شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

وهذا يعني أنّ البراءة عن التكليف المشكوك وحجّيّة الخبر الدالّ على ثبوته حكمان ظاهريّان متنافيان ، فالدليل الدالّ على البراءة دالّ بالدلالة الالتزاميّة على نفي الحجّيّة المذكورة ، فيؤخذ بذلك ما لم يقم دليل أقوى على الحجّيّة.

وحينئذ نطبّق هذه الفكرة على مقامنا فنقول : إنّ البراءة الشرعيّة الجارية في هذا التكليف المشكوك تثبت أنّ الملاكات الواقعيّة للترخيص والإباحة هي الأهمّ بنظر الشارع ، بينما هذه الحجّيّة المشكوكة للخبر على فرض تماميّتها فهي تثبت أنّ الملاكات الإلزامية الواقعيّة هي الأهمّ بنظر الشارع.

وهنا تارة نقول : إنّ هناك مرتبة طوليّة بين هذين الحكمين الظاهريّين فلا تنافي بينهما ، بأن نفرض أنّ البراءة موضوعها الحكم الواقعي المشكوك والحجيّة للخبر الدالّ على الإلزام موضوعه الشكّ في الأحكام الظاهريّة ، بمعنى أنّه يوجد منجّز ظاهري أو ترخيص ظاهري إلا أنّ هذا مجرّد افتراض. وأخرى كما هو الصحيح يكون بينهما مرتبة عرضيّة ، بمعنى أنّ البراءة والحجيّة الأخرى موضوعهما الشكّ في الحكم الواقعي ، فهنا يكون ثبوتهما معا محالا ؛ للتنافي بينهما من حيث إنّ البراءة تبرز أهميّة ملاك الترخيص الواقعي ، بينما الحجّيّة الأخرى تبرز أهميّة ملاك الإلزام الواقعي. ولا يمكن أن يكونا معا مهمّين بنظر الشارع في مرتبة واحدة ، فيدور الأمر بين رفع اليد عن البراءة أو رفع اليد عن الحجّيّة الأخرى.

وحينئذ نقول : إذا أخذنا بالحجّيّة الأخرى ورفعنا اليد عن البراءة فيلزم من ذلك رفع اليد عن البراءة مع تماميّة موضوعها ، وهذا يحتاج إلى عناية زائدة ودليل خاصّ يثبت أنّ الحجّيّة الأخرى أقوى وأرجح من البراءة ليتمّ تقديمها عليها ، وإلا كان تقديمها من دون دليل ترجيحا بلا مرجّح ، وهو باطل. فيوجد محذور في الأخذ بالحجّيّة الأخرى.

وأمّا إذا أخذنا بدليل البراءة ورفعنا اليد عن الحجّيّة الأخرى فلا يلزم هذا المحذور فيكون متعيّنا ؛ وذلك لأنّ الدليل الدالّ على البراءة كقوله مثلا : « رفع ما لا يعلمون » يدلّ بالدلالة المطابقيّة على الترخيص والإباحة وأنّها الأهمّ بنظر الشارع ، ويدلّ بالدلالة الالتزاميّة على نفي هذه الحجّيّة المذكورة ؛ لأنّه إذا كان الأهمّ بنظر الشارع واقعا هو الترخيص فهذا يعني أنّه لا أهميّة للملاكات الإلزامية ولا ثبوت للتكليف

٢٠١

واقعا ، فتكون الحجّيّة الأخرى منتفية لارتفاع موضوعها تعبّدا وادّعاء ؛ إذ لا وجود للملاكات الإلزامية الواقعيّة لتجعل هذه الحجّيّة المذكورة ظاهرا من أجل الحفاظ عليها.

وعليه ، فلا محذور من الأخذ بدليل البراءة ولا يلزم منه إلغاء الحجّيّة الأخرى مع تماميّة موضوعها ، وإنّما تنتفي هذه الحجّيّة الأخرى وتلغى من باب ارتفاع موضوعها تعبّدا وادّعاء.

فالبراءة هي الثابتة ما لم يقم دليل أقوى يدلّ على الإلزام ، فإنّه إذا قامت الحجّة المعتبرة شرعا الدالّة على الإلزام فإنّه يرفع اليد بها عن البراءة لكونها أقوى ، فتكون حاكمة على دليل البراءة ورافعة لموضوع البراءة تعبّدا وادّعاء ؛ لأنّ الدليل الدالّ على الحجيّة يكون أقوى وأظهر وأصرح من البراءة.

وقد يقام الدليل على عدم حجّيّة ما يشكّ في حجّيّته من الأمارات بما اشتمل من الكتاب الكريم على النهي عن العمل بالظنّ وغير العلم ، فإنّ كلّ ظنّ يشكّ في حجّيّته يشمله إطلاق هذا النهي.

استدلّ الشيخ الأنصاري على عدم حجّيّة ما يشكّ في حجّيّته من الأمارات والظنون الكاشفة كشفا ظنيّا ناقصا عن الحكم الواقعي بالآيات الكريمة الدالّة على النهي وحرمة العمل بالظنّ وغير العلم ، كقوله تعالى : ( قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ )(١) ، وقوله : ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً )(٢) ، وكقوله : ( ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِ )(٣).

فإنّ هذه الآيات وغيرها من الأخبار دالّة على حرمة العمل بالظنّ والافتاء به ونسبته إلى الشارع ، فإنّ العلم فقط هو الذي يجوز العمل به ؛ بل يجب. وأمّا غير العلم فإن كان هناك دليل قطعي دلّ على جواز العمل به فهو ، وإلاّ فيبقى إطلاق النهي شاملا لحرمة العمل بهذا الظنّ المشكوك جعل الحجّيّة له شرعا ؛ إذ لا يعلم خروجه عن دائرة النهي ، والفرد الذي لا يعلم ولا يحرز خروجه عن الإطلاق أو

__________________

(١) يونس : ٥٩.

(٢) يونس : ٣٦.

(٣) النساء : ١٥٧.

٢٠٢

العموم يبقى الإطلاق والعموم حجّة فيه ، فهو مصداق وفرد كغيره من المصاديق الأخرى.

نعم ، الفرد الذي علم بخروجه من دائرة إطلاق النهي يحكم بعدم شمول النهي والحرمة له.

وقد اعترض المحقّق النائيني (١) ـ قدس الله روحه ـ على ذلك : بأنّ حجّيّة الأمارة معناها جعلها علما ؛ لأنّه بنى على مسلك جعل الطريقيّة ، فمع الشك في الحجّيّة يشكّ في كونها علما ، فلا يمكن التمسّك بدليل النهي عن العمل بغير العلم حينئذ ؛ لأنّ موضوعه غير محرز.

اعتراض الميرزا النائيني مبنيّ على مقدّمات :

الأولى : أنّ جعل الحجّيّة للأمارة بناء على مسلك جعل الطريقيّة والكاشفيّة معناه جعل الأمارة علما تعبّدا.

الثانية : أنّ سلب الحجّيّة عن أمارة ما كالقياس ونحوه معناه أنّ هذه الأمارة ليست علما ، بل هي ظنّ.

الثالثة : أنّ الحجّيّة المشكوكة لأمارة ما معناها الشكّ في أنّ هذه الأمارة علم تعبدا أو ليست علما ، وإنّما هي ظنّ.

الرابعة : أنّ الآيات الناهية عن العمل بالظنّ تشمل كلّ أمارة ظنّيّة ، ولا تشمل الأمارة العمليّة.

والنتيجة : أنّ الآيات الناهية عن العمل بالظنّ لا تشمل الحجّيّة المشكوكة ؛ لأنّ موضوع النهي ـ وهو العمل بالظنّ وغير العلم ـ غير محرز في المقام ؛ وذلك لأنّ هذه الأمارة إن كانت حجّة فهي علم تعبّدي خارجة عن دائرة موضوع النهي ، وإن لم تكن حجّة فهي ظنّ فتكون داخلة في موضوع النهي. وهذا يعني أنّنا نشكّ في أنّ موضوع النهي هل هو متحقّق في هذه الأمارة المشكوكة أو ليس متحقّقا. وفي هذا الفرض لا يمكن التمسّك بإطلاق النهي لهذه الأمارة المشكوكة ؛ لأنّه يكون من التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة وهو باطل.

وتوضيح ذلك : أنّه إذا ورد : ( أكرم العالم ) فهو بإطلاقه شامل لكلّ فرد متّصف

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٨٧.

٢٠٣

بالعلم في الخارج ، فإذا شككنا في أنّ زيدا هل هو عالم أو لا فلا يمكننا أن نتمسّك بالإطلاق لإثبات وجوب إكرامه ؛ لأنّ إطلاق الحكم لا يثبت موضوعه ، بل ينصبّ على موضوعه الثابت من قبل.

وهنا من هذا القبيل فإنّ هذه الأمارة المشكوكة لا يعلم ولا يحرز كونها موضوعا لإطلاق النهي ، فلا يمكن لهذا الإطلاق أن يثبت كونها موضوعا له ؛ لأنّ الحكم لا يثبت موضوعه ولا يثبت مصداق موضوعه أيضا.

والنتيجة : أنّ هذا الإطلاق ليس شاملا للمورد ، أو على الأقلّ لا يحرز شموله للمورد فيكون الأمر مجملا.

وجواب هذا الاعتراض : أنّ النهي عن العمل بالظنّ ليس نهيا تحريميّا ، وإنّما هو إرشاد إلى عدم حجّيّته ؛ إذ من الواضح أنّ العمل بالظنّ ليس من المحرّمات النفسيّة ، وإنّما محذوره التورّط في مخالفة الواقع فيكون مفاده عدم الحجّيّة.

والجواب على اعتراض الميرزا يتألّف من مقدّمتين :

المقدّمة الأولى : أنّ هذا الاعتراض مبنيّ على أنّ النهي الوارد في الآيات يفيد الحرمة النفسيّة ، فالعمل بالظنّ محرّم نفسيّا ، وكذلك اتّباع ما ليس بعلم ؛ وهذا معناه أنّ كلّ ظنّ وما ليس بعلم فهو محرّم اتّباعه والعمل به لنفسه ، وهذا يفترض مسبقا أنّ الظنّ ليس حجّة وليس معتبرا شرعا ، ثمّ بعد ذلك وفي رتبة ثانية طوليّة ينهى عن العمل به ويحرّم اتّباعه ، فالنهي والتحريم كان في طول نفي الحجّيّة عن الظنّ. ولذلك فإذا قام دليل قطعي على جعل الحجّيّة للظنّ فهو يكون حاكما على إطلاق النهي ومخصّصا ومقيّدا لهذا الإطلاق ؛ لأنّ الحكومة كالتخصيص إلا أنّها بلسان رفع الموضوع ادّعاء وتعبّدا. وأمّا إذا شكّ في الدليل على الحجّيّة لأمارة ما وظنّ معيّن فيكون شكّا في كونه علما وحجّة أو ليس بعلم وحجّة. وعليه ، فلا يمكن التمسّك بإطلاق النهي في هذا المصداق ؛ لأنّه يكون من التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة وهو ممنوع ؛ لأنّ العامّ والمطلق لا يثبت مصداقه.

إلا أنّ هذا المبنى غير صحيح ؛ لأنّ النهي الوارد في الآيات ليس نهيا وتحريما نفسيّا للظنّ وما ليس بعلم ؛ إذ من الواضح أنّه لا مفسدة في العمل بالظنّ واتّباع ما ليس بعلم في الأمور الشرعيّة ؛ لأنّ العقلاء يبنون على الظنّ في معاملاتهم الشخصيّة

٢٠٤

والتشريعيّة وليس عملهم هذا مستنكرا لا عقلا ولا شرعا. فالنهي إذن إرشاد إلى أنّ العمل بالظنّ واتّباع ما ليس بعلم فيه محذور التورّط في مخالفة الواقع في الغالب ، فيكون النهي مفاده الإرشاد إلى عدم حجّيّة الظنّ إلا ما قام الدليل القطعي على اعتباره وحجّيّته شرعا.

فإذا كانت الحجّيّة بمعنى اعتبار الأمارة علما فهذا يعني أنّ مطلقات النهي تدلّ على نفي اعتبارها علما ، فيكون مفادها في رتبة مفاد حجّيّة الأمارة ، وبهذا تصلح لنفي الحجّيّة المشكوكة.

المقدّمة الثانية : بعد أن كانت الحجّيّة للأمارات معناها جعل الأمارة علما بناء على مسلك الطريقيّة والكاشفيّة ، فالآيات الناهية عن العمل بالظنّ قلنا : إنّها إرشاد إلى نفي الحجّيّة عن الأمارة والظنّ المشكوك جعل الحجّيّة لهما ، وهذا معناه أنّها تدلّ على نفي اعتبار الأمارة والظنّ المشكوكين علما ؛ لأنّ إثبات الحجّيّة يعني اعتبار العلميّة فيكون نفي الحجيّة عدم اعتبار العلميّة. وحينئذ فمطلقات النهي وأدلّة جعل الحجيّة للأمارة في رتبة عرضيّة واحدة ؛ لأنّ مطلقات النهي تنفي الحجيّة والعلميّة عن الأمارة والظنّ المشكوكين ، بينما أدلّة حجّيّة الأمارات تثبت الحجّيّة والعلميّة لهما ، ولذلك يقع التعارض بينهما في هذا المورد ويحكم بتساقطهما.

والنتيجة : أنّ هذه الأمارة والظنّ لم تثبت لها الحجّيّة والعلميّة ، والمفروض أنّها من أفراد الظنّ واقعا وتكوينا. وهذا يعني أنّنا نشكّ في أنّ هذا الظنّ التكويني الحقيقي هل خرج عن دائرة إطلاق النهي أو لم يخرج عنها بعد أن علمنا قطعا بأنّه فرد ومصداق لهذا الموضوع؟

وبتعبير آخر : إنّنا نشكّ في وجود الدليل على خروجه عن الإطلاق بالتخصيص أو بالحكومة ، فمع عدم العلم بالمخصّص والحاكم يصحّ التمسّك بالعامّ والمطلق لهذا الفرد والمصداق ؛ إذ لا يعلم خروجه عن دائرته بعد العلم بكونه داخلا واقعا وتكوينا في موضوعه ، فالموضوع محرز ويشكّ في التخصيص المعلوم انتفائه فيتمسّك بالعامّ فيه ؛ لأنّ موضوعه محرز وجدانا وتكوينا. وبالتالي يكون هذا الفرد منهيّا عنه بمعنى أنّه ليس حجّة.

٢٠٥
٢٠٦

مقدار ما يثبت بدليل الحجّيّة

٢٠٧
٢٠٨

مقدار ما يثبت بدليل الحجّيّة

وكلما كان الطريق حجّة ثبت به مدلوله المطابقي ، وأمّا المدلول الالتزامي فيثبت في حالتين وهما : المدلول المطابقي : هو المعنى الذي يدلّ عليه اللفظ ، سواء كان نصّا فيه أو ظاهرا ، كقولنا : ( يجب إكرام العالم ) فإنّ كلمة ( يجب ) نصّ في الوجوب. وقولنا : ( أكرم العالم ) فإنّ صيغة ( أكرم ) ظاهرة في الوجوب ؛ لأنّها صيغة أمر.

وأمّا المدلول الالتزامي : فهو اللازم الذي يفهم من الكلام من دون أن يكون هناك لفظ يدلّ عليه بخصوصه ، من قبيل اللوازم العقليّة والتكوينيّة والشرعيّة ، فقولنا : ( طلع الفجر ) لازمه التكويني ذهاب الليل مثلا. وقولنا : ( تجب صلاة الظهر يوم الجمعة ) لازمه الشرعي عدم وجوب الجمعة. وقولنا : ( تجب الصلاة ) لازمه حرمة تركها وهذا لازم عقلي ، وهكذا.

غير أنّ المدلول المطابقي يثبت سواء كان الطريق والدليل الذي يحكي عنه قطعيّا أو كان ظنّيّا قامت الحجّة عليه ، فالمدلول المطابقي يثبت شرعا إذا كان الدليل حجّة كالظنّ شرعا أو حجّة عقلا كالقطع.

وأمّا المدلول الالتزامي فهو يثبت بدون شكّ ولا ريب في حالتين هما :

أوّلا : فيما إذا كان الدليل قطعيّا.

وثانيا : فيما إذا كان الدليل على الحجيّة يرتّب الحجّيّة على عنوان ينطبق على الدلالة المطابقيّة والدلالة الالتزاميّة على السواء ، كما إذا قام الدليل على حجّيّة عنوان الخبر وقلنا : إنّ كلاّ من الدلالة المطابقيّة والدلالة الالتزاميّة مصداق لهذا العنوان.

الحالة الأولى : أن يكون الدليل قطعيّا كالكتاب والسنّة المتواترة والدليل العقلي

٢٠٩

القطعي ، فإنّه إذا علم وجدانا بشيء يعلم أيضا بلوازمه ؛ لأنّ هذا الأمر إذا كان ثابتا واقعا وتكوينا كالعلم بحياة زيد بعد غيابه سبعين عاما فإنّه يعني أيضا العلم بأنّه كبير وذو لحية بيضاء وأنّه يحرم تقسيم تركته وإلخ ... إلى آخره. فإنّ هذه اللوازم تكون ثابتة وجدانا أيضا تبعا لثبوت ملزومها بالوجدان ، وتكون حجّة على أساس حجّيّة القطع والعلم كالمدلول المطابقي تماما.

الحالة الثانية : أن يكون الدليل ظنّيّا إلا أنّ الدليل الدالّ على حجّيّته يرتّب الحجّيّة على عنوان صالح للانطباق على الدلالتين معا ، كخبر الثقة مثلا. فإنّه دليل ظنّي إلا أنّ الدليل الدالّ على حجّيّته كالأخبار أو السيرة العقلائيّة يفترض أنّها ترتّب الحجّيّة لهذا الخبر لا على خصوص ما يحكي عنه ويؤدّيه ، بل على عنوان هذا الخبر ، أي إخبارات الثقة حجّة كلّها. فهنا إذا أخبرنا الثقة عن بقاء زيد حيّا بعد تلك المدّة الطويلة فهو يخبرنا أيضا عن هرمه وشيخوخته وحرمة تقسيم أمواله وعدم بينونة زوجته ، هكذا. فكانت الدلالتان المطابقيّة والالتزاميّة مصداقين لهذا العنوان أي الإخبار ، فإنّ كلاّ منهما إخبار أيضا.

فيكون المدلول الالتزامي حجّة على أساس كونه داخلا في موضوع الحجّيّة ولا نحتاج إلى مئونة زائدة لإثبات حجّيّته.

والحاصل : أنّه في هاتين الحالتين لا إشكال في ثبوت المدلول الالتزامي وكونه حجّة ، إمّا على أساس حجّيّة القطع ، وإمّا على أساس حجّيّة الدليل الدالّ على حجّيّة هذا العنوان المنطبق على الدلالتين معا.

وأمّا في غير هاتين الحالتين فقد يقع الإشكال ، كما في الظهور العرفي الذي قام الدليل على حجّيّته فإنّه ليس قطعيّا ، كما أنّ دلالته الالتزاميّة ليست ظهورا عرفيّا. فقد يقال : إنّ أمثال دليل حجّيّة الظهور لا تقتضي بنفسها إلا إثبات المدلول المطابقي ما لم تقم قرينة خاصّة على إسراء الحجّيّة إلى الدلالات الالتزاميّة أيضا.

وأمّا إذا كان الدليل ظنّيّا ولم يكن دليل الحجّيّة يرتّب الحجّيّة على عنوان الخبر أو الظهور فهنا يقع الإشكال ، من قبيل الظهور العرفي كظهور صيغة ( افعل ) في الوجوب مثلا. فإنّ هذا الظهور حجّة ؛ لقيام الدليل على حجّيّته والعمل به استنادا إلى أصالة حجّيّة الظهور الثابتة عقلائيّا والممضاة شرعا. ولذلك يقال بأنّ ظهور صيغة الأمر في

٢١٠

الوجوب حجّة ، إلا أنّ المدلول الالتزامي لهذا الظهور العرفي ليس ظهورا عرفيّا ؛ ليكون حجّة أيضا استنادا على أصالة حجّيّة الظهور ، فإنّ المدلول الالتزامي للوجوب وهو حرمة الترك أو لزوم ترك ترك الضدّ ونحوهما من اللوازم العقليّة يدركها العقل بالتحليل والدقّة لا العرف. فهذا المدلول الالتزامي ليس مشمولا لدليل الحجّيّة لا بنفسه ولا بعنوانه ، وليس عرفيّا ليقال بحجّيّته عرفا.

فالنتيجة هي : أنّ مثل هذا المدلول الالتزامي لا يمكن إثباته بحجّيّة الظهور العرفيّة ؛ لأنّها لا تقتضي إلا إثبات المدلول المطابقي فقط لقيام البناء والفهم العرفي عليه ، فتحتاج في إثبات هذا المدلول الالتزامي إلى وجود دليل خاصّ يدلّ على أنّ الحجّيّة ثابتة للمدلول المطابقي والالتزامي معا ، بمعنى سريانها وشمولها للمدلولين. ومع فقد هذا الدليل الخاصّ لا يمكن إثبات هذا المدلول الالتزامي أو على الأقلّ يشكل ذلك.

ولكنّ المعروف بين العلماء التفصيل بين الأمارات والأصول ، فكلّ ما قام دليل على حجّيّته من باب الأماريّة ثبتت به مدلولاته الالتزاميّة أيضا ، ويقال حينئذ : إنّ مثبتاته حجّة. وكلّ ما قام دليل على حجّيّته بوصفه أصلا عمليّا فلا تكون مثبتاته حجّة ، بل لا يتعدّى فيه من إثبات المدلول المطابقي إلا إذا قامت قرينة خاصّة في دليل الحجّيّة على ذلك.

المشهور بين الأصوليّين هو التفصيل بين الأمارات والأصول ، فقالوا : إنّ كلّ ما قام الدليل على حجّيّته من باب كونه أمارة فيكون حجّة في مدلوله المطابقي والالتزامي معا ، ولذلك يقال : إنّ مثبتات الأمارة حجّة أي أنّ لوازمها حجّة ، وأما ما قام الدليل على حجّيّته بوصفه أصلا عمليّا فهو حجّة في مدلوله المطابقي فقط. وأمّا مدلولاته الالتزاميّة فلا يثبت بنفس دليل الحجّيّة ، وإنّما تحتاج في إثباتها إلى دليل خاصّ أو قرينة في المقام تدلّ على إثباتها أيضا.

وقد فسّر المحقّق النائيني ذلك ـ على ما تبنّاه من مسلك جعل الطريقيّة في الأمارات ـ بأنّ دليل الحجّيّة يجعل الأمارة علما فيترتّب على ذلك كلّ آثار العلم. ومن الواضح أنّ من شئون العلم بشيء العلم بلوازمه. ولكنّ أدلّة الحجّيّة في باب الأصول ليس مفادها إلا التعبّد بالجري العملي على وفق الأصل ، فيتحدّد الجري بمقدار مؤدّى الأصل ، ولا يشمل الجري العملي على طبق اللوازم إلا مع قيام قرينة.

٢١١

عمّق المحقّق النائيني تفصيل المشهور وذلك بناء على مسلكه من جعل الطريقيّة والعلميّة والكاشفيّة في باب الأمارات ؛ لأنّ دليل حجّيّة الأمارة يجعل الأمارة علما بلحاظ الكاشفيّة والطريقيّة إلى الواقع فيكون متمّما لهذه الكاشفيّة الناقصة في الأمارات. وعليه ، فدليل حجّيّة الأمارة يتمّم كشفها عن الواقع فتصبح علما تعبّديّا ، ولذلك فإنّ كلّ آثار العلم وخصائصه ولوازمه تترتّب على الأمارة والتي من جملتها ثبوت اللوازم ، فمثبتات الأمارة على القاعدة ولا تحتاج في إثباتها إلى قرينة خاصّة ودليل مستقلّ. فخبر الثقة مثلا عند جعل الحجيّة له يصبح علما وكاشفا تامّا عن الواقع فلا فرق بينه وبين العلم الوجداني من حيثيّة الكشف التامّ ، غاية الأمر أنّ العلم الوجداني كاشف تامّ بنفسه ، بينما خبر الثقة كاشف تامّ بجعل الشارع الحجّيّة له ، ومن الواضح أنّه إذا ثبت العلم والكشف التامّ عن الواقع فتترتّب كلّ اللوازم الثابتة لهذا الواقع المكشوف ؛ لأنّ العلم بشيء علم بلوازمه أيضا على القاعدة.

وأمّا دليل الحجّيّة في باب الأصول العمليّة فهو يجعل الأصول حجّة بلحاظ الجري العملي أو التنجيز والتعذير ، فالمجعول هو تحديد الموقف العملي والوظيفة العمليّة اتّجاه هذا الواقع المشكوك ، وليس هناك أي كشف عن الواقع ليكون دليل الحجّيّة هنا متمّما لهذا الكشف الناقص ، وعليه فيكون المقدار الثابت بجعل الحجّيّة للأصول هو المدلول المطابقي وما يحكي عنه الأصل ويؤدّي إليه وهو الجري العملي والتنجيز والتعذير. وأمّا اللوازم المترتّبة على ثبوت الشيء واقعا فهي تحتاج إلى دليل خاصّ مستقلّ أو إلى قرينة في دليل الحجّيّة ؛ لأنّ الجري العملي على طبق شيء وكونه منجّزا أو معذّرا لا يلازم ثبوت هذا الشيء واقعا لكي تترتّب كلّ آثار ولوازم الواقع عليه ، ولذلك نحتاج في إثبات هذه اللوازم إلى دليل خاصّ أو قرينة في دليل الحجّيّة.

فالبراءة أو الاحتياط أو الاستصحاب مؤدّاها التعبّد بالمنجّزيّة في الاحتياط وبالمعذّريّة في البراءة والجري العملي في الاستصحاب على طبق الحالة السابقة ، وهذا يعني أنّ دليل الحجّيّة يجعل هذا المؤدّى حجّة فقط من دون نظر إلى الواقع أصلا ، وإنّما النظر إلى حالة الشكّ والحيرة ، ولذلك فهو يحدّد الموقف والوظيفة في هذا الفرض المذكور. ولا نظر في دليل الحجّيّة إلى الواقع ؛ ليقال : إنّ التعبّد بالجري العملي تعبّد بالواقع وبالتالي تترتّب عليه ثبوت اللوازم ، بل تحتاج إلى دليل أو قرينة في المقام.

٢١٢

واعترض السيّد الأستاذ على ذلك بأنّ دليل الحجّيّة في باب الأمارات وإن كان يجعل الأمارة علما ولكنّه علم تعبّدي جعلي ، والعلم الجعلي يتقدّر بمقدار الجعل. فدعوى أنّ العلم بالمؤدّى يستدعي العلم بلوازمه إنّما تصدق على العلم الوجداني لا العلم الجعلي.

اعترض السيّد الخوئي على ما ذكره المحقّق النائيني من التفصيل بين الأمارات والأصول وكون اللوازم حجّة للأمارات دون الأصول ، بأنّ أساس التفرقة غير صحيح فإنّه أنكر أن يكون المجعول في الأصول خصوصا الاستصحاب الجري العملي ، بل المجعول فيه أيضا الطريقيّة ، فلا فرق بين الأمارات والاستصحاب إذا من جهة ثبوت اللوازم ، هذا أوّلا.

وثانيا : لو قلنا بأنّ المجعول في باب الأمارات الطريقيّة والعلميّة دون الأصول إلا أنّ هذا لا يقتضي ثبوت اللوازم ؛ وذلك لأنّ هذا العلم المجعول للأمارات ليس علما حقيقيّا وجدانيّا ؛ وإنّما هو علم تعبّدي جعلي. والعلم الجعلي تعبّد من الشارع وحكم له حدود تتقدّر بمقدار ما يجعله الشارع سعة أو ضيقا.

وحينئذ نقول : إنّ هذه الملازمة المدّعاة بأنّ العلم بشيء علم بلوازمه إنّما تصدق في العلم الوجداني الحقيقي ، فإنّ العلم بالملزوم كحياة زيد والعلم بوجود ملازمة بين ثبوت الملزوم واقعا وثبوت لوازمه ينتج لنا العلم بثبوت اللوازم واقعا كنبات لحيته أو هرمه.

وأمّا العلم التعبّدي الجعلي فإنّ هذه الملازمة غير متحقّقة ؛ لأنّه يشترط في صدقها وتحقّقها الالتفات والنظر إليها والعلم بها ، وهذا لا يعلم ولا يحرز من جعل دليل الحجّيّة للأمارات ؛ لأنّ العلم والتعبّد بثبوت الملزوم لا يكفي للعلم بثبوت اللوازم ؛ لأنّ اللوازم متوقّفة على العلم بالملازمة والالتفات إليها وأخذها في لسان التعبّد. وعليه فنحتاج إلى وجود قرينة أو دليل يدلّ على أنّ الشارع قد التفت إلى هذه الملازمة وأخذها بعين الاعتبار عند جعله الحجّيّة.

وبتعبير آخر : إنّ الملازمة المذكورة بين ثبوت الملزوم وثبوت اللوازم إنّما تتمّ وتصدق في العلم الوجداني الحقيقي ؛ لأنّ ثبوت الملزوم واقعا وحقيقة يترتّب عليه اللوازم واقعا وحقيقة.

٢١٣

وأمّا في العلم التعبّدي الجعلي فإنّ هذه الملازمة لا يعلم بثبوتها بمجرّد جعل الأمارة علما ؛ لأنّ جعلها علما إنّما هو بلحاظ الملزوم والمؤدّى والتعبّد بثبوته ، فهو ثابت تعبّدا لا حقيقة ووجدانا ولذا قد لا يكون موجودا في الواقع أصلا ، وعليه فترتّب اللوازم على الملزوم المعلوم تعبّدا لا بدّ فيه من نظر الشارع والجاعل إلى هذه الملازمة والتعبّد بها أيضا ، وإلا فإنّه يمكن التفكيك بين ثبوت الملزوم تعبّدا وعدم ثبوت اللازم تعبّدا أيضا ؛ لأنّ التعبّد والجعل بيد الشارع والجاعل وهو يحدّده بالمقدار الذي يريده سعة وضيقا ؛ لأنّ الجعل بيده.

ومن هنا ذهب إلى أنّ الأصل في الأمارات أيضا عدم حجّيّة مثبتاتها ومدلولاتها الالتزاميّة ، وأنّ مجرّد جعل شيء حجّة من باب الأماريّة لا يكفي لإثبات حجّيّته في المدلول الالتزامي.

والنتيجة التي ينتهي إليها السيّد الخوئي هي : أنّ الأمارات والأصول علي حدّ سواء ، بمعنى أنّ الأصل والقاعدة الأوّليّة فيهما أنّ اللوازم غير حجّة وليست ثابتة ، بل تحتاج إلى قرينة أو دليل مستقلّ. فالأمارات كالأصول في عدم حجّيّة مثبتاتها ولوازمها. ومجرّد جعل شيء حجّة من باب كونه أمارة لا يكفي لإثبات حجّيّة اللوازم والدلالات الالتزاميّة ؛ لأنّ جعل الحجّيّة يتحدّد بالمقدار الذي يجعله الشارع سعة وضيقا ، فلا بدّ من النظر إلى دليل التعبّد لنرى هل يمكننا استظهار أنّ اللوازم حجّة أم لا؟

نعم ، في باب الأمارات التي لسانها الإخبار تكون اللوازم حجّة كالإقرار والبيّنة وخبر العادل ، فما يصدق عليه عنوان الإخبار والحكاية عن الواقع يكون العلم فيه علما بلوازمه أيضا ، والدليل على ذلك هو السيرة القطعيّة الممضاة (١).

والصحيح ما عليه المشهور من أنّ دليل الحجّيّة في باب الأمارات يقتضي حجّيّة

__________________

(١) وهكذا التزم السيّد الخوئي بعدم حجّيّة مثبتات الأمارة إلا ما قام الدليل عليه ؛ كالسيرة العقلائيّة القائمة على حجّيّة لوازم ما يكون إخبارا عن الواقع وحكاية عنه كخبر العادل ونحوه.

وكان الأولى أن لا يلتزم بالمبنى أصلا ، بدلا من الالتزام به والخروج عمّا هو متعارف عقلائيّا ومشهور أصوليّا من حجّيّة لوازم الأمارات ، فيكون هذا المبنى فاسدا ؛ لأنّه يلزم منه هذا المحذور وهو عدم حجيّة الأمارات ، لا أنّنا نتمسّك به وننفي الحجّيّة عن الأمارات.

٢١٤

الأمارة في مدلولاتها الالتزاميّة أيضا ، ولكن ليس ذلك على أساس ما ذكره المحقّق النائيني من تفسير.

الصحيح هو التفصيل بين الأمارات والأصول فنقول ما قاله المشهور : إنّ كلّ دليل كانت حجّيّته من باب كونه أمارة فلوازمه حجّة ، وكلّ ما قام عليه الدليل من باب كونه أصلا عمليّا لتحديد الوظيفة العمليّة فلوازمه ليست حجّة.

وهذا التفصيل ليست نكتته ما ذكره المحقّق النائيني من تفسير ، وإنّما هناك نكتة أخرى لهذا التفسير تستند إلى المنهج الصحيح في التفرقة بين الأمارات والأصول ، خلافا للمبنى الذي سلكه الميرزا.

فإنّه فسّر ذلك بنحو يتناسب مع مبناه في التمييز بين الأمارات والأصول ، وقد مرّ بنا سابقا (١) أنّه ـ قدّس الله روحه ـ يميّز بين الأمارات والأصول بنوع المجعول والمنشأ في حجّيّتها ، فضابط الأمارة عنده كون مفاد دليل حجّيّتها جعل الطريقيّة والعلميّة ، وضابط الأصل كون دليله خاليا من هذا المفاد ، وعلى هذا الأساس أراد أن يفسّر حجّيّة مثبتات الأمارات بنفس النكتة التي تميّزها عنده عن الأصول ، أي نكتة جعل الطريقيّة.

التفسير الذي ذكره الميرزا يتناسب مع مسلكه في باب التمييز بين الأمارات والأصول ، فإنّه كما تقدّم في باب الحكم الظاهري يميّز بين الأمارات والأصول على أساس ما هو المجعول في كلّ منهما ، فإن كان المجعول في دليل الحجّيّة الطريقيّة والعلميّة والكاشفيّة فهو أمارة ، وإن كان المجعول في دليل الحجّيّة تحديد الوظيفة والموقف العملي فقط كان أصلا عمليّا.

وعلى أساس هذا التمييز بينهما أراد أن يفسّر أيضا كيف أنّ مثبتات الأمارة حجّة دون مثبتات الأصل العملي. فقال : إنّ دليل حجّيّة الأمارة معناه جعلها علما ، ولوازم العلم حجّة ؛ لأنّ العلم بشيء علم بلوازمه ، بينما مثبتات الأصل ليست حجّة ؛ لأنّ دليل حجّيّته ناظر إلى الجري العملي فقط وهو يتحدّد ويتقدّر بالمقدار الذي يراه الشارع ، وهو الموقف والوظيفة من دون نظر إلى الواقع وإلى الكاشفيّة أصلا ، فمثبتات الأصل ليس حجّة.

__________________

(١) تحت عنوان : الأمارات والأصول.

٢١٥

فالنكتة التي ميّز على أساسها بين الأمارات والأصول جعلها أيضا هي النكتة في تفسير أنّ الأمارة حجّة دون الأصل ، أي نكتة جعل الطريقيّة والعلميّة في الأمارة دون الأصل.

مع أنّنا عرفنا سابقا (١) أنّ هذا ليس جوهر الفرق بين الأمارات والأصول ، وإنّما هو فرق في مقام الصياغة والإنشاء ، ويكون تعبيرا عن فرق جوهري أعمق.

والمبنى الذي ذكره الميرزا سواء في تمييز الأمارات عن الأصول أو في إبراز النكتة لحجّيّة لازم الأمارات دون الأصول تقدّم سابقا أنّه غير صحيح ، بمعنى أنّ الفارق بين الأمارات والأصول ليس في عالم الإثبات والدلالة والصياغة ليقال بأنّ المجعول إن كان الطريقيّة فهو أمارة وإن كان الوظيفة فهو أصل ، وإنّما الفارق بينهما ثبوتي وجوهري أعمق من هذا الفارق في عالم الصياغة والإنشاء ، نعم الفارق المذكور يكشف عن فارق جوهري عميق بينهما لا أنّه هو الفارق بينهما ، إذ هو مجرّد صياغة اعتباريّة وهي سهلة المئونة. وهذا الفارق الجوهري هو :

وهو أنّ جعل الحكم الظاهري على طبق الأمارة بملاك الأهميّة الناشئة عن قوّة الاحتمال ، وجعل الحكم الظاهري على طبق الأصل بملاك الأهميّة الناشئة من قوّة المحتمل ، فكلّما جعل الشارع شيئا حجّة بملاك الأهمّيّة الناشئة من قوّة الاحتمال كان أمارة ، سواء كان جعله حجّة بلسان أنّه علم أو بلسان الأمر بالجري على وفقه.

والفارق الجوهري العميق بين الأمارات والأصول ما تقدّم سابقا : من أنّ الحكم الظاهري يجعله الشارع في مقام التزاحم الحفظي بين الملاكات الواقعيّة في صورة الاشتباه والشكّ وعدم التمييز. وهناك إن كانت الملاكات الإلزاميّة هي الأهمّ أصدر حكما ظاهريّا بالتوقّف والاحتياط ، ولو كانت الملاكات الترخيصيّة هي الأهمّ أصدر ترخيصا وإباحة. وهذه الأهمّيّة التي يلحظها الشارع تارة تكون بلحاظ قوّة الاحتمال الكاشف فيكون هذا الحكم الظاهري أساسا ، وأخرى يكون بلحاظ قوّة المحتمل والمنكشف فيكون أصلا عمليّا ، وثالثة يكون بلحاظ قوّة الاحتمال والمحتمل معا فهو أصل تنزيلي أو محرز.

__________________

(١) تحت عنوان : الأمارات والأصول.

٢١٦

فالفارق إذا بين الأمارات والأصول ثبوتي في عالم الواقع ، فكلّ ما ثبت ترجيحه وأهمّيّته بلحاظ قوّة الاحتمال فهو أمارة ، سواء كان لسان جعله في عالم الإثبات والصياغة جعل الطريقيّة والعلميّة أو جعل الجري العملي ؛ لأنّ ذلك مجرّد صياغة اعتباريّة سهلة المئونة. وهكذا بالنسبة للأصول ، فحينئذ نقول :

وإذا اتّضحت النكتة الحقيقيّة التي تميّز الأمارة أمكننا أن نستنتج أنّ مثبتاتها ومدلولاتها الالتزاميّة حجّة على القاعدة ؛ لأنّ ملاك الحجّيّة فيها حيثيّة الكشف التكويني في الأمارة الموجبة لتعيين الأهميّة وفقا لها ، وهذه الحيثيّة نسبتها إلى المدلول المطابقي والمداليل الالتزاميّة نسبة واحدة ، فلا يمكن التفكيك بين المداليل في الحجّيّة ما دامت الحيثيّة المذكورة هي تمام الملاك في جعل الحجّيّة كما هو معنى الأماريّة.

وعلى أساس هذا الفارق الجوهري بين الأمارات والأصول نقول : إنّ مثبتات الأمارة ولوازمها حجّة على القاعدة ولا تحتاج في إثباتها إلى دليل مستقلّ أو قرينة خاصّة ؛ وذلك لأنّ ملاك الحجّيّة في الأمارة هي حيثيّة الكشف التكويني عن الواقع الثابت في الأمارة والذي على أساسه كانت هي الأهمّ بنظر الشارع ، فإنّ خبر الثقة مثلا فيه حيثيّة كاشفة ولذلك كان ترجيحه بلحاظ قوّة هذا الاحتمال الكاشف عن الواقع من دون دخالة لنوعيّة المحتمل ، فإنّه تارة يقوم على الإلزام وأخرى على الترخيص ، فالملاحظ هو حيثيّة الكشف التكويني بمعنى كونها تمام الملاك في جعل الحجّيّة له. وهذه الحيثيّة الكاشفة والتي هي تمام الملاك نسبتها إلى المدلول المطابقي والذي هو مؤدّى الأمارة ونسبتها إلى المداليل الالتزاميّة العقليّة والتكوينيّة والشرعيّة على حدّ واحد ؛ لأنّ درجة الكشف في خبر الثقة كما أنّها تكشف كشفا ناقصا عن المدلول المطابقي ، فهي أيضا تكشف بهذه الدرجة عن المداليل الالتزاميّة ، ولذلك كان جعل الحيثيّة معناه أنّ ما تكشف عنه حجّة سواء المطابقي والالتزامي ، ولا معنى للتفكيك بين المدلول المطابقي وبين المداليل الالتزاميّة في الحجّيّة وعدمها ؛ لأنّ هذا معناه التفكيك بين شيئين مع وحدة الملاك والحيثيّة الكاشفة فيهما ، وهذا يحتاج إلى دليل خاصّ ؛ لأنّ العلّة الموجبة للترجيح والأهميّة وبالتالي لجعل الحجّيّة موجودة في المدلولين معا ، فاللازم هو حجّيّتهما معا ، ويكون التفكيك فيهما على خلاف القاعدة والأصل ويحتاج إلى دليل.

٢١٧

وهذا بخلاف الأصول العمليّة ، فإنّ الحيثيّة التي أوجبت الترجيح والأهمّيّة فيها إنّما هي قوّة المحتمل والمنكشف ، فالبراءة والاحتياط كان الترجيح فيهما بلحاظ نوع الحكم والمؤدّى ، وهو الترخيص دائما في البراءة والتنجيز دائما في الاحتياط ؛ بقطع النظر عن وجود احتمال كاشف أو عدم وجوده ، فإنّ تمام الملاك فيهما كان الترجيح بملاك أهمّيّة المحتمل ، وهذا الملاك محرز بالنسبة للمدلول المطابقي وهو الترخيص في البراءة.

وأمّا المداليل الالتزاميّة للبراءة فلا يحرز وجود هذا الملاك فيها ، ولذلك كان ثبوتها يحتاج إلى دليل خاصّ وقرينة في لسان دليل الحجّيّة.

وهكذا بالنسبة للأصول العمليّة المحرزة كالاستصحاب والفراغ ، فإنّ الملحوظ فيهما قوّة الاحتمال والمحتمل معا ، إلا أنّ جزء الملاك والعلّة كان الترجيح بقوّة المحتمل ، وهذا لا يعلم ولا يحرز وجوده بالنسبة للمداليل الالتزاميّة ، وهذا كاف في عدم حجّيّة اللوازم والمثبتات وإن كان الترجيح بقوّة الاحتمال موجودا ومحرزا ؛ لأنّه يكفي في عدم العلّة عدم جزء منها فقط.

والنتيجة هي :

وهذا يعني أنّا كلّما استظهرنا الأماريّة من دليل الحجّيّة كفى ذلك في البناء على حجّيّة مثبتاتها بلا حاجة إلى قرينة خاصّة.

والنتيجة هي أنّنا إذا استظهرنا من دليل الحجّيّة الأماريّة كان ذلك كافيا في كون مثبتاتها حجّة من دون أن نحتاج إلى إثبات حجّيّتها بدليل خاصّ. وإذا استظهرنا من الدليل الأصل العملي كان معناه أنّ المثبتات

ليست حجّة على القاعدة ونحتاج إلى دليل خاصّ لإثبات حجّيّتها.

والسرّ في ذلك هو حيثيّة الكشف عن الواقع الموجودة في الأمارة دون الأصل.

٢١٨

تبعيّة الدلالة

الالتزاميّة للدلالة المطابقيّة

٢١٩
٢٢٠