شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

الأمارات والأصول

تنقسم الأحكام الظاهريّة إلى قسمين : هذا التقسيم للأحكام الظاهريّة إلى أمارات وأصول له فائدة تظهر في باب التعارض ، حيث يحكم هناك بتقدّم الأمارة على الأصل العملي المحرز وغيره ، والوجه في التقديم هو الفرق بين الأمارات والأصول والذي على أساسه يتمّ النكتة والوجه في التقديم.

أحدهما : الأحكام الظاهريّة التي تجعل لإحراز الواقع ، وهذه الأحكام تتطلّب وجود طريق ظنّي له درجة كشف عن الحكم الشرعي ، ويتولّى الشارع الحكم على طبقه بنحو يلزم على المكلّف التصرّف بموجبه ، ويسمّى الطريق بالأمارة ، ويسمّى الحكم الظاهري بالحجيّة ، من قبيل حجيّة خبر الثقة.

القسم الأوّل من الأحكام الظاهريّة : هو الأحكام الظاهريّة المجعولة لإحراز الواقع بحيث تكون طريقا مؤدّيا إلى الواقع ، وكاشفا عنه ، وهذا معناه افتراض وجود طريق ظنّي موجود في هذه الأحكام الظاهريّة يكون له درجة ما من الكشف عن الحكم الواقعي ، فهذه الطرق لها كشف ظنّي تكويني إلا أنّه غير تامّ ، بحيث لا يصل إلى درجة الكشف التامّ كما هو الحال في القطع.

ثمّ إنّ الشارع يحكم على طبق هذا الطريق الظنّي حكما يلزم المكلّف بالتصرّف على وفقه والجري العملي على طبق هذا الطريق. وهذا الحكم الذي يقوم به الشارع هو جعل الحجيّة لهذا الحكم الظاهري ، والطريق الظنّي الكاشف والحجيّة من الأحكام الوضعيّة المتأصّلة بالجعل التي تنالها يد التشريع رفعا ووضعا. وحينئذ يقال : إنّ الشارع جعل الحجيّة للحكم الظاهري الذي هو طريق وأمارة على الواقع ، فالطريق يسمّى بالأمارة والحكم الظاهري يسمّى بالحجيّة ، فخبر الثقة تارة يقال : إنّه

١٠١

أمارة بلحاظ كونه طريقا ، وأخرى يقال : إنّه حكم ظاهري بلحاظ كونه حجّة.

والقسم الآخر : الأحكام الظاهريّة التي تجعل لتقرير الوظيفة العمليّة تجاه الحكم المشكوك ، ولا يراد بها إحرازه ، وتسمّى بالأصول العمليّة.

القسم الثاني من الأحكام الظاهريّة هو الأحكام الظاهريّة المجعولة لأجل تحديد الموقف العملي وتقرير الوظيفة العمليّة اتّجاه الواقع المشكوك ، فليس فيها أي كشف ظنّي عن الواقع ، ولا تفترض وجود طريق كاشف عن الواقع ولو ظنّيا ؛ لأنّه لا يراد من جعلها إحراز الواقع ، بل المراد تحديد الموقف فقط ، فهي إمّا أن تكون مثبتة للتنجيز كالاحتياط ، أو تكون مثبتة للتأمين كالبراءة.

وهذه الأحكام الظاهريّة تسمّى بالأصول العمليّة ، فالبراءة مثلا يقال : إنّها أصل عملي مؤمّن للواقع المشكوك.

ومن هنا ظهر أنّه يوجد فرق بين الأمارات والأصول مع كونهما حكمين ظاهريين ، ولذلك من حقّنا أن نتساءل عن وجه الفرق بينهما والذي على أساسه كانت الأمارات محرزة للواقع بخلاف الأصول مثلا. وللإجابة على ذلك هنا عدّة اتّجاهات منها :

ويبدو من مدرسة النائيني قدس‌سره (١) التمييز بين هذين القسمين على أساس ما هو المجعول الاعتباري في الحكم الظاهري ، فإن كان المجعول هو الطريقيّة والكاشفيّة دخل المورد في الأمارات ، وإذا لم يكن المجعول ذلك وكان الجعل في الحكم الظاهري متّجها إلى إنشاء الوظيفة العمليّة دخل في نطاق الأصول.

فرّقت مدرسة المحقّق النائيني بين الأمارات والأصول على أساس ما هو المجعول في كلّ منهما.

فإن كان المجعول الاعتباري في الحكم الظاهري هو الكاشفيّة والطريقيّة دخل هذا الحكم الظاهري تحت عنوان الأمارات. وإن كان المجعول الاعتباري فيه مجرّد

__________________

(١) يبدو أنّ التفاصيل المنسوبة هنا إلى مدرسة المحقّق النائيني حصيلة ما جاء في مصادر عديدة ، وإن كان كلّ واحد منها غير خال عن الغموض والتشويش ، بل المغايرة أحيانا في جوانب تلك التفاصيل. انظر بهذا الصدد : أجود التقريرات ٢ : ٧٨ و ٤١٦ ، ومصباح الأصول ٢ : ١٠٤ ـ ١٠٦ و ٣ : ١٥٤.

١٠٢

إنشاء الوظيفة العمليّة وتحديد ما هو الموقف العملي كان المورد من الأصول.

مثال الأوّل خبر الثقة الكاشف كشفا تكوينيّا ناقصا عن الواقع ، فجعل الحجيّة له هو بلحاظ كاشفيّته وطريقيّته وتتميم هذا الكشف الناقص عن الواقع إلى الكشف التامّ اعتبارا وتعبّدا ، فكان المجعول هو الكاشفيّة والطريقيّة ولذلك فخبر الثقة من الأمارات ؛ لأنّه طريق.

ومثال الثاني البراءة والاحتياط والاستصحاب ، فإنّ المجعول فيها ليس الكاشفيّة والطريقيّة ؛ إذ لا يوجد كشف تكويني فيها ، بل هناك شكّ فقط في الطرفين. وهذا يعني أنّها مجعولة لأجل تحديد الموقف العملي اتّجاه هذا الواقع المشكوك ؛ لأنّ هذا الشاكّ إمّا أن يفعل أو يترك لا محالة ، فهي تحدّد له موقفه ووظيفته العمليّة ولذلك فهي أصول.

ولمزيد توضيح ذكر المحقّق النائيني تقسيم آخر للأصول العمليّة فإنّها تقسّم إلى قسمين ولذلك قال :

وفي هذه الحالة إذا كان إنشاء الوظيفة العمليّة بلسان تنزيل مؤدّى الأصل منزلة الواقع في الجانب العملي ، أو تنزيل نفس الأصل أو الاحتمال المقوّم له منزلة اليقين في جانبه العملي لا الإحرازي فالأصل تنزيلي أو أصل محرز ، وإذا كان بلسان تسجيل وظيفة عمليّة محدّدة بدون ذلك فالأصل عملي صرف.

مقدّمة : إنّ العلم الوجداني له جوانب أربعة :

١ ـ الاستقرار والإذعان النفسي بحيث لا ريب ولا شكّ عند النفس.

٢ ـ الكشف التامّ عن الواقع بنحو لا يعتريه ريب ولا شكّ.

٣ ـ الجري العملي على طبق ما انكشف وما علم كالبعث والتحريك أو الزجر.

٤ ـ المنجزيّة والمعذريّة فهو يدخل التكليف في العهدة في صورة الإلزام ، ويؤمّن عنه في صورة قيامه على الترخيص والإباحة.

وعلى هذا الأساس ذكرت مدرسة الميرزا وجه التفرقة بين الأمارات والأصول من جهة ، وبين الأصول التنزيلية والمحرزة والأصول المحضة الصرفة من جهة أخرى.

ففي الأمارات يكون المجعول في الحكم الظاهري هو الكاشفيّة والطريقيّة ، ولذلك فهي طريق إلى الواقع.

١٠٣

وأمّا في موارد الأصول فالمجعول فيها أحد نحوين :

فتارة يكون إنشاء الوظيفة العمليّة بلسان تنزيل مؤدّى الأصل منزلة الواقع في الجانب العملي ، فهو أصلي تنزيلي.

وتوضيحه : أنّ الاستصحاب للحالة السابقة كالوجوب أو الحرمة يقال فيه : أنّ الشارع نزّل مؤدّى الاستصحاب وهو الحكم المستصحب كالوجوب أو الحرمة منزلة الواقع بلحاظ الجري العملي ، فكأنّ الحرمة أو الوجوب ثابتين واقعا فهما يتطلّبان ويستدعيان بعثا وتحريكا في الوجوب وزجرا وتركا في الحرمة. فالمجعول هنا هو الجري العملي على أساس أنّ المؤدّى منزّل اعتبارا وتعبّدا منزلة الحكم الواقعي.

وهنا صورة أخرى لهذا التنزيل وهو أن يكون بلسان تنزيل نفس الأصل أو الاحتمال المقوّم له منزلة اليقين في جانبه العملي أيضا لا في الجانب الإحرازي.

وتوضيحه : ما يقال أيضا بالنسبة للاستصحاب : من أنّ الشارع نزّل نفس الاستصحاب الذي هو أصل عملي منزلة الواقع ، أو نزّل الاحتمال المقوّم لهذا الاستصحاب وهو الحيثيّة الكاشفة فيه عن البقاء وهي : ( غلبة أنّ ما يوجد يبقى ) منزلة الواقع بلحاظ الجانب العملي أيضا لا بلحاظ الإحراز والكشف عن الواقع.

فالمجعول هنا هو الجري العملي أيضا على أساس تنزيل نفس الأصل أو الأصل المقوّم له منزلة الواقع. وهاتان الصورتان يطلق عليهما الأصل العملي المحرز أو الأصل العملي التنزيلي ، حيث يكون المجعول فيه هو الجري العملي. وأخرى يكون إنشاء الوظيفة العمليّة من دون تنزيل أصلا لا للمؤدّى ولا لنفس الأصل ولا للاحتمال المقوّم ، وإنّما يلاحظ فيه موضوعيّة الشك ، في الواقع وعلاجه على أساس تحديد الموقف والوظيفة أمام هذا الواقع المشكوك. فهذا الأصل يسمّى بالأصل العملي الصرف أو المحض حيث لا يوجد فيه تنزيل أصلا ، فالمجعول هنا هو المنجّزيّة والمعذّريّة فقط.

وهذا يعني أنّ الفرق بين الأمارات والأصول ينشأ من كيفيّة صياغة الحكم الظاهري في عالم الجعل والاعتبار.

هذا إيراد على ما ذكرته مدرسة الميرزا من أنّ الفرق بين الأمارات والأصول إنّما هو في كيفيّة صياغة الحكم الظاهري المجعول في الأمارة والأصل ، وهذه التفرقة إنّما هي

١٠٤

بلحاظ عالم الدلالة التي هي عالم الإثبات والصياغة والإنشاء ، ومن المعلوم أنّ الفرق الظاهري الإثباتي يكون ناشئا من وجود فرق حقيقي ثبوتي واقعي. وهذا لم يبرزه هذا التحليل المذكور حيث لم يبيّن جوهر الفرق بينهما. ولذلك قال السيّد الشهيد :

ولكن التحقيق : أنّ الفرق بينهما أعمق من ذلك ، فإنّ روح الحكم الظاهري في موارد الأمارة مختلف عن روحه في موارد الأصل بقطع النظر عن نوع الصياغة ، وليس الاختلاف الصياغي المذكور إلا تعبيرا عن ذلك الاختلاف الأعمق في الروح بين الحكمين.

التحقيق في بيان حقيقة الفرق بين الأمارات هو أنّ روح وجوهر الحكم الظاهري المجعول في موارد الأمارات يختلف عنه في موارد الأصول ، سواء كانت الصياغة الاعتباريّة في الأوّل جعل الكاشفيّة والطريقيّة أم لا ، وسواء كانت بلحاظ المنجّزيّة والمعذّريّة والجري العملي في الثاني أم لا ؛ لأنّ هذه مجرّد صياغات اعتبارية تكشف عن فارق جوهري بين الموردين وليست هي نفسها الفارق ، بل هي تعبير عنه ، أي أنّ الاختلاف الظاهري في الصياغة بين الموردين نشأ من وجود اختلاف في الروح والجوهر.

وتوضيح ذلك : أنّا عرفنا سابقا أنّ الأحكام الظاهريّة مردّها إلى خطابات تعيّن الأهمّ من الملاكات والمبادئ الواقعيّة حين يتطلّب كلّ نوع منها ضمان الحفاظ عليه بنحو ينافي ما يضمن به الحفاظ على النوع الآخر ، وكلّ ذلك يحصل نتيجة الاختلاط بين الأنواع عند المكلّف ، وعدم تمييزه المباحات عن المحرّمات مثلا.

تقدّم آنفا أنّ الأحكام الظاهريّة عبارة عن خطابات شرعيّة صادرة من المولى لأجل تعيين الأهمّ من الملاكات والمبادئ الواقعيّة عند اختلاطها على المكلّف وعدم تمييزه لها ، فإنّه في صورة الاشتباه والشكّ في الحكم الواقعي معناه وجود طرفين يستدعي كلّ منهما متطلّبات متغايرة عن الآخر ، بحيث لا يمكن اجتماعهما في مقام الامتثال وبحيث لا يمكن الحفاظ عليهما جميعا ، بل إنّ الحفاظ على أحدهما يستدعي فوات الآخر. ولذلك فإنّ المولى يبرز بهذا الحكم الظاهري الأهمّ الواقعي عنده ، وهذا واضح. وحينئذ عند ما يريد الشارع أن يصدر خطابا لتعيين الملاك الأهمّ فهو يلاحظ هذه الأهميّة ضمن إحدى صور ثلاث ، وهي :

١٠٥

والأهميّة التي تستدعي جعل الحكم الظاهري وفقا لها : تارة تكون بلحاظ الاحتمال ، وأخرى بلحاظ المحتمل ، وثالثة بلحاظ الاحتمال والمحتمل معا.

فالشارع عند ما يلاحظ الأهمّ من الملاكات الواقعيّة والتي على أساسها يجعل الحكم الظاهري أمامه أنحاء ثلاثة :

تارة تلاحظ الأهميّة بطرف الاحتمال الكاشف عن الواقع.

وأخرى تلاحظ الأهميّة بلحاظ نفس المحتمل وهو الحكم والمؤدّى.

وثالثة بلحاظ كلا الأمرين أي الاحتمال الكاشف والمحتمل الذي هو الحكم.

وتوضيح ذلك :

فإنّ شكّ المكلّف في الحكم يعني وجود احتمالين أو أكثر في تشخيص الواقع المشكوك ، وحينئذ فإن قدّمت بعض المحتملات على البعض الآخر وجعل الحكم الظاهري وفقا لها ؛ لقوّة احتمالها وغلبة مصادفته للواقع بدون أخذ نوع المحتمل بعين الاعتبار ، فهذا هو معنى الأهميّة بلحاظ الاحتمال ، وبذلك يصبح الاحتمال المقدّم أمارة ، سواء كان لسان الإنشاء والجعل للحكم الظاهري لسان جعل الطريقيّة أو وجوب الجري على وفق الأمارة.

القسم الأوّل : أن يكون الترجيح والأهميّة بلحاظ الاحتمال ، حيث يقال إنّ المكلّف الشاكّ في الحكم يعني وجود احتمالين أو احتمالات عنده ، فهو إمّا أن يحتمل الوجوب أو الحرمة أو الإباحة ، فهذا الواقع المشكوك يحتمل كونه واجبا ويحتمل كونه مباحا ويحتمل كونه محرّما. وحينئذ فالشارع عند ما يريد أن يجعل حكما ظاهريّا لأجل إبراز ما هو الأهمّ من الملاكات والمبادئ واقعا ، فهذا الحكم الظاهري قد يجعله وينشئه بلحاظ قوّة الاحتمال الكاشف عن الواقع الموجود بهذا الحكم الظاهري وغلبة مطابقته للواقع وقلّة الخطأ فيه ، بقطع النظر عن نوعيّة الحكم والمحتمل الذي يحكي عنه هذا الحكم الظاهري ، فكان الترجيح لأجل الاحتمال وقوّته فقط.

فهذا النحو من الأحكام الظاهريّة يسمّى بالأمارات ، مثال ذلك : خبر الثقة الذي هو حكم ظاهري ، فعند ما يجعل الشارع الحجيّة لهذا الخبر فهو إنّما جعلها بلحاظ قوّة الاحتمال والكاشفيّة عن الواقع الموجودة في الخبر ؛ لأنّه يفيد الظنّ أو الاطمئنان.

فالغالب فيه أن يكون مصيبا للواقع ، ولذلك رجّح الشارع هذا الاحتمال واعتبره

١٠٦

كاشفا وحجّة وعلما وطريقا إلى الواقع بسبب قوّة هذا الاحتمال ، بقطع النظر عن الحكم الذي يحكي عنه الثقة فإنّه غير مأخوذ بعين الاعتبار ؛ لأنّ خبر الثقة تارة يحكي عن الوجوب وأخرى عن الحرمة وثالثة عن الترخيص والإباحة وهكذا. فهناك أنواع مختلفة من الأحكام يخبر عنها الثقة وكلّها لم تكن ملاحظة عند جعل الحجيّة له ، بل كان الملاحظ فيه قوّة الاحتمال الكاشف عن الواقع وغلبة المطابقة. وحينئذ لا يضرّنا الصياغة الإنشائيّة التي يبرزها الشارع ، سواء كانت بلسان جعل العلميّة والكاشفيّة والطريقيّة ، أو بلسان الجري العملي ، أو بلسان التنزيل فإنّها مجرّد إنشاءات فقط.

وإن قدّمت بعض المحتملات على البعض الآخر لأهميّة المحتمل بدون دخل لكاشفيّة الاحتمال في ذلك كان الحكم من الأصول العمليّة البحتة ، كأصالة الإباحة وأصالة الاحتياط الملحوظ في أحدهما أهميّة الحكم الترخيصي المحتمل ، وفي الآخر الحكم الإلزامي المحتمل ، بقطع النظر عن درجة الاحتمال ، سواء كان لسان الإنشاء والجعل للحكم الظاهري لسان تسجيل وظيفة عمليّة أو لسان جعل الطريقيّة.

القسم الثاني : أن يكون الترجيح والأهميّة بلحاظ قوّة المحتمل ، بأن يكون لنوعيّة الحكم درجة من الأهميّة بسببها يجعل الشارع الحكم الظاهري من دون ملاحظة نوع الاحتمال ومدى درجة كاشفيّته عن الواقع ، فإنّه لا مدخليّة لذلك. وإنّما الشارع لاحظ المؤدّى والحكم الذي يحكي عنه هذا الحكم الظاهري فجعله حجّة من قبيل أصالة الإباحة ، حيث إنّ الحكم الذي تحكي عنه هو الإباحة والترخيص ، فهذا النوع كان له أهميّة بنظر الشارع لأجل إصدار الحكم الظاهري ليجعل الحجيّة لهذه الإباحة عند الشكّ في الإباحة والحرمة أو الإباحة والوجوب ، فيكون كاشفا؟

هذا الحكم الظاهري عن كون الملاكات والمبادئ الواقعيّة الأهمّ عند الشارع هي ملاكات الترخيص والإباحة بأن كانت ذات ملاك اقتضائي يترجّح على ملاكات الإلزام.

وكذلك بالنسبة لأصالة الاحتياط الملحوظ فيها عند جعل الحكم الظاهري هو قوّة المحتمل وهو الحكم الإلزامي الذي تحكي عنه بحيث يكون الأهمّ بنظر الشارع هو ملاكات الوجوب أو الحرمة عند الاشتباه بين الوجوب والإباحة أو بين الحرمة

١٠٧

والترخيص ، وهذا معناه أنّ ملاكات الحرمة والوجوب كانت أهمّ من ملاكات الإباحة والترخيص.

وهذا النحو يسمّى بالأصول العمليّة البحتة والمحضة والصرفة.

ولا فرق في ذلك سواء كان لسان جعلها وإنشائها لسان تحديد الموقف العملي وتسجيل الوظيفة العمليّة أو كان بلسان جعل الطريقيّة والكاشفيّة والعلميّة أو بلسان الجري العملي والتنزيل ، فإنّها لا تضرّ ما دامت صياغات اعتباريّة إنشائيّة فقط.

وإن قدّمت بعض المحتملات على البعض الآخر بلحاظ كلا الأمرين من الاحتمال والمحتمل ، كان الحكم من الأصول العمليّة التنزيليّة أو المحرزة ، كقاعدة الفراغ.

القسم الثالث : أن يكون الترجيح والأهميّة بلحاظ الاحتمال والمحتمل معا بأن يكون لقوّة الاحتمال والكاشفيّة عن الواقع مضافا إلى نوعيّة المحتمل الذي تحكي عنه مدخليّة في جعل الحكم الظاهري. ومثاله : قاعدة الفراغ فإنّ الملحوظ فيها أمران :

الأوّل : قوّة الاحتمال والكاشفيّة ، وهو غلبة التذكّر والانتباه والالتفات أثناء العمل إلى ما يقوم به من أفعال وأنّها على وجهها الصحيح أكثر ممّا بعد الانتهاء والفراغ منه. وهذا يعني أنّه بعد الفراغ من العمل يوجد كاشف قوي على أنّه قد أتى بالعمل على وجهه المأمور به.

والثاني : قوّة المحتمل ، وهو كون هذا العمل قد فرغ منه وتمّ ولذلك لا تجري قاعدة الفراغ أثناء العمل لو كان الشكّ في الأثناء ، بل يحكم بلزوم الإعادة.

فهناك حيثيّتان موجودتان في قاعدة الفراغ إذا وجدتا معا كانت القاعدة حجّة وإذا انتفت إحدى الحيثيّتين تنتفي الحجيّة. وهكذا الحال بالنسبة للاستصحاب.

فهناك جانب قوّة الاحتمال والكاشفيّة وهي غلبة أنّ ما وجد يبقى ، وجانب قوّة المحتمل وهو أركان هذه القاعدة من وجود يقين وشكّ وقضيّة متيقّنة مشكوكة وأثر عملي ، أو هو الحالة السابقة نفسها. فإنّ الاحتمال الكاشف عن البقاء له دور في جعل الحجيّة للاستصحاب وكذلك تماميّة أركان القاعدة ، فإذا انتفى أحد الجانبين لم يكن الاستصحاب حجّة. وهذا النحو يسمّى بالأصول العمليّة التنزيليّة أو بالأصول العمليّة المحرزة ؛ وذلك لوجود جهة الكاشفيّة والاحتمال ووجود جهة المحتمل

١٠٨

والمنكشف فيها ، سواء كان لسان جعلها الطريقيّة أو التنزيل للمؤدّى أو لنفس الاحتمال أو لنفس الأصل.

وبهذا اتّضح الفارق الحقيقي والجوهري بين الأمارات والأصول من جهة وبين الأصول المحضة والأصول المحرزة أو التنزيليّة من جهة أخرى ، سواء كانت الصياغة الإنشائيّة الطريقيّة والعلميّة أو التنزيل أو الوظيفة العمليّة بالترتيب أو بالاختلاف.

نعم ، الأنسب في موارد التقديم بلحاظ قوّة الاحتمال أن يصاغ الحكم الظاهري بلسان جعل الطريقيّة. والأنسب في موارد التقديم بلحاظ قوّة المحتمل أن يصاغ بلسان تسجيل الوظيفة ، لا أنّ هذا الاختلاف الصياغي هو جوهر الفرق بين الأمارات والأصول.

وجه الأنسبيّة هو أنّ هناك توافقا بين عالم الإثبات وعالم الثبوت ، فإنّ الطريقيّة تتوافق مع الترجيح بقوّة الاحتمال لأنّ الاحتمال طريق كاشف. وتسجيل الوظيفة العمليّة وتحديد الموقف العملي يتناسب ويتوافق مع الأصول المحضة التي يكون الترجيح فيها بلحاظ نوع المحتمل حيث لم يؤخذ فيها ملاحظة الكاشفيّة وعدمها. والتنزيل للمؤدّى أو الأصل أو للاحتمال المقوّم يتناسب ويتوافق مع الترجيح بلحاظ الاحتمال والمحتمل معا.

إلا أنّ هذا الاختلاف في الصياغة ليس هو جوهر الفرق ، وإنّما هو كاشف عن الفارق الجوهري الثبوتي الواقعي.

١٠٩
١١٠

التنافي

بين الأحكام الظاهريّة

١١١
١١٢

التنافي بين الأحكام الظاهريّة

عرفنا سابقا (١) أنّ الأحكام الواقعيّة المتغايرة نوعا ـ كالوجوب والحرمة والإباحة ـ متضادّة ، وهذا يعني أنّ من المستحيل أن يثبت حكمان واقعيّان متغايران على شيء واحد ، سواء علم المكلّف بذلك أو لا ؛ لاستحالة اجتماع الضدّين في الواقع.

تقدّم فيما سبق أنّ الأحكام الواقعيّة المتغايرة لا يمكن اجتماعها على شيء واحد ؛ وذلك لأنّها متضادّة فيما بينها ، فلا يمكن أن يكون هناك وجوب وإباحة أو حرمة وإباحة أو وجوب وحرمة على متعلّق واحد ؛ لأنّ هذه الأحكام التكليفيّة متضادّة فيما بينها بحسب المبادئ والملاكات ، ولذلك لا يمكن أن يتصوّر شيء واحد فيه مصلحة ومفسدة أو يكون محبوبا ومبغوضا في آن واحد.

وهذه الاستحالة لا يفرّق فيها بين العالم والجاهل ؛ لأنّ الأحكام الواقعيّة ثابتة لهما معا كما تقدّم سابقا من قاعدة اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل ، فسواء علم بوجود حكمين متغايرين أو لم يعلم بذلك فإنّ الاستحالة ثابتة على كلّ حال ؛ لأنّها واقعيّة وليست تابعة لعلم المكلّف أو جهله ، فجهله باجتماع الحكمين المتغايرين لا يدفع هذه الاستحالة ، كما أنّ علمه بذلك لا يثبت الاستحالة أيضا ، بل الاستحالة ثابتة في الحالين ؛ لأن موضوعها ثابت واقعا وهو الأحكام التكليفيّة المتغايرة بحسب الفرض. وهذا واضح.

والسؤال هنا : هو أنّ اجتماع حكمين ظاهريّين متغايرين نوعا هل هو معقول أو لا؟ فهل يمكن أن يكون مشكوك الحرمة حراما ظاهرا أو مباحا ظاهرا في نفس الوقت؟

__________________

(١) الحلقة الثانية ، ضمن مباحث التمهيد ، تحت عنوان : التضادّ بين الأحكام التكليفيّة.

١١٣

والسؤال هنا : هو أنّ الاستحالة المذكورة هل هي مختصّة بالأحكام الواقعيّة أو أنّها تشمل أيضا الأحكام الظاهريّة؟ فلا يمكن اجتماع الحرمة والإباحة الظاهريّين أيضا ، أو أنّه يعقل اجتماعهما ظاهرا بأن يكون مشكوك الحرمة حراما ومباحا ظاهرا؟ حيث إنّ مورد الأحكام الظاهريّة هو الشكّ ، ففي حال الشكّ في الواقع هل يمكن أن يكون هناك حكمان ظاهريّان على هذا الشيء المشكوك متغايران نوعا أو لا يمكن ذلك؟

والجواب على هذا السؤال يختلف باختلاف المبنى في تصوير الحكم الظاهري والتوفيق بينه وبين الأحكام الواقعيّة.

فالإجابة تختلف هنا إمكانا واستحالة بحسب اختلاف المبنى في تصوير الحكم الظاهري وحقيقته ، حيث تقدّم عند التوفيق بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي وجود عدّة مبان ، كالمسلك القائل بأنّ الحكم الظاهري هو جعل الحكم المماثل ، وكمسلك جعل الطريقيّة والكاشفيّة والعلميّة ، وكذلك هناك مبان للتوفيق بينهما كالقول بأنّ الحكم الظاهري حكم وضعي المجعول فيه الطريقيّة والكاشفيّة ، وكالقول : إنّ الحكم الظاهري ليس فيه مبادئ في متعلّقه وإنّما في نفس جعله ، فلا بدّ أن تختلف النتيجة باختلاف المبنى ولذلك نقول :

فإن أخذنا بوجهة النظر القائلة بأنّ مبادئ الحكم الظاهري ثابتة في نفس جعله لا في متعلّقه أمكن جعل حكمين ظاهريّين بالإباحة والحرمة معا على شرط أن لا يكونا واصلين معا ، فإنّه في حالة عدم وصول كليهما معا لا تنافي بينهما لا بلحاظ نفس الجعل ؛ لأنّه مجرّد اعتبار ، ولا بلحاظ المبادئ ؛ لأنّ مركزها ليس واحدا ، بل مبادئ كلّ حكم في نفس جعله لا في متعلّقه ، ولا بلحاظ عالم الامتثال والتنجيز والتعذير ؛ لأن أحدهما على الأقلّ غير واصل فلا أثر عملي له. وأمّا في حالة وصولهما معا فهما متنافيان متضادان ؛ لأنّ أحدهما ينجّز والآخر يؤمّن.

بناء على مسلك السيّد الخوئي رحمه‌الله من أنّ مبادئ الحكم الظاهري في نفس جعله لا في المتعلّق المشترك بينه وبين الحكم الواقعي. وبناء على ما ذكره من أنّ التضادّ إنّما يكون بلحاظ المبدأ في عالم المبادئ أو بلحاظ المنتهى أي بلحاظ التنجيز ، فعلى هذا المسلك يمكن تصوير اجتماع حكمين ظاهريّين متغايرين نوعا كالحرمة والاباحة ، ولكن بشرط ألاّ يكونا واصلين معا إلى المكلّف. وتوضيح ذلك : إنّ الشارع

١١٤

بناء على هذا المسلك يمكنه إصدار الحكمين الظاهريّين كالحرمة والإباحة على الواقعة المشكوكة ، ولكن يأخذ شرطا لئلا يصلا معا إلى المكلّف بأن يجعلا بنحو الترتيب مثلا ، فإنّه في هذه الحالة لا يكون هناك تضادّ بينهما لا بلحاظ عالم الجعل ولا بلحاظ المبادئ ولا بلحاظ الامتثال والمتطلّبات.

أمّا عالم الجعل فلما تقدّم من أنّه مجرّد اعتبار وصياغة إنشائيّة ، ولذلك لا مانع من وجود حكمين واقعيّين جعلا واعتبارا فضلا عن الحكمين الظاهريّين.

وأمّا عالم المبادئ فلأنّ مبادئ كلّ واحد من الحكمين في نفس جعله وتشريعه ، وهذا يعني أنّ مبادئ الحرمة في نفس جعلها ومبادئ الإباحة في نفس جعلها. وجعل الإباحة يختلف عن جعل الحرمة ولذلك لكلّ منهما مصبّ يختلف عن الآخر ، فلم تجتمع مبادئ الحرمة ومبادئ الإباحة ؛ لعدم وجود مصبّ مشترك بينهما ؛ لاختلاف الجعل فيهما. والمفروض أنّ المبادئ بناء على هذا المسلك ليست في المتعلّق أي الواقع المشكوك ليلزم اجتماعهما بلحاظه.

وأمّا عالم الامتثال والمنجّزيّة والمعذّريّة فإنّ وجود الشرط المذكور يحول دون اجتماعهما ؛ لأنّه في حالة عدم وصولهما معا إمّا ألاّ يكون شيء منهما واصلا ، أو يكون أحدهما فقط هو الواصل ، فعلى الأوّل لا يلزم المكلّف شيء لعدم وجود شيء منهما ظاهرا بحقّه ، وعلى الثاني سوف يكون أحدهما واصلا فقط. وبالتالي نثبت له المنجّزيّة إن كان الواصل الحرمة ويحكم العقل بلزوم امتثالها ، أو نثبت المعذّريّة إن كان الواصل هو الإباحة ويحكم العقل بالمؤمّنيّة والمعذّريّة. فليس هناك إلا أثر عملي واحد واصل إلى المكلّف.

وبهذا ظهر أنّه يمكن اجتماع حكمين ظاهريّين معا ولا يلزم من ذلك التضادّ ولكن بشرط عدم وصولهما معا (١).

وأمّا في حالة وصولهما معا إلى المكلّف فلا تضادّ بينهما لا في عالم الجعل ولا في عالم المبادئ ، وإنّما يحصل التضادّ بينهما في عالم الامتثال ؛ وذلك لأنّ متطلّبات

__________________

(١) بل لا يمكن وصولهما معا ؛ لأنّ وصولهما معا يعني انتفاء شرط جعل كلّ منهما ؛ لأنّ المفروض أنّ كلا منهما مشروط بعدم وصول الآخر فإذا وصل الآخر انتفى الأوّل ، والمقرر أنّ الأوّل واصل فينتفي الثاني ، ففي مرتبة حصولهما لا يكونان مجعولين أصلا.

١١٥

الحرمة العمليّة تتنافى مع متطلّبات الإباحة ، حيث إنّ كلاّ منهما يستدعي تصرّفا مغايرا ومضادّا للآخر. مضافا إلى أنّهما متضادّان أيضا بلحاظ استحقاق العقوبة على الترك وعدمه ، فإنّ الحرمة تستلزم استحقاق العقوبة بخلاف الإباحة ، فإنّ الفعل والترك فيها سيّان. وكذلك فهما متضادّان على كلّ تقدير في نظر المكلّف.

وأمّا على مسلكنا في تفسير الأحكام الظاهريّة وأنّها خطابات تحدّد ما هو الأهمّ من الملاكات الواقعيّة المختلطة ، فالخطابان الظاهريّان المختلفان ـ كالإباحة والمنع ـ متضادّان بنفسيهما ، سواء وصلا إلى المكلّف أو لا ؛ لأنّ الأوّل يثبت أهميّة ملاك المباحات الواقعيّة ، والثاني يبيّن أهميّة ملاك المحرّمات الواقعيّة ، ولا يمكن أن يكون كلّ من هذين الملاكين أهمّ من الآخر كما هو واضح.

وأمّا بناء على المسلك المختار من أنّ الأحكام الظاهريّة خطابات لتعيين الأهمّ من الملاكات الواقعيّة عند اختلاطها وعدم تمييز المكلّف لها ، فهنا لا يمكن جعل خطابين ظاهريّين متغايرين كالإباحة والمنع ، سواء وصلا أم لم يصلا أو وصل أحدهما. والدليل على ذلك : أنّ الإباحة الظاهريّة معناها أنّ الملاكات الترخيصيّة الواقعيّة هي الأهمّ بنظر الشارع دون غيرها. أمّا المنع الظاهري فهو يثبت أنّ ملاكات الحرمة الواقعيّة هي الأهمّ بنظر الشارع. وهذا يعني أنّه في مورد واحد وهو الواقعة المشكوكة يثبت أنّ الأهمّ هو الإباحة الواقعيّة وأنّ الأهمّ هو الحرمة الواقعيّة من حيث الملاكات والمبادئ ، وهذا مستحيل صدوره من الشارع ، سواء وصل إلى المكلّف شيء منهما أو لم يصل أصلا.

فإنّ تشريع ذلك من الشارع محال ، ووجه الاستحالة أنّ أحدهما يكذّب الآخر وينفيه التزاما ؛ إذ الإباحة تدلّ بالمطابقة على ثبوت الملاكات الترخيصيّة وأنّها الأهمّ وبالالتزام على نفي شيء آخر ، والحرمة بالعكس فيقع التكاذب والتنافي بينهما من حيث المدلول الالتزامي والمدلول المطابقي في كلّ منهما.

ولذلك فالمقصود من التضادّ هنا ليس المصطلح المنطقي من اجتماع شيئين على موضوع واحد ، وإنّما المقصود هنا هو أن كلّ واحد منهما يكذّب الآخر وينفيه.

وبذلك يتّضح أنّ التضادّ يقع بينهما في مرتبة سابقة عن الوصول فلا ينفع القيد المذكور سابقا في رفع هذه الاستحالة.

١١٦

وظيفة الأحكام الظاهريّة

١١٧
١١٨

وظيفة الأحكام الظاهريّة

وبعد أن اتّضح أنّ الأحكام الظاهريّة خطابات لضمان ما هو الأهمّ من الأحكام الواقعيّة ومبادئها ، وليس لها مبادئ في مقابلها ، نخرج من ذلك بنتيجة وهي : أنّ الخطاب الظاهري وظيفته التنجيز والتعذير بلحاظ الأحكام الواقعيّة المشكوكة ، فهو ينجّز تارة ، ويعذّر أخرى.

الثمرة والفائدة من الأحكام الظاهريّة بعد أن عرفنا أنّها خطابات لتعيين الأهمّ من الملاكات الواقعيّة عند الاشتباه والشكّ والاختلاط وعدم التمييز ، والذي معناه كما قلنا أنّه ليس فيها مبادئ مستقلّة عن الحكم الواقعي ، هي أنّ الأحكام الظاهريّة وظيفتها التنجيز والتعذير فقط بمعنى أنّها تارة تؤدّي إلى تنجيز الأحكام الواقعيّة عند ما يكون مفادها إبراز الملاكات الإلزاميّة الواقعيّة وكونها الأهمّ ، وأخرى تؤدّي إلى التعذير والتأمين عند ما يكون مفادها أنّ الملاكات الترخيصيّة الواقعيّة هي الأهمّ.

فخبر الثقة مثلا والبراءة والاحتياط تؤدّي إلى التنجيز والتعذير بإبراز الملاك الواقعي الأهمّ ، ولذلك تكون المنجّزيّة والمعذّريّة من شئون الحكم الواقعي والعقل يحكم بهما تبعا للمبادئ الموجودة فيه دون الأحكام الظاهريّة ، فإنّه لا منجّزيّة ولا معذّريّة لها ؛ إذ لا مبادئ فيها ليحكم العقل بلزوم اتّباعها وإطاعتها ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

وليس موضوعا مستقلاّ لحكم العقل بوجوب الطاعة في مقابل الأحكام الواقعيّة ؛ لأنه ليس له مبادئ خاصّة به وراء مبادئ الأحكام الواقعيّة ، فحين يحكم الشارع بوجوب الاحتياط ظاهرا يستقلّ العقل بلزوم التحفّظ على الوجوب الواقعي المحتمل واستحقاق العقاب على عدم التحفّظ عليه وعلى مخالفة نفس الحكم بوجوب الاحتياط بما هو.

فالأحكام الظاهريّة ليست موضوعا مستقلاّ لحكم العقل بلزوم الإطاعة والامتثال ؛

١١٩

لأنّ العقل إنّما يحكم بلزوم الإطاعة والامتثال عند ما يكون هناك تكليف مولوي له مبادئ وملاكات ، والمفروض أنّ الأحكام الظاهريّة ليس لها مبادئ خاصّة زائدة عن ملاكات الحكم الواقعي ، فليس هناك تنجيز وتعذير في مقابل الأحكام الواقعيّة ، بل تنجيزها يثبت لأجل منجّزيّة الأحكام الواقعيّة. ففي الحقيقة المنجّزيّة ثابتة للحكم الواقعي والحكم الظاهري كشف عنها فقط وأبرزها ، ولذلك فحكم العقل بالإطاعة والامتثال إنّما هو بلحاظ مبادئ الحكم الواقعي التي أبرزها الحكم الظاهري ، واستحقاق العقاب على المخالفة واستحقاق الثواب على الإطاعة إنّما هو لأجل الحكم الواقعي لا للحكم الظاهري.

فالاحتياط مثلا حينما يحكم به الشارع ظاهرا إنّما يحكم به لأجل إبراز أنّ ملاكات الإلزام كالوجوب أو الحرمة هي الأهمّ بنظر الشارع ، وعندئذ يستقلّ العقل بالحكم بلزوم التحفّظ على الوجوب الواقعي المحتمل أو الحرمة المحتملة لا على الوجوب الظاهري أو الحرمة الظاهريّة ؛ إذ لا مبادئ ولا ملاكات مستقلّة للحكم الظاهري. ويحكم العقل أيضا باستحقاق العقاب أو الثواب عند المخالفة أو الموافقة لهذا التحفّظ ، فإذا ترك التحفّظ استحقّ العقاب على تركه وإذا قام بالتحفّظ استحقّ الثواب ، وليس هذا الاستحقاق لأجل مخالفة أو امتثال نفس الحكم بالوجوب والاحتياط الظاهري ؛ إذ لا ملاكات ولا مبادئ لهذا الاحتياط الظاهري ليكون موضوعا مستقلا لحكم العقل بالعقاب أو الثواب.

وهذا معنى ما يقال : من أنّ الأحكام الظاهريّة طريقيّة لا حقيقيّة ، فهي مجرّد وسائل وطرق لتسجيل الواقع المشكوك وإدخاله في عهدة المكلّف ، ولا تكون بنفسها موضوعا مستقلا للدخول في العهدة ؛ لعدم استقلالها بمبادئ في نفسها.

والحاصل أنّ الأحكام الظاهريّة ليست إلا وسائل وطرق لأجل إبراز الملاك الواقعي الأهمّ وإدخاله في عهدة المكلّف وتسجيله على ذمّته بحيث يصبح مطالبا بهذا الواقع تنجيزا أو تعذيرا ؛ لأنّ هذا الواقع هو تمام الموضوع لحكم العقل بالمنجّزيّة والمعذّريّة واستحقاق العقاب والثواب ؛ لأنّ حكم العقل بذلك تابع لحقّ الطاعة والذي مصبّه ما تعلّقت به إرادة الشارع وما يكون محبوبا أو مبغوضا للشارع ، وهو الحكم الواقعي المشتمل على الملاكات والمبادئ دون الحكم الظاهري لخلوه عن الملاكات والمبادئ في

١٢٠