيعة والماهيّة التي تكون محفوظة في ضمن الطبيعة الواجدة للقيد ، والفاقدة له.

وأمّا كون اسم الجنس موضوعا للماهيّة المقيّدة بالوصف أو عدم الوصف فهو على خلاف الوجدان والتبادر ، إذ لا يفهم من اسم الجنس إلا ذات الطبيعة ، وأمّا ما يكون خارجا عن الطبيعة وطارئا عليها فهو ليس مدلولا لاسم الجنس ؛ لأنّ العلم وعدم العلم من الصفات التي تعرض على الماهيّة والطبيعة ليسا دخيلين في حاقّ الطبيعة والماهيّة والمفهوم ؛ إذ العلم وعدم العلم ليسا من الأمور الذاتيّة المقوّمة للماهيّة والطبيعة ، بل لو فرض كون اسم الجنس موضوعا للماهيّة المقيّدة بالوصف أو عدمه فهذا يجعله غير قابل للإطلاق مع أنّ الوجدان شاهد على خلافه ؛ إذ إنّ اسم الجنس كما أنّ معناه محفوظ في الطبيعة المقيّدة فكذلك محفوظ أيضا في الطبيعة المطلقة. من دون أن يكون هناك مجازيّة.

فيتعيّن كونه موضوعا للماهيّة المعتبرة على نحو اللابشرط القسمي. وهذا المقدار ممّا لا ينبغي الإشكال فيه.

وحينئذ يتعيّن كون اسم الجنس موضوعا للماهيّة على نحو اللابشرط القسمي ؛ إذ بعد انتفاء كونه موضوعا لتلك الأنحاء الثلاثة لم يبق إلا هذا النحو.

وهذا المقدار لا خلاف فيه بين المتقدّمين والمتأخّرين. فهو القدر المتيقّن من كلماتهم ؛ لأنّ الماهيّة على نحو اللابشرط القسمي تدلّ على ذات الماهيّة ، وذات الماهيّة محفوظة ضمن المطلق وضمن المقيّد كما تقدّم ، وبالتالي تكون الماهيّة بذاتها جامعا بين الحصّتين الخارجيّتين ، فكان هذا المعنى مطابقا للخارج ؛ لأنّها موجودة ومحفوظة ضمن الحصّتين الواجدة للعلم والفاقدة له.

وإنّما الكلام في أنّه هل هو موضوع للصورة الذهنيّة الثالثة ـ التي تمثّل الماهيّة اللابشرط القسمي ـ بحدّها الذي تتميّز به عن الصورتين الأخريين ، أو لذات المفهوم المرئي بتلك الصورة وليست الصورة ، بحدّها إلا مرآة لما هو الموضوع له؟

وقع الخلاف والنزاع بين المتقدّمين والمتأخّرين في شيء آخر وهو : أنّنا ذكرنا أنّ الماهيّة اللابشرط القسمي تارة ينظر إليه بما هو لحاظ ذهني في مقابل اللحاظين

٤٢٣

الآخرين ، أي لحاظ عدم اللحاظين والذي يكون قسما ثالثا من المعقولات الأوّليّة الذهنيّة في مقام لحاظ الوصف ولحاظ عدم الوصف.

وأخرى ينظر إليه بما هو ملحوظ. فإنّ اللابشرط القسمي يحكي عن ذات الماهيّة المحفوظة في الماهيّة المقيّدة والماهيّة المطلقة ، أي الواجدة للوصف والفاقدة له ، والتي تكون جامعا بينهما ومقسما للملحوظ باللحاظين المذكورين لانحفاظها ضمنهما.

فالمتقدّمون ذهبوا إلى أنّها موضوعة للاّبشرط القسمي بما هو لحاظ ، والمتأخّرون ذهبوا إلى أنّها موضوعة له بما هو ملحوظ.

وبتعبير آخر : هل اسم الجنس موضوع للصورة الذهنيّة الثالثة المقابلة للصورتين الذهنيّتين الأخريين ، فيكون حدّها وهو اللحاظ الثالث أي عدم اللحاظين جزءا من المعنى الموضوع له اسم الجنس ، أو أنّ اسم الجنس موضوع للمفهوم المرئي والمحكي والملحوظ بتلك الصورة الثالثة ، فتكون الماهيّة بذاتها هي الموضوع له اسم الجنس ، وحدّها وهو عدم اللحاظين ليس جزءا دخيلا من المعنى؟ المتقدّمون على الأوّل ، والمتأخّرون على الثاني.

فعلى الأوّل يكون الإطلاق مدلولا وضعيّا للّفظ ، وعلى الثاني لا يكون كذلك ؛ لأنّ ذات المرئي والملحوظ بهذه الصورة لا يشتمل إلا على ذات الماهيّة المحفوظة في ضمن المقيّد أيضا. ولهذا أشرنا سابقا (١) إلى أنّ المرئي باللحاظ الثالث جامع بين المرئيّين والملحوظين باللحاظين السابقين لانحفاظه فيهما.

والفارق بين القولين هو :

أنّنا إذا قلنا : إنّ اسم الجنس موضوع للماهيّة اللابشرط القسمي على نحو اللحاظ وبحدّه أي عدم اللحاظين ، فهذا يعني أنّ اسم الجنس يدلّ وضعا على الطبيعة المطلقة ، فيكون استعماله في الطبيعة المقيّدة مجازا ؛ لأنّه استعمال في غير ما وضع له.

وأمّا كونه موضوعا للطبيعة المطلقة فلأنّ عدم اللحاظين صار جزءا دخيلا من المعنى ، وعدم اللحاظين معناه عدم لحاظ الوصف وعدم لحاظ عدم الوصف ، وهذا تعبير عن حقيقة الإطلاق ؛ لأنّ الإطلاق عبارة عن عدم لحاظ الوصف وعدم لحاظ عدم الوصف.

__________________

(١) أي في نفس هذه المقدّمة التي وضعت لتوضيح أنحاء لحاظ الماهيّة.

٤٢٤

وأمّا إذا قلنا : إنّ اسم الجنس موضوع للماهيّة اللابشرط القسمي بما هو ملحوظ ، فهذا معناه أنّ اسم الجنس موضوع للمرئي والمحكي وهو ذات الماهيّة ، وهي محفوظة ضمن الماهيّة المطلقة وضمن الماهيّة المقيّدة فلا مجازيّة في أحدهما ؛ لأنّها محفوظة فيهما معا.

فكان اللفظ دالاّ على معناه الموضوع له. وأمّا الإطلاق والتقييد فهما أمران طارئان على الماهيّة يحتاج كلّ واحد منهما إلى دليل خاصّ يدلّ عليه.

وهذا تقدّم سابقا حيث ذكرنا إنّ الملحوظ في الصورة الثالثة أي عدم اللحاظين جامع للملحوظ والمرئي في اللحاظين الآخرين ؛ لأنّ الماهيّة بذاتها محفوظة ضمن الماهيّة الواجدة والماهيّة الفاقدة.

ولا شكّ في أنّ الثاني هو المتعيّن وقد استدلّ على ذلك بأمرين :

والصحيح ما عليه المتأخّرون من أنّ اسم الجنس موضوع للماهيّة اللابشرط القسمي على نحو الملحوظ والمرئي فيه. والدليل على ذلك أمران :

أوّلا بالوجدان العرفي واللغوي

الدليل الأوّل : أنّ الوجدان شاهد على أنّ اسم الجنس يدلّ على الطبيعة والماهيّة بما هي هي لا بما هي مقيّدة بالإطلاق ؛ إذ إنّ أهل اللغة وأهل المحاورات العرفيّة يرون أنّ اسم الجنس يدلّ على ذات الماهيّة من دون أن يكون لوصف الإطلاق أيّة مدخليّة في المعنى الموضوع له ، ولذلك لا يحكمون بالمجاز عند استعمالها في الطبيعة المقيّدة ، فهذا الوجدان اللغوي والوجدان العرفي أي الفهم والبناء العرفي شاهد وحاكم بأنّ الإطلاق والتقييد وصفان عارضان وطارئان على الماهيّة وخارجان عن المعنى الموضوع له.

وثانيا بأنّ الإطلاق حدّ للصورة الذهنيّة الثالثة ، فأخذه قيدا معناه وضع اللفظ للصورة الذهنيّة المحدّدة به ، وهذا يعني أنّ مدلول اللفظ أمر ذهني ولا ينطبق على الخارج.

الدليل الثاني : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) من أنّ وضع اسم الجنس للماهيّة اللابشرط القسمي بحدّه اللحاظي ، أي عدم اللحاظين يلزم منه كون هذا الحدّ جزءا دخيلا في المعنى الموضوع له اسم الجنس ، وهذا اللحاظ أمر ذهني فيلزم أن يكون اللفظ موضوعا للصورة الذهنيّة المحدّدة بهذا الحدّ اللحاظي ، ولازم ذلك عدم انطباق

٤٢٥

هذا المعنى على الخارج ؛ لأنّ ما يكون مقيّدا ومحدّدا بما هو أمر ذهني يستحيل أن يوجد إلا في الذهن ؛ لأنّ وجوده في الخارج يعني تجريده عن هذا الحدّ والأمر الذهني وهو خلاف أخذه قيدا فيه.

وهذا اللازم مستحيل فيكون الملزوم باطلا ومستحيلا.

ووجه الاستحالة أنّ المقصود والغرض من إحضار المعنى في الذهن أن يكون حاكيا عن الخارج ؛ لأنّ الصورة الذهنيّة يتوسّط بها للحكم على الخارج ؛ لأنّ الحكم على الصورة الذهنيّة المقيّدة بالذهن يفرغ الحكم عن الهدف والمقصود منه.

وعلى هذا فاسم الجنس لا يدلّ بنفسه على الإطلاق كما لا يدلّ على التقييد ، ويحتاج إفادة كلّ منهما إلى دالّ ، والدالّ على التقييد خاصّ عادة ، وأمّا الدالّ على الإطلاق فهو قرينة عامّة تسمّى بقرينة الحكمة على ما يأتي إن شاء الله تعالى.

والنتيجة : هي أنّ اسم الجنس لا يدلّ إلا على الماهيّة بذاتها القابلة للإطلاق والتقييد لانحفاظها فيهما ، وعليه فيحتاج كلّ من الإطلاق والتقييد إلى دليل يدلّ عليه ؛ لأنّه لا يستفاد من اللفظ إلا الماهيّة فقط.

والدالّ على التقييد يكون عادة وغالبا دليلا خاصّا ؛ لأنّ التقييد أمر وجودي والأمر الوجودي يحتاج إلى علّة وجوديّة ، هذا يعني أنّ الدليل عليه أمر خاصّ وهو وجود لفظ أو قرينة تدلّ على التقييد.

وأمّا الدالّ على الإطلاق فهذا قرينة عامّة كلّيّة تسمّى بقرينة الحكمة ؛ وذلك لأنّ الإطلاق أمر عدمي وهو عدم لحاظ الوصف وعدم لحاظ عدم الوصف ، والعدم يكفي فيه عدم علّة الوجود ، ولذلك يكفي فيه السكوت فلا يحتاج إلى دليل خاصّ ، بل يكفي ألاّ تذكر علّة التقييد.

وسيأتي الكلام مفصّلا حول كيفيّة استفادة الإطلاق بقرينة الحكمة. إن شاء الله تعالى.

٤٢٦

التقابل

بين

الإطلاق والتقييد

٤٢٧
٤٢٨

التقابل بين الإطلاق والتقييد

عرفنا أنّ الماهيّة عند ملاحظتها من قبل الحاكم أو غيره ، تارة تكون مطلقة ، وأخرى مقيّدة ، وهذان الوصفان متقابلان.

الماهيّة إذا لاحظها الحاكم أو الواضع فتارة يلاحظها مطلقة من جهة القيود ، وأخرى يلاحظها مقيّدة بوصف أو حالة ، فماهيّة الإنسان تارة تلاحظ من دون أخذ قيد فيها ، وأخرى تلاحظ مع وجود قيد فيها.

والإطلاق والتقييد مفهومان متقابلان لا يمكن اجتماعهما في مورد واحد بأن تكون الماهيّة مطلقة ومقيّدة معا.

غير أنّ الأعلام اختلفوا في تشخيص هويّة هذا التقابل. فهناك القول بأنّه من تقابل التضادّ وهو مختار السيّد الأستاذ (١). وقول آخر بأنّه من تقابل العدم والملكة (٢) ، وقول ثالث بأنّه من تقابل التناقض (٣).

اختلفوا في تشخيص نوعيّة التقابل بين التقييد والإطلاق حيث إنّ التقابل على أربعة أنواع ؛ فذكروا ثلاثة أقوال :

١ ـ ما ذهب إليه السيّد الخوئي : من أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل الضدّين ، أي أنّهما أمران وجوديّان يتعاقبان على موضوع واحد ، لا يجتمعان على موضوع واحد من جهة واحدة في زمن واحد.

٢ ـ ما ذهب إليه المحقّق النائيني : من أنّ التقابل بينهما تقابل الملكة وعدمها ، فهما

__________________

(١) المحاضرات ٢ : ١٧٣ و ١٧٩.

(٢) القائل هو المحقّق النائيني في أجود التقريرات ١ : ١٠٣ و ٥٢٠ وحكاه عن سلطان العلماء في فوائد الأصول ١ : ٥٦٥.

(٣) وهذا ما تبنّاه المؤلّف نفسه كما سيأتي في المتن.

٤٢٩

أمران وجودي وعدمي ، ولكن العدم حيث تصحّ الملكة فيكون الإطلاق هو عدم التقييد حيث يصحّ التقييد لا عدم التقييد مطلقا.

٣ ـ ما اختاره السيّد الشهيد : من أنّ التقابل بينهما تقابل التناقض فهما أمران وجودي وعدمي ، فيكون الإطلاق هو عدم التقييد مطلقا ، فإذا ثبت أحدهما ارتفع الآخر ، ولا يجتمعان ولا يرتفعان معا عن الموضوع الواحد.

وأمّا مدرك هذه الأقوال فهو :

وذلك لأنّ الإطلاق إن كان هو مجرّد عدم لحاظ وصف العلم وجودا وعدما تمّ القول الثالث.

وإن كان عدم لحاظه حيث يمكن لحاظه تمّ القول الثاني ، وإن كان الإطلاق لحاظ رفض القيد تمّ القول الأوّل.

الوجه في اختلاف نوعيّة التقابل بينهما هو الاختلاف في بيان حقيقة الإطلاق على أقوال ثلاثة.

وأمّا التقييد فاتّفقوا على أنّه لحاظ القيد والوصف فلذلك فهو أمر وجودي.

وأمّا الإطلاق فإن كانت حقيقته عدم لحاظ القيد وجودا وعدما ، فعدم اللحاظ أمر عدمي مقابل ومناقض للّحاظ. فنحن تارة نلاحظ القيد وجودا كأن نلاحظ وجود صفة العلم في الإنسان ، وأخرى نلاحظ عدم وجود صفة العلم في الإنسان ، وكلاهما تقييد ؛ لأنّهما لحاظان واللحاظ أمر وجودي ، وثالثة لا نلحظ شيئا زائدا على الماهيّة ، أي أنّنا لا نلاحظ الوصف والقيد لا وجودا ولا عدما فعدم اللحاظ مناقض للّحاظ. ولذلك يكون القول الثالث تامّا.

وإن كانت حقيقته عدم لحاظ القيد وجودا وعدما في المورد الذي يمكن فيه لحاظ القيد ومع ذلك لم يلاحظ ، كان الإطلاق عدما لوجود القيد حيث يكون التقييد ، فإذا لم يكن التقييد ممكنا فهذا يعني أنّه يستحيل الإطلاق أيضا ، وأمّا إذا كان التقييد ممكنا ومع ذلك لم يلاحظ بل لوحظت الماهيّة فقط ولم يلاحظ القيد معها كان الإطلاق متحقّقا ، فيكون القول الثاني تامّا نظير العمى والبصر.

وإن كانت حقيقته لحاظ رفض القيد أي لحاظ عدم مدخليّة القيد في الماهيّة فاللحاظ أمر وجودي فيكونان معا أمرين وجوديّين فيتمّ القول الأوّل ؛ لأنّ الإطلاق

٤٣٠

عبارة عن لحاظ عدم القيد بينما التقييد عبارة عن لحاظ القيد ، فكلاهما أمر لحاظي واللحاظ أمر وجودي.

والفوارق بين هذه الأقوال تظهر فيما يلي :

١ ـ لا يمكن تصوّر حالة ثالثة غير الإطلاق والتقييد على القول الثالث ؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين. ويمكن افتراضها على القولين الأوّلين وتسمّى بحالة الإهمال.

والفوارق بين هذه الأقوال الثلاثة تظهر في موردين :

المورد الأوّل : بناء على القول الثالث من أنّها متقابلان تقابل النقيضين ، فالنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان ، وهذا معناه أنّه إذا ثبت الإطلاق في مورد ارتفع التقييد والعكس ، ولا يمكن أن تفترض حالة لا تكون مطلقة ولا تكون مقيّدة ؛ لأنّ افتراض مثل هذه الحال معناه ارتفاع النقيضين وهو مستحيل. وكذلك لا يمكن افتراض حالة تكون مطلقة ومقيّدة معا ؛ لأنّه يعني اجتماع النقيضين وهو مستحيل أيضا. فدائما إمّا أن يثبت الإطلاق أو يثبت التقييد ولا واسطة.

وأمّا بناء على القول الثاني من أنّهما متقابلان تقابل الملكة والعدم ، فهما لا يجتمعان على مورد واحد ؛ لاستحالة اجتماع الوجود والعدم في موضوع واحد. إلا أنّهما يمكن ارتفاعهما وذلك في المورد الذي لا يكون قابلا للتقييد ، فإنّه أيضا لا يكون قابلان للإطلاق ؛ لأنّ الإطلاق بناء على هذا القول هو عدم التقييد في المورد الذي يمكن ويصحّ فيه التقييد لا عدمه مطلقا ، نظير العمى والبصر اللذين يرتفعان عن الحجر ؛ لأنّه لا يقبل البصر فهو لا يقبل العمى أيضا ، ولكنّهما لا يجتمعان معا بأن يكون المورد مبصرا وأعمى معا. إذا هناك واسطة بينهما تسمّى بحالة الإهمال والإجمال أي لا مقيّد ولا مطلق.

وكذلك الأمر بناء على القول الأوّل من أنّهما متقابلان تقابل الضدّين ، فإنّ الضدّين لا يجتمعان فلا يكون شيء ما أبيض وأسود في وقت واحد من جهة واحدة ، ولكن الضدّين يرتفعان وذلك بثبوت الضدّ الثالث فيمكن ألاّ يكون أبيض ولا يكون أسود بأن يكون أصفر مثلا. وهكذا الحال هنا فإنّ الإطلاق والتقييد لا يجتمعان معا ولكنّهما يمكن ارتفاعهما ، فهناك واسطة بينهما تسمّى بالإهمال والإجمال أيضا.

٤٣١

٢ ـ يرتبط إمكان الإطلاق بإمكان التقييد على القول الثاني ، فلا يمكن الإطلاق في كلّ حالة لا يمكن فيها التقييد.

ومثال ذلك : أنّ تقييد الحكم بالعلم به مستحيل ، فيستحيل الإطلاق أيضا على القول المذكور ؛ لأنّ الإطلاق بناء عليه هو عدم التقييد في الموضع القابل ، فحيث لا قابليّة للتقييد لا إطلاق.

المورد الثاني : في العلاقة بين التقييد والإطلاق في الحالات الثلاثة : الاستحالة والوجوب والإمكان.

أمّا على القول الثاني من أنّهما متقابلان تقابل الملكة والعدم ، فهناك تلازم بينهما في الإمكان والاستحالة دائما وأحيانا الوجوب.

وتوضيحه : أنّ الإطلاق إنّما يكون ممكنا في مورد ما إذا كان التقييد في ذلك المورد ممكنا أيضا ومع ذلك لم يقيّد ، فعدم التقييد في المورد الذي يمكن فيه التقييد يستلزم ثبوت الإطلاق فيكون الإطلاق واجبا. وأمّا إذا لم يمكن التقييد في مورد ما وكان مستحيلا فإنّه يستلزم استحالة الإطلاق أيضا.

والحاصل : أنّه في المورد الذي يمكن فيه التقييد يمكن فيه الإطلاق أيضا ، وفي المورد الذي يستحيل فيه التقييد يستحيل فيه الإطلاق أيضا. وفي المورد الذي يمكن فيه التقييد ولا يقيّد يكون الإطلاق واجبا.

ومثال ذلك : أنّ تقييد الإنسان بالعلم ممكن فيكون الإطلاق ممكنا أيضا. وعليه فإذا لم يقيّد بالعلم مع إمكانه كان ثبوت الإطلاق ضروريّا وواجبا.

وأمّا تقييد الحكم بالعلم به فهو مستحيل ؛ لما تقدّم سابقا ولما سيأتي في محلّه من أنّه يستلزم الدور أو الخلف أو التقدّم والتأخّر. فحيث كان التقييد بالعلم به مستحيلا فيكون الإطلاق مستحيلا أيضا ؛ لأنّ الإطلاق يمكن حيث يمكن التقييد ويستحيل حيث يستحيل التقييد ، فهنا إهمال وإجمال ؛ لأنّه ليس قابلا للتقييد ولا للإطلاق.

وهذا خلافا لما إذا قيل بأنّ مردّ التقابل بين الإطلاق والتقييد إلى التناقض ، فإنّ استحالة أحدهما حينئذ تستوجب كون الآخر ضروريّا ؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين.

وأمّا بناء على القول الثالث من أنّ التقابل بينهما تقابل النقيضين ، فيكون هناك

٤٣٢

تلازم بينهما وجودا وعدما ، فإذا وجد أحدهما ارتفع الآخر وإذا استحال أحدهما وجب الآخر. ولا يمكن استحالتهما معا ولا وجودهما معا.

فإذا كان التقييد في مورد مستحيلا كما في المثال السابق وهو ( أخذ العلم بالحكم في الحكم ) كان ذلك معناه أنّ الإطلاق ضروري الوجود فيكون واجبا ؛ لأنّ النقيضين لا يرتفعان فإذا ارتفع التقييد ثبت الإطلاق لا محالة.

وليس أحدهما مرتبطا بإمكان الآخر ، فإنّ نسبة الإمكان لا تتصوّر بينهما ؛ لأنّه إمّا أن يثبت السلب أو يثبت الايجاب.

وأمّا إذا قيل بأنّ مردّه إلى التضادّ فتقابل التضادّ بطبيعته لا يفترض امتناع أحد المتقابلين بامتناع الآخر ولا ضرورته.

وأمّا بناء على القول الأوّل من أنّهما متقابلان تقابل الضدّين ، فالتضادّ يعني بذاته أنّهما لا يجتمعان على مورد واحد ، وأمّا ارتفاعهما عنه أو عدم ارتفاعهما فهذا قد يكون وقد لا يكون. وعليه فإذا ارتفع أحدهما فقد يرتفع الآخر وقد لا يرتفع ، فإذا استحال أحدهما وامتنع ثبوته ووجوده فقد يستحيل ويمتنع الآخر ، وقد يكون ضروريّا وواجبا. فهناك حالتان من التضادّ إذا ، هما :

١ ـ الضدّان اللذان لهما ثالث كالألوان فإنّ السواد والبياض ضدّان ولكن يوجد لهما ثالث وأكثر كالأخضر وغيره. فهنا إذا وجد أحدهما ارتفع الآخر قطعا ؛ لأنّ الضدّين لا يجتمعان. وأمّا إذا ارتفع أحدهما فليس ضروريّا أن يكون الآخر ثابتا ؛ إذ يمكن ثبوت السواد عند ارتفاع البياض ويمكن ارتفاعه أيضا بأن يثبت الأصفر.

٢ ـ الضدّان اللذان لا ثالث لهما كالطهارة والنجاسة ، فهنا لا يمكن اجتماعهما ، وكذلك إذا ارتفع أحدهما فإنّ الآخر يكون وجوده وثبوته ضروريّا ؛ إذ لا يوجد حالة ثالثة لهما.

ولذلك قال السيّد الشهيد بأنّ التضادّ بطبيعته أي بذاته لا يفترض ارتفاع الآخر عند ارتفاع الأوّل ولا يفترض ضرورة ثبوته عند ارتفاع الأوّل ، بل قد يرتفع كما في الصورة الأولى وقد لا يرتفع كما في الصورة الثانية.

والسيّد الخوئي قال بأنّ الإطلاق والتقييد من الضدّين اللذين لا ثالث لهما كالطهارة والنجاسة ، فتكون النتيجة هنا كالنتيجة مع القول بأنّهما نقيضان.

٤٣٣

والصحيح : هو القول الثالث دون الأوّلين ؛ وذلك لأنّ الإطلاق نريد به الخصوصيّة التي تقتضي صلاحيّة المفهوم للانطباق على جميع الأفراد ، وهذه الخصوصيّة يكفي فيها مجرّد عدم لحاظ أخذ القيد الذي هو نقيض للتقييد.

الصحيح من بين الأقوال الثلاثة هو القول الثالث ، أي أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد بنحو التناقض ، فالتقييد هو لحاظ القيد بينما الإطلاق هو عدم لحاظ القيد في كلّ الحالات.

والدليل على ذلك هو أنّ الإطلاق يراد به شمول المفهوم لكلّ الأفراد التي يصلح الانطباق عليها ، فعند ما يقال : إنّ هذا المفهوم مطلق معناه أنّ هذا المفهوم له صلاحيّة الانطباق والشمول لكلّ الأفراد التي تصلح للدخول تحت المفهوم ، فيكون الإطلاق على هذا يشتمل على خصوصيّة تفيد العموم والشمول لكلّ الأفراد.

وهذه الخصوصيّة المفيدة للإطلاق يكفي في تحقّقها ألاّ يلاحظ شيء أو قيد زائد على المفهوم والماهيّة.

فمثلا الإنسان عند ما يكون مطلقا أي شاملا لكلّ الأفراد التي ينطبق عليها ماهيّة الإنسان يكفي لثبوت الإطلاق ألاّ يلاحظ شيء آخر أو قيد زائد على ماهيّة الإنسان بأن تلاحظ الماهيّة فقط ولا يلحظ القيد ، وهذا معناه أنّه يكفي في الخصوصيّة التي يتميّز بها الإطلاق عدم لحاظ القيد مع الماهيّة ، وعدم لحاظ القيد مفهوم مناقض للتقييد الذي هو لحاظ القيد ، فكانت النسبة بينهما هي التناقض ويدلّ على ذلك أيضا :

لأنّ كلّ مفهوم له قابليّة ذاتيّة للانطباق على كلّ فرد يحفظ فيه ذلك المفهوم ، وهذه القابليّة تجعله صالحا لإسراء الحكم الثابت له إلى أفراده شموليّا أو بدليّا.

إنّ كلّ مفهوم له قابلية وصلاحيّة لأن ينطبق ويشمل كلّ الأفراد التي تتضمّن وتحفظ هذا المفهوم ، بمعنى أنّ كلّ فرد ومصداق يكون واجدا ومتضمّنا وحافظا لهذا المفهوم ، فالمفهوم يشمله ويصلح للانطباق عليه ، وهذه القابليّة ذاتيّة للمفهوم لا تنفكّ عنه.

فالإنسان مثلا كمفهوم له صلاحيّة الانطباق على كلّ الأفراد والمصاديق الخارجيّة التي تحفظ فيها الحيوانيّة الناطقيّة ، ولذلك فهو يشمل الإنسان العالم والجاهل على حدّ سواء ؛ لأنّ كلاّ منهما يحفظ مفهوم الإنسان ويتضمّن ماهيّته.

٤٣٤

وهذا معناه أنّ الإطلاق لازم ذاتي للمفهوم ؛ لأنّ الماهيّة الصالحة للانطباق على كلّ الأفراد هو نفسه معنى الإطلاق. إذا فهذه القابليّة تجعل المفهوم صالحا لإسراء الحكم الثابت له لكلّ الأفراد التي انطبق عليها لاشتمالها على المفهوم أيضا.

فعند ما يقال : ( أكرم الإنسان ) فهذا الحكم الثابت للإنسان يسري إلى كلّ فرد من الأفراد الخارجيّة التي تتضمّن مفهوم الإنسان.

غاية الأمر أنّ هذا الإسراء قد يكون شموليّا كما في ( إكرام الإنسان ) حيث يسري الحكم لكلّ الأفراد. وقد يكون بدليّا كما في ( صلّ ) فإنّه لا يشمل كلّ أفراد الصلاة ، بل يكفي فرد واحد من أفراد الصلاة على نحو البدليّة.

وهذه القابليّة بحكم كونها ذاتيّة لازمة له ، ولا تتوقّف على لحاظ عدم أخذ القيد ، ولا يمكن أن تنفكّ عنه.

ثمّ إنّ قابليّة المفهوم لأن ينطبق على كلّ الأفراد التي يحفظ بها المفهوم كما قلنا ذاتيّة للمفهوم ، فكلّ مفهوم له قابليّة ذاتيّة. وبحكم كونها ذاتيّة فهي لازمة للمفهوم ولا تنفكّ عنه ؛ لأنّ الذاتي لا ينفكّ عن الذات.

وهذا معناه أنّ كلّ مفهوم من ذاتيّاته أن ينطبق على كلّ أفراده ، سواء كانت دائرة المفهوم واسعة كما في ( أكرم الإنسان ) حيث يشمل المفهوم كلّ فرد من الأفراد المتّصفة لماهيّة الإنسان أي ( الحيوان الناطق ) سواء كان عالما أم جاهلا. أو كانت دائرة المفهوم ضيّقة كما في ( أكرم الإنسان العالم ) ، فإنّ المفهوم هنا صالح للانطباق على كلّ الأفراد من الإنسان العالم أيضا.

وهذه القابليّة لا تتوقّف على لحاظ عدم أخذ القيد ؛ لأنّ صلاحيّة الانطباق على كلّ الأفراد كما تقدّم يكفي فيها ألاّ يلاحظ القيد مع الماهيّة ، وإنّما تلاحظ الماهيّة بنفسها فقط.

والتقييد لا يفكّك بين هذا اللازم وملزومه ، وإنّما يحدث مفهوما جديدا مباينا للمفهوم الأوّل ؛ لأنّ المفاهيم كلّها متباينة في عالم الذهن حتّى ما كان بينهما عموم مطلق في الصدق ، وهذا المفهوم الجديد له قابليّة ذاتيّة أضيق دائرة من المفهوم الأوّل.

دفع إشكال مقدّر ، حاصله : أنّه تقدّم أنّ الإطلاق لازم ذاتي للمفهوم ؛ لأنّ

٤٣٥

الإطلاق معناه وجود خصوصيّة تجعل المفهوم قابلا للانطباق على كلّ ما يصلح له المفهوم ، فما دام الإطلاق لازما ذاتيّا لا ينفكّ عن المفهوم فكيف في موارد التقييد انفكّ هذا اللازم عن المفهوم؟ لأنّه من الواضح أنّه في حال التقييد لا يكون المفهوم صالحا للانطباق على الأفراد غير الواجدة للقيد مع كونها واجدة ومتضمّنة للمفهوم أيضا.

فإذا قيل مثلا : ( أكرم الإنسان العالم ) لم يكن مفهوم الإنسان صالحا للانطباق على الجاهل غير العالم ، مع أنّ الجاهل واجد لماهيّة الإنسان. والحال أنّ الذاتي لا ينفكّ عن الذات ، فيلزم ألاّ يكون الإطلاق ذاتيّا للمفهوم وإلا لما انفكّ في موارد التقييد عنه ؛ لأنّ انفكاكه عنه خلف ذاتيّته له.

والجواب : أنّ التقييد لا يفكّك بين اللازم وملزومه ، أي لا يفكّك بين المفهوم والإطلاق بمعنى القابليّة والصلاحيّة للانطباق على كلّ الأفراد المتضمّنة للمفهوم ليلزم المحذور المذكور ؛ وذلك لأنّ التقييد يوجد مفهوما جديدا غير المفهوم السابق ، وهذا المفهوم الجديد مباين للمفهوم السابق وأفراده تختلف عن أفراد ذلك المفهوم.

فقولنا : ( أكرم الإنسان ) يختلف مفهوما عن قولنا : ( أكرم الإنسان العالم ) ؛ لأنّ ( الإنسان ) كمفهوم يغاير ويباين ( الإنسان العالم ) ، بمعنى أنّ الصورة الذهنيّة التي ترتسم لمفهوم ( الإنسان ) تغاير وتباين الصورة الذهنيّة التي ترتسم لمفهوم ( الإنسان العالم ) ؛ وذلك لأنّ المفاهيم الذهنيّة متباينة بمعانيها ؛ لأنّ حقيقة كلّ مفهوم تختلف تصوّرا عن حقيقة الآخر حتّى وإن كان بين المفاهيم نسبة العموم والخصوص مطلقا في عالم الصدق الخارجي.

( فالإنسان ) و ( الإنسان العالم ) كصورتين ومفهومين بالحمل الأوّلي متباينان ومتغايران ؛ لأنّ الأوّل حقيقته ( الحيوان الناطق ) بينما حقيقة الثاني ( الحيوان الناطق ذو صفة العلم ).

وإن كانا بالحمل الشائع والمصداق الخارجي ينطبق أحدهما على الآخر بحيث تكون أفراد هذا المفهوم داخلة ضمن أفراد المفهوم الآخر ، فإنّ الإنسان العالم بكلّ أفراده داخل تحت أفراد الإنسان أيضا.

والحاصل : أنّ التقييد يوجب حصول مفهوم آخر مباين للمفهوم الأوّل بالحمل

٤٣٦

الأوّلي. وهذا المفهوم الجديد له قابليّة وصلاحيّة ذاتيّة للانطباق على كلّ أفراده ، كما هو الحال في المفهوم السابق. غاية الأمر أنّ المفهوم السابق كانت أفراده أوسع دائرة بينما المفهوم الجديد دائرة أفراده أضيق.

وفي كلا الحالين هناك صلاحيّة للمفهوم في كلّ منهما لأن ينطبق على كلّ الأفراد التي ينحفظ فيها المفهوم. فالمفهوم الأوّل ينطبق على كلّ الأفراد المتضمّنة لماهيّة ومفهوم الإنسان ، بينما المفهوم الجديد ينطبق على كلّ الأفراد المتضمّنة لماهيّة مفهوم الإنسان العالم. فلا اختلاف ولا فرق بينهما من حيث قابليّة كلّ منهما للانطباق على كلّ الأفراد ومن حيث كون هذه القابليّة لازمة لا تنفكّ عنه. غاية الأمر الفرق بينهما في أنّ هذه القابليّة الذاتيّة في الأوّل أوسع دائرة من جهة الأفراد بينما في الثاني أضيق دائرة من هذه الناحية.

وهكذا يتّضح أنّ الإطلاق يكفي فيه مجرّد عدم التقييد.

وهكذا يتّضح أنّ الإطلاق معناه الصلاحيّة والقابليّة للانطباق على كلّ الأفراد التي يحفظ فيها المفهوم. وهذا يكفي فيه مجرّد عدم التقييد ، ولا يحتاج إلى ملاحظة القيود ورفضها.

وبهذا الصدد يجب أن نميّز التقابل بين الإطلاق الثبوتي والتقييد المقابل له ـ وهذا ما كنّا نتحدّث عنه فعلا ـ عن التقابل بين الإطلاق الإثباتي ـ أي عدم ذكر القيد الكاشف عن الإطلاق بقرينة الحكمة ـ والتقييد المقابل له.

وحينئذ لا بدّ من التمييز بين نحوين من الإطلاق والتقييد :

الأوّل : الإطلاق والتقييد الثبوتيّان ، والمراد بهما هو أنّ الحاكم أو الواضع إمّا أن يلاحظ في قرارة نفسه الإطلاق أو يلاحظ التقييد ، أي أنّه إمّا أن يجعل الحكم أو اللفظ للصورة الذهنيّة المطلقة أو للصورة الذهنيّة المقيّدة.

وهذا ما كنّا نتحدّث عنه بالفعل وقلنا : إنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل النقيضين.

الثاني : الإطلاق والتقييد الإثباتيّان ، والمراد بهما مرحلة الدلالة والكاشفيّة عمّا هو موجود في ذهن الحاكم أو الواضع. فإنّ التقييد الإثباتي معناه ذكر القيد الكاشف عن التقييد الثبوتي ، والإطلاق معناه عدم ذكر القيد الكاشف عن الإطلاق الثبوتي.

٤٣٧

فهنا لا بدّ للدلالة على التقييد والكشف عنها من ذكر القيد ، بينما يكفي في الدلالة على الإطلاق والكشف عنه عدم ذكر القيد.

وهنا تختلف نسبة التقابل بين الإطلاق والتقييد الإثباتيّين عن الثبوتيّين ؛ لأنّ الإثباتيّين يرتبطان بعالم الدلالة والكاشفيّة والتي مردّها إلى ظهور حال المتكلّم لمعرفة مراده الجدّي من كلامه ، وأنّه هل يريد جدّا الإطلاق أو أنّه يريد جدّا التقييد؟ ولذلك نقول :

فإنّ مردّ التقابل بين الإطلاق الإثباتي والتقييد المقابل له إلى تقابل العدم والملكة ، فعدم ذكر القيد إنّما يكشف عن الإطلاق في حالة يمكن فيها للمتكلّم ذكر القيد. كما مرّ في الحلقة السابقة (١).

إنّ الإطلاق والتقيد الإثباتيّين مردّهما إلى عالم الكشف والدلالة عن المراد الجدّي للمتكلّم. والمراد الجدّي لكلّ متكلّم يرتبط بظهور حاله وأنّه في مقام البيان والتفهيم لتمام مراده الجدّي في شخص كلامه.

وحينئذ نقول : إنّ المتكلّم إن ذكر القيد في كلامه فيكشف هذا عن كونه مريدا للتقييد ثبوتا ؛ لأنّ عالم الإثبات يكشف ويدلّ على عالم الثبوت.

وأمّا إذا لم يذكر القيد فعدم ذكر القيد يكون كاشفا ودالاّ على أنّه لا يريد التقييد جدّا ، وأنّه ثبوتا لم يلاحظ القيد ، وهذا يعني أنّه أراد الإطلاق.

إلا أنّ هذا متوقّف على أن يكون المتكلّم قادرا على ذكر القيد ومع ذلك لم يذكره فيدلّ ويكشف عدم ذكره على الإطلاق ، وأمّا إذا لم يكن قادرا على ذكر القيد لوجود محذور ( كالاستحالة مثلا ) فهنا لا يكشف عدم ذكره للقيد عن كونه لا يريد التقييد جدّا وثبوتا ؛ إذ من المحتمل أنّه يريد التقييد ثبوتا وجدّا ولكنّه لم يذكر القيد لعدم إمكان ذلك.

وبهذا يظهر أنّ الكاشف عن التقييد إنّما يكون بذكر القيد ، وأمّا الكاشف عن الإطلاق فهو عدم ذكر القيد في الحالة التي يمكن فيها ذكر القيد ومع ذلك لم يذكره. وهذا يعني أنّ الإطلاق هو عدم ذكر القيد في الموضع القابل للتقييد. وهذا يعني أنّ التقابل بينهما تقابل الملكة والعدم.

__________________

(١) في بحث الإطلاق ، تحت عنوان : التقابل بين الإطلاق والتقييد.

٤٣٨

وهذا خلافا للإطلاق والتقييد الثبوتيّين حيث إنّ النسبة بينهما هي تقابل التناقض (١).

__________________

(١) والنكتة : هي أنّ عالم الثبوت لا يرتبط بالألفاظ وإنّما يرتبط بالصورة الذهنيّة واللحاظ ، والشارع أو الواضع عند ما يلتفت إلى عالم الثبوت والمراد الجدّي الواقعي فهو : إمّا أن يتصوّر الإطلاق ، وإمّا أن يتصوّر التقييد ، ولا ارتباط لهاتين الصورتين ولا تتوقّف إحداهما على الأخرى ؛ لأنّ الصورتين متباينتان في عالم الذهن ، فهو إمّا يريد الإطلاق ، وإمّا يريد التقييد ولا توجد حالة الإهمال ، إذ لا واسطة بينهما. ولذلك تكون النسبة بينهما هي التناقض.

وأمّا عالم الإثبات والدلالة فهو يرتبط بالألفاظ ومدى دلالتها على المعنى الذي يريده المتكلّم ، ومن هنا ترتبط الدلالة على الإطلاق بالدلالة على التقييد ، بمعنى أنّ المتكلّم إذا أراد التقييد فإنّه يذكر ما يدلّ عليه ، وأمّا إذا أراد الإطلاق فقد يذكر ما يدلّ عليه وقد يكتفي بالسكوت. وفي هذه الحالة لا يكون السكوت وحده كافيا للدلالة على الإطلاق ، بل يرتبط بإمكان ذكر القيد ، فإنّه قد يريد القيد ومع ذلك سكت عنه ولم يذكره لوجود المانع والمحذور ، فلذلك يكون السكوت دالاّ على الإطلاق بشرط أن يكون المورد في نفسه قابلا وصالحا للتقييد ولا محذور من ذكر القيد. ولذلك تكون النسبة هي الملكة والعدم.

٤٣٩
٤٤٠