شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

جزءا من الموضوع يلزم أن لا يكون تمام الموضوع بيّنا ، إذ لا يوجد ما يدلّ على قيد العدالة.

والجواب على ما ذكره صاحب ( الكفاية ) : أنّنا نستظهر الاحتمال الثاني ؛ لأنّ الظهور الذي يعتمد عليه في قرينة الحكمة هو أنّ المتكلّم في مقام بيان تمام موضوع حكمه في شخص كلامه ، ولا علاقة للمخاطب في ذلك. فكلّ ما يكون دخيلا في موضوع الحكم على مستوى الجعل والثبوت والمراد الجدّي لا بدّ أن يأتي المتكلّم بما يدلّ عليه في مرحلة الإثبات والدلالة اللفظيّة.

وحينئذ فإذا لم يكن وصف العدالة دخيلا في مراده الجدّي كان كلامه وافيا بذلك ، وتتمّ مقدّمات الحكمة في أنّ كلّ ما لا يقوله فهو لا يريده جدّا ، وحيث إنّه لم يقل العدالة في كلامه فهو لا يريدها جدّا.

وأمّا إذا كان يريد العدالة ومع ذلك لم يذكر في كلامه ما يدلّ عليها لكان مخلاّ بما هو المتفاهم عرفا في المحاورات ؛ لأنّه لا يوجد في الكلام ما يدلّ على قيد العدالة ومع ذلك كان دخيلا في مراده الجدّي ، فهو مخلّ في بيان تمام موضوع حكمه ، وهذا قبيح بنظر العرف والعقلاء ؛ لأنّ موضوعه ليس بيّنا بتمامه في كلامه.

ومجرّد أنّ الفقير العادل هو المتيقّن في الحكم لا يعني أخذ قيد العدالة في الموضوع ، فقرينة الحكمة تقتضي إذن عدم دخل قيد العدالة حتّى في هذه الحالة.

وأمّا ما ذكره صاحب ( الكفاية ) من أنّ القدر المتيقّن لا إشكال في انطباق الموضوع عليه فهو صحيح ، بمعنى أنّ المتكلّم لو أراد أن يخرج بعض الأفراد فلا يخرج هذا القدر المتيقّن. إلا أنّ هذا ليس مرتبطا ببيان موضوع حكمه الجدّي ؛ لأنّ بيان الموضوع جدّا يرتبط بعالم الثبوت والواقع ، وأنّ الموضوع واقعا وثبوتا هل هو المطلق أو المقيّد؟

فإذا كان موضوع حكمه ثبوتا هو المطلق لكان وافيا ببيان تمام موضوع حكمه ؛ إذ لم يذكر القيد في كلامه فتتمّ قرينة الحكمة لنفي هذا القيد وكلّ قيد آخر محتمل ؛ لأنّه لم يقله وكلّ ما لا يقوله فهو لا يريده.

وأمّا إذا كان موضوع حكمه ثبوتا هو المقيّد لكان مخلاّ بالبيان ؛ لأنّه لم يذكر في كلامه قيد العدالة ومع ذلك كان هو تمام موضوع حكمه ثبوتا ، وهذا مخالف للظهور

٤٦١

الذي تعتمد عليه احترازيّة القيود من أنّ كلّ ما يكون دخيلا في موضوع حكمه من القيود فهو يذكره ويقوله ، والحال أنّه لم يذكر ما يدلّ عليه في كلامه (١).

وبذلك يتّضح أنّ قرينة الحكمة ـ أي ظهور الكلام في الإطلاق ـ لا تتوقّف على عدم المقيّد المنفصل ، ولا على عدم القدر المتيقّن ، بل على عدم ذكر القيد متّصلا.

وبهذا ظهر أنّ قرينة الحكمة تعتمد فقط على عدم ذكر القيد متّصلا ، خلافا لما ذكره الميرزا من اشتراط عدم ذكر القيد منفصلا أيضا ، وخلافا لما ذكره صاحب ( الكفاية ) من توقّفها على عدم القدر المتيقّن في مقام التخاطب ؛ لأنّ الظهور الذي تعتمد عليه قرينة الحكمة لإفادة الإطلاق هو ظهور حال المتكلّم في أنّه في مقام بيان تمام مراده الجدّي لموضوع حكمه في شخص كلامه فقط.

هذا هو البحث في أصل الإطلاق وقرينة الحكمة.

__________________

(١) نعم هذا القدر المتيقّن يعتبر المصداق الأوّل والأهمّ بحيث لا يمكن استثناؤه فيما بعد ، وهذه هي فائدة القدر المتيقّن ؛ بل لو كان القدر المتيقّن في مقام التخاطب مانعا عن انعقاد الإطلاق لكان القدر المتيقّن من الخارج مانعا عنه أيضا ؛ إذ لا فرق بينهما حينئذ من جهة صحّة اعتماد المتكلّم عليهما لو كان مراده الجدّي بيان موضوع الحكم للمخاطب. وهذا ما ذهب إليه المحقّق العراقي.

٤٦٢

تنبيهات

٤٦٣
٤٦٤

تنبيهات

وتكميلا لنظريّة الإطلاق لا بدّ من الإشارة إلى عدّة تنبيهات :

التنبيه الأوّل : أنّ أساس الدلالة على الإطلاق ـ كما عرفت ـ هو الظهور الحالي السياقي ، وهذا الظهور دلالته تصديقيّة. ومن هنا كانت قرينة الحكمة الدالّة على الإطلاق ناظرة إلى المدلول التصديقي للكلام ابتداء ، ولا تدخل في تكوين المدلول التصوّري.

ولأجل استيعاب البحث حول نظريّة الإطلاق وقرينة الحكمة نذكر عدّة تنبيهات :

التنبيه الأوّل : في أنّ الإطلاق مرتبط بالدلالة التصديقيّة الثانية أي المراد الجدّي ، ولا يرتبط بالمدلول التصوّري.

وتوضيح ذلك : أنّ الإطلاق مرجعه كما تقدّم إلى ظهور حالي سياقي مفاده أنّ ( ما لا يقوله لا يريده ). وهذا الظهور مرتبط بمراد المتكلّم الواقعي في مرحلة الثبوت ، فإنّ مراده لا يخلو إمّا أن يكون منصبّا على الصورة الذهنيّة المطلقة ، أو على الصورة الذهنيّة المقيّدة. ومعرفة هذا المراد الجدّي والاستدلال عليه مرتبط بالمتكلّم وإرادته ، وأنّه في مقام البيان والتفهيم لتمام مراده فإذا لم يذكر القيد ولم يقله فهو لا يريده ، فالإطلاق يعتمد إذا على تحديد المراد الجدّي.

ومن المعلوم كما تقدّم أنّ المراد الجدّي يتمّ تحديده على أساس الدلالة التصديقيّة الثانية ، وهذه الدلالة خارجة عن المدلول اللفظي ؛ لأنّ المدلول اللفظي للكلام يتمّ تحديده من خلال الدلالتين التصوريّة والتصديقيّة الأولى.

فمثلا إذا قيل : ( أكرم العالم ) كان المدلول التصوّري للعالم هو ذات المفهوم والماهيّة ؛ لما تقدّم سابقا من أنّ اسم الجنس موضوع لذات الماهيّة بما هي هي مجرّدة عن التقييد والإطلاق ، ثمّ على أساس التطابق بين الدلالة التصوّريّة والدلالة التصديقيّة

٤٦٥

الأولى يثبت أنّ المتكلّم قد قصد استعمال اللفظ في هذا المعنى أي ذات الماهيّة ، وأنّه قصد إخطار هذه الصورة في ذهن السامع. وعلى أساس هاتين الدلالتين يتمّ تحديد المدلول اللفظي الوضعي ، فيثبت أنّ هذا اللفظ مستعمل في معناه الحقيقي الموضوع له وهو ذات الماهيّة بما هي هي.

وأمّا الدلالة التصديقيّة الثانية وتحديد المراد الجدّي للمتكلّم وأنّه قصد وأراد جدّا هذه الصورة التي أفادها في ذهن المتكلّم واستعمل اللفظ فيها ، فهذا يتمّ تحديده خارجا عن المدلول اللفظي ؛ لأنّ اللفظ بنفسه لا يدلّ على أنّه أراد ذلك جدّا ، إذ قد يكون هازلا أو في حالة التقيّة والخوف مثلا.

وعليه فلا بدّ من إثبات المراد الجديّ من الرجوع إلى ظهور حال المتكلّم ، وأنّه في مقام البيان والتفهيم لتمام مراده الجدّي في شخص كلامه ليثبت أنّه يريد جدّا هذه الصورة ، وهذا مرجعه إلى المتكلّم لا إلى الألفاظ.

وبذلك ظهر أنّ الإطلاق دلالته تصديقيّة دائما وليست تصوّريّة ، بمعنى أنّ الإطلاق ليس دخيلا في الصورة الذهنيّة الموضوع لها اللفظ أو المستعمل فيها ؛ لأنّ اسم الجنس موضوع للماهيّة ذاتها وبحكم التطابق يثبت أنّه مستعمل في هذا المعنى أيضا ، ولا يتدخّل الإطلاق في المدلول اللفظي التصوّري الوضعي للكلام أصلا.

خلافا لما إذا قيل بأنّ الدلالة على الإطلاق وضعيّة ؛ لأخذه قيدا في المعنى الموضوع له ، فإنّها تدخل حينئذ في تكوين المدلول التصوّري.

وأمّا إذا قلنا بمقالة المشهور من القدماء : من أنّ اسم الجنس موضوع للماهيّة المطلقة ، فهنا يكون الإطلاق جزءا دخيلا في المعنى الموضوع له اللفظ ، فيدخل في الصورة الذهنيّة التي يدلّ عليها اللفظ. وهذا معناه أنّ لفظ اسم الجنس كما يدلّ على الماهيّة وضعا وتصوّرا كذلك يدلّ على الإطلاق ، فيكون الإطلاق دخيلا في المدلول التصوّري الوضعي للّفظ ، ولا يحتاج في إثباته والاستدلال عليه إلى ظهور حالي سياقي ؛ إذ يثبت ابتداء ومن أوّل الأمر أنّ الإطلاق هو المراد الجدّي للمتكلّم ما لم ينصب قرينة على خلافه. فبناء على هذا القول لا نحتاج إلى دليل على الإطلاق ، وإنّما نحتاج إلى دليل على التقييد فقط.

٤٦٦

وكذلك يكون الإطلاق مرتبطا بعالم الألفاظ والمدلول التصوّري الوضعي ، وليس مرتبطا بالمدلول التصديقي الثاني والمراد الجدّي فقط. وهذا فارق جوهري وأساسي بين القولين المتقدّمين في حقيقة اسم الجنس والمعنى الموضوع له.

التنبيه الثاني : أنّ الإطلاق تارة يكون شموليّا يستدعي تعدّد الحكم بتعدّد ما لطرفه من أفراد ، وأخرى بدليّا يستدعي وحدة الحكم. فإذا قيل : ( أكرم العالم ) كان وجود الإكرام متعدّدا بتعدّد أفراد العالم ، ولكنّه لا يتعدّد في كلّ عالم بتعدّد أفراد الإكرام.

التنبيه الثاني : في الإطلاق الشمولي والإطلاق البدلي ولا إشكال في أنّ الإطلاق تارة يكون شموليّا وأخرى يكون بدليّا.

والمراد من الشموليّة هنا أنّ الإطلاق يستدعي ويستلزم تعدّد الحكم وتكثّره بلحاظ تعدّد وكثرة ما لطرفه من أفراد ، فيسري الحكم من الماهيّة إلى أفرادها جميعا ، كما في قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) ، فإنّ الحكم المنصبّ على ماهيّة البيع يسري ويتعدّد ويتكثّر بلحاظ تعدّد وتكثّر أفراد البيع في الخارج ، فيكون كلّ بيع حلالا أي كلّ فرد فرد من أفراد البيع متّصفا بالحلّيّة.

ومثاله أيضا ( لا تكذب ) فإنّ الحرمة متعلّقة بالكذب ، لكنّه ينحلّ ويسري إلى الأفراد جميعا فكلّ فرد فرد من أفراد الكذب حرام ، وهكذا.

والمراد من البدليّة أنّ الإطلاق يستدعي ويستلزم وحدة الحكم فلا يتعدّد ولا يتكثّر ، بل يبقى ثابتا للماهيّة فقط ولا يسري منها إلى أفرادها وإن كانت كثيرة جدّا ، بحيث لا يقتضي أكثر من إيجاد هذه الطبيعة فقط ولو في فرد واحد من أفرادها ، ولا يوجب إيجاد كلّ الأفراد ، ومثاله ( أعتق رقبة ) فإنّ وجوب العتق منصبّ على ماهيّة الرقبة ، وهنا لا يجب إلا عتق رقبة واحدة فقط ، أي إيجاد فرد واحد لا كلّ فرد من أفراد الرقبة يتّصف بالوجوب. فالحكم ثابت للماهيّة فقط والتي تتحقّق بفرد واحد ، ولا يسري إلى أفرادها ، وكذلك ( صلّ ) فإنّه وجوب واحد متعلّق بماهيّة الصلاة ولا يسري إلى كلّ أفرادها أيضا ، وهكذا.

وقد يكون في دليل واحد إطلاق شمولي من جهة وإطلاق بدلي من جهة أخرى ، كما في قولنا : ( أكرم العالم ) ، فمن جهة ( أكرم ) يكون الإطلاق بدليّا بمعنى أنّه يجب

٤٦٧

إيجاد ماهيّة الإكرام ولو بفرد واحد من أفرادها ولا يجب إيجاد كلّ أفراد الإكرام ، فالحكم ثابت للماهيّة ولا يسري منها إلى أفرادها ، فهو إطلاق بدلي.

وأمّا من جهة ( العالم ) فهو إطلاق شمولي ؛ لأنّ وجوب الإكرام منصبّ على ماهيّة العالم ، وهذا الوجوب يتعدّد ويتكثّر بما للعالم من أفراد ومصاديق في الخارج ، وهذا يعني أنّ الحكم سرى من الماهيّة إلى أفرادها.

فتكون النتيجة أنّه يجب إكرام كلّ فرد فرد من أفراد العالم ولكن لا يجب إلا إكرام واحد فقط لا أكثر.

ومن هنا قد يثار إشكال مفاده :

وقد يقال : إنّ قرينة الحكمة تنتج تارة الإطلاق الشمولي وأخرى الإطلاق البدلي.

ويعترض على ذلك بأنّ قرينة الحكمة واحدة فكيف تنتج تارة الإطلاق الشمولي وأخرى الإطلاق البدلي؟!

الإشكال الوارد هنا هو : أنّ قرينة الحكمة تارة تنتج الشموليّة وأخرى تنتج البدليّة ، والحال أنّ قرينة الحكمة واحدة ومرجعها واحد وهو ظهور حال المتكلّم أنّه في مقام البيان والتفهيم بمراده الجدّي ، فكلّ ما لا يقوله فهو لا يريده ، وهذا يثبت الإطلاق ، فكيف نتج بعد ذلك الشموليّة والبدليّة من هذا الأمر الواحد؟

وبتعبير آخر : أنّه ما دام الدالّ على الإطلاق شيئا واحدا فكيف كان هنا شموليّا وهناك بدليّا؟ إذ المفروض أنّ تكون النتيجة واحدة ؛ لأنّ السبب والمرجع واحد أيضا.

فكيف صدر عن الشيء الواحد أمران مختلفان؟!

وقد أجيب على هذا الاعتراض بعدّة وجوه :

الأوّل : ما ذكره السيّد الأستاذ (١) من أنّ قرينة الحكمة لا تثبت إلا الإطلاق بمعنى عدم القيد ، وأمّا البدليّة والاستغراقيّة فيثبت كلّ منهما بقرينة إضافيّة.

وقد أجيب على هذا الاعتراض بوجوه أهمّها ثلاثة :

الجواب الأوّل : ما ذكره السيّد الخوئي من أنّ قرينة الحكمة لا تنتج إلا شيئا واحدا فقط وهو عدم القيد ؛ لأنّ الإطلاق الذي ينتج من قرينة الحكمة هو عدم لحاظ القيد

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ٤ : ١٠٦ ـ ١١٠.

٤٦٨

في الموضوع ، أو رفض القيد كما هي مقالته رحمه‌الله وهذا الأمر كما هو موجود بلحاظ الإطلاق الشمولي موجود بلحاظ الإطلاق البدلي ، فلا يلزم صدور شيئين عن مسبّب واحد.

وأمّا الشموليّة والبدليّة فهما وصفان خارجان عن قرينة الحكمة ، ويحتاج كلّ واحد منهما إلى دليل خاصّ غير قرينة الحكمة. فقرينة الحكمة تثبت الإطلاق فقط ، وأمّا كونه شموليّا أو بدليّا فهو يحتاج إلى قرينة أخرى وعناية إضافيّة غير قرينة الحكمة. وتوضيح ذلك :

فالبدليّة في الإطلاق في متعلّق الأمر مثلا تثبت بقرينة إضافيّة ، وهي : أنّ الشموليّة غير معقولة ؛ لأنّ إيجاد جميع أفراد الطبيعة غير مقدور للمكلّف عادة.

والشموليّة في الإطلاق في متعلّق النهي مثلا تثبت بقرينة إضافيّة وهي : أنّ البدليّة غير معقولة ؛ لأنّ ترك أحد أفراد الطبيعة على البدل ثابت بدون حاجة إلى النهي.

أنّ قرينة الحكمة تثبت الإطلاق فقط ، بمعنى أنّ الموضوع هو الماهيّة بذاتها مجرّدة عن القيود. فالبدليّة تحتاج إلى عناية زائدة وهي : أنّه إذا قيل : ( أكرم العالم ) أو ( صلّ ) فهنا متعلّق الأمر وهو الإكرام أو الصلاة يثبت كون الإطلاق فيهما بدليّا بقرينة عقليّة أو عقلائيّة عرفيّة ، وهي أنّ المكلّف لا يقدر على الإتيان بكلّ أفراد الصلاة أو كلّ أنواع الإكرام ، فإيجاد كلّ أفراد طبيعة الإكرام والصلاة غير مقدور للمكلّف إمّا عقلا أو عادة وعرفا ، فعلى أساس عدم القدرة في إيجاد كلّ أفراد الطبيعة تتعيّن البدليّة ؛ لأنّ الشموليّة فيها محذور عدم القدرة ، والشارع لا يكلّف بغير المقدور عقلا أو عرفا.

وأمّا الشموليّة فتثبت بعناية أخرى وهي : إذا قيل : ( لا تكذب ) فهنا متعلّق النهي وهو طبيعي الكذب الذي له أفراد عديدة في الخارج ، لا يمكن أن يكون المراد منه البدليّة بمعنى عدم الكذب ولو مرّة واحدة ؛ لأنّ عدم الكذب ولو مرّة واحدة حاصل وثابت ؛ إذا لا يمكن لشخص أن يكذّب بكلّ أنواع الكذب وأفراده ؛ لأنّ ذلك غير مقدور له عقلا أو عادة ، فيكون إرادة البدليّة مستحيلا ؛ لأنّه تحصيل للحاصل.

والأمر بشيء حاصل ومفروغ عنه لغو ، فعلى أساس محذور اللغويّة يثبت أنّ المتعلّق هنا مطلق بنحو الإطلاق الشمولي ، فيكون مكلّفا بالامتناع عن إيجاد كلّ أفراد الكذب وليس عن بعض الأفراد فقط ؛ لأنّه حاصل ومتحقّق فالتكليف به لغو.

٤٦٩

وبهذا ظهر أنّ عناية البدليّة هي عدم القدرة على إيجاد كلّ أفراد الطبيعة ، بينما عناية الشموليّة هي لغويّة ترك بعض أفراد الطبيعة فقط ، وكلا هاتين العنايتين يحكم بهما العقل أو العرف.

وهما خارجان عن مدلول قرينة الحكمة ؛ لأنّها تثبت الإطلاق فقط بمعنى عدم مدخليّة القيد في الموضوع.

ولا يصلح هذا الجواب لحلّ المشكلة ؛ إذ توجد حالات يمكن فيها الإطلاق الشمولي والبدلي معا ، ومع هذا يعيّن الشمولي بقرينة الحكمة ، كما في كلمة ( عالم ) في قولنا : ( أكرم العالم ) ، فلا بدّ إذا من أساس لتعيين الشموليّة أو البدليّة غير مجرّد كون بديله مستحيلا.

إلا أنّ هذا الجواب لا يصلح حلاّ للمشكلة ؛ لأنّه وإن كان تامّا في بعض الحالات إلا أنّه ليس تامّا في بعضها الآخر ، فمثلا إذا قيل : ( أكرم العالم ) كان الإطلاق شموليّا ، وأمّا إذا قيل : ( أكرم عالما ) كان الإطلاق بدليّا ، فكلمة ( العالم ) يمكن فيها البدليّة والشموليّة معا وتعيين أحدهما يحتاج إلى سبب آخر غير ما ذكره السيّد الخوئي ؛ لأنّه ذكر أنّ محذور اللغويّة يعيّن الشموليّة بينما استحالة التكليف بغير المقدور يعيّن البدليّة.

ففي هذا المورد كلمة ( العالم ) يمكن أن تكون شموليّة ؛ لإمكان إكرام كلّ أفراد العالم ، ويمكن أن تكون بدليّة بإكرام بعض الأفراد ، ولكن مع ذلك تتعيّن الشموليّة دون البدليّة بقرينة الحكمة ، مع أنّه لا محذور في إرادة البدليّة أيضا.

فلو كان الملاك للشموليّة هو محذور اللغويّة في البدليّة لم تتمّ الشموليّة ؛ إذ لا محذور هنا بإكرام بعض الأفراد. ولو كان الملاك للبدليّة استحالة الشموليّة لم تتمّ البدليّة هنا ؛ لأنّ الشموليّة غير مستحيلة ؛ إذ يمكن للمكلّف إكرام كلّ أفراد العالم ، مع أنّ السيّد الخوئي يلتزم بالشموليّة هنا رغم أنّه لا محذور في البدليّة ، وهذا مخالف لما ذكره من الملاك (١).

__________________

(١) ويلزم ممّا ذكر أيضا : أن تكون الأحكام الشرعيّة كلّها بدليّة ؛ وذلك لأنّ التكليف بغير المقدور إن كان هو ملاك البدليّة فحيث إنّ الأحكام التكليفيّة كلّها مقيّدة بالقدرة ؛ لأنّه لا يمكن للمكلّف أن يأتي بكلّ الأفراد فتكون كلّها بدليّة ...

٤٧٠

الثاني : ما ذكره المحقّق العراقي رحمه‌الله (١) من أنّ الأصل في قرينة الحكمة انتاج الإطلاق البدلي ، والشموليّة عناية إضافيّة بحاجة إلى قرينة ؛ وذلك لأنّ هذه القرينة تثبت أنّ موضوع الحكم ذات الطبيعة بدون قيد ، والطبيعة بدون قيد تنطبق على القليل والكثير وعلى الواحد والمتعدّد.

الجواب الثاني : ما ذكره المحقّق العراقي من أنّ قرينة الحكمة تنتج الإطلاق البدلي فقط ، وأمّا الإطلاق الشمولي فيحتاج إلى عناية زائدة.

وتوضيح ذلك : أنّ قرينة الحكمة تثبت أنّ موضوع الحكم

هو الطبيعة والماهيّة فقط مجرّدة عن القيود ، وذات الماهيّة كما تنطبق على كلّ الأفراد تنطبق على بعضها ، فهي توجد بفرد من أفرادها وتوجد بأكثر من ذلك. فالثابت دائما هو البعض ؛ لأنّه القدر المتيقّن ، بينما الجميع على نحو الشموليّة ، فهذا يحتاج إلى عناية زائدة إضافيّة غير قرينة الحكمة.

وبتعبير آخر : أنّ البدليّة بمعنى وحدة الحكم وعدم تعدّده ثابت بمجرّد جريان الإطلاق وقرينة الحكمة ؛ لأنّه يثبت أنّ موضوع الحكم هو ذات الطبيعة ، فالحكم واحد والموضوع واحد. وأمّا الشموليّة بمعنى تعدّد الحكم بتعدّد الأفراد فهذا أمر زائد يحتاج إلى قرينة وعناية تثبت أنّ الحكم موضوعه كلّ الأفراد لا ذات الماهيّة فقط ؛ لأنّ ذات الماهيّة ينطبق على القليل والكثير ، والقليل هو المتيقّن ؛ لأنّ الطبيعة توجد بفرد من أفرادها ، وأمّا الكثير فهو يحتاج إلى دليل آخر.

فلو قيل : ( أكرم العالم ) وجرت قرينة الحكمة لإثبات الإطلاق كفى في الامتثال إكرام الواحد ؛ لانطباق الطبيعة عليه. وهذا معنى كون الإطلاق من حيث الأساس

__________________

... ويلزم أيضا أن يكون مثل ( أكرم العالم ) بدليّا ؛ إذ يستحيل إكرام كلّ أفراد العالم ، كما أنّه يستحيل إيجاد كلّ إفراد الإكرام ، فالاستحالة موجودة فيهما معا ، فلما ذا كان هذا بدليّا وذاك شموليّا مع وحدة الملاك فيهما؟

وبهذا ظهر أنّه لا بدّ من وجود ملاك آخر وأساس ثابت يبتني عليه البدليّة والشموليّة غير ما ذكره السيّد الخوئي.

(١) كلماته في هذه المسألة مشوّشة للغاية ، ولعلّ أقرب ما ورد فيها إلى ما نسب إليه في المتن ما جاء في مقالات الأصول ١ : ٥٠١ ، ولكنّه لم يتبنّاه بل ردّه ببيان له ، وتمسّك بفكرة أخرى في هذه المسألة ، فراجع.

٤٧١

بدليّا دائما ، وأمّا الشموليّة فتحتاج إلى ملاحظة الطبيعة سارية في جميع أفرادها ، وهي مئونة زائدة تحتاج إلى قرينة.

فمثلا إذا قيل : ( أكرم العالم ) جرت قرينة الحكمة لإثبات الإطلاق ، بمعنى أنّ موضوع الحكم هو ذات الطبيعة من دون قيد ، وإذا ثبت كون الطبيعة بذاتها هي موضوع الحكم فهذا معناه أنّه يجب الإكرام لذات العالم ، ومن المعلوم أنّ ذات العالم تتحقّق وتوجد بفرد من أفرادها فيتحقّق الامتثال بإكرام واحد من العالم. وهذا معنى ما يقال : إنّ الأصل في الإطلاق كونه بدليّا ، أي يكفي فرد واحد في تحقيق الامتثال.

وأمّا الشموليّة وكون الحكم متعدّدا بتعدّد الأفراد فهذا شيء زائد على وجوب إكرام الماهيّة ؛ لأنّه يعني إسراء الوجوب إلى الأفراد ، فلا بدّ إذا من إثبات أنّ هذا الحكم موضوعه الأفراد أيضا وهذا لا يكفي فيه قرينة الحكمة ؛ لأنّها لا تثبت أنّ الأفراد هي موضوع الحكم فلا بدّ من عناية إضافيّة زائدة لإثبات الشموليّة.

وبتعبير آخر : أنّ قرينة الحكمة تثبت الإطلاق بمعنى عدم القيود ، أي أنّ الماهيّة بذاتها مجرّدة عن القيود هي الموضوع ، والبدليّة هنا تعني أنّه يكفي إيجاد فرد واحد من أفراد الماهيّة ؛ لأنّ الماهيّة يكفي في تحقّقها فرد واحد من أفرادها.

وأمّا الشموليّة فهي تعني أنّ الحكم موضوعه ليس خصوص الماهيّة بذاتها ، بل الماهيّة بكل أفرادها أي الماهيّة مع كلّ القيود المتصوّرة فيها ، وهذا لا يثبت بالإطلاق ؛ لأنّه ينفي القيود لا أنّه يجمع القيود ، فتحتاج إلى عناية زائدة لإثبات أنّ الحكم على كلّ الأفراد (١).

الثالث : أن يقال ـ خلافا لذلك ـ : إنّ الماهيّة عند ما تلحظ بدون قيد وينصبّ عليها حكم إنّما ينصبّ عليها ذلك بما هي مرآة للخارج ، فيسري الحكم نتيجة

__________________

(١) وفيه : أنّه وقع خلط بين الإطلاق والعموم فالإطلاق الشمولي لا ينظر فيه إلى الأفراد بخلاف العموم. فإنّ الأفراد مدلول تصوّري لألفاظ العموم والمقصود من الإطلاق الشمولي : أنّ الحكم منصبّ على الماهيّة وهي متعلّق الحكم ، ولكن هذا الحكم ينحلّ إلى أحكام عديدة تبعا لكثرة أفراد الماهيّة في الخارج ، إلا أنّ هذه الأفراد ليست هي موضوع الحكم وإنّما هي مصداق موضوعه فقط.

٤٧٢

لذلك إلى كلّ فرد خارجي تنطبق عليه تلك المرآة الذهنيّة ، وهذا معنى تعدّد الحكم وشموليّته.

الجواب الثالث : ما ذكره المحقّق الأصفهاني من أنّ الأصل في قرينة الحكمة أنّها تنتج الإطلاق الشمولي ، وأمّا الإطلاق البدلي فيحتاج إلى عناية إضافيّة زائدة.

وتوضيح ذلك : إذا قيل : ( أكرم العالم ) وجرت قرينة الحكمة ثبت أنّ موضوع الحكم هو ذات الماهيّة وطبيعة العالم بما هي هي ، ومن المعلوم أنّ الطبيعة والماهيّة إنّما تؤخذ في الذهن وفي موضوع الحكم تصوّرا لا بقيد الوجود الذهني أو اللحاظ الذهني ، وإنّما تؤخذ كذلك بما هي مرآة وحاكية وكاشفة عن الخارج ، وحينئذ فيكون كلّ فرد في الخارج صالحا لأن تنطبق عليه هذه الصورة بحيث تكون المرآتيّة بين الماهيّة والفرد في الخارج ثابتة لكلّ الأفراد ؛ إذ لا أولويّة ولا مرجّح لأحدها على الآخر. وهذا معناه أنّ الحكم يسري من الطبيعة والماهيّة التي انصبّ عليها الحكم من دون قيد إلى الأفراد في الخارج ، وهذا هو معنى الشموليّة ؛ إذ لا يراد من الشموليّة أكثر من كون الحكم متعدّدا بتعدّد الأفراد ، وهنا ثبت أنّ كلّ فرد من أفراد الماهيّة صالح للمرآتية ولانطباق الماهيّة عليه فيسري حكمها إليه ، والنتيجة هي سريان الحكم إلى كلّ الأفراد.

وأمّا البدليّة كما في متعلّق الأمر فهي التي تحتاج الى عناية ، وهي تقييد الماهيّة بالوجود الأوّل ، فقول : ( صلّ ) يرجع إلى الأمر بالوجود الأوّل ، ومن هنا لا يجب الوجود الثاني ، وعلى هذا فالأصل في الإطلاق الشموليّة ما لم تقم قرينة على البدليّة.

وأمّا البدليّة فهي تحتاج إلى عناية إضافيّة غير قرينة الحكمة ، فإذا قيل : ( صلّ ) كان متعلّق الأمر وهو الصلاة مطلقا بدليّا ، بمعنى كفاية فرد واحد من أفراد الصلاة يحتاج إلى عناية وقرينة ؛ لأنّ الأصل هو الشمول لكلّ الأفراد والبدليّة معناها الاكتفاء بفرد واحد وهو الفرد الأوّل ، وهذا تقييد زائد لا بدّ فيه من العناية كأن يقال مثلا : إنّ إيجاد كلّ أفراد الصلاة متعذّر أو متعسّر ، أو يقال : إنّ المطلوب هو إيجاد الطبيعة وهي توجد بفرد من أفرادها.

وعلى كلّ حال فالبدليّة تحتاج إلى العناية ؛ لأنّها تعني الاكتفاء بالفرد الأوّل دون

٤٧٣

حاجة إلى غيره. وقد عرفت أنّ الأصل في قرينة الحكمة أنّها تفيد الإطلاق الشمولي ، أي السريان لكلّ الأفراد لا بعضها.

وتحقيق الحال في المسألة يوافيك في بحث أعلى إن شاء الله تعالى.

وحاصله تارة يبحث بلحاظ الحكم ، وأخرى يبحث بلحاظ الامتثال.

أمّا بلحاظ الحكم فبمعنى هل أنّ الحكم واحد أم هو متعدّد؟ فالبدليّة تعني وحدة الحكم والشموليّة تعني تعدّده.

فهنا يقال : الصحيح هو التفصيل بين موضوع الحكم وبين متعلّقة ، فإذا قيل : ( أكرم العالم ) كان المتعلّق هو الإكرام والموضوع هو العالم.

فمن حيث المتعلّق فالأصل هو البدليّة ما لم تقم قرينة على الشموليّة ؛ لأنّ الحكم منصبّ على الطبيعة بمعنى حكم واحد لإيجاد الطبيعة أو لإعدامها.

ومن حيث الموضوع فالأصل هو الشموليّة ما لم تقم قرينة على البدليّة ؛ لأنّ كلّ فرد صالح لانطباق الموضوع عليه ، فالأفراد متساوية هنا ، والسرّ في ذلك أنّ الموضوع يستبطن قضيّة شرطيّة بخلاف المتعلّق ، ( فأكرم العالم ) من جهة الموضوع معناها بالتحليل ( إن وجد عالم فأكرمه ) ، وهو قضيّة حقيقيّة موضوعها مقدّر الوجود ، فمتى وجد العالم يثبت له الوجوب وهو معنى الشموليّة.

وأمّا من جهة المتعلّق فهو لا ينحلّ إلى قضيّة شرطيّة ؛ لأنّ الإكرام لا يفرض مقدّر الوجود بل يطلب وجوده وتحقيقه.

وأمّا بلحاظ الامتثال فالشموليّة والبدليّة بمعنى أنّه هل يكتفى بامتثال واحد أو لا بدّ من تعدّد الامتثال؟

فهنا تكون البدليّة والشموليّة خارجان عن قرينة الحكمة ، وإنّما العقل هو الذي يحكم بتحقّق الامتثال بفرد أو بالأفراد ، ففي موارد الأمر يحكم العقل بامتثال الطبيعة وإيجادها ضمن فرد واحد فيتحقّق الامتثال به ، وأمّا في موارد النهي فيحكم العقل بأنّ الطبيعة لا تنعدم الا بكلّ أفرادها فالامتثال لا يتحقّق إلا بكلّ الأفراد.

التنبيه الثالث : إذا لاحظنا متعلّق النهي في ( لا تكذب ) ومتعلّق الأمر في ( صلّ ) نجد أنّ الحكم في الخطاب الأوّل يشتمل على تحريمات متعدّدة بعدد أفراد

٤٧٤

الكذب ، وكلّ كذب حرام بحرمة تخصّه ، ولو كذب المكلّف كذبتين يعصي حكمين ويستحقّ عقابين.

التنبيه الثالث : في وحدة العقاب وتعدّده.

وهذا البحث من نتائج الشموليّة والبدليّة في الحكم. حيث قلنا : إنّ البدليّة تقتضي وحدة الحكم ، وهذا يعني أنّه يوجد تكليف واحد له امتثال واحد وعصيان واحد. وأمّا الشموليّة فهي تقتضي تعدّد الحكم وهذا معناه وجود تكاليف عديدة لكلّ منها عصيان وامتثال ، فإذا تركها جميعا تعدّد العقاب.

ففي متعلّق النهي مثلا ( لا تكذب ) قلنا : إنّ الإطلاق هنا شمولي بلحاظ عالم الامتثال ؛ لأنّ النهي يقتضي إعدام الطبيعة وعدم إيجادها في الخارج ، ومن الواضح أنّ إعدام الطبيعة لا يكون إلا بإعدام كلّ أفرادها ؛ إذ لو بقي فرد من أفرادها موجودا في الخارج لم تعدم الطبيعة ؛ لأنّها موجودة ضمنه.

وهذا معناه أنّ الحكم بحرمة الكذب ينحلّ إلى تحريمات عديدة بعدد الأفراد ، فلكلّ فرد من أفراد الكذب حرمة خاصّة به ، والمطلوب من المكلّف الامتناع عن كلّ هذه الأفراد ، فإذا عصى كان لكلّ فرد من الكذب عصيان خاصّ به يعاقب عليه مستقلاّ عن الفرد الآخر من الكذب ؛ لأنّه تكليف آخر له امتثال وعصيان مستقلاّن عن الأوّل.

فكلّما تعدّد الكذب من المكلّف كان عاصيا بعددها وكان معاقبا كذلك.

وأمّا الحكم في الخطاب الثاني فلا يشتمل إلا على وجوب واحد ، فلو ترك المكلّف الصلاة لكان ذلك عصيانا واحدا ويستحقّ بسببه عقابا واحدا. وهذا من نتائج الشموليّة في إطلاق متعلّق النهي التي تقتضي تعدّد الحكم ، والبدليّة في إطلاق متعلّق الأمر الذي يقتضي وحدة الحكم.

وأمّا في متعلّق الأمر من قبيل ( صلّ ) فقد تقدّم أنّ الإطلاق هنا بدلي بلحاظ عالم الامتثال ؛ وذلك لأنّ الأمر يقتضي إيجاد الطبيعة في الخارج وهي توجد بالفرد الأوّل من أفرادها ، فيكون ما سواه غير متعلّق للأمر وليس مأمورا به. وهذا معناه أنّ الحكم واحد غير متعدّد ، فإذا امتثله كان مستحقّا للثواب ، وإذا عصى ولم يمتثل للمأمور به كان مخالفا لحكم واحد ، وبالتالي لا يستحقّ إلا عقابا واحدا فقط.

٤٧٥

وهذا الفرق بين متعلّق النهي ومتعلّق الأمر في وحدة العقاب وتعدّده فرع الشموليّة والبدليّة في متعلّقيهما ، حيث إنّ الإطلاق في متعلّق النهي شمولي وهو يقتضي تعدد الحكم ، وبالتالي تعدّد العقاب والعصيان. بينما الإطلاق في متعلّق الأمر بدلي وهو يقتضي وحدة الحكم ووحدة العقاب والعصيان.

ولكن قد يتجاوز هذا ويفترض النهي في حالة لا يعبّر إلا عن تحريم واحد ، كما في النهي المتعلّق بماهيّة لا تقبل التكرار ، من قبيل ( لا تحدث ) بناء على أنّ الحدث لا يتعدّد ، ففي هذه الحالة يكون التحريم واحدا كما أنّ الوجوب في ( صلّ ) واحد.

وهنا مورد نخرج فيه عن الأصل ، حيث تقدّم أنّ الأصل في متعلّق النهي هو الشموليّة.

وهذا الاستثناء يكون فيه الإطلاق في متعلّق النهي بدليّا خلافا للأصل ، وذلك فيما إذا كان النهي متعلّقا بماهيّة وطبيعة لا تقبل التكرار والتعدّد ، فحينئذ لا يكون هناك إلا تحريم واحد وله عقاب واحد فقط ، من قبيل ( لا تحدث ) أو ( لا تفطر ) ؛ إذ الحدث والإفطار لا يتعدّد ولا يتكرّر ؛ لأنّ من أحدث بالبول مثلا صار محدثا ، فإذا أحدث بالغائط أيضا أو بالنوم لم يحدث من جديد ، بناء على أنّ المراد من الحدث هو الحدث بعد الطهارة فلا يشمل موارد الحدث بعد الحدث.

وهكذا في قوله ( لا تفطر ) فإنّ من أفطر بالأكل صار مفطرا وتحقّقت طبيعة الإفطار في الخارج ، فإذا شرب بعد ذلك لا يقال : إنّه أفطر مرّة ثانية ؛ لأنّ الإفطار لا يشمل إلا من تناول المفطر بعد أن كان صائما والذي تناول الماء بعد الأكل لم يفطر بعد صيامه ، وإنّما أفطر بعد إفطار.

وهذه المسألة محلّ كلام عندهم ؛ إذ يوجد قولان : أحدهما أنّ الحدث والإفطار لا يتكرّران ، والآخر أنّهما يتكرّران.

فبناء على عدم تكرّرهما سوف يكون النهي المتعلّق بالحدث وبالإفطار نهيا واحدا فقط ؛ لأنّ الحدث أو الإفطار يتحقّق بالفرد الأوّل منهما دون الثاني والثالث ، وهكذا.

فكما أنّ متعلّق الأمر في ( صلّ ) يكون فيه حكم واحد أو عصيان واحد ، كذلك الحال هنا يكون هناك تحريم واحد أو عصيان واحد.

وهذا المورد خرج عن الأصل بقرينة أنّ الماهيّة لا تتعدّد ولا تتكرّر في الخارج.

٤٧٦

إلا أنّه مع ذلك يبقى هناك فرق بين متعلّق الأمر وبين هذا النحو من متعلّق النهي وهو :

ولكن مع هذا نلاحظ أنّ هناك فارقا يظلّ ثابتا بين الأمر والنهي ، أو بين الوجوب والتحريم ، وهو أنّ الوجوب الواحد المتعلّق بالطبيعة لا يستدعي إلا الإتيان بفرد من أفرادها ، وأمّا التحريم الواحد المتعلّق بها فهو يستدعي اجتناب كلّ أفرادها ولا يكفي أن يترك بعض الأفراد.

يبقى أنّ هناك فارقا بين الأمر والنهي أو بين الوجوب والتحريم. فصحيح أنّ هذا التحريم واحد كما هو الحال في الوجوب فيكون له عصيان واحد ؛ لأنّه تكليف واحد. إلا أنّه مع ذلك نجد أنّ الوجوب والأمر المتعلّق بالطبيعة ( أكرم ) يستدعي إيجاد الطبيعة في الخارج ، والطبيعة توجد بفرد من أفرادها.

وهذا معناه أنّه يكفي في امتثال متعلّق الأمر إيجاد فرد من الأفراد فقط. وأمّا النهي والتحريم فهو وإن كان واحدا لوجود القرينة على ذلك فإنّه عصيان واحد ؛ لأنّه حكم واحد ، إلا أنّه لا يكفي في امتثال متعلّق النهي أن يعدم فردا من الأفراد ، بل لا بدّ من إعدام كلّ الأفراد ليتحقّق الامتثال ؛ لأنّ الطبيعة لا تنعدم إلا بكلّ أفرادها.

وهذا يعني أنّه يوجد فارق بينهما في عالم الامتثال ، فالأمر يمتثل بفرد من إفراده ، بينما النهي الواحد كالنهي المتعدّد لا يتحقّق امتثاله إلا بترك كلّ الأفراد لا بعضها.

والوجه في هذا هو :

وهذا الفارق ليس مردّه إلى الاختلاف في دلالة اللفظ أو الإطلاق ، بل إلى أمر عقلي وهو أنّ الطبيعة توجد بوجود فرد واحد ولكنّها لا تنعدم إلا بانعدام جميع أفرادها. وحيث إنّ النهي عن الطبيعة يستدعي انعدامها فلا بدّ من ترك سائر أفرادها ، وحيث إنّ الأمر بها يستدعي إيجادها فيكفي إيجاد فرد من أفرادها.

وهذا الفارق ليس منشؤه الاختلاف في دلالة اللفظ ، فإنّ اللفظ يدلّ على شيء واحد وهو الطبيعة والماهيّة ، حيث تقدّم أنّ اسم الجنس موضوع للماهيّة بذاتها. فنقول : ( لا تحدث ) و ( صلّ ) يدلّ اسم الجنس فيهما على طبيعي الحدث والصلاة ، فليس هناك اختلاف بينهما في دلالة اللفظ.

وكذلك ليس منشأ الاختلاف هنا الاختلاف في الإطلاق ، فإنّ الإطلاق فيهما

٤٧٧

واحد وهو بمعنى كون الطبيعة والماهيّة من دون قيد في موضوع الحكم. فقولنا : ( لا تحدث ) و ( صلّ ) يجري الإطلاق ومقدّمات الحكمة فيهما على حدّ سواء ، والنتيجة واحدة وهي أنّ الطبيعة لم يؤخذ فيها قيد أصلا.

فالصحيح أنّ منشأ الاختلاف هو التحليل العقلي القائل بأنّ الطبيعة والماهيّة توجد بفرد من أفرادها ولا تنعدم إلا بانعدام كلّ أفرادها.

وعلى هذا الأساس نقول : إنّ الأمر يستدعي إيجاد الطبيعة ، وهذا يكفي فيه إيجاد فرد من الأفراد فيتحقّق الامتثال ويسقط التكليف. بينما النهي يستدعي إعدام الطبيعة ، وهذا لا يكفي فيه إعدام بعض أفرادها ؛ لأنّها تبقى موجودة ضمن البعض الآخر. ولذلك كان إعدامها يقتضي إعدام كلّ أفرادها ؛ ليتحقّق الامتثال ويسقط التكليف.

التنبيه الرابع : أنّه في الحالات التي يكون الإطلاق فيها شموليّا يسري الحكم إلى كلّ الأفراد ، فيكون كلّ فرد من الطبيعة المطلقة شموليّا موضوعا لفرد من الحكم ، كما في الإطلاق الشمولي للعالم في ( أكرم العالم ).

التنبيه الرابع : في تصوير الشموليّة وتعدّد الحكم.

تقدّم سابقا أنّ الشموليّة تعني تعدد الحكم وتكثّره تبعا لتعدّد الأفراد وكثرتها ، بحيث يكون لكلّ فرد من الأفراد حكم مستقلّ يجب امتثاله ويكون له ثواب وعقاب مستقلاّ عن بقيّة الأفراد ، فإذا قيل : ( أكرم العالم ) وجرت قرينة الحكمة يثبت وجوبات عديدة بتعدّد الأفراد لماهيّة العالم ، فلكلّ عالم وجوب وامتثال وعصيان وعقاب وثواب مستقلاّ عن سائر الأفراد. فالشموليّة تعني السريان للحكم من الطبيعة إلى الأفراد بعد جريان الإطلاق ومقدّمات الحكمة.

والسؤال هنا : أنّ هذا التكرار والشموليّة في الحكم هل هي ثابتة في عالم الجعل أو في عالم المجعول؟

والمقصود من عالم الجعل التشريع والواقع الثبوتي ، بينما المقصود من عالم المجعول هو عالم الخارج ، حيث يكون الحكم فعليّا تبعا لفعليّة القيود والشروط وتحقّقها في الخارج.

والجواب : أنّ الشموليّة والسريان بلحاظ عالم المجعول والفعليّة. وتوضيح ذلك :

٤٧٨

ولكن هذا التكثّر في الحكم والتكثّر في موضوعه ليس على مستوى الجعل ولحاظ المولى عند جعله للحكم بوجوب الإكرام على طبيعي العالم ، فإنّ المولى في مقام الجعل يلاحظ طبيعي العالم ولا يلحظ العلماء بما هم كثرة ، فبنظره الجعلي ليس لديه إلا موضوع واحد وحكم واحد ، ولكن التكثّر يكون في مرحلة المجعول.

توضيح الجواب : أنّ الشموليّة والتكثّر في الحكم وفي موضوعه راجعة إلى عالم المجعول والفعليّة ، لا إلى عالم الجعل والإنشاء واللحاظ المولوي عند جعل الحكم.

فكما تقدّم سابقا أنّ المولى عند ما يصبّ حكمه على الموضوع إنّما يصبّه على الموضوع المتصوّر في ذهنه بما هو حاك عن الخارج لا بقيد اللحاظ الذهني ، وهنا المولى عند ما صبّ وجوب الإكرام على العالم إنّما صبّه على الصورة الذهنيّة لطبيعة العالم وهي واحدة ، فكان الحكم واحدا أيضا بلحاظ وحدة الموضوع في عالم الجعل والإنشاء.

وبتعبير آخر : أنّ المولى أحضر في ذهنه صورة العالم وهي موضوع واحد ، وهو الطبيعة الواجدة لصفة العلم وصبّ على هذا الموضوع الواحد الكلّي حكما واحدا كلّيّا أيضا وهو وجوب الإكرام. ولذلك فلا تكثّر ولا تعدّد في عالم الجعل لا للموضوع ولا للحكم ، بل كلاهما واحد كلّي.

وأمّا في عالم المجعول أي فعليّة الحكم في الخارج ، فهذا يرتبط بتحقّق الموضوع خارجا والموضوع في الخارج لا يكون فعليّا ، إلا إذا تحقّقت كلّ قيوده وشروطه ، فإذا وجد في الخارج عالم وجب إكرامه ، وهذا ما تقدّم سابقا من أنّ الأحكام الشرعيّة الحقيقيّة تنحلّ إلى قضيّة شرطيّة موضوعها مقدّر الوجود.

وحينئذ يحصل التكثّر والشمول ؛ لأنّ طبيعة العالم لها في الخارج مصاديق عديدة والحكم منصبّ على الطبيعة ، فكلّما وجد مصداق للعالم كان الموضوع متحقّقا فينصبّ عليه الحكم ، وهكذا يحصل التكثّر بلحاظ الموضوع نظرا لكثرة مصاديقه وبتبع تكثّر الموضوع يتكثّر الحكم أيضا.

والنتيجة : أنّ الحكم واحد في عالم الجعل وكذا الموضوع ، بينما هما متكثّران في عالم المجعول.

٤٧٩

وقد ميّزنا سابقا (١) بين الجعل والمجعول ، وعرفنا أنّ فعليّة المجعول تابعة لفعليّة موضوعه خارجا ، فيتكثّر وجوب الإكرام المجعول في المثال تبعا لتكثّر أفراد العالم في الخارج.

وعلى أساس التمييز بين الجعل والمجعول الذي تقدّم سابقا ، حيث إنّ الجعل هو عالم إنشاء الحكم ولحاظه وواقعه ، بينما عالم المجعول هو عالم فعليّة الحكم التابع لفعليّة الموضوع في الخارج ، فإذا وجد الموضوع في الخارج صار الحكم فعليّا فيسمّى بالحكم المجعول. وأمّا إذا لم يتحقّق موضوعه في الخارج فيسمّى بالحكم الجعلي.

ولذلك لا مانع من وحدة الحكم والموضوع في عالم الجعل وتكثّرهما في عالم المجعول ؛ لأنّ الأوّل راجع إلى المولى وكيفيّة حكمه وموضوعه ، بينما الثاني راجع إلى عالم الخارج والمصاديق الخارجيّة للموضوع.

والخطاب الشرعي مفاده ومدلوله التصديقي إنّما هو الجعل ، أي الحكم على نحو القضيّة الحقيقيّة ، وليس ناظرا إلى فعليّة المجعول ، وهذا يعني أنّ الشموليّة وتكثّر الحكم في موارد الإطلاق الشمولي إنّما يكون في مرتبة غير المرتبة التي هي مفاد الدليل.

بعد أن عرفنا أنّ الشموليّة وتكثّر الحكم إنّما تكون بلحاظ عالم المجعول لا الجعل ، نقول : إنّ الخطابات الشرعيّة من قبيل ( أكرم العلماء ) ( لا تكذب ) ونحوهما مفادها التصديقي ومدلولها الجدّي إنّما هو عالم الجعل ، فقوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )(٢) مفادها الجدّي ومدلولها التصديقي هو إنشاء حكم بوجوب الحجّ على المستطيع في عالم الجعل والتشريع والواقع الثبوتي. وهذا معناه أنّ هناك حكما بنحو القضيّة الحقيقيّة مفاده ( كلّما وجد مستطيع وجب عليه الحجّ ) ؛ لأنّ الخطابات الشرعيّة كلّها تبرز الأحكام بنحو القضيّة الحقيقيّة التي يكون موضوعها مقدّر الوجود. ففي عالم الجعل ليس إلا حكم واحد على موضوع واحد.

وليست الخطابات الشرعيّة ناظرة إلى فعليّة المجعول ؛ لأنّ فعليّة المجعول إنّما تتحقّق إذا تحقّق الموضوع في الخارج فعلا ، فإذا لم يتحقّق الموضوع فلا حكم. والأحكام

__________________

(١) في بحث الدليل العقلي من الحلقة الثانية ، تحت عنوان : قاعدة إمكان التكليف المشروط.

(٢) آل عمران : ٩٧.

٤٨٠