شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

الأمر صغرى في القياس فيلزم ألاّ تكون أصوليّة بناء على هذا القيد الذي ذكره الميرزا في إضافة قيد الكبرويّة إلى التعريف.

وكذلك بالنسبة لبعض أدوات العموم والمفهوم حيث يقال : إنّ النكرة في سياق النفي أو النهي ظاهرة في العموم فتحتاج إلى كبرى حجيّة الظهور أيضا ؛ لإثبات حجيّة ظهورها في العموم.

وكذا أدوات الشرط الظاهرة في المفهوم حيث تكون دالّة على التوقّف والالتصاق فتحتاج إلى حجيّة الظهور ؛ لتنقيح أنّ ظهورها في المفهوم حجّة.

فهذه القواعد قد وقعت صغرى لحجية الظهور ، كما وقعت كلمة الصعيد صغرى لحجيّة الظهور أيضا ، فما هو الفرق بينهما والذي على أساسه كانت تلك القواعد أصوليّة ، ولم تكن كلمة الصعيد ونحوها من القواعد الأصوليّة رغم اشتراكهما في الاحتياج إلى حجيّة الظهور؟!

فهذا القيد الذي أضافه الميرزا لم يبيّن حقيقة القاعدة الأصوليّة ؛ لأنّه غير تامّ في جميع القواعد الأصوليّة ، فهناك فارق جوهري غير ما ذكره الميرزا يكون موجودا في تمام القواعد الأصوليّة وغير موجود في المسائل اللغويّة والرجاليّة ، وعلى أساسه ينبغي بيان ضابطة القاعدة الأصوليّة في التعريف (١).

__________________

(١) هنا يمكن أن يكون ما ذكره الميرزا من القيد في التعريف والذي على أساسه أعطى الضابطة للقاعدة الأصوليّة صحيحا ؛ وذلك ببيان أنّ الميرزا قال في تعريفه بما حاصله : إنّ القاعدة الأصوليّة هي التي تقع كبرى دائما في قياس الاستنباط ، ولا تقع صغرى أبدا في هذا القياس ، بينما القاعدة غير الأصوليّة كالمسائل اللغويّة والرجاليّة والفقهيّة تقع صغرى دائما في القياس ولا تقع كبرى فيه أبدا. يبقى الإيراد الذي ذكره السيّد الشهيد من احتياج صيغة الأمر ونحوها إلى كبرى حجيّة الظهور ، فهو وإن كان صحيحا إلا أنّه ليس إشكالا واردا على تعريف الميرزا ؛ لأنّ وقوعها صغرى في القياس الذي ذكره السيّد الشهيد لا يضرّ ولا يمنع من كونها أصوليّة ؛ لأنّ القياس الذي وقعت فيه صغرى ليس هو قياس الاستنباط الفقهي الذي يستنتج منه حكم فرعي كلّي على حدّ تعبير الميرزا ؛ إذ قولنا : صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب وكلّ ظاهر حجّة يستنتج منه أنّ صيغة الأمر حجّة في الوجوب ، وهذه النتيجة ليست نتيجة فقهيّة ؛ لأنّها ليست حكما شرعيّا. فهذا القياس ليس هو القياس الذي أراده الميرزا إذ الميرزا أراد القياس الفقهي الذي يستنبط منه الحكم الشرعي ، فحينما نقول : ..

٢١

وكذلك أيضا مسألة اجتماع الأمر والنهي ؛ فإنّ الامتناع فيها يحقّق صغرى لكبرى التعارض بين خطابي : صلّ ولا تغصب ، والجواز فيها يحقّق صغرى لكبرى حجيّة الإطلاق.

ويرد ثانيا على ما ذكره الميرزا من إضافة قيد الكبروية إلى التعريف ـ والذي على أساسه أعطى ضابطة لتعريف القاعدة الأصوليّة ـ : أنّ مسألة اجتماع الأمر والنهي والتي هي من المسائل الأصوليّة تقع صغرى في القياس تارة لكبرى التعارض على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي في مصداق واحد ، وأخرى لكبرى حجيّة الإطلاق على القول بجواز اجتماعهما في مصداق واحد. وتوضيح ذلك : إنّه يوجد خلاف في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فهناك قول بامتناع ذلك وقول آخر بجوازه كما سيأتي في محلّه. فعلى القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي في مصداق واحد ، فإذا صلّى المكلّف في مكان مغصوب فهذا الفرد الخارجي مصداق لأحد الخطابين ، ولكن حيث إنّ خطاب ( صلّ ) يشمل هذا الفرد الخارجي ويعتبره مصداقا للمأمور به ، وحيث إنّ خطاب ( لا تغصب ) يشمل هذا الفرد أيضا باعتباره محقّقا لماهيّة الغصب ، فيقع التعارض بين الخطابين في هذا الفرد الخارجي ؛ لأنّه يستحيل أن يكون مصداقا لكلا الخطابين بناء على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي ، ويستحيل أن يكون مصداقا لأحدهما ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح ، وحيث إنّ كلاّ من الخطابين شامل لهذا

__________________

... هذه صيغة أمر وكلّ أمر ظاهر في الوجوب يستنتج أنّ هذه الصيغة ظاهرة في الوجوب ، والوجوب حكم شرعي كلّي يفتي به الفقيه على أساس هذا القياس.

وبعبارة أخرى : يوجد هنا قياسان : قياس الاستنباط الفقهي والذي يستنبط منه الحكم الشرعي الفرعي الكلّي.

وقياس الاستنباط الأصولي والذي يستنبط منه قاعدة أصوليّة أو قاعدة فقهيّة. والذي أراده الميرزا هو القياس الأوّل ، وفي هذا القياس لا تقع القاعدة الأصوليّة إلا كبرى ، وهذا لا يمنع من وقوعها صغرى في القياس الثاني ولا يضرّ بأصوليّتها ، ففي الحقيقة وقع خلط في إيراد السيّد الشهيد رحمه‌الله بين هذين القياسين. فما ذكره الميرزا صحيح وتامّ بالنسبة للقياس الفقهي وما أورده السيّد الشهيد هو وقوعها صغرى في القياس الأصولي ، وهذا يعني اختلاف الجهة واللحاظ بين الميرزا والشهيد. وبهذا يكون تعريف الميرزا والقيد الذي أضافه قادرا على دفع الملاحظة الثالثة.

٢٢

المصداق فيتعارضان فيه ، فتقع هذه المسألة صغرى لإحدى القواعد الكليّة والكبرويّة في باب التعارض ، وهي التساقط أو التخيير أو الترجيح ، حيث يطبّق على هذه المسألة إحدى هذه الكبريات لتحديد ما هو الموقف العملي الذي يتّخذه الفقيه في عمليّة الاستنباط عند هذه المسألة. وهذا يعني أنّ هذه المسألة ليست أصوليّة ؛ لوقوعها صغرى في قياس الاستنباط. وعلى القول بجواز اجتماع الأمر والنهي في مصداق واحد ، فهذا يعني أنّ الصلاة في المكان المغصوب تحقّق مصداقا لكلا الخطابين ، فمن جهة يقال : إنّ هذا الفرد الخارجي مصداقا للفرد الصلاتي المأمور به ، ومن جهة أخرى يقال : إنّه مصداق لماهيّة الغصب. فهو من جهة مأمور به لكونه صلاة ، ومن جهة أخرى منهي عنه لكونه غصبا ، فسوف تقع مسألة اجتماع الأمر والنهي بناء على الجواز صغرى لكبرى حجيّة الإطلاق ؛ لأنّ إطلاق الأمر بالصلاة شامل لهذا المورد وإطلاق النهي عن الغصب شامل لهذا المورد أيضا ، ولمّا كان اجتماعهما ممكنا وجائزا فتقع مسألة الاجتماع صغرى لحجيّة الإطلاق ، حيث يقال : هذا الفرد مصداق للصلاة وكل صلاة مأمور بها فهذا المصداق مأمور به ، وهذا الفرد مصداق للغصب وكلّ غصب منهي عنه فهذا منهي عنه ، فحجيّة الإطلاق وقعت كبرى ومسألة اجتماع الأمر والنهي وقعت صغرى لها فيلزم أن تكون أصوليّة بناء على تعريف الميرزا ؛ لأنّه قيّد القاعدة الأصوليّة بكونها كبرى قياس الاستنباط (١).

ومنها : ما ذكره السيّد الأستاذ من استبدال قيد الكبرويّة بصفة أخرى ، وهي أن تكون القاعدة وحدها كافية لاستنباط الحكم الشرعي بلا ضمّ قاعدة أصوليّة أخرى (٢) ، فيخرج ظهور كلمة الصعيد ؛ لاحتياجه إلى ضمّ ظهور صيغة افعل في الوجوب ، ولا يخرج ظهور صيغة افعل في الوجوب ، وإن كان محتاجا إلى كبرى حجيّة الظهور ؛ لأنّ هذه الكبرى ليست من المباحث الأصوليّة للاتّفاق عليها (٣).

__________________

(١) وهذا الإيراد أيضا قابل للنقاش كما تقدّم في الإيراد السابق بلا فرق بينهما ، على أساس الاختلاف بين القياس الفقهي والقياس الأصولي.

(٢) المحاضرات ١ : ٨.

(٣) المحاضرات ١ : ٦.

٢٣

المحاولة الثانية لدفع الملاحظة الثالثة : ما ذكره السيّد الخوئي رحمه‌الله من وصف القاعدة الأصوليّة بالوحدة ، حيث قال في تعريفه لعلم الأصول : ( هو العلم بالقواعد التي تقع بنفسها في طريق استنباط الأحكام الشرعيّة الكليّة الإلهيّة من دون حاجة إلى ضميمة كبرى أو صغرى أصوليّة أخرى إليها ). وهذا يعني أنّ القاعدة الأصوليّة ضابطها أن تكون وحدها كافية لاستنباط الحكم الشرعي ، من دون أن تحتاج إلى غيرها من القواعد الأصوليّة سواء وقعت صغرى أو كبرى في القياس ، وأمّا مع احتياجها إلى غيرها من القواعد الأصوليّة سواء وقعت صغرى أو كبرى لها فهي ليست بأصوليّة ، وعلى أساس هذا الضابط الجديد سوف لا تدخل مسائل اللغة ومسائل علم الرجال والقواعد الفقهيّة ؛ وذلك لأنّها محتاجة إلى ضميمة قاعدة أصوليّة إليها في قياس الاستنباط.

فمثلا : كلمة الصعيد لا تكفي وحدها لاستنباط الحكم الشرعي بوجوب التيمّم عند فقد الماء ، بل هي بحاجة إلى ضمّ ظهور صيغة الأمر في الوجوب ؛ لأنّ كلمة الصعيد وقعت مدخولا لصيغة الأمر بقوله تعالى : ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً )(١) فما لم يتمّ لصيغة الأمر الظهور في الوجوب فلا يستنتج من كلمة الصعيد أي حكم شرعي ، وهذه القاعدة التي انضمّت إلى كلمة الصعيد من القواعد الأصوليّة ، ممّا يعني أنّ كلمة الصعيد ونحوها من مباحث اللغة ليست من القواعد الأصوليّة ؛ لأنّها احتاجت إلى القاعدة الأصوليّة في قياس الاستنباط. وكذا الحال في مسائل علم الرجال ، فهي تحتاج إلى ضمّ قاعدة حجيّة خبر الثقة إليها ؛ ليستقيم الاستنباط للحكم الشرعي ، وحجيّة خبر الثقة من القواعد الأصوليّة ، فالاحتياج إليها يعني أنّ مسائل علم الرجال لا تدخل في الأصول ولا ينطبق عليها التعريف.

ولا يقال هنا : إنّ هذا الضابط يخرج منه بعض القواعد الأصوليّة ؛ لاحتياجها إلى غيرها من القواعد الأصوليّة كظهور صيغة الأمر ، حيث تحتاج إلى حجيّة الظهور.

وكذا غيرها من القواعد الأصوليّة كالعموم والمفاهيم ونحوهما حيث يقال : صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب وكلّ ظاهر حجّة ، فهنا وقعت صغرى لكبرى حجيّة الظهور والتي هي قاعدة أصوليّة ، فيلزم ألاّ تكون صيغة الأمر من القواعد الأصوليّة على هذا التعريف ؛ لهذه الضميمة الأصوليّة.

__________________

(١) النساء : ٤٣. المائدة : ٦.

٢٤

فإنّه يقال في الجواب عن هذا الإشكال : إنّ احتياج صيغة الأمر إلى كبرى حجيّة الظهور لا يخرجها من كونها قاعدة أصوليّة ؛ وذلك لأنّ كبرى حجيّة الظهور ليست من القواعد الأصوليّة ؛ بسبب الاتّفاق والتسالم عليها من قبل جميع العقلاء ، فلا يوجد خلاف في حجيّة الظهور ليبحث عنها في الأصول لتكون قاعدة أصوليّة ، بل هي من القواعد العقلائيّة والمرتكزات العرفيّة التي يقبلها العرف بأدنى توجّه وتأمّل ، وهذا يعني أنّ صيغة الأمر لم تحتج إلى ضميمة قاعدة أصوليّة ، بل احتاجت إلى ضميمة قاعدة عرفيّة عقلائيّة ، فلذلك تكون داخلة تحت ضابطة التعريف من دون أي إشكال في المقام.

وبهذا ظهر أنّ القاعدة الأصوليّة هي التي لا تحتاج إلى أصوليّة أخرى ، وإن احتاجت إلى بعض القواعد الأخرى العقلائيّة والعرفيّة أو بعض المسائل اللغويّة والرجاليّة ، فهذا لا يضرّ في أصوليّتها ، كما أنّ حجيّة الظهور التي تحتاج إليها بعض القواعد الأصوليّة ليست أصوليّة ؛ للاتّفاق عليها عند العقلاء فلا تدخل في علم الأصول ، بل هي من المرتكزات العامّة عند العرف.

ونلاحظ على ذلك أوّلا : أنّ عدم احتياج القاعدة الأصوليّة إلى أخرى إن أريد به عدم الاحتياج في كل الحالات فلا يتحقّق هذا في القواعد الأصوليّة لأنّ ظهور صيغة الأمر في الوجوب مثلا بحاجة في كثير من الأحيان إلى دليل حجيّة السند حينما تجيء الصيغة في دليل ظنّي السند ، وإن أريد به عدم الاحتياج ولو في حالة واحدة فهذا قد يتفق في غيرها كما في ظهور كلمة الصعيد إذا كانت سائر جهات الدليل قطعيّة.

الإيراد الأوّل على ما ذكره السيّد الخوئي من تعريف هو : أنّ عدم الاحتياج الذي اشترطه في ضابطة القاعدة الأصوليّة إمّا أن يراد به عدم الاحتياج مطلقا وفي كل الحالات فالقاعدة الأصوليّة هي التي لا تحتاج إلى قاعدة أصوليّة مطلقا ، بل تكون بنفسها كافية لاستنباط الحكم الشرعي الكلّي ، فهذا لا يتّفق في كثير من القواعد الأصوليّة لأنّها تحتاج إلى بعضها في أغلب الأحيان ؛ فمثلا صيغة الأمر الظاهرة في الوجوب تحتاج في كثير من الأحيان إلى تنقيح دليل السند أو تنقيح الدلالة فيما إذا وردت في دليل ظنّي السند أو ظنّي الدلالة ، فدلالة صيغة الأمر على الوجوب لا تتمّ لها الحجيّة فيما إذا لم تتنقح حجيّة السند والدلالة ، وهذا يعني أنّه بناء على تفسير

٢٥

عدم الاحتياج بالعدم المطلق سوف تخرج مثل صيغة الأمر من ضابطة تعريف القاعدة الأصوليّة لاحتياجها إلى غيرها من القواعد الأصوليّة ، لأنّ البحث حول حجيّة السند وحول حجيّة الدلالة بحث أصولي.

وإمّا أن يراد به عدم الاحتياج ولو في حالة واحدة أي مسمّى عدم الاحتياج الذي يصدق على المرّة الواحدة بأن كانت القاعدة الأصوليّة هي التي يستنبط منها حكم شرعي وتكون كافية في هذا الاستنباط ولو لمرّة واحدة على الأقل وإن احتاجت إلى غيرها في الحالات الأخرى ، فهذا قد يتّفق في غير القواعد الأصوليّة أيضا بمعنى أنّ بعض القواعد غير الأصوليّة تكون ولو لمرّة واحدة كافية لاستنباط الحكم الشرعي وحدها من دون أن تحتاج إلى غيرها ، كما في ظهور كلمة ( الصعيد ) فيما إذا كانت كلّ الجهات المعتبرة قطعيّة ، فمن حيث السند يفترض أنّها وردت في القرآن الكريم أو السنّة المتواترة ، ومن حيث الدلالة يفترض كون الدلالة على الوجوب بنحو المفهوم الاسمي لا الصيغة التي هي معنى حرفي.

فهنا يكون البحث حول ظهور كلمة ( الصعيد ) بحثا أصوليّا بناء على هذا التفسير لعدم الاحتياج ؛ لأنّها لم تحتج إلى غيرها من القواعد الأصوليّة ، إذ المفروض أنّ جميع الجهات المعتبرة قطعيّة فلا بحث للفقيه إلا في تنقيح ظهور كلمة ( الصعيد ) ليستنبط الحكم الشرعي.

وبهذا ظهر أنّ هذا التعريف : إمّا أن يكون غير جامع بناء على التفسير الأوّل ؛ لعدم الاحتياج ، وإمّا أن يكون غير مانع بناء على التفسير الثاني ، فهذا الوصف الذي أضافه إلى التعريف غير دقيق وليس تامّا في جميع الموارد والحالات (١).

__________________

(١) ويضاف أيضا : أنّه يلزم الدور من هذا التعريف ؛ لأنّه قد عرّف القاعدة الأصوليّة : بأنّها القاعدة التي لا تحتاج إلى قاعدة أصوليّة أخرى ، فهنا وبقطع النظر عن المراد من عدم الاحتياج قد أدخل في ضابط القاعدة الأصوليّة عدم الاحتياج إلى القاعدة الأصوليّة ، مع أنّ المطلوب من الضابط إعطاء الحدّ أو الرسم الذي على أساسه تعرف القاعدة الأصوليّة ، فقبل معرفة القاعدة الأصوليّة ، كيف عرفنا أنّ تلك القاعدة الأخرى التي احتيج إليها كانت أصوليّة؟! فإمّا أن يلزم أخذ الشيء في تعريف نفسه والذي هو ملاك الدور ، وإمّا أن يلزم منه التقدّم والتأخّر ؛ لأنّ القاعدة الأصوليّة على هذا معلومة قبل هذا التعريف ؛ وإلا لزم التعريف بالمجهول والكلّ باطل.

٢٦

وثانيا : أنّ ظهور صيغة الأمر في الوجوب وأىّ ظهور آخر بحاجة إلى ضمّ قاعدة حجيّة الظهور ، وهي أصوليّة ؛ لأنّ مجرّد عدم الخلاف فيها لا يخرجها عن كونها أصوليّة ؛ لأنّ المسألة لا تكتسب أصوليّتها من الخلاف فيها ، وإنّما الخلاف ينصبّ على المسألة الأصوليّة. وهكذا يتّضح أنّ الملاحظة الثالثة واردة على تعريف المشهور.

الإيراد الثاني على ما ذكره السيّد الخوئي هو : أنّ احتياج ظهور صيغة الأمر في الوجوب وغيرها من الظهورات كظهور أدوات العموم والمفاهيم إلى حجيّة الظهور ، والتي هي من القواعد الأصوليّة يعني أنّ عدم الاحتياج الذي ورد في التعريف غير تامّ كما تقدّم في الإيراد الأوّل ، ومجرّد كون حجيّة الظهور من القواعد المتسالم والمتّفق عليها عند العقلاء لا يخرجها من كونها أصوليّة ؛ لأنّ المسألة الأصوليّة لا تكتسب أصوليّتها من وجود الخلاف فيها ؛ ليكون عدم الخلاف مخرجا لها من كونها أصوليّة. وليس هذا يعدو سوى مجرّد دعوى لا دليل عليها ، بل يلزم على هذا خروج كثير من القواعد الأصوليّة ؛ لعدم وجود الخلاف فيها ، ويلزم دخول القواعد غير الأصوليّة ؛ بسبب وجود الخلاف فيها أيضا ، وكلاهما باطل. وإنّما الصحيح أنّ القاعدة تكون أصوليّة في مرحلة سابقة ، ثمّ يطرأ عليها الخلاف والبحث ، بمعنى أنّ الخلاف عارض على المسألة الأصوليّة ، فيلزم أوّلا تنقيح المسألة الأصوليّة عن غيرها ليعرض الخلاف والبحث عليها ثانيا ، فما ذكر من ادّعاء غير تامّ.

وبتعبير آخر : إنّ الخلاف من الأحكام الموجبة العارضة على المسألة الأصوليّة ، والأحكام الموجبة تستدعي ثبوت الموضوع أوّلا ، فيلزم أن تكون أصوليّة المسألة متحقّقة في مرحلة متقدّمة على طروّ الخلاف عليها ، ممّا يعني أنّ الخلاف في المسألة لا ربط له في تحديد أصوليّة المسألة ؛ إذ لو كان شرطا فيها لكان دخيلا في الموضوع أيضا فيصبح الحكم محقّقا لموضوعه ، وهو باطل. نعم الخلاف في المسألة يكشف عن كون المسألة المختلف فيها أصوليّة إلا أنّ هذا لا يعني أنّه هو الذي أكسبها هذه الصفة وجعل لها هذا العنوان.

وهكذا تبيّن أنّ الملاحظة الثالثة واردة على تعريف المشهور بكلّ صيغه وإضافاته وقيوده.

٢٧

والأصحّ في التعريف أن يقال : ( علم الأصول هو العلم بالعناصر المشتركة لاستنباط جعل شرعي ). وعلى هذا الأساس تخرج المسألة اللغويّة كظهور كلمة الصعيد ؛ لأنّها لا تشترك إلا في استنباط حال الحكم المتعلّق بهذه المادّة فقط ، فلا تعتبر عنصرا مشتركا.

هذا هو التعريف الصحيح بنظر السيّد الشهيد والذي على أساسه سوف تحلّ كلّ الملاحظات والإيرادات السابقة ؛ وذلك لأنّ الأصول العمليّة تشكّل عنصرا مشتركا في عمليّة الاستنباط تجري في مختلف الأبواب الفقهيّة ، ويستنتج منها جعل شرعي كلّي. وأمّا القواعد الفقهيّة فهي لا تدخل في التعريف ؛ لأنّها ليست عناصر مشتركة في عمليّة الاستنباط ، وإنّما هي عناصر خاصّة ؛ لأنّ الفقيه يستخدمها في بعض الأبواب الفقهيّة ، وفي بعض الشبهات لا جميع الأبواب ولا جميع الشبهات. نعم بعض هذه القواعد الفقهيّة يستنبط منها جعل كلّي شرعي كما تقدّم ، كقاعدة الطهارة أو الحليّة إلا أنّها مختصّة ببعض الشبهات لا جميعها ؛ لأنّها لا تجري في الشبهات الحكميّة ، وكقاعدة الفراغ وأصالة الصحّة فهي وإن كانت تشكّل عنصرا مشتركا إلا أنّها أيضا مختصّة ببعض الشبهات وبعض الأبواب لا جميعها. وأمّا المسائل اللغويّة كظهور كلمة الصعيد وبعض المسائل الرجاليّة فهي عناصر خاصّة وليست عناصر مشتركة ؛ لاختصاصها ببعض الموارد والحالات والأبواب الفقهيّة. فهذا التعريف لا يرد عليه شيء من الإشكالات ، مضافا إلى أنّه يعطي الضابطة العامّة لمعرفة القاعدة الأصوليّة ويميّزها عن غيرها ، وهي القاعدة التي تعتبر عنصرا مشتركا يجري في مختلف الأبواب الفقهيّة بحيث يستنبط منها جعل شرعي كلّي. فهو تعريف جامع ومانع ، بخلاف غيره من التعاريف فإنّها لا تخلو من الإشكال إمّا بعدم الطرد وإمّا بعدم العكس.

٢٨

موضوع علم الأصول

٢٩
٣٠

موضوع علم الأصول

موضوع علم الأصول ـ كما تقدّم في الحلقة السابقة (١) ـ : الأدلّة المشتركة في الاستدلال الفقهي. والبحث الأصولي يدور دائما حول دليليّتها.

عادة يذكر لكلّ علم موضوع ، والمراد من الموضوع هو ذاك المفهوم الكلّي الذي يكون جامعا بين موضوعات مسائل العلم. فإنّ العلم عبارة عن مجموعة من المسائل ولكلّ مسألة موضوع خاصّ يختلف عن الموضوع في المسألة الأخرى ومحموله كذلك ، وتكوّن بمجموعها مسائل العلم. وهذه الموضوعات والمحمولات المختلفة يجمعها مفهوم كلّي وقضيّة كليّة بموضوعها ومحمولها ، وهذا يعني أنّ الموضوع في حقيقته هو نفس مسائل العلم وليس شيئا زائدا عليها ولذلك قالوا : إنّ الموضوع هو الذي يبحث فيه عن العوارض الذاتيّة للعلم ، فموضوع كلّ علم إذن هو نفس مسائله وأبوابه ومباحثه وموضوعات مسائله ومحمولاتها ، وعليه فتكون النسبة بين العلم وموضوعه هي نسبة التساوي ؛ غاية الأمر الفرق بينهما في الإجمال والتفصيل ، فهما متّحدان في المفهوم والمصداق ومختلفان في الاعتبار ، أي أنّ المغايرة بينهما اعتباريّة.

وعلى كلّ حال فقد عرّف موضوع علم الأصول بتعاريف عديدة ومختلفة ، والتعريف الصحيح بنظر السيّد الشهيد هو ما ذكره بعض القدماء مع تطوير له ؛ وذلك لأنّهم ذكروا أنّ موضوع علم الأصول هو الأدلّة الأربعة ، بينما الصحيح هو الأدلّة المشتركة في الاستدلال الفقهي خاصّة ، وهذا أعمّ وأشمل من تعريف القدماء حيث خصّوا الموضوع بالأدلّة الأربعة فقط ، بينما هو الأدلّة المشتركة التي تشمل الأربعة وغيرها من الأدلّة ، فما ذكروه من الأدلّة صحيح ولكن ما حصروه من الأربعة غير صحيح ، بل هو الأعمّ منها ، فكلّ ما كان دليلا وعنصرا مشتركا في عمليّة الاستنباط

__________________

(١) ضمن مباحث التمهيد ، تحت عنوان : موضوع علم الأصول وفائدته.

٣١

والاستدلال الفقهي بالخصوص فهو داخل في موضوع علم الأصول.

والبحث في علم الأصول يدور حول دليليّة هذه الأدلّة وأنّها هل تصلح لأن تكون عنصرا مشتركا في عمليّة الاستدلال أو لا تصلح لذلك؟ فيبحث في الأصول حول ما إذا كانت هذه القاعدة أو ذاك الدليل له الصلاحيّة للجريان في مختلف الأبواب الفقهيّة أو ليس له ذلك. فالبحث الأصولي ينصبّ حول دليليّة هذه القواعد الأصوليّة ، فالبحث مثلا في حجيّة الظهور أو حجيّة خبر الثقة أو الملازمات العقليّة أو الأصول العمليّة ينصبّ حول إمكانيّة استنباط الحكم الشرعي منها ، وأنّها هل تصلح للدلالة على الحكم الشرعي الكلّي ويعتمد عليها في إثبات المنجّزيّة والمعذّريّة أو لا؟

وبهذا ظهر أنّ مسألة الموضوع لعلم الأصول بل لكلّ علم من المسائل الواضحة عند العقلاء ، بمعنى أنّ العقلاء بمجرّد التفاتهم إلى معنى الموضوع وما هو المقصود منه يحكمون بلزوم الموضوع لكلّ علم ، إلا أنّه مع ذلك فقد وقع التشكيك في وجود الموضوع لكلّ علم أو لعلم الأصول بخصوصه. وإلى هذا أشار السيّد الشهيد بقوله :

وعدم تمكّن بعض المحقّقين (١) من تصوير موضوع العلم على النحو الذي ذكرناه أدّى إلى التشكيك في ضرورة أن يكون لكلّ علم موضوع ، ووقع ذلك موضعا للبحث ، فاستدلّ على ضرورة وجود موضوع لكلّ علم بدليلين :

بعض الأصوليّين أنكر وجود موضوع لعلم الأصول ، وبعضهم شكّك في ضرورة وجوده ؛ وليس ذلك إلا لعدم إمكانيّة تصوير الموضوع بالنحو الذي ذكرناه من كون الموضوع هو الجامع الكلّي بين موضوعات مسائل العلم ، إلا أنّ التشكيك في الموضوع نشأ من مسألة أخرى وهي أنّهم عرّفوا الموضوع بأنّه ما يكون جامعا بين مسائل العلم. والحال أنّ مسائل العلم لا يمكن أن يوجد جامع بينها ؛ لأنّ بعضها مباين للبعض في أكثر الأحيان ؛ إمّا من جهة الموضوع ، أو المحمول ؛ فكيف يمكن تصوير مفهوم كلّي يكون جامعا بينها؟! وهذا الكلام ناظر إلى المسائل في مرحلة التدوين والتأليف ، فإنّ بعض المسائل تكون مباينة لبعضها من جهة الموضوع كالفعل والترك ، أو المحمول كالوجوب والحرمة أو الوجود والعدم وهكذا ... إلى آخره.

إلا أنّ الصحيح هو وجود موضوع لكلّ علم ؛ لأنّ الموضوع ليس معناه الجامع بين

__________________

(١) كالمحقّق العراقي في نهاية الأفكار ١ : ٩ ـ ١٢ ، والسيّد الخوئي في المحاضرات ١ : ٢٠.

٣٢

موضوعات مسائل العلم في مرحلة التدوين ، وإنّما المراد منه المفهوم الكلّي الجامع لكلّ مسائل العلم قبل مرحلة التدوين وبقطع النظر عنها. وقد استدلّ على وجود الموضوع لكلّ علم بدليلين يضاف إليهما دليل ثالث على مبنى السيّد الشهيد :

أحدهما : أنّ التمايز بين العلوم بالموضوعات ، بمعنى أنّ استقلال علم النحو عن علم الطبّ إنّما هو باختصاص كلّ منهما بموضوع كلّي يتميّز عن موضوع الآخر ، فلا بدّ من افتراض الموضوع لكلّ علم.

الدليل الأوّل : ما ذكره المشهور من أنّ العلوم تتمايز عن بعضها لأجل التمايز بين موضوعاتها ، فعلم النحو مثلا يمتاز عن علم الطبّ بموضوعه. فإنّ موضوع علم النحو الكلمة العربيّة وموضوع علم الطبّ الجسم الحي ، فلأجل تمايز الموضوع بينهما امتاز هذان العلمان عن بعضهما ، وعلى هذا فلا بدّ من افتراض موضوع لكلّ علم لكي يتحقّق التمايز بين العلوم ؛ إذ لو لم يكن لكلّ علم موضوع خاصّ به لما حصل التمايز بين العلوم ، وبما أنّ التمايز حاصل بين العلوم والتمايز لا يتمّ إلا باختلاف الموضوع فهذا يدلّ على وجود الموضوع لكلّ علم يمتاز عن موضوع العلم الآخر. وهذا الدليل مؤلّف من مقدّمتين : الأولى أنّ هناك تمايزا بين العلوم ، والثانية أنّ التمايز بين العلوم هو باختلاف موضوعاتها ، فالنتيجة هي وجود الموضوع لكلّ علم والذي على أساسه يحصل التمايز.

وهذا الدليل أشبه بالمصادرة ؛ لأنّ كون التمايز بين العلوم بالموضوعات فرع وجود موضوع لكلّ علم ، وإلا تعيّن أن يكون التمييز قائما على أساس آخر كالغرض.

هذا الدليل شبيه بالمصادرة وليس مصادرة حقيقيّة ؛ لأنّ المصادرة هي أن يكون الدليل عين المدّعى بأن يستدلّ على المطلوب بنفسه. وأمّا الشبيه بالمصادرة فهو أن يكون الدليل من لوازم ومتفرّعات المطلوب ، وهنا استدلّوا على وجود الموضوع لا بالموضوع نفسه ليكون مصادرة ، بل بشيء لازم ومتفرّع عليه وهو التمايز ، إذ التمايز بالموضوعات بين العلوم فرع وجود الموضوع أوّلا ، فهو لازم ومتفرّع على وجود الموضوع فيثبت الموضوع أوّلا ، ثمّ تثبت لوازمه ومتفرّعاته. فلذلك كان هذا الدليل شبيها بالمصادرة وليس مصادرة حقيقية. ولا فرق بين المصادرة والشبيه بها في كون

٣٣

الاستدلال بهما على المطلوب باطلا : أمّا المصادرة فواضح ؛ لأنّه يلزم من الاستدلال بالشيء على نفسه الدور والخلف والتقدّم والتأخّر ؛ لكون المدّعى مأخوذا دليلا على نفسه ، وهذا واضح البطلان (١).

__________________

(١) وأمّا الشبيه بالمصادرة فبطلان الاستدلال به على المطلوب من وجوه :

الأوّل : ما ذكره السيّد الشهيد من قاعدة الفرعيّة وهي القاعدة القائلة : إنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له أوّلا. وهنا عند ما نثبت التمايز بين العلوم للموضوعات فهذا يلزم منه ثبوت الموضوع أوّلا ، ثمّ يتفرّع عنه كون التمايز به. فما لم يثبت الموضوع في مرحلة متقدّمة فلا معنى للكلام عن التمايز بين العلوم بالموضوعات ؛ إذ لعلّه لا يوجد موضوع للعلم ومع عدم وجوده لا محصّل للكلام عن كون التمايز بالموضوعات ؛ إذ لعلّه شيء آخر كالغرض والغاية ونحو ذلك. فلا بدّ من إثبات الموضوع ثمّ ينتقل إلى الحديث عن كون التمايز به أو بغيره ، فيعود الكلام إلى أصل وجود الموضوع وهو غير متحقّق بعد. فهذا وجه بطلان الاستدلال بلازم الشيء على الشيء نفسه والذي هو المسمّى بالشبيه بالمصادرة.

الثاني : هناك مرتبة طوليّة بين الموضوع وبين التمايز بالموضوع ، والثاني في المرتبة الثانية لا يتحقّق إلا بعد تحقّق الأوّل فما لم تتحقّق المرتبة الأولى يلغو الكلام عن المرتبة الثانية ، إذ الحديث عن المرتبة الثانية وهي تقتضي التسليم بوجود المرتبة الأولى ، ومع التسليم بوجودها لا معنى للاستدلال عليها وعلى وجودها ؛ إذ هو تحصيل الحاصل حينئذ. ومع عدم وجود المرتبة الأولى لا وجود للمرتبة الثانية أيضا ، فكيف يستدلّ بشيء معدوم على وجود شيء؟! وهذا واضح البطلان.

الثالث : أنّه يوجد فرق بين مفاد كان التامّة وبين مفاد الناقصة ؛ لأنّ الأولى تثبت أصل وجود الشيء في مقابل عدمه ، والثانية تثبت وجود صفة وحكم لهذا الشيء الثابت والموجود في مقابل عدم ثبوت هذا الحكم أو الوصف ، وأمّا أصل وجود الشيء فهو مفروغ عنه ومتحقّق في مرحلة سابقة. وهذا معناه أنّ مفاد ( كان ) الناقصة قد أخذ فيه الفراغ عن ثبوت الشيء مقابل عدمه ، وهنا كون التمايز بين العلوم بالموضوعات يثبت صفة التمييز إلى الموضوع والذي هو مفاد ( كان ) الناقصة ، والذي معناه كما ذكرنا الفراغ عن ثبوت الموضوع في مرحلة سابقة ، فلا معنى لإثبات وجود الموضوع بمفاد ( كان ) الناقصة ؛ لأنّ إثبات وجوده بها معناه أنّه لم يكن ثابتا قبل ذلك ، وهذا خلف ماهيّة وحقيقة كان الناقصة ، فيلزم منه التقدّم والتأخّر والخلف أو الدور ، والجميع باطل.

الرابع : أنّ الأحكام السلبيّة يجوز إسنادها إلى موضوع معدوم وإلى موضوع موجود ، وأمّا الأحكام الإيجابيّة فلا يجوز إسنادها إلا إلى موضوع موجود ، وهنا ثبوت التمايز بين العلوم إلى الموضوعات حكم إيجابي وصفة وجوديّة للموضوع. وهذا معناه لزوم كون الموضوع ..

٣٤

والآخر : أنّ التمايز بين العلوم إن كان بالموضوع فلا بدّ من موضوع لكلّ علم إذا : لكي يحصل التمايز. وإن كان بالغرض على أساس أنّ لكلّ علم غرضا يختلف عن الغرض من العلم الآخر ، فحيث إنّ الغرض من كلّ علم واحد والواحد لا يصدر إلا من واحد فلا بدّ من افتراض مؤثّر واحد في ذلك الغرض ، ولمّا كانت مسائل العلم متعدّدة ومتغايرة فيستحيل أن تكون هي المؤثّرة بما هي كثيرة في الغرض الواحد ، بل يتعيّن أن تكون مؤثّرة بما هي مصاديق لأمر واحد.

وهذا يعني فرض قضيّة كلّيّة تكون بموضوعها جامعة بين الموضوعات وبمحمولها جامعة بين المحمولات للمسائل ، وهذه القضيّة الكلّيّة هي المؤثّرة ، وبذلك يثبت أنّ لكلّ علم موضوعا ، وهو موضوع تلك القضيّة الكلّيّة فيه (١).

الدليل الثاني : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) للاستدلال على وجود الموضوع :

فتارة نقول بمقالة المشهور : من أنّ التمايز بين العلوم بالموضوعات ، فيلزم وجود موضوع إذن ؛ لكي يحصل التمايز المذكور فيكون المطلوب حاصلا ، إلا أنّ هذا الافتراض غير صحيح كما تقدّم آنفا. فلا بدّ من فرض كون التمايز بين العلوم متحقّقا بشيء آخر غير الموضوع.

وأخرى نقول : إنّ التمايز بين العلوم بلحاظ الأغراض فلكلّ علم غرض مختلف عن الآخر ، وعلى هذا الافتراض يمكننا إثبات وجود موضوع العلم ، وهذا الدليل مركّب من مقدّمتين ونتيجة :

__________________

... موجودا وإلا لم يصحّ الحكم الإيجابي بالتمايز عليه ، ومع الفراغ عن وجود الموضوع طبقا لهذا فلا داعي للاستدلال على ما هو موجود لإثبات وجوده ؛ إذ ليس هذا إلا اللغو الباطل وتحصيل الحاصل.

وبهذا كلّه يتضح أنّ هذا الدليل غير تامّ. مضافا إلى الإشكال الذي ذكره صاحب ( الكفاية ) وإن كان غير تامّ كما هو الصحيح من أنّ التمايز بالموضوعات يستلزم تكثّر العلوم ؛ لأنّ كلّ باب بل كلّ مسألة لها موضوع مختلف عنه في الباب والمسألة الأخرى ، مع أنّه لا يقول أحد بأنّ باب الفاعل علم مستقلّ في مقابل باب المفعول رغم كونهما من حيث الموضوع والمحمول مختلفين ، حيث يقال : الفاعل مرفوع ، والمفعول منصوب.

(١) تجد خلاصة هذا البيان مع الإيراد عليه في ألسنة جملة من الأصوليّين ، منهم المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية ١ : ٣٤ ، والسيّد الخوئي في هامش كتاب أجود التقريرات ١ : ٤.

٣٥

المقدّمة الأولى : على افتراض أنّ التمايز بين العلوم إنّما هو بلحاظ الغرض ، حيث إنّ لكلّ علم غرضا مستقلا عن الغرض من العلم الآخر ، فهنا حيث إنّ مفهوم الغرض مفهوم واحد وبسيط فلا بدّ من فرض مؤثّر في هذا الغرض ، وهذا المؤثّر في الغرض هو موضوع العلم.

المقدّمة الثانية : وفقا للقاعدة الفلسفيّة القائلة : بأنّ ( الواحد لا يصدر إلا من واحد ). فلا بدّ من فرض المؤثّر في الغرض واحدا ؛ لأنّ الغرض واحد أيضا وهو لا يصدر إلا من واحد.

والنتيجة ـ بناء على هاتين المقدّمتين ـ : أنّ المؤثّر في الغرض ـ والذي قد فرض كونه واحدا نظرا إلى وحدة الغرض نفسه ـ إذا فرضناه نفس مسائل العلم لم تتمّ المقدّمة الثانية ؛ لأنّ مسائل العلم متعدّدة ومتكثرة فكيف يصدر عن الكثير بما هو كثير واحد بسيط وهو الغرض ، بحيث تكون هذه المسائل هي المؤثّرة فيه؟! فيلزم من هذا الغرض مخالفة القاعدة الفلسفيّة التي هي المقدّمة الثانية من هذا الدليل ، فهذا الفرض باطل ومستحيل.

فيلزم أن نفرض وجود قضيّة كليّة مؤلّفة من موضوع ومحمول هي المؤثّرة في الغرض ؛ لأنّها واحدة فيصدر منها الواحد. وهذه القضيّة الكليّة من حيث الموضوع جامعة بين موضوعات المسائل ، ومن حيث محمولها جامعة بين محمولات المسائل ، فتكون هذه القضيّة الكلّيّة المفروضة والتي موضوعها جامع بين موضوعات المسائل هي المؤثّرة في الغرض بلحاظ موضوعها. وهذا يعني أنّ تلك المسائل المتكثّرة قد أثّرت في الغرض ولكن لا بوصف كونها كثيرة ، بل بلحاظ كونها مصاديق وأفرادا لذلك الموضوع الكلّي الجامع لها. فالمؤثّر في الغرض هو القضيّة الكليّة أوّلا وبالذات ، ثمّ المسائل المتعدّدة ثانيا ، وبالعرض باعتبارها مصاديق وتعيّنات لموضوع القضيّة الكلّيّة ، وبهذا يثبت كون المؤثّر في الغرض أمرا واحدا هو القضيّة الكلّيّة.

ثمّ إذا نظرنا إلى موضوع تلك القضيّة الكليّة نجده جامعا بين موضوعات مسائل العلم ، ولا يقصد من الموضوع المراد إثباته أكثر من ذلك. فثبت بهذا الدليل وجود موضوع لكلّ علم ، وهذا الموضوع هو الموضوع الكلّي الجامع بين موضوعات مسائل العلم الواقع موضوعا للقضيّة الكليّة المفروضة والتي أثّرت في الغرض. وبهذا يتّضح أنّه

٣٦

يمكننا إثبات وجود الموضوع للعلم من غير أن نفرض أنّ التمايز بين العلوم بالموضوعات ، بل يمكننا إثباته بفرض أنّ التمايز بين العلوم بالغرض.

وقد أجيب على ذلك : بأنّ الواحد على ثلاثة أقسام : واحد بالشخص ، وواحد بالنوع وهو الجامع الذاتي لأفراده ، وواحد بالعنوان وهو الجامع الانتزاعي الذي قد ينتزع من أنواع متخالفة. واستحالة صدور الواحد من الكثير تختصّ بالأوّل (١) ، والغرض المفترض لكلّ علم ليست وحدته شخصيّة ، بل نوعيّة (٢) أو عنوانيّة (٣) ، فلا ينطبق برهان تلك الاستحالة في المقام.

أورد على هذا الدليل بمنع كلتا المقدّمتين :

أمّا المقدّمة الثانية : وهي قاعدة : ( الواحد لا يصدر إلا من واحد ) ، فإنّ تطبيقها على الغرض غير تامّ ؛ وذلك لأنّ الواحد على ثلاثة أقسام هي :

الواحد الشخصي : وهو الجزئي الحقيقي كزيد فهو واحد بسبب تشخّصه وتعيّنه بالخارج.

والواحد بالنوع : وهو الجامع الذاتي لأفراده أي الكلّي الذي يكون جامعا بين المصاديق والجزئيّات والأفراد كالإنسان الجامع بين الأفراد الموجودة في الخارج ، وكالحيوان الجامع بين الأنواع ، وكالناطق فهذه كلّها مفاهيم كليّة جامعة بين أفرادها وأنواعها بنحو تكون دخيلة في ذاتها وهي واحدة أيضا.

والواحد بالعنوان : وهو الجامع العرضي والانتزاعي والذي يكون جامعا بين الأفراد والأنواع المتخالفة ، كالبياض الجامع بين الإنسان والحجر والطائر والقرطاس والثلج ... إلى آخره ؛ ولكن هذا الجامع ليس دخيلا في حقيقة هذه الأنواع والأفراد ، وإنّما هو متفرّع منها بنحو العارض الخارج عن الذات ، فهو مفهوم انتزاعي وعرضي ولكنّه واحد أيضا.

والقاعدة المذكورة مختصّة بالواحد الشخصي بمعنى أنّ الواحد الشخصي وهو الجزئي الحقيقي يستحيل صدوره من كثيرين ولا يصدر إلا من واحد فقط.

وأمّا الواحد بالنوع أو الواحد بالعنوان فهما يصدران من الواحد ومن الكثير أيضا

__________________

(١ و ٢) كما ادّعاه السيّد الخوئي في المصدر السابق.

(١ و ٢) كما ادّعاه السيّد الخوئي في المصدر السابق.

(٣) كما ادّعاه المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية ١ : ٣٤.

٣٧

كما هو مبرهن عليه في الفلسفة. والغرض وحدته ليست وحدة شخصيّة ؛ لأنّه ليس جزئيّا بل هو مفهوم كلّي ، فهو إمّا واحد نوعي أو واحد عنواني على الخلاف في ذلك ، وعلى كلا الأمرين لا تنطبق عليه القاعدة الفلسفيّة المذكورة وعليه فلا يشترط كون المؤثّر في الغرض واحدا أيضا ، بل يمكن أن يكون المؤثّر فيه الكثير. فتلك القضيّة الكلّيّة المؤلّفة من موضوع جامع بين موضوعات مسائل العلم لا داعي ولا موجب لفرضها على هذا ، بل يمكن أن تكون مسائل العلم بما هي كثيرة مؤثّرة في الغرض ولا يلزم من ذلك أي محذور.

وأمّا المقدّمة الأولى : وهي افتراض وجود غرض بسبب وجود المؤثّر وهو تلك القضيّة الكليّة المفترضة فيرد عليها : أنّه مع وجود المؤثّر يلزم وجود الغرض دائما ويمنع من تخلّفه عنه ، وهذا الأمر غير متحقّق بنحو مطلق ؛ لأنّا نجد أنّ الغرض يتخلّف في كثير من الأحيان مع وجود المؤثّر فيه ، فنرى مثلا أنّ من يتعلّم المنطق أو النحو يخطئ في التفكير السليم والصحيح وفي النطق الصحيح مع كون المؤثّر موجودا ؛ لأنّه قد تعلّم مسائل العلم ، وهذا يعني أنّ الغرض قد تخلّف عن المؤثّر فيه.

إلا أنّ السيّد الشهيد لا يقبل كلا هذين الإيرادين ولذلك قال : ( وأجيب على ذلك ). ووجه ذلك :

أمّا المقدّمة الثانية : فالقاعدة الفلسفيّة لا تختصّ بالواحد الشخصي ، بل تشمل الواحد بالنوع أيضا والغرض واحد بالنوع (١).

وأمّا المقدّمة الأولى : فلأنّه يشترط في تأثير المؤثّر في الغرض أن يتمكّن المتعلّم من استخدام مسائل العلم على وجهها الصحيح وفي موردها ومصداقها ، فهي تمكّنه من الوصول إلى الغرض فيما لو أحسن استخدامها لا مطلقا ، والمخطئ لا يكون قد أحسن الاستعمال. فإذا تخلّف الغرض لم يصل إليه ؛ لأنّه لم يتحقّق شرط التأثير.

وهكذا يرفض بعض المحقّقين (٢) الدليل على وجود موضوع لكلّ علم ، بل قد

__________________

(١) بل إنّ القاعدة المذكورة مختصّة بالواحد الحقيقي أي العلّة الحقيقيّة وهي الحقّ سبحانه وتعالى ، ولا تشمل العلل الاعتباريّة كالغرض في مقامنا ، ولذلك وقع خلط بين المقامين.

(٢) منهم المحقّق العراقي في المقالات ١ : ٣٧ ، والسيّد الخوئي في المحاضرات ١ : ٢٠.

٣٨

يبرهن على عدمه بأنّ بعض العلوم تشتمل على مسائل موضوعها الفعل والوجود وعلى مسائل موضوعها الترك والعدم ، وتنتسب موضوعات مسائله إلى مقولات ماهويّة وأجناس متباينة كعلم الفقه الذي موضوع مسائله الفعل تارة والترك أخرى والوضع تارة والكيف أخرى ، فكيف يمكن الحصول على جامع بين موضوعات مسائله؟!

ولأجل عدم تماميّة الأدلّة التي ذكرت على وجود موضوع للعلم رفض بعض المحقّقين كالمحقّق العراقي وجود موضوع لكلّ علم ، بل إنّ بعضهم كالسيّد الخوئي قد أقام البرهان على عدم وجود موضوع للعلم. وحاصل هذا البرهان أن يقال : إنّنا إذا أخذنا علم الفقه كمثال نجد أنّ بعض موضوعات مسائل هذا العلم تشتمل على الفعل والوجود كالصلاة والحجّ ونحو ذلك ، وبعض موضوعات مسائله تشتمل على الترك والعدم كالصوم وحرمة الزنى وحرمة شرب الخمر ونحو ذلك ، بل إنّنا إذا أخذنا باب الصلاة نجد أنّ الصلاة تشتمل على أفعال وجوديّة كالركوع والسجود والقراءة وهي من مقولات ماهويّة وأجناس متباينة ، فإنّ الركوع والسجود من مقولة الوضع والقراءة من مقولة الكيف المسموع ، وإذا أخذنا باب الصوم نجد أنّه يشتمل على تروك وأعدام وهي أيضا من مقولات ماهويّة وأجناس متباينة ، كترك الكذب على الله والرسول والأئمّة فهي من مقولة الكيف المسموع ، وكرمس الرأس في الماء فهي من مقولة الوضع وهكذا ... فكيف يمكن تصوير جامع كلّي بين هذه الأجناس المتباينة والمقولات الماهويّة المختلفة؟! إذ هي أجناس عالية ليس فوقها شيء يمكن تصوير الجامع بينها. وعليه فكيف يمكن تصوير الموضوع؟! لأنّه الجامع الكلّي بين موضوعات مسائل العلم كما تقدّم.

وكذلك الحال لو أخذنا علم الأصول كمثال آخر ، فإنّا نجده يشتمل على مسائل موضوعها الكشف والإراءة للواقع كالأمارات والأدلّة المحرزة ، وعلى مسائل موضوعها الشك ، والجهل وعدم الانكشاف للواقع كالأصول العمليّة المحضة. فكيف يمكن الجمع بين الكشف وعدمه وبين الإراءة للواقع والشكّ والجهل به؟! إذ الجامع بينها جامع بين النقيضين وهو باطل ومحال.

وعلى هذا الأساس رفض بعض الأصوليّين وجود الموضوع ، وليس ذلك إلا

٣٩

لاستحالة تصوير هذا الجامع. وكيف يكون جامعا بين المسائل والموضوعات المتخالفة والمتباينة والمتناقضة؟!

وعلى هذا الأساس استساغوا ألاّ يكون لعلم الأصول موضوع ، غير أنّك عرفت أنّ لعلم الأصول موضوعا على ما تقدّم (١).

الصحيح هو وجود موضوع لكلّ علم من العلوم ومن جملتها علم الأصول بدليل حاصله :

إنّ كلّ علم من العلوم له محور يدور البحث حوله ، وكلّ مسائل العلم التي تدوّن في هذا العلم تأتي متأخّرة عن وجود هذا المحور ، فهو موجود قبل أن تتحقّق المسائل في الخارج ولا يتوقّف وجوده على وجودها ولذلك يمكن أن تختلف هذه المسائل في مرحلة التدوين والتصنيف عن هذا المحور ؛ نتيجة لتأثّر البحث أو الباحث بأمور خارجة عارضة عليه إلا أنّه لا يمنع من كون هذا المحور المذكور موجودا قبلها ، وهو الباعث على تدوينها في هذا العلم.

فمثلا علم الفلسفة يدور حول محور واحد وهو الوجود أو الموجود بما هو موجود ، وكلّ المسائل التي تبحث وتدوّن في هذا العلم تدور حول هذا المحور ، إلا أنّنا نجدها في مرحلة التدوين والتصنيف تختلف عن هذا المحور فنجد موضوعات مسائل هذا العلم موزّعة على الوجود والعدم والماهيّة والوجوب والإمكان والضرورة والحركة ... إلى آخره ، ونجد أنّ الوجود والذي هو المحور الذي يجب أن تدور البحوث حوله نجده يجعل محمولا لها ، فيقال : الماهيّة موجودة والإنسان موجود مع أنّها ليست إلا تعيّنات ومصاديق للوجود ، فهي التي تحمل عليه بحسب الحقيقة والدقّة ، إلا أنّ هذا لا يشكّل مانعا وذلك نتيجة لتأثّر الباحث بهذه الأمور فجعلها موضوعا وعكس الحمل.

وكذلك الحال بالنسبة لعلم الفقه فإنّ له محورا تدور حوله كلّ موضوعات مسائله ، وهذا المحور هو الحكم الشرعي ، فكلّ الأبواب الفقهيّة مهما اختلفت من جهة التدوين والتصنيف ومهما تغايرت ماهيّاتها ومقولاتها فهي تدور حول الحكم الشرعي ، والذي هو الأحكام التكليفيّة الخمسة الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة والأحكام الوضعيّة مثل الصحّة والفساد وغيرها. وعلم الأصول لا

__________________

(١) في بداية هذا البحث.

٤٠