شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

أمّا الافتراض الأوّل ـ وهو كون المدلول التصوّري في الجملتين واحدا وإنّما الاختلاف بينهما في المدلول التصديقي ـ فهو باطل ولا يمكن قبوله ؛ لأنّه لا يعطي تفسيرا معقولا لحقيقة الاختلاف بين الجملتين.

إذ من حقّنا أن نتساءل : أنّه إذا كان المدلول التصوّري في الجملتين واحدا فهذا يعني أنّ المعنى الموضوع له فيهما واحد والمدلول الوضعي هو المدلول التصوّري ، فهذا يعني أنّ الجملتين يدلاّن تصوّرا على نسبة واحدة ، فالنسبة الموضوعة لها الجملة التامّة تصورا هي نفس النسبة الموضوعة لها الجملة الناقصة. وعليه ، فكيف حصل الاختلاف بالنسبة في مرحلة المدلول التصديقي ، فكانت النسبة في الجملة التامّة من قبيل الحكاية والإخبار والطلب ، بينما كانت النسبة في الجملة الناقصة لمجرّد إخطار المعنى أو حصّة منه؟!

إذ ما دام المدلول التصوّري واحدا فمقتضى التطابق بين الدلالات الثلاث أن يكون المدلول التصديقي واحدا أيضا ، فما هو منشأ الاختلاف إذا مع عدم وجود دالّ زائد يدلّ على هذا الاختلاف؟! بل لما ذا لا يصحّ فرض العكس بأن تكون الجملة الناقصة فيها نسبة تامّة يصحّ السكوت عليها ويقصد بها الإخبار والحكاية والطلب بدلا من الجملة التامّة؟!

وهذا معناه أنّ الفارق التصديقي بينهما لا يصلح تفسيرا وجوابا لهذه التساؤلات ولذلك يتعيّن التفسير الثاني.

وأمّا الثاني فهو يفترض الاختلاف في المدلول التصوّري ، ولمّا كان المدلول التصوّري لهيئة الجملة هو النسبة فلا بدّ من افتراض نحوين من النسبة بهما تتحقّق التماميّة والنقصان.

وأمّا الافتراض الثاني القائل بأنّ الاختلاف بين الجملتين موجود في مرحلة المدلول التصوّري فضلا عن المدلول التصديقي فهو يصلح تفسيرا لهذا الاختلاف والإجابة عن التساؤلات المطروحة ، حيث تقدّم أنّ المدلول الوضعي إنّما هو الدلالة التصوّريّة ، ومن المعلوم أنّ هيئة الجمل من المعاني الحرفيّة وهي موضوعة للنسبة. وهذا يعني أنّ المدلول التصوّري لهيئة الجملة هو النسبة ، ولمّا كان المدلول التصوّري في الجملتين مختلفا فهذا معناه وجود اختلاف في النسبة بين الجملتين.

٣٢١

فالنسبة التي هي مدلول وضعي تصوّري للجملة الناقصة تختلف عن النسبة التي هي موضوع تصوّري في الجملة التامّة. فعلى أساس اختلاف النسبة بين الجملتين حصل هناك اختلاف في المدلولين التصوّري والتصديقي ، وبناء على هذا الاختلاف أيضا كانت الجملة الناقصة تفيد مجرّد إخطار المعنى في الذهن بنحو لا يصحّ السكوت عليه ولا يكون قابلا للاتّصاف بالصدق أو الكذب ، بينما كانت الجملة التامّة مفيدة لقصد الحكاية والإخبار والطلب ولذلك يصحّ السكوت عليها وتكون قابلة للاتّصاف بالصدق والكذب.

والمنشأ لهذا الاختلاف هو وجود نحوين من النسبة مختلفين أوجبا التماميّة والنقصان ، يبقى الكلام في بيان هاتين النسبتين فنقول :

والتحقيق : أنّ التماميّة والنقصان من شئون النسبة في عالم الذهن لا في عالم الخارج. فـ ( مفيد ) و ( عالم ) تكون النسبة بينهما تامّة إذا جعلنا منهما مبتدأ وخبرا ، وناقصة إذا جعلنا منهما موصوفا ووصفا. وجعل ( مفيد ) مبتدأ تارة وموصوفا أخرى أمر ذهني لا خارجي ؛ لأنّ حاله في الخارج لا يتغيّر كما هو واضح.

والتحقيق في كيفيّة نشوء التماميّة والنقصان في عالم النسبة هو : أنّ النسبة لها نحوان من الوجود ، فهي تارة تكون موجودة في الخارج ، وأخرى تكون موجودة في الذهن.

فإن كانت النسبة موجودة في الخارج فهي لا تكون إلا ضمن طرفين ويستحيل وجودها في الخارج من دون الطرفين ، ولذلك فالنسبة إمّا أن توجد وإمّا أن لا توجد في الخارج ، فإن وجدت كانت تامّة وإن لم توجد لم يكن هناك نسبة أصلا ، ولا يعقل وجود النسبة في الخارج ناقصة.

وأمّا النسبة الموجودة في الذهن فقد تقدّم في الحروف أنّ النسبة الموجودة في الذهن تارة تكون حاضرة بما هي في الخارج أي بالحمل الشائع فتكون عين الخارج في الذهن محتاجة إلى الطرفين ويستحيل تعقّلها مجرّدة عنهما بهذا اللحاظ. وأخرى تكون حاضرة بما هي هي بالحمل الأوّلي والذي هي مفهوم النسبة والربط لا الربط الواقعي الحقيقي ، بحيث يمكن تصوّرها من دون الطرفين. وهنا كذلك فإنّ النسبة تارة

٣٢٢

تتصوّر كما هي في الخارج بين الطرفين وأخرى تتصوّر من دون الطرفين فعلا. ولذلك ينشأ لدينا التماميّة والنقصان.

فمثلا قولنا : ( مفيد عالم ) المؤلّفة من مبتدأ وخبر فالنسبة بينهما تامّة في الذهن ؛ لأنّ الطرفين حاضران فعلا في صقع الذهن ، وأمّا قولنا : ( مفيد العالم ) أو ( علم المفيد ) المؤلّفة من الصفة والموصوف أو المضاف والمضاف إليه فهي نسبة ناقصة ؛ لأنّ الطرفين غير حاضرين بالفعل في الذهن ، وإنّما هناك طرف واحد في الحقيقة وهو هذه الحصّة الخاصّة من المفيد.

وهذا يعني أنّ التماميّة والنقصان يحصلان في الذهن لا في الخارج ؛ لأنّه في الخارج إمّا أن يكون المفيد عالما أو لا يكون عالما ، فالنسبة في الخارج إمّا أن تتّصف بالوجود فهي تامّة أو تتّصف بالعدم فهي غير موجودة أصلا فلا تتّصف بالنقصان.

وأمّا في عالم الذهن فالنسبة إن كانت حاضرة بطرفيها فهي تامّة ، وإن كانت حاضرة بطرف واحد فقط فهي ناقصة. فالملاك في التماميّة والنقصان هو :

وتكون النسبة في الذهن تامّة إذا جاءت إلى الذهن ووجدت بما هي نسبة فعلا ، وهذا يتطلّب أن يكون لها طرفان متغايران في الذهن ، إذ لا نسبة بدون طرفين.

ملاك التماميّة في النسبة هو أن تكون النسبة الحاصلة في الذهن موجودة بما هي نسبة بالفعل ، أي بما هي متقوّمة وموجودة ضمن طرفيها ؛ لأنّ حقيقة النسبة وواقعها هي النسبة الحاضرة بين الطرفين. وهذا معناه أنّه يوجد في الذهن طرفان متغايران حصل الربط والانتساب بينهما ، وتكون هذه النسبة الموجودة في الذهن عين النسبة الموجودة في الخارج بالحمل الشائع. فكما أنّ النسبة الموجودة في الخارج تامّة ومتحقّقة بين الطرفين فكذلك النسبة الموجودة في الذهن تامّة ومتحقّقة ضمن الطرفين ، وهذان الطرفان موجودان في الذهن وحاضران فيه ومتغايران عن بعضهما البعض وجاءت النسبة لتربط بينهما.

وتكون النسبة ناقصة إذا كانت اندماجيّة ، تدمج أحد طرفيها بالآخر وتكوّن منهما مفهوما إفراديّا واحدا وحصّة خاصّة ، إذ لا نسبة حينئذ حقيقة في صقع الذهن الظاهر ، وإنّما هي نسبة مستترة تحليليّة.

٣٢٣

وملاك النقصان في النسبة هو أن تكون النسبة الحاضرة في الذهن اندماجيّة لا حقيقيّة ، بمعنى أنّها عين الخارج بالحمل الأوّلي ولكنّها تغايره وتباينه بالحمل الشائع ؛ لأنّ النسبة في الخارج متقوّمة بالطرفين الحاضرين فعلا والمتغايرين ، بينما النسبة الاندماجيّة في الذهن ليست حاضرة ضمن طرفيها وإنّما هذه النسبة تجعل الطرفين طرفا واحدا وتكوّن منهما مفهوما إفراديّا واحدا ليقطع طرفا في الذهن ، والغرض من إحضاره كذلك هو وقوعه طرفا في نسبة أخرى جديدة فهو يحتاج إلى طرف آخر ليحقّقا نسبة جديدة.

وهذا يعني أنّ النسبة الحاضرة في الذهن غير متقوّمة بالطرفين ، إذ لا يوجد طرفان حقيقيّان متغايران ، وإنّما هناك طرف واحد نشأ من خلال اندماج الطرفين معا. ففي الحقيقة لا يوجد نسبة حقيقيّة واقعيّة ؛ لأنّها متقوّمة بالطرفين فعلا ، وهنا لا يوجد إلا طرف واحد. نعم ، هناك نسبة تحليليّة اندماجيّة ؛ وذلك لأنّنا إذا حلّلنا هذا الطرف الواحد الموجود في الذهن نجد أنّه يوجد فيه نسبة ، ولكنّها غير ظاهرة في صقع الذهن ، وإنّما هي مستترة ومستبطنة في الطرف.

فقولنا : ( مفيد العالم ) أو ( علم المفيد ) طرف واحد حاضر في الذهن ، ولكن هذا الطرف الواحد مركّب من نسبة حقيقيّة تحكي عن الخارج ، إلا أنّ هذه النسبة الحقيقيّة ليست بارزة بين الطرفين ، وإنّما هذه النسبة دمجت بين الطرفين وكوّنت منهما طرفا واحدا وحصّة واحدة ؛ لأجل وقوعها طرفا في نسبة أخرى جديدة ، فهي نسبة مستترة غير ظاهرة بين الطرفين. ويعبّر عنها بالنسبة الاندماجيّة التحليليّة المستترة المستبطنة ، وفي مقابلها النسبة الظاهرة البارزة الحقيقيّة الواقعيّة.

ومن هنا قلنا سابقا (١) : إنّ الحروف وهيئات الجمل الناقصة موضوعة لنسب اندماجيّة أي تحليليّة ، وأنّ هيئات الجمل التامة موضوعة لنسب غير اندماجيّة.

وبهذا يتّضح لنا الفرق بين الجملتين التامّة والناقصة ، فالجملة التامّة موضوعة لنسبة غير اندماجيّة ، أي أنّها نسبة واقعيّة وحقيقيّة ظاهرة وبارزة بين طرفيها في صقع الذهن ، بينما الجملة الناقصة كالحروف موضوعة لنسبة اندماجيّة ، أي نسبة تحليليّة ليست حقيقيّة ولا ظاهرة بين طرفيها.

__________________

(١) في الحلقة الأولى ، ضمن تمهيد بحث الدلالة ، تحت عنوان : الجملة التامّة والجملة الناقصة.

٣٢٤

ومن هنا ذكرنا في الحلقة السابقة أنّ الحروف كالجمل الناقصة موضوعة للنسب الاندماجيّة ، بينما الجمل التامّة موضوعة للنسب الواقعيّة الحقيقيّة.

وحينئذ نقول : إنّه إذا كانت النسبة اندماجيّة فهذا يعني وجود طرف واحد أحضر في الذهن لأجل أن يقع طرفا في النسبة الأخرى فهو ينتظر الطرف الآخر ، ولذلك كان السكوت على هذه النسبة الاندماجيّة غير صحيح. من هنا كانت الجملة الناقصة لا يحسن السكوت عليها ؛ لأنّ النسبة الحقيقيّة لم تتمّ ، إذ طرفها الآخر لم يتحقّق بعد.

وأمّا إذا كانت النسبة غير اندماجيّة أي واقعيّة وحقيقيّة فهي نسبة متحقّقة بطرفيها ، فالطرفان حاضران في الذهن وقد تمّ التصاق وصدق أحدهما على الآخر. وهذا يعني أنّ النسبة تامّة ، ولذلك صحّ السكوت عليها. ومن هنا كانت الجملة التامّة يصحّ السكوت عليها ويصحّ اتّصافها بالصدق أو الكذب ؛ لأنّها تحكي عن الخارج حكاية حقيقيّة إذ هي عين الخارج.

٣٢٥
٣٢٦

الجملة الخبريّة والإنشائيّة

٣٢٧
٣٢٨

الجملة الخبريّة والإنشائيّة

وتنقسم الجملة التامّة إلى خبريّة وإنشائيّة ، ولا شكّ في اختلاف إحداهما عن الأخرى حتّى مع اتّحاد لفظيهما كما في ( بعت ) الخبريّة و ( بعت ) الإنشائيّة ، فضلا عن ( أعاد ) و ( أعد ) ، وقد وجدت عدّة اتّجاهات في تفسير هذا الاختلاف :

تنقسم الجملة التامّة التي يصحّ السكوت عليها والتي قلنا : إنّها موضوعة لنسبة تامّة بالدلالة التصوّريّة إلى قسمين هما :

الجملة التامّة الخبريّة كقولنا : ( زيد قائم ) ، والجملة التامّة الإنشائيّة كقولنا : ( لا تضرب ).

ولا شكّ في اختلاف الجملتين ، فإنّ الجملة الخبريّة تفيد قصد الحكاية والإخبار عن الواقع ، ولذلك تتّصف بالصدق أو الكذب. بينما الجملة الإنشائيّة تفيد طلب الوقوع أو عدمه ، أو جعل الحكم كالوجوب والحرمة على ذمّة المكلّف ، ولذلك لا تتّصف بالصدق أو الكذب.

وهذا الاختلاف بين الجملتين موجود حتى فيما إذا كانت الجملتان متّحدتين لفظا فضلا عمّا إذا كانتا مختلفتين صياغة.

فقولنا : ( بعت الكتاب بدرهم ) إخبارا عن وقوع البيع البارحة يختلف عن قولنا : ( بعت الكتاب بدرهم ) إنشاء لعقد البيع الآن ، مع أنّ اللفظ واحد والهيئة التركيبيّة واحدة ؛ تماما كالاختلاف بين قولنا : ( أعد الصلاة ) إنشاء لوجوب الإعادة وبين قولنا : ( أعاد زيد صلاته ) إخبارا عن تحقّق الإعادة منه سابقا ، فإنّ الوجدان شاهد على وجود الاختلاف والفرق بين الجملتين الإنشائيّة والإخباريّة في كلّ الموارد.

ولأجل بيان هذا الاختلاف وجدت عدّة اتّجاهات أهمّها ثلاثة :

الأوّل : ما تقدّم في الحلقة الأولى (١) عن صاحب ( الكفاية ) وغيره ، من وحدة

__________________

(١) ضمن تمهيد بحث الدلالة ، تحت عنوان : الجملة الخبريّة والجملة الإنشائيّة.

٣٢٩

الجملتين في مدلولهما التصوّري ، واختلافهما في المدلول التصديقي فقط ، وقد تقدّم الكلام عن ذلك.

الاتّجاه الأوّل : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) وغيره ـ كالمحقّقين العراقي والأصفهاني ـ من كون الجملتين الخبريّة والإنشائيّة متّحدتين في المدلول التصوّري والدلالة الوضعيّة أي النسبة ، فكلاهما موضوع للنسبة ، وإنّما يختلفان في المدلول التصديقي فقط ، فقصد الحكاية والإخبار عن الواقع في الجملة الخبريّة وقصد إبراز وطلب الوقوع في الجملة الإنشائيّة مع كون النسبة واحدة فيهما من شئون الاستعمال.

ولذلك فالإخبار والإنشاء خارجان عن المدلول الوضعي التصوّري وإنّما ينشآن من المدلول التصديقي.

والحاصل : أنّ النسبة المدلول عليها في الجملتين وضعا واحدة ولا اختلاف فيها ، وإنّما الاختلاف في الاستعمال والقصد.

وقد تقدّم الكلام عن ذلك حيث قلنا : إنّ هذا الكلام لو سلّم المبنى الذي سار عليه من وحدة المدلول التصوّري في الجملتين فهو إنّما يتمّ بلحاظ الجمل الإنشائيّة والإخباريّة التي يتّحد فيها اللفظ والصياغة ، كما في ( بعت ) التي تستعمل في الإنشاء والإخبار معا. وأمّا في الجمل التي تختلف فيها الصياغة والهيئة التركيبيّة كما في ( يعيد ) و ( أعد ) فلا يتمّ ما ذكر ؛ لعدم وحدة المدلول التصوّري الموضوع له في الجملتين. مضافا إلى ما تقدّم في النقاش السابق عن الجملتين التامّة والناقصة والنقض بموارد عدم قصد الحكاية والإخبار في الجملة الخبريّة كما إذا دخل عليها الاستفهام.

الثاني : أنّ الاختلاف بينهما ثابت في مرحلة المدلول التصوّري ، وذلك في كيفيّة الدلالة ، فقد يكون المدلول التصوّري واحدا ولكن كيفيّة الدلالة تختلف.

الاتّجاه الثاني : أنّ الاختلاف بين الجملتين ثابت في مرحلة المدلول التصوّري فضلا عن المدلول التصديقي ، وهذا الاختلاف إنّما هو في كيفيّة الدلالة والاستعمال ، فإنّه إذا قصد الحكاية والإخبار جاء بالجملة الخبريّة وإذا قصد الطلب والإيجاد جاء بالجملة الإنشائيّة ، فالخبريّة والإنشائيّة خارجتان عن مدلول اللفظ ، وإنّما هما ظهور حالي سياقي للمتكلّم ، فإنّه تارة يكون في مقام الإخبار وأخرى يكون في مقام الإيجاد فكيفيّة الدلالة مختلفة.

٣٣٠

وأمّا المدلول التصوّري فقد يكون مختلفا وقد يكون متّحدا ، ولذلك فهو ليس جوهر الاختلاف بين الجملتين.

فإذا كان اللفظ واحدا في الجملتين كما في ( بعت ) الإخبارية والإنشائيّة فالمدلول التصوّري واحد ولكن كيفيّة الدلالة مختلفة.

وإذا كان اللفظ مختلفا كما في الجملة الإنشائيّة المتمحّضة في الإنشاء كصيغة الأمر والنهي والنداء المغايرة للجمل الإخبارية من قبيل ( أعد الصلاة ) و ( أعاد زيد الصلاة ) ، فإنّ المدلول التصوّري مختلف ، ولكنّه ليس سبب الاختلاف ؛ بل كيفيّة الدلالة هي سبب الاختلاف.

فإنّ جملة ( بعت ) الإنشائيّة دلالتها على مدلولها بمعنى إيجادها له باللفظ ، وجملة ( بعت ) الإخباريّة دلالتها على مدلولها بمعنى إخطارها للمعنى وكشفها عنه. فكما ادّعي في الحروف أنّها إيجاديّة كذلك يدّعى في الجمل الإنشائيّة.

فسّر المحقّق النائيني الاختلاف في كيفيّة الدلالة في الجملتين الخبريّة والإنشائيّة كتفسيره للاختلاف بين المعنى الحرفي والمعنى الاسمي ، وذلك على أساس الإيجاديّة والإخطاريّة.

فجملة ( بعت الكتاب بدرهم ) لا يختلف مدلولها التصوّري الوضعي سواء استعملت للإنشاء أو استعملت للإخبار ، فهي تدلّ وضعا على إفادتها النسبة بين المبدأ والذات. إلا أنّ كيفيّة الدلالة على هذا المدلول تختلف فـ ( فبعت ) الإنشائيّة تدلّ على المدلول الوضعي بمعنى إيجادها للمدلول باللفظ ، أي أنّه يوجد شيئا لم يكن موجودا قبل التلفّظ ، بينما فـ ( بعت ) الإخبارية تدلّ على مدلولها الوضعي بمعنى إخطارها له وكشفها عنه بهذا اللفظ ، أي أنّها توجب إخطار المعنى الموجود في ذهن السامع بهذا اللفظ. وأمّا متى يكون هذا الاختلاف في كيفيّة الدلالة؟

فالجواب : أنّه ينشأ من ظهور حال المتكلّم في كونه في مقام الإنشاء أو في مقام الإخبار ، فالإنشائيّة والإخباريّة ليستا دخيلتين في المعنى الموضوع له اللفظ ، وإنّما هما من شئون الاستعمال وكيفيّة الدلالة والتي هي ظهور سياقي تابع لحال المتكلّم.

فكما أنّ الحروف تكون إيجاديّة والأسماء تكون إخطاريّة ، كذلك الجملة

٣٣١

الإنشائيّة تكون إيجاديّة بينما الجملة الخبريّة تكون إخطاريّة ، ولكن مع فارق بين هذين النحوين من الإيجاديّة والإخطاريّة وهو :

لكن مع فارق الإيجاديّتين ، فتلك بمعنى كون الحرف موجدا للربط الكلامي وهذه بمعنى كون ( بعت ) موجدة للتمليك بالكلام. فما هو الموجد في باب الحروف حالة قائمة بنفس الكلام ، وما هو الموجد في باب الإنشاء أمر اعتباري مسبّب عن الكلام.

وأمّا الفارق بين إيجاديّة الحرف لمعناه وبين إيجاديّة الجملة الإنشائيّة لمعناها فهو أنّ الإيجاديّة في الحروف تتقوّم بأربعة أمور هي :

١ ـ إيجاد شيء لم يكن موجودا قبل التلفّظ ، وهو الربط الكلامي بين المفهومين مثل ( النار في الموقد ).

٢ ـ أن يكون المعنى الموجد قائما بغيره أي الطرفين ، فإنّه لا وجود ولا معنى للحرف إلا مع الطرفين.

٣ ـ ألاّ يكون لهذا المعنى الموجد تقرّر وثبوت ، فلا موطن له إلا الاستعمال فيدور وجوده وعدمه مدار بقاء الاستعمال وعدمه.

٤ ـ أن يكون المعنى مغفولا عنه وغير ملتفت إليه حين إيجاده ، إذ لا وجود له ليلتفت إليه قبل التلفّظ بالكلام ، وبعد التلفّظ يكون فانيا في الغير فلا يمكن الالتفات إليه.

وأمّا الإيجاديّة في الجملة الإنشائيّة فهي متقوّمة بأمور :

١ ـ إيجاد شيء لم يكن موجودا قبل التلفّظ ، وهو الأمر الاعتباري المسبّب عن الكلام ، كالتمليك أو الزوجيّة المسبّبين عن قوله : ( بعتك الكتاب بدرهم ) أو ( زوّجتك فلانة ).

٢ ـ أن يكون المعنى الموجد وهو الأمر الاعتباري قائما بنفسه ، فالملكيّة أو الزوجيّة لها تقرّر وثبوت بنفسهما بعد الإنشاء الكلامي.

٣ ـ أن يكون لهذا المعنى الموجد تقرّر وثبوت في عالم الاعتبار ، فلا يدور مدار الاستعمال وجودا وعدما بعد وجوده.

٤ ـ أن يكون المعنى الموجد غير مغفول عنه ، بل ملتفت إليه بعد وجوده ؛ لأنّه موجود بنحو مستقلّ في عالم الاعتبار.

٣٣٢

فتحصّل من ذلك : أنّ الحرف يوجد الربط الكلامي بينما ( بعت ) توجد التمليك بالكلام. وهذا معناه أنّ الموجد في باب الحروف هو حالة قائمة بنفس الكلام ، أي الربط والفناء بين شيئين بنفس الكلام. بينما الموجد في باب الإنشاء هو الأمر الاعتباري كالتمليك والزوجيّة المسبّبين عن الكلام.

فالإيجاديّة واحدة إلا أنّ معناها يختلف بينهما (١).

ويرد على ذلك : أنّ التمليك اعتبار تشريعي يصدر من البائع ويصدر من العقلاء ومن الشارع.

ويرد على الاتّجاه الثاني المذكور والذي يفسّر الاختلاف بين الجملتين على أساس الاختلاف في كيفيّة الدلالة لا المدلول الوضعي التصوّري ، وأنّ هذا الاختلاف مردّه الى أنّ الجملة الإنشائيّة إيجاديّة بينما الجملة الإخباريّة إخطاريّة ، وأنّ مع ذكره على فرض التسليم به فهو مختصّ في الجمل المشتركة فقط ، ومع ذلك فهو غير تامّ فيها ؛ وذلك لأنّ مثل قولك : ( بعت ) ونحوها من إنشاءات المعاملات والعقود والتي تفيد

__________________

(١) وهناك معان أخرى لإيجاديّة الجمل الإنشائيّة نذكرها باختصار جدّا :

الأوّل : أنّ اللفظ يوجد المعنى وفي طول ذلك يحصل إخطاره في الذهن ، فاللفظ يوجد المعنى خارجا والخارج يخطره في الذهن. وفي مقابله الإخطاريّة بمعنى أنّ الإخطار يتمّ بواسطة اللفظ مباشرة.

الثاني : أنّ الإنشاءات تخطر المعنى غير أنّ المتكلّم لا يقصد إلا إيجاد النسبة تنزيلا وادّعاء ، وفي مقابله الإخطاريّة بمعنى أنّ المتكلّم يقصد إيجاد النسبة حقيقة بقصد الحكاية والإخبار.

الثالث : أنّ الجملة الإنشائيّة موجدة لمعناها في مرحلة المدلول التصديقي وفي طوله ، بمعنى أنّ اللفظ يوجد المعنى تصوّرا ويكون مرادا جدّا في نفس المتكلّم ، وفي طول هذا المدلول التصديقي والمراد الجدّي ينشأ إخطار المعنى في ذهن السامع. بخلاف الجملة الإخبارية فإنّها تدلّ على إخطار المعنى في ذهن السامع مباشرة ؛ لأنّ المعنى ثابت في الخارج وهي تحكي وتكشف عنه. وهذا تامّ في المعاملات والطلب والأمر والنهي.

الرابع : الجملة الإنشائيّة توجد معناها في مرحلة المدلول التصوّري ، بمعنى أنّ النسبة الملحوظة بها تكون فانية في واقع ينظر إليه بما هو مرحلة الثبوت والوجود بنفس الكلام ، فهي توجد النسبة بنفس الكلام. بخلاف الجملة الخبريّة فإنّ النسبة في مرحلة المدلول التصوّري منظورا إليها بما هي نسبة مفروغ عنها ، أي أنّها متحقّقة في رتبة سابقة عن الكلام ويكون الكلام كاشفا وحاكيا عنها. وهذا تامّ في الجمل المشتركة بين الإنشاء والإخبار فقط.

٣٣٣

الملكيّة والتمليك لا يمكن أن تكون موجدة لهذا الأثر في مرحلة الاستعمال بقصد الإنشاء.

وتوضيح ذلك : أنّ التمليك ـ والذي هو أمر اعتباري تشريعي ـ من الأحكام الوضعيّة المتأصّلة في الجعل والتي لها جذور عقلائيّة ، تارة يصدر من البائع وأخرى يصدر عن العقلاء وثالثة يصدر من الشارع بجعله واعتباره.

وحينئذ يقول :

فإن أريد بالتمليك الذي يوجد بالكلام الأوّل ، فمن الواضح سبقه على الكلام ، وأنّ البائع بالكلام يبرز هذا الاعتبار القائم في نفسه ، وليس الكلام هو الذي يخلق هذا الاعتبار في نفسه.

فإن أريد من الإيجاديّة التمليك الذي يصدر من البائع فهذا غير تامّ ؛ لأنّ الكلام لا يوجد التمليك عند البائع ، بل العكس هو الصحيح. فإنّ التمليك موجود عند البائع أوّلا ومتصوّرا في نفسه ، ثمّ يصدره بهذا الكلام. وهذا معناه أنّ التمليك سابق على الكلام وموجود قبله.

فإذا أراد البائع أن ينشئ تمليك الكتاب بدرهم فإنّه يتصوّر ذلك في نفسه ثمّ ينشئه بالكلام ، فيكون الكلام كاشفا وحاكيا عن التمليك الموجود في نفس البائع ، لا أنّه موجد لهذا التمليك في نفسه. فالكلام لا يخلق ولا يوجد هذا الاعتبار ؛ لأنّه فعل نفساني مخلوق وموجود بالإرادة والاختيار عند البائع الناتجين عن النفس ؛ لأنّ الإرادة من الأمور النفسانيّة الاختياريّة. فيكون الكلام في طول الاعتبار والتمليك وفي رتبة متأخّرة عنه.

وإن أريد الثاني أو الثالث فهو وإن كان مترتّبا على الكلام ، غير أنّه يترتّب عليه بعد فرض استعماله في مدلوله التصوّري وكشفه عن مدلوله التصديقي ، ولهذا لو أطلق الكلام بدون قصد أو كان هازلا لم يترتّب عليه أثر.

فترتّب الأثر إذا ناتج عن استعمال ( بعت ) في معناها ، وليس محقّقا لهذا الاستعمال.

وإن أريد من إيجاديّة ( بعت ) ـ للتمليك ـ التمليك عند العقلاء أو التمليك عند الشارع ـ فما ذكر من أنّ التمليك يوجد بالكلام ويكون مترتّبا عليه وفي طوله

٣٣٤

صحيح ؛ لأنّ العقلاء أو الشارع إنّما يحكمون بترتّب هذا الأثر بعد صدور الكلام من البائع وقبوله من المشتري ، فيكون الكلام موجدا للتمليك.

إلا أنّ هذه الإيجاديّة متوقّفة على أن تكون كلمة ( بعت ) مستعملة في مدلولها التصوّري الوضعي ، والذي يكون بدوره كاشفا عن المدلول التصديقي الجدّي على أساس أصالة التطابق بين الدلالات الثلاثة.

وهذا معناه أنّ كلمة ( بعت ) تدلّ بمدلولها التصوّري الوضعي على التمليك ، ومن ثمّ تكون مستعملة فيه. وبعد ذلك يكون مرادا جدّيّا ؛ إذ من الواضح أنّه لو كان البائع غير قاصد لصدور هذا الإنشاء منه ، أو لم يكن جدّيّا في ذلك بأن كان في مقام الهزل أو التقيّة لم يحكم العقلاء أو الشارع بترتّب هذا الأثر ( التمليك ) بمجرّد صدور الكلام منه ، أو بمجرّد استعماله في التمليك.

وهذا معناه أنّ التمليك إنّما يحكم به العقلاء والشارع بعد فرض أنّ الكلام مستعمل في مدلوله التصوّري الوضعي بنحو الحقيقة لا المجاز ، وبعد فرض أنّ هذا الاستعمال الحقيقي مراد جدّا وليس هزلا أو تقيّة. وأمّا مجرّد الاستعمال فقط ولو كان مجازا أو من دون قصد فلا يترتّب عليه هذا الأثر ، ولا يحكم العقلاء أو الشارع بالتمليك.

وهذا ينتج أنّ ترتّب الأثر وهو التمليك عقلائيّا أو شرعا فيما إذا كان ناتجا عن استعمال كلمة ( بعت ) في معناها الموضوعة له على نحو الحقيقة والإرادة الجدّية ، وليس الاستعمال وحده محقّقا لهذا الأثر فالتمليك ليس موجدا أو محقّقا بمجرّد الاستعمال. وهذا لازمه أن تكون كلمة ( بعت ) تدلّ تصوّرا ووضعا على هذا الأثر ، ثمّ تستعمل فيه بنحو الحقيقة والجدّيّة ، فالاستعمال مسبوق بالتمليك ويكون الاستعمال كاشفا عنه لا أنّه موجد له.

فهذا دليل على أنّ المعنى أي التمليك محفوظ في رتبة سابقة عن الاستعمال ، أي في مرحلة المدلول التصوّري الوضعي ، ثمّ يأتي بعد ذلك الاستعمال الكاشف عنه والمطابق له.

الثالث : أنّ الجملتين مختلفتان في المدلول التصوّري ، حتّى في حالة اتّحاد لفظهما ودلالتهما على نسبة واحدة ، فإنّ الجملة الخبريّة موضوعة لنسبة تامّة

٣٣٥

منظورا إليها بما هي حقيقة واقعة وشيء مفروغ عنه ، والجملة الإنشائيّة موضوعة لنسبة تامّة منظورا إليها بما هي نسبة يراد تحقيقها ، كما تقدّم في الحلقة الأولى (١).

الاتّجاه الثالث : وهو الصحيح عند السيّد الشهيد وهو أنّ الجملتين الخبريّة والإنشائيّة مختلفتان في مدلولهما التصوّري ، فضلا عن المدلول التصديقي الاستعمالي أو الجدّي ، سواء كانت الجملتان متّحدتين باللفظ ( بعت ) الخبريّة والإنشائيّة أو كانتا مختلفتين كالطلب ونحوه من الإنشائيّات.

وكذا لو كان المدلول فيهما نسبة واحدة أي النسبة التصادقيّة ، فمع ذلك نقول : إنّ المدلول التصوّري الوضعي مختلف بينهما.

فالجملة الخبرية كقولك : ( بعت الكتاب بدرهم ) إخبارا وحكاية عن موضوع البيع بالأمس موضوعة بالمدلول التصوّري الوضعي لنسبة تامّة وهي النسبة التصادقيّة بين البيع والبائع ، ولكن منظورا إليها بما هي حقيقة وواقعة وشيء مفروغ عن تحقّقه في الخارج. والمتكلّم إنّما يخبر ويحكي عن هذه النسبة فقط.

بينما الجملة الإنشائيّة كقولك : ( بعت الكتاب بدرهم ) إنشاء للمعاملة وللتمليك الآن عند صدور هذا الكلام موضوعة بالمدلول التصوّري الوضعي لنسبة تامّة ، وهي النسبة التصادقيّة أيضا بين البيع والبائع ، ولكن منظورا إليها بما هي نسبة يراد تحقيقها في الخارج. فهي واقعة وشيء لم يفرغ عن تحقّقه وثبوته قبل إنشاء هذه المعاملة ، وإنّما ينظر إليها بما هي نسبة في طور التحقّق والثبوت.

وبهذا يتّضح أنّ الاختلاف بين الجملتين جوهري ، وهو في المعنى الموضوع في كلّ منهما ، وليس فقط في مرحلة الاستعمال والإرادة الجدّيّة. وهذا الاختلاف ثابت حتّى وإن كانت الجملتان متّحدتين باللفظ وتدلاّن على نسبة تامّة وهي النسبة التصادقيّة.

ولمزيد من التوضيح نعرض رأي السيّد الشهيد بنحو من الاختصار في كلّ من الجمل الإنشائيّة والإخباريّة سواء المشتركتين أو المختلفتين.

فنقول : إذا كانت الجمل الإنشائيّة متمحّضة في الإنشاء كالطلب ( الأمر والنهي ) والتمنّي والترجّي والنداء ونحو ذلك ، فهي تحتاج إلى ثلاثة أطراف الأوّل والثاني

__________________

(١) ضمن تمهيد بحث الدلالة ، تحت عنوان : الجملة الخبريّة والجملة الإنشائية.

٣٣٦

المفهومان اللذان يراد ربطهما معا ، والثالث هو الوعاء والواقع الذي يتحقّق فيه المفهومان الأوّل والثاني.

فقولنا : ( اضرب زيدا ) هناك نسبة تصادقيّة تامّة متحقّقة بين المفهومين ، أي الضرب وزيد. وأمّا وعاء هذين المفهومين فهو ليس الخارج ، وإنّما عالم الطلب وجعل الحكم ، وهذا الوعاء يتصوّره الذهن ويفترض تصادقهما فيه وهو الجعل والتشريع للحكم ، على خلاف الجمل الخبريّة كقولنا : ( ضرب زيد عمرا ) فإنّهما نسبة تصادقيّة بين المفهومين ، وهي ثابتة في وعاء الخارج والتحقّق.

وهكذا الحال في الاستفهام كقولنا : ( هل زيد عالم ) فالنسبة التصادقيّة متحقّقة في عالم السؤال الذي يفترضه الذهن ، وكذا التمنّي والترجّي.

إلا أنّ الفرق بين الاستفهام ونحوه وبين الطلب ونحوه أنّ الطلب يراد به تحقيق هذه النسبة في الخارج ، فينظر إليها بما هي في طور الثبوت والتحقيق خارجا. بينما في الاستفهام ونحوه قد تكون متحقّقة في الخارج وقد لا تكون موجودة إلا في عالم التخيّل فقط ، فإنّه إذا أجيب بـ ( نعم ) كان معناه أنّ النسبة موجودة في وعاء الواقع.

بينما إذا أجيب ( بلا ) كان معناه أنّه لا وجود لهذه النسبة واقعا ، وإنّما هي في عالم الاستفهام والسؤال المحض الذي يتصوّره الذهن.

وإذا كانت الجملة الإنشائيّة مشتركة مع الجملة الخبريّة باللفظ من قبيل ( بعت ) فأيضا يختلف المدلول التصوّري بينهما تبعا لاختلاف الوعاء. فإنّ وعاء الإنشاء هنا هو الاعتبار ، بينما وعاء الإخبار هو قصد الحكاية مع كونهما نسبة تصادقيّة تامّة.

إلا أنّ النسبة التصادقيّة في الجملة الخبريّة متحقّقة في عالم الواقع الخارجي ، وهي تتناسب مع قصد الحكاية والإخبار. بينما النسبة التصادقيّة في الجملة الإنشائيّة متحقّقة في عالم الاعتبار ، وتحقّقها في الخارج يكون بلحاظ مقصوده ومراده وحالة مترقّبة.

وهكذا تكون النسبة في الجملة الخبريّة نسبة تامّة تصادقيّة منظورا إليها بما هي مفروغ عن تحقّقها وثبوتها في وعاء الواقع الخارجي. بينما تكون النسبة في الجملة الإنشائيّة نسبة تامّة تصادقيّة منظورا إليها بما هي نسبة يراد تحقيقها في عالم الواقع الخارجي ، وإن كانت الآن متحقّقة في عالم الاعتبار والجعل فقط ، ولكن ينظر إليها بما هي في طور التحقّق والثبوت الخارجي.

٣٣٧

ويمكن أن نفسّر على هذا الأساس إيجاديّة الجملة الإنشائيّة ، فليست هي بمعنى أنّ استعمالها في معناها هو بنفسه إيجاد للمعنى باللفظ ، بل بمعنى أنّ النسبة المبرزة بالجملة الإنشائيّة نسبة منظورا إليها لا بما هي ناجزة ، بل بما هي في طريق الإنجاز والإيجاد.

وعلى هذا الأساس يمكننا أن نفسّر الإيجاديّة التي قالها المشهور والميرزا النائيني ، فليست الإيجاديّة بمعنى أنّ الجملة الإنشائيّة المستعملة في معناها توجد معناها باللفظ ويكون الكلام موجدا للأثر الاعتباري ، بل إنّ الجملة الإنشائيّة إيجاديّة بمعنى أنّ النسبة التامّة فيها ينظر إليها بما هي في طريق الإنجاز والتحقّق والوجود ، لا بما هي نسبة تامّة ناجزة وقد فرغ عن جودها.

وهذا معنى عميق لإيجاديّة الجمل الإنشائيّة.

* * *

٣٣٨

الثمرة

٣٣٩
٣٤٠