شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

احترازيّة القيود

وقرينة الحكمة

٤٤١
٤٤٢

احترازيّة القيود وقرينة الحكمة

قد يقول المولى : ( أكرم الفقير العادل ) ، وقد يقول : ( أكرم الفقير ) ، ففي الحالة الأولى يكون موضوع الحكم في مرحلة المدلول التصوّري للكلام حصّة خاصّة من الفقير ، أي الفقير العادل. وبحكم الدلالة التصديقيّة الأولى نثبت أنّ المتكلّم قد استعمل الكلام لإخطار صورة حكم متعلّق بالحصّة الخاصّة ، وبحكم الدلالة التصديقيّة الثانية نثبت أنّ المولى جادّ في هذا الكلام ، بمعنى أنّ هذا الحكم مجعول وثابت في نفسه حقيقة وليس هازلا.

تقدّم في الحلقة السابقة أنّ هناك ثلاث دلالات للكلام :

الأولى : مرحلة الدلالة التصوّريّة ، وهي الصورة الذهنيّة التي تخطر في الذهن عند وجود اللفظ مطلقا.

الثانية : مرحلة الدلالة الاستعماليّة أو التصديقيّة الأولى ، وهي أنّ المتكلّم قد أراد استعمال اللفظ في هذا المعنى أي في الصورة الذهنيّة التي أخطرها اللفظ في الذهن.

الثالثة : مرحلة الدلالة الجدّيّة أو التصديقيّة الثانية ، وهي أنّ المتكلّم أراد جدّا إخطار هذا المعنى في الذهن ، فهو مراد له جدّا لا هزلا أو تقيّة.

والأصل هو أن تتطابق هذه الدلالات الثلاث فيما بينها فما يخطره في الذهن فيكون مراده استعمالا وجدّا ، إلا إذا نصب قرينة على خلاف ذلك.

بعد ذلك نقول : إنّ المتكلّم أو الشارع عند ما يتصوّر موضوع حكمه إمّا أن يتصوّره مطلقا ، أو يتصوّره مقيّدا ؛ لما تقدّم سابقا من أنّ الإطلاق والتقييد الثبوتيين متقابلان تقابل النقيضين. ولذلك تارة يقول الشارع : ( أكرم الفقير العادل ) ، وأخرى يقول : ( أكرم الفقير ).

ففي الحالة الأولى : كان موضوع الحكم مركّبا من مفهومين مندمجين معا يؤلّفان

٤٤٣

مفهوما واحدا هو الفقير العادل أي الحصّة الخاصّة من الفقير لا الفقير مطلقا الشامل للعادل وغيره. فليس موضوع الحكم هو الفقير بما هو هو ، بل الفقير مع خصوصيّة أخرى زائدة توجب تحصيصه.

وهذه الحصّة الخاصّة من الفقير أي الفقير العادل هي موضوع الحكم في مرحلة المدلول التصوّري ؛ وذلك لأنّ الصورة الذهنيّة التي ترتسم عند سماع هذا اللفظ ( الفقير العادل ) إنّما هي الحصّة الخاصّة لا مطلق الفقير.

وعلى أساس التطابق بين الدلالات الثلاث نثبت أنّ المتكلّم قد استعمل كلامه لإخطار هذه الصورة الذهنيّة الخاصّة ، فهو قصد هذا الإخطار استعمالا. فالمتكلّم أخطر واستعمل قاصدا أن يرتسم في الذهن صورة الحكم الذي موضوعه هو الحصّة الخاصّة.

وأيضا نثبت أنّ المتكلّم قد أراد جدّا هذه الحصّة الخاصّة التي أخطرها واستعملها ، فهو جادّ في كلامه وليس هازلا أو في التقيّة ، فيكون مراده الجدّي هو الحكم على الحصّة الخاصّة من الفقير لا مطلق الفقير.

وبحكم ظهور الحال في التطابق بين الدلالة التصديقيّة الأولى والدلالة التصديقيّة الثانية يثبت أنّ الحكم الجدّي المدلول للدلالة التصديقيّة الثانية متعلّق بالحصّة الخاصّة ، كما هو كذلك في الدلالة التصديقيّة الأولى.

والمنشأ للتطابق بين الدلالتين التصديقيّتين الأولى والثانية هو ظهور حال المتكلّم في أنّه يريد جدّا ما قصد استعماله وإخطاره على أساس حالة التطابق بين الدلالات كما تقدّم.

فكما أنّ الدلالة التصديقيّة الأولى أي الاستعماليّة كان منشأ ثبوتها أصالة التطابق بينها وبين الدلالة التصوّريّة التي هي المدلول الوضعي للكلام ، فكذلك الحال بالنسبة للدلالتين التصديقيّة الأولى والثانية.

وبهذا الطريق نستكشف من أخذ قيد العدالة في المثال ، أو أيّ قيد من هذا القبيل في مرحلة المدلول التصوّري والتصديقي الأوّلي كونه قيدا في موضوع ذلك الحكم المدلول عليه بالخطاب جدّا ، وذلك ما يسمّى بقاعدة احترازيّة القيود.

وعن طريق أصالة التطابق بين الدلالات الثلاث نستطيع أن نثبت أنّ ذكر قيد

٤٤٤

العدالة في موضوع الحكم ( أكرم الفقير العادل ) أو أي قيد آخر ، أنّ هذا القيد داخل في موضوع الحكم بنحو الجدّية ، وأنّه موجود ثبوتا في نفس الشارع أو المتكلّم ؛ وذلك لأنّ هذا القيد قد أخذ في الصورة الذهنيّة التي تكوّن المدلول التصوّري الوضعي ، وقد استعمل المتكلّم هذا القيد قاصدا إخطاره في الذهن ، وبالتالي فهو يريده جدّا لا هزلا أو تقيّة.

والحاصل : أنّ ذكر القيد إثباتا يدلّ ويكشف عن وجود القيد ودخالته في الموضوع ثبوتا أيضا على أساس أصالة التطابق بين عالم الإثبات وعالم الثبوت.

وهذا ما يسمّى بقاعدة احترازيّة القيود ، التي معناها أنّ كلّ قيد يذكر فهو لأجل الاحتراز والاجتناب عن دخول الأفراد الفاقدة للقيد في موضوع الحكم ، فيتجنّب من شمول الحكم لغير الواجد للقيد ويتحرّز عن ذلك ، فيكون الحكم منتفيا عن الفاقد للقيد.

ومرجع ظهور التطابق الذي يبرّر هذه القاعدة إلى ظاهر حال المتكلّم أنّ كلّ ما يقوله يريده جدّا ، والدلالة التصوّريّة والدلالة التصديقيّة الأولى بمجموعهما يكوّنان الصغرى لهذا الظهور ، إذ يثبتان ما يقوله المتكلّم فتنطبق حينئذ الكبرى التي هي مدلول لظهور التطابق المذكور.

وقاعدة احترازيّة القيود مرجعها إلى أصالة التطابق بين المدلولين التصوّري والتصديقي الأوّل من جهة وبين المدلول التصديقي الثاني من جهة ثانية.

وهذا التطابق مرجعه أيضا ظهور حال المتكلّم بأنّ كلّ ما يقوله ويذكره في كلامه ويخطره في ذهن السامع تصوّرا واستعمالا فهو يريده جدّا ؛ لأنّه إذا لم يكن مرادا له جدّا ومع ذلك ذكره تصوّرا واستعمالا فيكون بذلك خارقا ومخالفا لأصالة التطابق بين الدلالات الثلاث من دون أن ينصب قرينة على ذلك ، فيكون قد أخطر واستعمل صورة لا يريدها جدّا ، وهذا قبيح عرفا وعلى خلاف المتعارف عند أهل اللغة والمحاورات ، وخلف كونه في مقام البيان لمراده الجدّي بكلامه.

وهذا الظهور ( كلّ ما يقوله يريده جدّا ) يتألّف من صغرى وكبرى.

أمّا الصغرى فهي أنّ هذا ما قاله ، وأمّا الكبرى فهي كلّ ما يقوله يريده جدّا. فلا بد إذا من إحراز الصغرى لكي تنطبق عليها الكبرى وتتحقّق القاعدة والظهور. وحينئذ

٤٤٥

نقول : إنّ الدلالتين التصوريّة والتصديقيّة الأولى يحقّقان بمجموعهما الصغرى ؛ لأنّ ما قاله يثبت من خلال ذكر ما يدلّ على الصورة الذهنيّة واستعماله بقصد إخطار هذه الصورة في الذهن.

فاللفظ يدلّ على الصورة الذهنيّة واستعماله بمعناه التصوّري يدلّ على قصد إخطاره في الذهن ، ومجموعهما يكوّن أنّ هذا ما قاله.

وحينئذ تطبّق الكبرى ( ما يقوله يريده ) لإثبات أنّ هذا هو مراده الجدّي على أساس التطابق بين الدلالات الثلاث.

وقاعدة الاحترازيّة التي تقوم على أساس هذا الظهور تقتضي انتفاء الحكم بانتفاء القيد ، إلا أنّها إنّما تنفي شخص الحكم المدلول لذلك الخطاب ، ولا تنفي أي حكم آخر من قبيله ، وبهذا اختلفت عن المفهوم في موارد ثبوته حيث يقتضي انتفاء طبيعي الحكم وسنخه بانتفاء الشرط ، على ما تقدّم في الحلقة السابقة (١).

ثمّ إنّ قاعدة احترازيّة القيود ـ التي أساسها أصالة التطابق الذي مرجعه إلى ظهور حال المتكلّم في أنّه كلّ ما يقوله فهو يريده جدّا ـ تقتضي انتفاء الحكم بانتفاء القيد.

فإذا قيل : ( أكرم الفقير العادل ) ووجد في الخارج فقير غير عادل فلا يجب إكرامه ؛ لأنّ ذكر القيد في الكلام إثباتا يدلّ على أنّ له مدخليّة في ثبوت الحكم ، فمع عدمه ينتفي الحكم.

إلا أنّ نفي الحكم عن الفاقد للقيد والوصف لا على أساس أنّ للجملة مفهوما ، فإنّ المشهور هو عدم ثبوت المفهوم للجملة الوصفية كما سيأتي ، وإنّما ينتفي الحكم على أساس ذاك الظهور ، وهو لا يقتضي أكثر من انتفاء الحكم عند فقدان الوصف ، ولكنّه لا يمنع من ثبوت الحكم بوصف آخر لهذا الفرد الفاقد للقيد يكون مشابها لهذا الحكم.

وعليه ، فيكون المنتفي بقاعدة الاحترازيّة هو شخص الحكم الذي كان موضوعا مقيدا بهذا القيد عن الفرد الفاقد للقيد ، وليس المنتفي هو كلّي وطبيعي الحكم عن الفرد الفاقد للقيد في كلّ الأحوال وعلى الإطلاق.

وبهذا اختلفت القاعدة عن موارد المفهوم في حالات ثبوته كما في جمل الغاية

__________________

(١) في بحث المفاهيم ، تحت عنوان : تعريف المفهوم.

٤٤٦

والحصر. فإذا قيل مثلا : ( لا تكرم إلا العالم ) أو ( إنّما يجب إكرام العالم ) دلّ ذلك على انتفاء طبيعي وكلّي وجوب الإكرام عن غير العالم ، كما سيأتي.

وأمّا هنا فلا ينتفي في قولنا : ( أكرم الفقير العادل ) إلا شخص وجوب الإكرام عن الفقير غير العادل ، ولكن قد يثبت وجوب الإكرام للفقير بطريق آخر غير العدالة ، كأن يكون عالما مثلا ويأتي دليل يدلّ على وجوب إكرام العالم مطلقا ، سواء الفقير وغيره وسواء العادل وغيره.

وأمّا في الحالة الثانية فقد أنيط الحكم في مرحلة المدلول التصوّري بذات الفقير ، وقد تقدّم أنّ مدلول اسم الجنس لا يدخل فيه التقييد ولا الإطلاق ، والدلالة التصديقيّة الأوّليّة إنّما تنطبق على ذلك بمقتضى التطابق بينها وبين الدلالة التصوريّة للكلام.

وبهذا ينتج أنّ المتكلّم قد أفاد بقوله ثبوت الحكم للفقير ، ولم يفد دخل قيد العدالة في الحكم ولم يقل ذلك ، لا أنّه أفاد الإطلاق وقال به ؛ لأنّ صدق ذلك يتوقّف على أن يكون الإطلاق دخيلا في مدلول اللفظ وضعا ، وقد عرفت عدمه.

وأمّا في الحالة الثانية : أي إذا قال الشارع : ( أكرم الفقير ) ، فقد تقدّم سابقا أنّ اسم الجنس موضوع للدلالة على الماهيّة بما هي هي من دون مدخليّة للتقييد والإطلاق فيها ، فالتقييد والإطلاق ليسا داخلين في الدلالة الوضعيّة لاسم الجنس. ولذلك فالحكم هنا معلّق ومنصبّ على الفقير ذاته من دون مدخليّة لوصف الإطلاق أو التقييد ، مع كونه صالحا للانطباق عليهما.

وحينئذ نقول : إنّ المدلول الوضعي لاسم الجنس ـ والذي هو ذات الفقير ـ هو المدلول تصوّرا ـ لأنّ الدلالة التصوّريّة هي الصورة الذهنيّة التي يدلّ عليها اللفظ واسم الجنس ـ لا يدلّ على أكثر من الماهيّة ذاتها ، وعلى أساس أصالة التطابق بين المدلولين التصوّري والتصديقي الأوّل نثبت أنّ المتكلّم قد قصد استعمال اللفظ في الصورة الذهنيّة التي يدلّ عليها وضعا وتصوّرا. فيكون المراد الاستعمالي هو ذات الفقير أيضا مجرّدة عن التقييد والإطلاق.

فينتج من ذلك أنّ الحكم ثابت على الفقير بذاته ؛ لأنّ المتكلّم قد أفاد ذلك من الكلام الذي قاله ، ولم يثبت أنّه أفاد التقييد وأنّ العدالة دخيلة في الحكم ؛ لأنّه لم يقل

٤٤٧

ولم يذكر قيد العدالة في اللفظ. وهذا معناه أنّ لفظ العدالة لم يكن دخيلا في الصورة الذهنيّة التي قد أخطرها واستعمل اللفظ بها.

وكذلك لا يثبت أنّه أفاد الإطلاق أيضا ؛ لأنّه لم يذكر ما يدلّ عليه لفظا ، والإطلاق ليس دخيلا في المعنى الموضوع له اسم الجنس أيضا ؛ ليقال : إنّ ذكر اسم الجنس يتضمّن الدلالة على الإطلاق ؛ لأنّ هذا القول مبنيّ على أن يكون الإطلاق جزءا من المعنى الموضوع له اسم الجنس ، وهو مقالة المتقدّمين التي تقدّم سابقا بطلانها.

والحاصل : أنّ المفاد هنا هو كون الحكم ثابتا على ذات الفقير ، من دون أن يكون قد أفاد التقييد أو الإطلاق في كلامه. نعم ، اللفظ صالح للانطباق عليهما معا كما تقدّم.

يبقى أن نثبت المراد الجدّي لهذا المتكلّم ؛ لأنّ المراد الجدّي إمّا أن يكون الإطلاق أو يكون التقييد. ولذلك نقول :

فقصارى ما يمكن تقريره أنّه لم يذكر القيد ولم يقله. وهذا يحقّق صغرى لظهور حالي سياقي ، وهو ظهور حال المتكلّم في أنّه في مقام بيان موضوع حكمه الجدّي بالكامل ، وهو يستتبع ظهور حاله في أنّ ما لا يقوله من القيود لا يريده في موضوع حكمه. وبذلك نثبت أنّ قيد العدالة غير مأخوذ في موضوع الحكم في الحالة الثانية ، وهو معنى الإطلاق ، وهذا ما يسمّى بقرينة الحكمة أو ( مقدّمات الحكمة ).

وأمّا المراد الجدّي للمتكلّم فيمكن إثباته من خلال ظهور حال سياقي مفاده : ( أنّ كلّ ما لا يقوله فهو لا يريده ) بتقريب أنّ المتكلّم غاية ما أفاد من قوله : ( أكرم الفقير ) هو وجوب الإكرام على ذات الفقير من دون أن يذكر قيدا لا تصوّرا ولا استعمالا.

وهذا يحقّق الصغرى لذاك الظهور السياقي ، حيث يقال : إنّ المتكلّم لم يذكر القيد تصوّرا ولا استعمالا ، وكلّ ما لا يقوله من القيود فهو لا يريده جدّا ، فينتج أنّه لا يريد القيد جدّا ، وإذا ثبت أنّ المراد الجدّي ليس هو التقييد فيكون الإطلاق هو المراد الجدّي ؛ لأنّهما نقيضان ثبوتا.

فالصغرى وهي ( ما لا يقوله من القيود ) تتحقّق بمجموع الدلالتين التصوّريّة

٤٤٨

والتصديقيّة الأولى ، حيث يثبت على أساسهما أنّه لم يفد القيد تصوّرا واستعمالا ، فيتحقّق أنّه لم يقل القيد.

والكبرى وهي ( ما لا يقوله فهو لا يريده ) تنطبق على الصغرى ، فينتج أنّه لا يريد القيد جدّا فيثبت الإطلاق.

والمرجع في هذا الظهور هو ظهور حال المتكلّم أنّه في مقام البيان والتفهيم لتمام الموضوع المعلّق عليه الحكم جدّا ، فإذا كان موضوع حكمه الجدّي مقيّدا فكان اللازم ذكر القيد ، وإلا لكان مخلاّ بما هو متعارف مع كونه قادرا على ذكره ولم يكن هناك مانع أو محذور منه. فإذا لم يذكر القيد مع توفّر الدواعي لذكره كشف ذلك عن كونه غير دخيل في موضوع حكمه الجدّي ، فيثبت أنّ موضوع الحكم ليس مقيّدا بهذا القيد ولا بذاك فيثبت الإطلاق ؛ لأنّه عدم ذكر القيد.

وهذا الظهور الحالي السياقي يسمّى بقرينة أو مقدّمات الحكمة.

وبالمقارنة نجد أنّ الظهور الذي يعتمد عليه الإطلاق غير الظهور الذي تعتمد عليه قاعدة احترازيّة القيود. فتلك تعتمد على ظهور حال المتكلّم في أنّ ما يقوله يريده. والإطلاق يعتمد على ظهور حاله في أنّ ما لا يقوله لا يريده.

ويمكن القول بأنّ الظهور الأوّل هو ظهور التطابق بين المدلول اللفظي للكلام والمدلول التصديقي إيجابيّا ( نريد بالمدلول اللفظي : المدلول المتحصّل من الدلالة التصوّريّة والدلالة التصديقيّة الأولى ) ، وأنّ الظهور الثاني هو ظهور التطابق بينهما سلبيّا.

وأمّا الفارق بين القاعدتين ( أي قاعدة احترازية القيود وقرينة الحكمة ) فهو أنّ الظهور الذي تعتمد عليه احترازيّة القيود يختلف عن الظهور الذي يعتمد عليه الإطلاق وقرينة الحكمة.

فالظهور في قاعدة الاحترازيّة هو ( كلّ ما يقوله فهو يريده جدّا ) ، بينما الظهور في قرينة الحكمة والإطلاق هو ( كلّ ما لا يقوله فهو لا يريده جدّا ).

فكلّ منهما يعتمد على ظهور حالي سياقي للمتكلّم ، غير أنّه يختلف تقريره بينهما سلبا وإيجابا.

فالظهور الذي تعتمد عليه قاعدة الاحترازيّة مرجعه إلى أصالة التطابق بين

٤٤٩

الدلالات الثلاث إيجابيّا ، بمعنى أنّ المدلول اللفظي للكلام ( والذي يتكوّن من مجموع الدلالتين التصوّريّة والتصديقيّة الأولى ) يتطابق مع المراد الجدّي الذي هو المدلول التصديقي ، والذي مرجعه إلى ظهور حال المتكلّم. وهذا التطابق إيجابيّ ؛ لأنّه يعتمد على ذكر القيد ووجوده لإثبات كونه مرادا جدّا.

بينما الظهور الذي يعتمد عليه الإطلاق وقرينة الحكمة مرجعه إلى أصالة التطابق بين الدلالات الثلاث سلبا ، بمعنى أنّ المدلول اللفظي المتكوّن من الدلالة التصوّريّة والدلالة التصديقيّة الأولى يتطابق سلبيّا مع المراد الجدّي الذي هو المدلول التصديقي الثاني ؛ لأنّ المدلول اللفظي يثبت أنّه لم يقل القيد ، فينتج أنّه لا يريده ، فكان هناك تطابق بالسلب بينهما.

والقدر المشترك بين الظهورين هو أنّهما يعتمدان على أصالة التطابق بين الدلالات الثلاث ، والاختلاف بينهما في كيفيّة التطابق سلبا وإيجابا.

ويلاحظ أنّ ظهور حال المتكلّم في التطابق الإيجابي ـ أي في أنّ ما يقوله يريده ـ أقوى من ظهور حاله في التطابق السلبي ؛ أي في أنّ ما لا يقوله لا يريده.

ومن هنا صحّ القول بأنّه متى ما تعارض المدلول اللفظي لكلام مع إطلاق كلام آخر قدّم المدلول اللفظي على الإطلاق وفقا لقواعد الجمع العرفي.

ويترتّب على الفارق المذكور ثمرة عمليّة وهي : أنّ الظهور الذي تعتمد عليه قاعدة احترازيّة القيود أقوى من الظهور الذي تعتمد عليه مقدّمات الحكمة ، ولذلك يتقدّم الظهور الأوّل على الظهور الثاني عند تعارضهما.

توضيح ذلك : أنّ ظهور قاعدة احترازيّة القيود كان التطابق الإيجابي بين الدلالات والذي كان مرجعها إلى ذكر ما يدلّ على القيد لفظا ، ومن الواضح أنّ ذكر القيد لفظا نصّ صريح في كونه مرادا للمتكلّم جدّا. بينما الظهور الذي يعتمد عليه الإطلاق ومقدّمات الحكمة كان التطابق السلبي بين الدلالات والذي مرجعه إلى عدم ذكر القيد والذي هو ظاهر في كونه غير مراد جدّا للمتكلّم.

وعليه ، فإذا تعارض النصّ مع الظاهر قدّم الأوّل على الثاني وفقا لقواعد الجمع العرفي عند التعارض غير المستقرّ كما سيأتي.

فمثلا إذا قيل : ( أكرم العالم ) كان ظاهره الإطلاق على أساس ذلك الظهور الحالي

٤٥٠

السياقي بأنّ كلّ ما لا يقوله من القيود فهو لا يريده جدّا ، فيستنتج أنّه لا يريد التقييد جدّا ، بل يريد الإطلاق.

إلا أنّ هذا هو ظاهر الكلام وليس الكلام نصّا صريحا في الدلالة على الإطلاق ؛ إذ لا يوجد في الكلام لفظ يدلّ على الإطلاق. فإذا قيل بعد ذلك : ( لا تكرم العالم الفاسق ) كان نصّا في عدم وجوب إكرام العالم الفاسق ، وأنّ العدالة دخيلة في موضوع الحكم ، فعند تعارضهما يقدّم النصّ على الظاهر ؛ لأنّه يصلح للقرينيّة في تفسير المراد الجدّي كما سيأتي تفصيله في بحث التعارض.

من هنا كان التقييد والتخصيص والنصّ والأظهر مقدّما على الإطلاق والعامّ والظاهر أو المجمل ، وهذا فارق عملي مهمّ بينهما.

ويتّضح مما ذكرناه أنّ جوهر الإطلاق يتمثّل في مجموع أمرين :

الأوّل : يشكّل الصغرى لقرينة الحكمة ، وهو : أنّ تمام ما ذكر وقيل موضوعا للحكم بحسب المدلول اللفظي للكلام هو الفقير ، ولم يؤخذ فيه قيد العدالة.

والثاني : يشكّل الكبرى لقرينة الحكمة ، وهو : أنّ ما لم يقله ولم يذكره إثباتا لا يريده ثبوتا ؛ لأنّ ظاهر حال المتكلّم أنّه في مقام بيان تمام موضوع حكمه الجدّي بالكلام.

وتسمّى هاتان المقدّمتان بمقدّمات الحكمة.

والخلاصة : أنّ قرينة الحكمة تتألّف من مجموع أمرين :

الأوّل : وهو الصغرى ومفاده : أنّ ما ذكره المتكلّم وما قاله في كلامه إنّما هو اسم الجنس الذي يدلّ على ذات الماهيّة مجرّدة عن الإطلاق والتقييد ، فكانت ذات الماهيّة هي تمام الموضوع للحكم. ويدلّ على ذلك المدلول اللفظي الذي يتكوّن من مجموع دلالتين هما : الدلالة التصوّريّة الوضعيّة التي تدلّ على المعنى الموضوع له اللفظ ، والدلالة التصديقيّة الأولى التي تدلّ على أنّه قصد استعمال وإخطار هذه الصورة في الذهن ، فينتج منهما أنّ تمام الموضوع الذي أنيط به الحكم هو ذات الماهيّة فقط.

الثاني : وهو الكبرى ومفاده : أنّ ما لا يقوله وما لا يذكره من القيود في كلامه فهو لا يريده جدّا وليس دخيلا في موضوع حكمه. فكلّ القيود منتفية ؛ لأنّه لم

٤٥١

يذكرها. وهذا يعتمد على ظهور حال المتكلّم في التطابق بين مقام الإثبات أي المدلول اللفظي وبين مقام الثبوت أي المراد الجدّي ، ومرجعه إلى ظهور حالي سياقي مفاده أنّ المتكلّم في مقام البيان والتفهيم لتمام مراده الجدّي في كلامه ، فكلّ ما لا يذكره فهو ليس دخيلا في مراده الجدّي وإلا لكان ذكره ، وبما أنّه لم يذكر القيد إثباتا ولفظا فهو لا يريده ثبوتا وجدّا.

وهاتان المقدّمتان تؤلّفان معا قرينة الحكمة.

فإذا تمّت هاتان المقدّمتان تكوّنت للكلام دلالة على الإطلاق وعدم دخل أيّ قيد لم يذكر في الكلام. ولا شكّ في أنّ هذه الدلالة لا توجد في حالة ذكر القيد في نفس الكلام ؛ لأنّ دخله في موضوع الحكم يكون طبيعيّا حينئذ ما دام القيد داخلا في جملة ما قاله ، وتختلّ بذلك المقدّمة الصغرى.

إذا تمّت هاتان المقدّمتان فتتكوّن للكلام دلالة على الإطلاق ، وأنّه ليس للقيود مدخليّة في موضوع الحكم ما دامت لم تذكر.

وهذا معناه أنّه إذا ذكر القيد في الكلام سوف تختّل الدلالة على الإطلاق ؛ لانتفاء المقدّمة الأولى وهي ( أنّه تمام موضوع الحكم هو ذات الماهيّة ) ؛ لأنّه أبرز في كلامه أنّ تمام الموضوع ليس ذات الماهيّة ، بل الماهيّة مع القيد ، فيكون للقيد المذكور مدخليّة في موضوع الحكم جدّا على أساس ذكره لفظا ، فتنطبق عليه قاعدة الاحترازيّة في القيود ، وهي أنّ ( كلّ ما يقوله من القيود فهو يريده جدّا ). وهذا ممّا لا إشكال فيه كما اتّضح ممّا تقدّم.

وإنّما وقع الشكّ والبحث في حالتين :

الأولى : إذا ذكر القيد في كلام منفصل آخر فهل يؤدّي ذلك إلى عدم دلالة الكلام الأوّل على الإطلاق رأسا كما هي الحالة في ذكره متّصلا ، أو أنّ دلالة الكلام الأوّل على الإطلاق تستقرّ بعدم ذكر القيد متّصلا ، والكلام المنفصل المفترض يعتبر معارضا لظهور قائم بالفعل ، وقد يقدّم عليه وفقا لقواعد الجمع العرفي؟

تقدّم أنّه لا إشكال في اختلال مقدّمات الحكمة ، وعدم تماميّة مقدّماتها فيما إذا ذكر القيد متّصلا ، كما إذا قيل : ( أكرم العالم العادل ) ، فإنّ الكلام ينعقد رأسا على

٤٥٢

الماهيّة المقيّدة لا المطلقة ؛ تطبيقا لقاعدة احترازيّة القيود في أنّ ( كلّ ما يقوله فهو يريده ) ، ولا تجري مقدّمات الحكمة لإثبات الإطلاق ونفي القيود ؛ لأنّ المفروض أنّه ذكر القيود في كلامه.

إلا أنّه وقع الإشكال والخلاف بينهم فيما إذا ورد المقيّد منفصلا ، كما إذا قيل : ( أكرم العالم ) ثمّ ورد ( أكرم العالم العادل ). فهل يكون المقيّد المنفصل كالمقيّد المتّصل رافعا لأصل الدلالة على الإطلاق ، بمعنى أنّه لا ينعقد ظهور في الإطلاق أصلا عند مجيء هذا المقيّد فيكون مجيئه كاشفا عن عدم وجود الإطلاق من أوّل الأمر على نحو الشرط المتأخّر ، بأن يكون الإطلاق وانعقاده مشروطا بأن لا يأتي قيد متّصل أو منفصل فيما بعد ، أو على نحو الشرط المقارن بأن يكون الإطلاق في كلّ زمان زمان مشروطا بأن لا يقترن بالمقيّد المتّصل أو المنفصل ، أو لا يكون المقيّد المنفصل رافعا للدلالة على الإطلاق في الكلام السابق؟

بمعنى أنّ الكلام السابق ينعقد له ظهور في الإطلاق ويستقرّ هذا المدلول والظهور إلى أن يأتي المقيّد المنفصل ، فحينئذ يقع التعارض بين هذا الإطلاق وبين التقييد الذي يدلّ على المقيّد المنفصل ، وحينئذ قد يقدّم هذا المقيّد المنفصل على الإطلاق ؛ لما تقدّم سابقا من أنّ الظهور الذي يعتمد عليه التقييد هو أصالة التطابق بين الدلالات إيجابا ، بينما الظهور الذي يعتمد عليه الإطلاق وقرينة الحكمة هو التطابق بين الدلالات سلبا ، والأوّل أقوى من الثاني ؛ لأنّه نصّ صريح فيعتبر قرينة لتفسير المراد من الإطلاق ويتقدّم عليه للقرينة النوعيّة العرفيّة.

ذهب المحقّق النائيني إلى الأوّل مشترطا في تماميّة الإطلاق وانعقاد مقدّمات الحكمة ألاّ يكون هناك قيد سواء متّصلا أو منفصلا. فالمقيّد المتّصل والمنفصل عنده يرفعان أصل الظهور من رأس.

بينما ذهب المشهور إلى الثاني حيث اشترطوا عدم المقيّد المتّصل في تماميّة الإطلاق ، وأمّا المنفصل فهو لا مدخليّة له في مقدّمات الحكمة وانعقاد الإطلاق ، بل يكون معارضا له.

والمنشأ لهذا الاختلاف هو :

ويتحدّد هذا البحث على ضوء معرفة أنّ ذلك الظهور الحالي الذي يشكّل

٤٥٣

الكبرى ، هل يقتضي كون المتكلّم في مقام بيان تمام موضوع الحكم بشخص كلامه أو بمجموع كلماته؟

إنّ الظهور الحالي السياقي الذي تعتمد عليه قرينة الحكمة وهو ( كلّ ما لا يقوله لا يريده ) ، والذي يشكّل الكبرى من مقدّمات الحكمة ، ما ذا يراد به؟

هنا احتمالان :

الأوّل : أنّ يراد به أنّ المتكلّم في مقام بيان موضوع حكمه كاملا بشخص كلامه. فالمتكلّم يكون ظاهر حاله بيان تمام مراده الجدّي بهذا الكلام الذي يذكره ، فما دام لم يذكر في كلامه القيد فهو لا يريده جدّا. وبالتالي لا يضرّ وجود القيد المنفصل فيما بعد في رفع أصل انعقاد ظهور الكلام في الإطلاق.

الثاني : أنّ يراد به أنّ المتكلّم في مقام بيان مراده الجدّي لا بشخص هذا الكلام ، وإنّما بمجموع الكلمات الصادرة منه في هذا الموضوع ، فما دام لم ينته من بيان موضوعه فله الحقّ بأن يأتي بما يدلّ على التقييد لاحقا ، كما هو الحال بالنسبة للمدرّس مثلا. وبالتالي يكون ذكر القيد منفصلا عن الكلام الأوّل رافعا لأصل ظهوره في الإطلاق رأسا كما هو الحال بالنسبة للمقيّد المتّصل.

والفارق بين هذين الاحتمالين هو :

فعلى الأوّل يكون صغراه عدم ذكر القيد متّصلا بالكلام ، ويكون ظهور الكلام في الإطلاق منوطا بعدم ذكر القيد في شخص ذلك الكلام ، فلا ينهدم بمجيء التقييد في كلام منفصل.

وعلى الثاني يكون صغراه عدم ذكر القيد ولو في كلام منفصل ، فينهدم أصل الظهور بمجيء القيد في كلام آخر.

فعلى الاحتمال الأوّل من كون المتكلّم في مقام بيان تمام موضوع حكمه في شخص كلامه ، تكون مقدّمات الحكمة عبارة عن عدم ذكر القيد في خصوص هذا الكلام ، أي عدم ذكر القيد متّصلا في الكلام.

وعندئذ تكون الصغرى لهذا الظهور الحالي ( كلّ ما لا يقوله لا يريده ) عبارة عن أنّه لم يذكر القيد ولم يقله في هذا الكلام متّصلا ، فتتمّ المقدّمات وينعقد للكلام ظهور في الإطلاق.

٤٥٤

وحينئذ فإذا جاء المقيّد المنفصل كان معارضا لهذا الظهور المنعقد فعلا على الإطلاق ويجمع بينهما جمعا عرفيّا بتقديم التقييد على الإطلاق ؛ لأنّه قرينة على تفسير المراد.

ولا يكون المقيّد المنفصل هادما ورافعا للظهور من أساسه ، إذ المفروض أنّ مقدّمات الحكمة كانت تامّة ابتداء ، غاية الأمر وجد الآن ما يعارضها ، فتترتّب عليهما أحكام التعارض غير المستقرّ.

بينما على الاحتمال الثاني من كون المتكلّم في مقام بيان تمام موضوع حكمه في مجموع كلماته لا بشخص كلامه ، فتكون مقدّمات الحكمة متوقّفة على ألاّ يأتي المقيّد مطلقا ، سواء المتّصل أو المنفصل ؛ لأنّه إذا جاء بالقيد فيما بعد كان مجيؤه هادما ورافعا للظهور المنعقد ظاهرا في الإطلاق ، وكاشفا عن كون المراد الجدّي هو التقييد أيضا من أوّل الأمر ؛ لأنّنا فرضنا أنّ مقدّمات الحكمة والإطلاق متوقّفة على عدم ذكر القيد مطلقا ولو منفصلا ، فيكون ذكره منفصلا شرطا في عدم تحقّق الإطلاق من أوّل الأمر.

يبقى تحديد ما هو الصحيح من هذين الاحتمالين فنقول :

والمتعيّن بالوجدان العرفي الأوّل ، بل يلزم على الثاني عدم إمكان

التمسّك بالإطلاق في موارد احتمال البيان المنفصل ؛ لأنّ ظهور الكلام في الإطلاق إذا كان منوطا بعدم ذكر القيد ولو منفصلا فلا يمكن إحرازه مع احتمال ورود القيد في كلام منفصل.

والصحيح هو الأوّل أي أنّ مقدّمات الحكمة متوقّفة على عدم ذكر القيد في شخص كلامه ، فيكون المقيّد المنفصل معارضا للظهور في الإطلاق لا رافعا له من أوّل الأمر. والدليل على ذلك :

أوّلا : الوجدان العرفي القاضي بأنّ المتكلّم يبيّن تمام مراده الجدّي وتمام موضوع حكمه ، وكلّ ما له مدخليّة فيه في شخص كلامه ، فلو كان يريد التقييد لكان اللازم عليه أن يأتي بالمقيّد متّصلا ، وإلا لكان مخلاّ وخارقا للمتعارف عند أهل اللغة والمحاورات ، بأن يكون مراده التقييد ومع ذلك لا يأتي بما يدلّ عليه ، مع كونه قادرا على ذكره ويكون ذلك مستهجنا عندهم غير مألوف.

٤٥٥

ومن المعلوم أنّ الشارع سار على طريقة العقلاء في التفاهم والتخاطب ، سواء الأمور التكوينيّة أو التشريعيّة ، ولا يعلم بوجود طريقة أخرى انفرد بها الشارع عن العقلاء ، وإلا لكان بيّنها وذكر حدودها وشروطها ، ولكنّه لم يفعل فهذا دليل على أنّه قد أمضى سيرة العقلاء في هذا المورد. وهذا دليل حلّي.

وثانيا : بالنقض فيما لو قيل بالاحتمال الثاني ؛ لأنّه إذا كانت مقدّمات الحكمة والإطلاق متوقّفة على عدم ذكر القيد مطلقا ولو منفصلا لزم من ذلك الإجمال والإهمال في موارد احتمال وجود أو صدور المقيّد المنفصل ، لكنّه لم يصل إلينا بعد لظروف وأسباب.

ففي مثل هذه الحالة لا ينعقد للكلام ظهور في الإطلاق ولا في التقييد ؛ وذلك لأنّه لا يحرز قطعا بوجود المقيّد ليقال بالتقييد ، ولا يحرز عدم القيد ليقال بالإطلاق ؛ لأن احتمال القيد المنفصل يعني أنّه يحتمل التقييد ويحتمل الإطلاق ولا معيّن لأحدهما على الآخر.

ولا يمكن التمسّك بقرينة الحكمة لإثبات الإطلاق هنا ؛ إذ لا يحرز موضوعها إذ من جملة مقدّماتها ألاّ يوجد القيد المنفصل أيضا وهذا غير محرز ، بل هو مشكوك ، فيشكّ إذا في تحقّق موضوع مقدّمات الحكمة ، ومع الشكّ في تحقّق الموضوع لا يمكن التمسّك بالإطلاق والعام ؛ لأنّه من التمسّك بالعامّ والمطلق في الشبهة المصداقيّة وهو ممنوع.

وحينئذ سوف يبتلي الكلام بالإجمال ، وهذا ما يؤدّي إلى التعطيل في الأحكام ، فلا يكون للحكم في هذه الحالة محركيّة ولا باعثيّة ؛ إذ لا يعلم المكلّف لأي شيء يتحرّك ونحو أي فرد يتّجه. وهذا لا يمكن الالتزام به أصلا فيكون هذا النقض منبّها ودليلا على عدم صحّة هذا الاحتمال.

الثانية : إذا كان هناك قدر متيقّن في مقام التخاطب ، فهل يمنع عن دلالة الكلام على الإطلاق أو لا؟ وتوضيح ذلك أنّ المطلق إذا صدر من المولى :

الحالة الثانية التي وقع فيها الإشكال والخلاف بينهم فيما إذا كان هناك قدر متيقّن في مقام التخاطب بين المتكلّم والسامع ، وكان هذا القدر المتيقّن ممّا يصحّ الاعتماد عليه ، فهل يكون القدر المتيقّن مانعا عن انعقاد الكلام في الإطلاق فيما إذا جاء الكلام خاليا من ذكر هذا القدر المتيقّن ، أو لا يكون مانعا من انعقاده؟

٤٥٦

مثال ذلك : أن يسأل السائل عن وجوب إكرام الفقير العادل ، ثمّ يأتي الجواب مطلقا بوجوب إكرام الفقير ، من دون أن يذكر في الكلام قيد العدالة ، فهل يوجب ذلك منع انعقاد الجواب في الإطلاق وانصرافه إلى هذا القدر المتيقّن ، أو لا يوجب ذلك؟

لا إشكال في أنّه إذا كان هناك انصراف للكلام لهذا القدر المتيقّن من باب كثرة الاستعمال أو ندرة الأفراد الأخرى كان الكلام منصرفا إليه ولا ينعقد إطلاقه ؛ لأنّ ذلك يوجب وضعا تعيّنا للفظ في هذا القدر المتيقّن فينصرف الكلام إليه.

إلا أنّ مورد بحثنا ليس هذا النحو من القدر المتيقّن ، ولتوضيح ذلك نذكر الحالات التالية :

فتارة تكون حصصه متكافئة في الاحتمال فيكون من الممكن اختصاص الحكم بهذه الحصّة دون تلك ، أو بالعكس ، أو شموله لهما معا. وهذا معناه عدم وجود قدر متيقّن ، وفي مثل ذلك تتمّ قرينة الحكمة بلا إشكال.

الحالة الأولى : أن تكون حصص المطلق كلّها متكافئة ومتساوية بالنسبة إليه ، بحيث تكون درجة احتمال انطباق المطلق على هذه الحصّة مساويا لدرجة انطباقه على تلك ، ولا ترجيح لانطباقه على إحداهما دون الأخرى. فيمكن أن ينطبق المطلق على هذه الحصّة دون تلك أو العكس ، ويحتمل أيضا شموله لكلّ الحصص ، إلا أنّ انطباقه على إحدى الحصص فقط من دون وجود دليل خاصّ يكون ترجيحا لأحد المتساويين على الآخر بلا مرجّح ، وهو قبيح عقلا.

وحينئذ يقال : إنّ مقدّمات الحكمة تكون تامّة في هذا المورد ؛ لأنّه وإن كان الممكن انطباق المطلق على إحدى الحصص لكنّه يحتاج إلى ذكر ما يدلّ على ذلك ، فما لم يذكر ما يدلّ على ذلك فهو لا يريده جدّا ، فينتج أنّه أراد الشمول لكلّ الحصص لا بعضها فقط.

وفي هذه الحالة لا يوجد قدر متيقّن في البين ؛ لأنّ نسبة الحصص إلى المطلق نسبة واحدة. ولا إشكال عندهم هنا في تحقّق الإطلاق وتماميّة مقدّمات الحكمة.

وثانية تكون إحدى الحصّتين أولى بالحكم من الحصّة الأخرى ، غير أنّها أولويّة

٤٥٧

علمت من خارج ذلك الكلام الذي اشتمل على المطلق ، وهذا ما يسمّى بالقدر المتيقّن من الخارج ، والمعروف في مثل ذلك تماميّة قرينة الحكمة أيضا.

الحالة الثانية : أن يكون لبعض حصص المطلق أولويّة على غيرها ، بمعنى أنّ المطلق لا إشكال في انطباقه عليها وعلى غيرها ، ولكن انطباقه عليها كان بنحو لا يمكن استثناؤها وإخراجها منه فيما لو أريد التقييد وإخراج بعض الأفراد منه ، فتمتاز هذه الحصّة عن غيرها من الحصص بكون المطلق أشدّ وأقوى في انطباقه عليها مع كونها كغيرها من جهة شموليّة المطلق.

وهذه الأولويّة علمت من خارج الكلام ، بمعنى أنّه لا يوجد في الكلام ما يدلّ على هذه الأولويّة ، وإنّما علمت الأولويّة من الخارج بأن كان العرف يرى أقوائيّة هذه الحصّة في تمثيلها للمطلق من غيرها ، أو كان العقل يرى أنّه لو أريد التخصيص لكان في غير هذه الحصّة ؛ لكونها أشدّ وأقوى من غيرها.

مثال ذلك : أن يقال : ( أكرم العالم ) ، وكان للعالم الفقيه أولويّة في انطباق المطلق عليه ، بمعنى أنّ الشارع لو أراد أن يستثني أحدا من المطلق لكان غير هذه الحصّة ؛ وذلك لوجود خصائص ومميّزات أخرى خارجيّة يتّصف بها هذا الفقيه تجعله أولى من غيره في انطباق العالم عليه.

وهنا أيضا تتمّ مقدّمات الحكمة ؛ لأنّه لم يذكر في الكلام ما يدلّ على هذه الحصّة دون غيرها ، وليس هناك انصراف لها دون غيرها. ومجرّد أولويّته وأكمليّتها لا يوجب كون المطلق منصرفا إليها دون غيرها. فهذا النحو وإن كان من القدر المتيقّن لكنّه خارج عن اللفظ ؛ لأنّ أولويّته علمت بقرائن خارجيّة كالعرف أو العقل ولم تعلم من اللفظ.

وثالثة يكون نفس الكلام صريحا في تطبيق الحكم على إحدى الحصّتين ، كما إذا كانت هي مورد السؤال وجاء المطلق كجواب على هذا السؤال ، من قبيل أن يسأل شخص من المولى عن ( إكرام الفقير العادل ) فيقول له : ( أكرم الفقير ) ، وهذا ما يسمّى بالقدر المتيقّن في مقام التخاطب.

الحالة الثالثة : أن يكون للمطلق حصص كثيرة ولكن كان انطباقه وشموله لإحدى الحصص قدرا متيقّنا من نفس الكلام ، بمعنى أنّ الكلام يصرّح بأنّ هذه

٤٥٨

الحصّة هي القدر المتيقّن من المطلق بحيث لا يمكن إخراجها منه فيما لو أريد التقييد ، وكان مع ذلك المطلق يحتمل أن يكون شاملا لكلّ الحصص الأخرى ، فهنا لو اعتمد المتكلّم على هذا القدر المتيقّن من الكلام لإرادة التقييد لكان كلامه وافيا بذلك أيضا ؛ لصحّة الاعتماد على ما اكتنف كلامه من قيود.

مثال ذلك : سؤال السائل للإمام عن ماء بئر ( بضاعة ) فأجابه الإمام : « خلق الله الماء طهورا » ، ومثاله أيضا أن يسأل شخص عن وجوب إكرام الفقير العادل هل يجب أو لا؟ فيجيبه : أنّه يجب إكرام الفقير.

فهنا يمكن أنّ المتكلّم يريد الإطلاق من كلامه ؛ لأنّه لم يذكر في كلامه ما يدلّ على التقييد. ولكن مع ذلك يمكن أن يكون مريدا للتقييد واعتمد على ما ذكره السائل من قيد واكتفى به. فكلا الأمرين محتمل.

وهذا النحو يسمّى بالقدر المتيقّن في مقام التخاطب ، وهنا وقع البحث بينهم في أنّ هذا القدر المتيقّن هل يكفي لتعيين التقييد أو لا يكفي لذلك ، بل يبقى الكلام على إطلاقه؟ فهنا قولان :

وقد اختار صاحب ( الكفاية ) رحمه‌الله (١) أنّ هذا يمنع من دلالة الكلام على الإطلاق ، إذ في هذه الحالة قد يكون مراده مختصّا بالقدر المتيقّن وهو الفقير العادل في المثال ؛ لأنّ كلامه واف ببيان القدر المتيقّن ، فلا يلزم حينئذ أن يكون قد أراد ما لم يقله.

ذهب صاحب ( الكفاية ) إلى أنّ القدر المتيقّن في مقام التخاطب يمنع من دلالة الكلام على الإطلاق وذلك لاختلال مقدّمات الحكمة أو على الأقلّ لا يحرز تحقّق هذه المقدّمات.

وتوضيح ذلك : أنّ مقدّمات الحكمة إن كانت تعتمد على ظهور حال المتكلّم في أنّه في مقام بيان تمام مراده للمخاطب ، فهنا يكون هذا القدر المتيقّن مانعا عن انعقاد مقدّمات الحكمة ؛ وذلك لأنّ مراده الذي يريد إفهامه للسامع مختصّ بالقدر المتيقّن لوضوحه لدى السامع ؛ ولأنّه يصحّ للمتكلّم أن يعتمد على هذا القدر الموجود عند المخاطب ولا يذكره في كلامه ما دام يريد تفهيمه بالخصوص ؛ لأنّ المخاطب قد ارتكز

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٨٧.

٤٥٩

في ذهنه الفقير العادل فيكون كلام المتكلّم وإن كان مطلقا بظاهره لكنّه يصحّ إرادة التقييد ؛ لأنّ هذا القدر المتيقّن يمكن الاعتماد عليه لأجل إفهام المخاطب ، ولا يكون بذلك مخلاّ بقواعد اللغة والمحاورات العرفيّة ؛ لأنّ هذا القدر بيّن وجلي لدى السامع فيكون المتكلّم مبيّنا لتمام المراد للمخاطب.

وأمّا إن كانت مقدّمات الحكمة تعتمد على ظهور حال المتكلّم في أنّه في مقام بيان تمام مراده في كلامه بقطع النظر عن المخاطب ، بمعنى أنّ المتكلّم أراد أن يبيّن ما هو موضوع الحكم بتمامه بهذا الكلام الذي يذكره ، فهنا لا يكون القدر المتيقّن مانعا عن انعقاد الإطلاق ؛ لأنّ مقدّمات الحكمة تامّة ؛ وذلك لأنّه لم يذكر في كلامه ما يدلّ على التقييد. وهذا معناه تحقّق الصغرى لكبرى ؛ لأنّ كلّ ما لا يقوله فهو لا يريده فينتج أنّه لا يريد التقييد وإلا لكان ذكره ، فعدم ذكره يدلّ على عدم إرادته وأنّ الموضوع ليس مقيّدا.

فإذا استظهر الأوّل كان القدر المتيقّن مانعا من الإطلاق ، وإن لم يستظهر فيكون هناك تردّد وشكّ في أنّ المتكلّم هل هو في مقام بيان تمام مراده للمخاطب ، أو أنّه في مقام بيان تمام مراده في شخص كلامه؟

وحينئذ لا يمكن التمسّك بالإطلاق ومقدّمات الحكمة أيضا ؛ إذ لا يحرز أنّ المتكلّم كان تمام موضوعه ما ذكره هو ، بل يمكن أن يكون تمام موضوعه ما ذكره هو والسائل أيضا. وما دام هذا الاحتمال موجودا فلا يتعيّن الإطلاق دون التقييد ؛ لأنّه لو أراد التقييد لكان هذا القدر المتيقّن كافيا للاعتماد عليه ، فيتمّ الظهور الذي تعتمد عليه احترازيّة القيود من أنّ كلّ ما يقوله يريده ؛ لأنّ هذا القيد قد ذكر في الكلام واتّضح لدى المخاطب فالاعتماد عليه صحيح.

وما دام هناك شكّ وتردّد فلا يثبت الإطلاق ، وأمّا التقييد وكون وجوب الإكرام للفقير العادل فهو ممّا لا إشكال فيه ، سواء كان مريدا للتقيد أو للإطلاق فيؤخذ به. وأمّا الفقير غير العادل فهو مشكوك كونه موضوعا للحكم فلا يمكن الأخذ به ، والنتيجة هي نتيجة التقييد أيضا.

والجواب على ذلك : أنّ ظاهر حال المتكلّم كما عرفت في كبرى قرينة الحكمة أنّه في مقام بيان تمام الموضوع لحكمه الجدّي بالكلام ، فإذا كانت العدالة

٤٦٠