شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

الخطاب لفظ يدلّ على العموم. وحينئذ قد يكون غرض المتكلّم أن يدلّ على العموم بنحو آكد وأشدّ ، وهو الإتيان بأداة العموم وعدم الاكتفاء بقرينة الحكمة ؛ لأنّ الدلالة الإيجابيّة أقوى وأشدّ وآكد من الدلالة السلبيّة كما تقدّم سابقا.

فهذا البرهان غير تامّ كما ظهر ممّا ذكرنا.

البرهان الثاني : أنّ قرينة الحكمة ناظرة ـ كما تقدّم في بحث الإطلاق ـ إلى المدلول التصديقي الجدّي ، فهي تعيّن المراد التصديقي ولا تساهم في تكوين المدلول التصوّري. وأداة العموم تدخل في تكوين المدلول التصوّري للكلام.

فلو قيل بأنّها موضوعة لاستيعاب المراد من المدخول ـ الذي تعيّنه قرينة الحكمة وهو المدلول التصديقي ـ كان معنى ذلك ربط المدلول التصوّري للأداة بالمدلول التصديقي لقرينة الحكمة ، وهذا واضح البطلان.

ذكر السيّد الشهيد رحمه‌الله برهانا على بطلان كون الأداة موضوعة لغة لاستيعاب ما يراد من المدخول. حاصله : تقدّم أنّ قرينة الحكمة ناظرة إلى تحديد المراد الجدّي للمتكلّم ولذلك فهي ترتبط بالدلالة التصديقيّة الثانية ، ولا ربط لها بالمدلول التصوّري أو الدلالة التصديقيّة الاولى أي الإرادة الاستعماليّة. فالمدلول اللفظي للكلام الذي يتكوّن من الدلالتين التصوريّة والاستعماليّة لا يرتبط بقرينة الحكمة أصلا ، وهي أيضا لا تدخل في تكوينه وتحديد الصورة الذهنيّة أو الإرادة الاستعماليّة.

وعرفنا أنّ أداة العموم موضوعة لغة للدلالة على العموم والاستيعاب فهي ترتبط بالمدلول التصوّري ، ولذلك فهي تحدّد الصورة الذهنيّة للّفظ.

فإذا قيل بأنّ أداة العموم موضوعة لاستيعاب ما يراد من المدخول كان معنى ذلك أنّ المدلول التصوّري للأداة الدالّ على العموم والاستيعاب مرتبط بالمدلول التصديقي للمدخول ؛ لأنّه هو الذي يحدّد المراد ، وهذا يلزم منه أن يكون المدلول التصوّري للأداة مرتبطا بالمدلول التصديقي للمدخول. وهذا واضح البطلان لأحد أمرين :

لأنّ المدلول التصوّري لكلّ جزء من الكلام إنّما يرتبط بما يساويه من مدلول الأجزاء الأخرى أي بمدلولاتها التصوّريّة.

الأمر الأوّل : أنّ الكلام الواحد كقولنا : ( أكرم كلّ عالم ) يرتبط المدلول التصوّري لكلّ جزء من أجزائه بالمدلول التصوّري للجزء الآخر ، بمعنى أنّ المدلولات التصوّريّة

٥٠١

لأجزاء الجملة لا بدّ أن تكون مرتبطة فيما بينها. ففي المثال المذكور يكون المدلول التصوّري لوجوب الإكرام مرتبطا بالمدلول التصوّري لكلمة ( كلّ ) الدالّة تصوّرا ووضعا على العموم والاستيعاب ، وهي بدورها مرتبطة بالمدلول التصوّري لكلمة ( عالم ) الدالّة تصوّرا على ذات الماهيّة والطبيعة.

وعندئذ يكون في الذهن مدلولا تصوّريّا وصورة ذهنيّة مترابطة ، وهي وجوب الإكرام الشامل والمستوعب لكلّ أفراد ذات الماهيّة وطبيعة العالم.

فلو قلنا : إنّ الأداة موضوعة لاستيعاب ما يراد من المدخول ، كان معنى ذلك أنّ المدلول التصوّري لكلمة ( كلّ ) في المثال المذكور مرتبطا بالمدلول التصديقي والمراد الجدّي لكلمة ( عالم ) ، وهذا معناه التفكيك بين المدلولات التصوريّة لأجزاء الكلام الواحد ، ويلزم منه ألاّ يكون في الذهن صورة مترابطة فيما بينها قصد المتكلّم إحضارها وإخطارها في ذهنه وذهن السامع. وهذا واضح البطلان ؛ لأنّه يلغي المدلول التصوّري والمدلول الاستعمالي للكلام.

وبتعبير آخر : أنّ المدلول التصوّري للأداة ليس مرتبطا بالمدلول التصوّري للمدخول بناء على هذا الغرض ؛ لأنّ المدلول التصوّري للمدخول غير معيّن الآن وإنّما يتعيّن في مرحلة المدلول التصديقي والمراد الجدّي ؛ لتوقّفه على قرينة الحكمة ، فيلزم أيضا أن يكون المدلول التصوّري للأداة غير معيّن أيضا ، وهذا معناه أنّه تصوّرا لا يوجد معنى معيّن قصد المتكلّم إحضاره وإخطاره. وهذا بديهي البطلان ؛ لوضوح أنّ المتكلّم يستعمل اللفظ للدلالة على المعنى الموضوع له ويستعمله فيه كذلك ؛ لشهادة الوجدان بذلك.

فكان هذا الاحتمال مخالفا للوجدان العرفي واللغوي من كون الكلام الواحد مترابط الأجزاء تصوّرا واستعمالا ، ويكون كلّ مدلول من أجزائه تصوّرا واستعمالا مرتبطا بالمدلول التصوّري والاستعمالي للجزء الآخر ، وبعد ذلك يتحدّد المراد الجدّي من الكلام.

ولا شكّ في أنّ للأداة مدلولا تصوّريّا محفوظا حتّى لو خلا الكلام الذي وردت فيه من المدلول التصديقي نهائيّا ، كما في حالات الهزل ، فكيف يناط مدلولها الوضعي بالمدلول التصديقي؟!

٥٠٢

الأمر الثاني : أنّه بناء على الفرض المذكور من كون الأداة موضوعة لاستيعاب ما يراد من المدخول يلزم دائما أن يكون معنى الأداة متوقّفا على المدلول التصديقي والمراد الجدّي للمدخول.

فإذا لم يكن للمدخول مدلول تصديقي كان لازمه أنّه لا يوجد للأداة معنى أصلا.

وهذا واضح البطلان ، بدليل أنّه إذا قيل : ( أكرم كلّ عالم ) وكان القائل هازلا أو مكرها أو في حالة تقيّة وأمثال ذلك كان المدلول التصديقي والمراد الجدّي للكلام منتفيا.

فبناء على الوجه المذكور يلزم ألاّ يكون لأداة العموم أي معنى أصلا ، مع أنّنا نحسّ وجدانا أنّ لهذا الكلام مدلولا تصوّريّا وصورة ذهنيّة مترابطة ومحفوظة حتّى مع عدم وجود الإرادة الجدّيّة ؛ لأنّ السامع لهذه الجملة يتصوّر المعنى الذي تدلّ عليه هذه الجملة تصوّرا ويخطر في ذهنه ( وجوب الإكرام لكلّ أفراد العالم ) ، غاية الأمر أنّه ليس مرادا جدّا للمتكلّم ؛ لعدم جريان قرينة الحكمة في المقام ؛ إذ لا تجري قرينة الحكمة مع العلم بعدم كون المتكلّم في مقام بيان تمام مراده الجدّي كما في الهزل والتقيّة.

فهذا الوجه مخالف للوجدان القاضي بأنّ الصورة الذهنيّة محفوظة للكلام حتّى مع عدم إرادته جدّا ؛ لأنّه بناء على هذا الفرض يلزم عدم انحفاظ الصورة الذهنيّة للأداة ؛ لأنّها مرتبطة بالمراد الجدّي والمدلول التصديقي وهو منتف في الحالات المذكورة فيلزم انتفاؤها أيضا ، وهو بديهي البطلان كما تبيّن.

وبهذا يتّضح أنّ الوجه الثاني الذي استظهره صاحب ( الكفاية ) هو الصحيح ، وهو كون الأداة موضوعة لما يصلح أن ينطبق عليه المدخول.

٥٠٣
٥٠٤

العموم

بلحاظ الأجزاء والأفراد

٥٠٥
٥٠٦

العموم بلحاظ الأجزاء والأفراد

يلاحظ أنّ كلمة ( كلّ ) مثلا ترد على النكرة فتدلّ على العموم والاستيعاب لأفراد هذه النكرة. وترد على المعرفة فتدلّ على العموم والاستيعاب أيضا ، لكنّه استيعاب لأجزاء مدلول تلك المعرفة لا لأفرادها.

ومن هنا اختلف قولنا : ( اقرأ كل كتاب ) عن قولنا : ( اقرأ كلّ الكتاب ).

العموم الأجزائي هو الاستيعاب والشمول لكلّ جزء من المدخول ، وهذا يكون في أدوات العموم الداخلة على المعرفة من قبيل ( اقرأ كلّ الكتاب ) ، فهنا تستوعب ( كلّ ) كلّ جزء من أجزاء الكتاب.

وأمّا العموم الأفرادي فهو الاستيعاب والشمول لكلّ فرد فرد من أفراد المدخول ، وهذا يكون في أدوات العموم الداخلة على النكرات من قبيل ( اقرأ كلّ كتاب ) ، فهنا تستوعب ( كلّ ) كلّ فرد من أفراد الكتاب.

وهذا شيء نحسّ به وجدانا وهو موافق لقول أهل اللغة العربيّة أيضا. ولذلك فلا شكّ في وجود صورتين ذهنيّتين من الاستيعاب تدلّ عليهما كلمة ( كلّ ) ونحوها. وهاتان الصورتان مختلفتان فيما بينهما ، فإنّ الصورة الذهنيّة التي تعطيها جملة ( اقرأ كلّ الكتاب ) تفيد أنّ هناك حكما واحدا على موضوع واحد ، فيكون له امتثال واحد وعصيان واحد أيضا ، بحيث إنّ الامتثال يتحقّق بقراءة كلّ أجزاء الكتاب بينما يتحقّق العصيان بترك جزء منه ، فالعموم الأجزائي كالعموم المجموعي من هذه الناحية ، بحيث يكون المجموع موضوعا واحدا لحكم واحد ، فلا تكثّر ولا شموليّة في الحكم والموضوع.

بينما الصورة الذهنيّة التي تعطيها جملة ( اقرأ كلّ كتاب ) تفيد أنّ هناك أحكاما متعدّدة متكثّرة بعدد ما للموضوع من أفراد ومصاديق ، ولذلك فهناك امتثالات

٥٠٧

متعدّدة ، وهناك أيضا مخالفات عديدة بترك كلّ فرد فرد من هذه الأفراد ؛ لأنّ كلّ فرد موضوع مستقلّ لحكم مستقلّ عن الآخر.

وعلى هذا الأساس يطرح السؤال التالي : هل أنّ لأداة العموم وضعين لنحوين من الاستيعاب؟ وإلا كيف فهم منها في الحالة الأولى استيعاب الأفراد وفي الحالة الثانية استيعاب الأجزاء؟!

والنقطة الجديرة بالبحث هنا هي : هل أنّ هذا الاختلاف في المعنى والصورة الذهنيّة التي تعطيها كلمة ( كلّ ) عند دخولها على المعرفة تارة وعلى النكرة أخرى ، مردّه الى وجود وضعين مستقلّين في اللغة العربيّة لكلمة ( كلّ ) ، بحيث إنّ الواضع وضعها تارة لاستيعاب الأجزاء إذا دخلت على المعرفة ، ووضعها أخرى لاستيعاب الأفراد إذا دخلت على النكرة؟ أو مردّ ذلك إلى شيء آخر مع الحفاظ على كونها موضوعة لغة لمعنى واحد ، وهو الاستيعاب والشمول لكلّ ما يصلح أن ينطبق عليه المدخول ، غاية الأمر أنّ المدخول إذا كان معرّفا كان يصلح للانطباق على أجزائه فقط دون أجزاء غيره لنكتة التعيين والتشخّص في المعرفة ، وإذا كان متكثّرا كان صالحا للانطباق على كلّ الأفراد والمصاديق لنكتة الشيوع والانتشار في النكرة؟

وإلا فكيف حصل هذا الاختلاف في كلمة ( كلّ ) إذا ما دام الوضع فيها واحدا ولا توجد قرينة على ذلك؟!

وقد أجاب المحقّق العراقي رحمه‌الله (١) على هذا السؤال بأنّ ( كلّ ) تدلّ على استيعاب مدخولها للأفراد ، ولكنّ اتجاه الاستيعاب نحو الأجزاء في حالة كون المدخول معرّفا بـ ( اللام ) ، من أجل أنّ الأصل في بـ ( اللام ) أن يكون للعهد ، والعهد يعني تشخيص الكتاب في المثال المتقدّم ، ومع التشخيص لا يمكن الاستيعاب للأفراد ؛ فيكون هذا قرينة عامّة على اتّجاه الاستيعاب نحو الأجزاء كلّما كان المدخول معرّفا بـ ( اللام ).

أجاب المحقّق العراقي على السؤال المذكور : بأنّ الأصل في كلمة ( كلّ ) أن تدلّ على استيعاب الأفراد كما في قولنا : ( أكرم كلّ عالم ) فإنّها تدلّ على استيعاب تمام الأفراد التي يصلح المدخول للانطباق عليها ؛ لأنّ العموم معناه الشمول والاستيعاب

__________________

(١) مقالات الأصول ١ : ٤٣٣.

٥٠٨

لكلّ فرد من أفراد المدخول من حيث إنّ العموم يري الأفراد تصوّرا ، فالحكم منصبّ على الأفراد جميعا بنحو يكون كلّ فرد موضوعا مستقلاّ للحكم ، ولهذا كان الأصل في العموم هو الاستغراق الذي معناه التكثّر والتعدّد في الحكم بعدد ما للموضوع من أفراد ومصاديق ، ولا يخرج عن هذا الأصل إلا بقرينة وعناية إضافيّة.

وعلى هذا الأساس كانت دلالة ( كلّ ) على العموم الأجزائي تحتاج إلى قرينة وعناية زائدة ؛ لأنّ استيعاب الأجزاء معناه العموم المجموعي بحيث تكون كلّ الأجزاء موضوعا واحدا ينصبّ عليها حكم واحد ، فلا تعدّد ولا تكثّر في الحكم ، وهذا على خلاف الأصل الأوّلي من العموم الذي يعني الاستيعاب والشمول وتعدّد الحكم وتكثّره.

ففي قولنا : ( اقرأ كلّ الكتاب ) كانت العناية الزائدة التي من أجلها اتّجهت كلمة ( كلّ ) نحو العموم الأجزائي على خلاف أصلها ، هي ( الألف ) و ( اللام ) ، حيث إنّ ( الألف ) و ( اللام ) دالّة على العهد ، والعهد معناه التعيين والتشخيص وهو معنى الوحدة والجزئيّة.

فإذا دخلت أداة العموم ( كلّ ) على المعرّف بـ ( اللام ) الدالّة على التعيين والوحدة لم تكن دالّة على استيعاب تمام الأفراد والمصاديق ؛ لأنّ الوحدة تتنافى مع التعدّد والتكثّر ، ولذلك تكون دالّة على أجزاء هذا الشيء الواحد الذي يتكوّن منها ، فكان العموم هنا أجزائيّا على أساس هذه القرينة العامّة.

ومن هنا أمكننا القول جوابا على السؤال المطروح بأنّ الأصل في كلمة ( كلّ ) أن تدلّ على العموم الأفرادي ، وتخرج عن هذا الأصل للدلالة على العموم الأجزائي بقرينة عامّة ، هي وجود ( اللام ) الدالّة على العهد ، والذي معناه التعيين والتشخيص والوحدة والذي يتنافى مع التكثّر والتعدّد (١).

__________________

(١) والصحيح : أنّه يمكن أن يفرض الأصل بالعكس أيضا ، بأن يقال : إنّ الأصل في أداة العموم أن تكون موضوعة لاستيعاب الأجزاء كما في ( اقرأ كلّ الكتاب ). ويخرج عن هذا الأصل للدلالة على العموم الأفرادي لقرينة زائدة ، وهي التنوين الدالّ على الشيوع والانتشار كما في ( اقرأ كلّ كتاب ) فإنّ التنوين يدل على الواحد الشائع المنتشر وهو يتناسب مع التعدّد والتكثّر.

مضافا إلى أنّ أداة العموم تفيد توحيد المتكثّرات في مفهوم وحداني ، ولذلك تفيد الدلالة على كلّ أجزاء هذا الأمر الوحداني المتضمّن لهذه المتكثّرات ...

٥٠٩

__________________

... إلا أنّه مع ذلك يمكن أن يقال : إنّ العموم الأجزائي والعموم الأفرادي كلّ منهما يحتاج إلى قرينة زائدة ؛ لأنّ أداة العموم موضوعة للاستيعاب الكمّي لكلّ ما يصلح أن ينطبق عليه المدخول. وحينئذ إن كان المدخول صالحا للانطباق على الأفراد كان الاستيعاب الكمّي متّجها نحو الأفراد كما في ( أكرم كلّ عالم ) ، فإنّ المدخول له قابليّة وصلاحيّة لأن ينطبق على كلّ فرد من أفراد العالم. وإن كان المدخول صالحا للانطباق على الأجزاء فقط كان الاستيعاب الكمّي متّجها نحو الأجزاء كما في قولنا : ( اقرأ كلّ الكتاب ) ، فإنّ الكتاب صالح للانطباق على أجزائه فقط ولا صلاحيّة له للانطباق على الأفراد بسبب وجود ( اللام ) الدالّة على العهد والتعيين المتنافي مع الأفراد ؛ لأنّها تعني الكثرة والتعدّد.

ومن هنا صحّ القول جوابا على السؤال المذكور بأنّ أداة العموم ( كلّ ) موضوعه لغة لمعنى واحد وهو الاستيعاب الكمّي لكلّ ما يصلح أن ينطبق عليه المدخول ، وأمّا العموم الأجزائي والعموم الأفرادي فكلّ منهما كان لأجل قرينة تدلّ عليه ، وليس أحدهما موضوعا للأداة دون الآخر.

٥١٠

دلالة الجمع المعرّف

باللام على العموم

٥١١
٥١٢

دلالة الجمع المعرّف بـ ( اللام ) على العموم

قد عدّ الجمع المعرّف بـ ( اللام ) من أدوات العموم ، ولا بدّ من تحقيق كيفيّة دلالة ذلك على العموم ثبوتا أوّلا ، ثمّ تفصيل الكلام في ذلك إثباتا.

ذكر من أدوات العموم الجمع المعرّف بـ ( اللام ) كما في قولنا : ( أكرم العلماء ) حيث يقال : إنّ ( اللام ) الداخلة على الجمع من أدوات العموم ، فهي تدلّ على العموم والاستيعاب بنحو المعنى الحرفي أي على النسبة الاستيعابيّة.

وتحقيق الكلام في ذلك يقع في مقامين :

الأوّل : يبحث عن كيفيّة دلالة الجمع المعرّف بـ ( اللام ) على العموم ، وأنّه كيف يتمّ تصوير دلالته على العموم ثبوتا ليتعقّل ذلك؟

الثاني : يبحث إثباتا حول هذه الدلالة بعد فرض وجود تصوير ثبوتي ممكن لها ، فيبحث في أنّ هذه الدلالة الثبوتيّة على العموم ما هو الدليل عليها إثباتا ، وما هو الدالّ عليها من الألفاظ الموجودة في الكلام؟

أمّا الأمر الأوّل فهناك تصويرات لهذه الدلالة :

منها أن يقال : إنّ الجمع المعرّف بـ ( اللام ) يشتمل على ثلاثة دوال :

أمّا الأمر الثبوتي فيمكن تصوير دلالة الجمع المعرّف بـ ( اللام ) على العموم بعدّة تصويرات ، منها ما هو المختار عندنا من أنّ الجمع المعرف بـ ( اللام ) ( العلماء ) يشتمل على ثلاثة دوالّ ، لكلّ منها مدلول خاصّ ، وهذه المداليل الثلاثة معا تشكّل صورة ذهنيّة تدلّ على العموم والاستيعاب وتوضيح ذلك :

أحدها : مادّة الجمع التي تدلّ في كلمة ( العلماء ) على طبيعي العالم.

الدالّ الأوّل : هو مادّة الجمع فإنّ الجمع في قولنا : ( العلماء ) المادّة التي يدلّ عليها هي طبيعي العالم أي ذات ماهيّة العالم ، وهذا المعنى الذي تدلّ عليه المادّة مفهوم اسمي.

٥١٣

والآخر : هيئة الجمع التي تدلّ على مرتبة من العدد لا تقلّ عن ثلاثة من أفراد تلك المادّة.

الدالّ الثاني : هو هيئة الجمع ، فإنّ الهيئة التي صيغت فيها المادّة تسمّى بهيئة الجمع ، وهذه الهيئة تدلّ على مرتبة من الجمع لا تقلّ عن ثلاثة ؛ لأنّ أقلّ الجمع ثلاثة مع إمكان دلالتها على بقيّة المراتب الأخرى أيضا فهي لا بشرط من جهة الزيادة.

وهذا المفهوم الذي تدلّ عليه الهيئة مفهوم اسمي ، وهو التعدّد من أفراد المادّة.

والثالث : ( اللام ) ، وتفترض دلالتها على استيعاب هذه المرتبة لتمام أفراد المادّة.

الدالّ الثالث : هو ( اللام ) الداخلة على الجمع ، وهذه ( اللام ) يفرض كونها دالّة على العموم والاستيعاب بأحد النحوين الآتيين في البحث الإثباتي ، وتكون ( اللام ) دالّة على العموم بنحو المعنى الحرفي ؛ لأنّها حرف يدلّ على النسبة القائمة بين طرفين فعلا.

ويكون الاستيعاب مدلولا لـ ( اللام ) بما هو معنى حرفي ونسبة استيعابية قائمة بين المستوعب وهو مدلول هيئة الجمع والمستوعب وهو مدلول مادّة الجمع.

والنتيجة من هذه المداليل الثلاثة أنّ ( اللام ) بما أنّها معنى حرفي فلا بدّ أن تكون متقوّمة فعلا بطرفيها ، ولا بدّ أن يكون الطرفان من المعاني الاسميّة التي يمكن تصوّرها مستقلّة عن الجملة ، وهنا تكون ( اللام ) رابطة بين المدلول في هيئة الجمع وهو التعدّد وبين المدلول في مادّة الجمع وهو الطبيعة والماهيّة.

وحينئذ تكون ( اللام ) دالّة على نسبة قائمة بين المفهومين المذكورين ، وهذه النسبة هي النسبة الاستيعابيّة بين المستوعب وهو مدلول الهيئة وبين المستوعب وهو مدلول المادّة. فتكون لها دلالة على استيعابيّة بنحو المعنى الحرفي لجميع أفراد هذه الطبيعة.

وأمّا الأمر الثاني : فإثبات اقتضاء ( اللام ) الداخلة على الجمع للعموم يتوقّف على إحدى دعويين :

إمّا أن يدّعى وضعها للعموم ابتداء ، وحيث إنّ ( اللام ) الداخلة على المفرد لا تدلّ على العموم ، فلا بدّ أن يكون المدّعى وضع ( اللام ) الداخلة على الجمع بالخصوص لذلك.

وأمّا البحث الإثباتي فلكي تكون ( اللام ) الداخلة على الجمع تفيد العموم لا بدّ من وجود دلالة فيها على العموم ، وهذه الدلالة يمكن إثباتها بإحدى دعويين :

٥١٤

الدعوى الأولى : أن تكون ( اللام ) الداخلة على الجمع موضوعة لغة لإفادة العموم والاستيعاب ، بخلاف ( اللام ) الداخلة على المفرد فإنّها لا تدلّ على العموم ، وهذا يفترض كون ( اللام ) مشتركا لفظيّا لئلاّ يلزم المجازيّة في البين ، فتكون ( اللام ) موضوعة لغة لوضعين :

الأوّل : ( اللام ) الداخلة على المفرد المفيدة للعهد والتعيين أو للجنس كقولنا : ( قرأت الكتاب ) و ( أكرم العالم ).

الثاني : ( اللام ) الداخلة على الجمع المفيدة للعموم والاستيعاب كقولنا : ( أكرم العلماء ).

فإذا ثبت ذلك كان العموم المستفاد من ( اللام ) الداخلة على الجمع بالوضع فلا يحتاج إلى مئونة وعناية زائدة ، بل يتمسّك بأصالة الحقيقة في الوضع لإثبات الوضع.

وإمّا أن يدّعى أنّها تدلّ على معنى واحد في موارد دخولها على المفرد وعلى الجمع ، وهو التعيّن في المدخول ، على ما تقدّم في معنى ( اللام ) الداخلة على اسم الجنس في الحلقة السابقة (١).

الدعوى الثانية : أن تكون ( اللام ) موضوعة لغة لوضع واحد ومعنى فارد سواء كانت داخلة على المفرد أو على الجمع ، وهذا المعنى هو التعيين في المدخول.

وعليه فلا يفترق قولنا : ( أكرم العالم ) عن قولنا : ( أكرم العلماء ) في كون ( اللام ) الداخلة على المفرد والجمع مفيدة للتعيين في المدخول ؛ لأنّ الأصل في ( اللام ) أن تدلّ على العهد وهو معناه التشخّص والتعيّن في المدخول.

فتكون الصورة الذهنيّة المفادة من المدخول معهودة ومشخّصة ومعيّنة ، سواء بالعهد الذكري أو الحضوري أو بالاستئناس الخاصّ أو العامّ في الذهن. غاية الأمر أنّ التعيّن يختلف معناه من جهة المدخول لا من جهة ( اللام ) وتوضيحه :

فإذا كان مدخولها اسم الجنس كفى في التعيّن المدلول عليه بـ ( اللام ) تعيّن الجنس الذي هو نحو تعيّن ذهني للطبيعة ، كما تقدّم (٢) في محلّه.

فإذا دخلت ( اللام ) على اسم الجنس كقولنا : ( أكرم العالم ) كانت مفيدة للتعيّن

__________________

(١) وفي بحث الإطلاق ، تحت عنوان : الحالات المختلفة لاسم الجنس.

(٢) الحلقة الثانية ، في نفس البحث وتحت نفس العنوان.

٥١٥

والتشخص للطبيعة والجنس والماهيّة ، ومن المعلوم أن الماهيّة والطبيعة متعيّنة ومتشخّصة ومتميّزة عن غيرها من الماهيّات والطبائع والأجناس بما هي صورة ذهنيّة ومفهوم.

فإنّ طبيعة ( العالم ) في المثال مشخّصة ومتعيّنة ذهنا ومفهوما عن غيرها من الصور الذهنيّة ؛ لأنّ مفهوم العالم يختلف عن مفهوم العادل والجاهل والحيوان ونحو ذلك فإذا يكفي في حصول التعيّن للجنس والطبيعة أن تكون متعيّنة ذهنا ومفهوما.

وبعد تعيّنها كذلك يستفاد الشموليّة والاستيعاب بعد إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة ، بحيث يثبت أنّ الطبيعة لم يؤخذ معها قيد ، وبالتالي فهي تنطبق على كلّ فرد يتضمّنها ويحفظ المفهوم فيها ، وهو معنى الشمول والعموم لكلّ الأفراد.

فالتعيّن الذهني للطبيعة بما هي كمفهوم لا يستفاد منها العموم والشمول ؛ لأنّ الطبيعة كذلك تصدق على فرد واحد من أفرادها ، فلكي يثبت الشمول والاستيعاب لكلّ الأفراد لا بدّ من توسّط قرينة الحكمة.

وإذا كان مدخولها الجمع فلا بدّ من فرض التعيّن في الجمع ، ولا يكفي التعيّن الذهني للطبيعة المدلولة لمادّة الجمع.

وإذا دخلت ( اللام ) على الجمع كقولنا : ( أكرم العلماء ) كانت مفيدة للتعيّن أيضا ، إلا أنّ هذا التعيّن ليس للماهيّة والطبيعة وإنّما التعيّن في الجمع.

والوجه في ذلك هو : أنّ مدخول ( اللام ) هنا هو الجمع ، والمفروض أنّ ( اللام ) موضوعة لغة لتعيّن المدخول ، فإذا لا بدّ من فرض التعيّن للجمع ؛ لأنّه المدخول.

وأمّا تعيّن الماهيّة والطبيعة المدلول عليها بالمادّة من قبيل ( العالم ) في مثالنا ، فهذا التعيّن في الماهيّة لا يكفي ولا يغني عن التعيّن في الجمع ؛ وذلك للمنافاة بينهما ، فإن التعيّن في الماهيّة تقدّم أنّه يكفي فيه التشخّص والتعيّن الذهني وهو يتحقّق بالفرد الأوّل منه ؛ لأنّ الماهيّة ذاتها توجد بفرد من أفرادها ، بينما التعيّن في الجمع لا يكفي فيه أقلّ من ثلاثة ؛ لأنّ أقلّ مراتب الجمع هي الثلاثة ، ولذلك لا يكفي في تعيّن المدخول الذي هو الجمع أن يكون هناك تعيّن للماهيّة والطبيعة.

وحينئذ فلا بدّ أن نفرض التعيّن في مرتبة من مراتب الجمع يتحقّق فيها التشخّص والتميّز والتعيّن. وعليه ، فلا بدّ من التفتيش عن تلك المرتبة من الجمع التي يتمّ فيها التعيّن والتميّز عن غيرها ، ولذلك نقول :

٥١٦

وتعيّن الجمع بما هو جمع إنّما يكون بتحدّد الأفراد الداخلة فيه ، وهذا التحدّد لا يحصل إلا مع إرادة المرتبة الأخيرة من الجمع المساوقة للعموم ؛ لأنّ أية مرتبة أخرى لا يتميّز فيها ـ من ناحية اللفظ ـ الفرد الداخل عن الخارج.

التعيّن المقصود من الجمع هو تحديد الأفراد الداخلة في الجمع عن الأفراد الخارجة ، فقولنا : ( أكرم العلماء ) تدلّ ( اللام ) على التعيّن في الجمع ، وهذا التعيّن في العلماء لا يتمّ إلا إذا حدّدت الأفراد الداخلة فيه من الأفراد الخارجة عنه.

وليس المقصود من التعيّن في الجمع تحديد مرتبة وعدد معيّن من الجمع كما قال صاحب ( الكفاية ) : ليقال : إنّ كلّ مرتبة من مراتب الجمع متعيّنة بنفسها كصورة ذهنيّة ومفهوم ، حيث إنّ الثلاثة مرتبة من الجمع وهكذا في الأربعة والخمسة إلى آخره. وكلّ واحدة من هذه المراتب لها تعيّن في نفسها ؛ لأنّها صورة ومفهوم يختلف عن الصورة والمفهوم في المرتبة الأخرى ، فيكون التعيّن في الجمع على هذا هو المرتبة الدنيا من الجمع ؛ لأنّها المرتبة التي لا شكّ في انطباق الجمع عليها.

وإنّما المقصود من التعيّن ما ذكرناه من تحديد الأفراد الداخلة وتمييزها عن الأفراد الخارجيّة. وهذا لا يكفي فيه التحدّد في المرتبة ؛ لأنّ كلّ مرتبة وإن كانت متعيّنة ومحدّدة في نفسها إلا أنّه لا يعلم الأفراد الداخلة فيها ؛ لأنّ كلّ مرتبة كالثلاثة والأربعة صالحة للانطباق على هذه الثلاثة وعلى تلك ، وهكذا.

وعليه ، فلا يحصل التعيّن والتحدّد في الجمع في عالم الصدق الخارجي وإن كان متحقّقا في عالم الذهن والمفهوم والصورة ، وحيث إنّ المطلوب من المفهوم أن يكون حاكيا عن الخارج فلا بدّ من فرض التعيّن والتحديد في الخارج لا في الذهن فقط.

والتعيّن للأفراد في الخارج لا يعلم ولا يتحقّق إلا إذا أريد من الجمع المرتبة العليا والأخيرة منه ، وهي المرتبة التي تكون فيها كلّ الأفراد داخلة في المدخول والطبيعة ؛ لأنّه إذا أريد هذه المرتبة من الجمع كان معناه أنّ كلّ فرد فرد من أفراد المدخول داخلا في هذا الجمع ومرادا في الصورة الذهنيّة ، وهذا يساوق العموم ؛ لأنّ العموم معناه الاستيعاب لكلّ الأفراد التي يصلح المدخول للانطباق عليها.

وأمّا المراتب الأخرى من الجمع كالثلاثة والأربعة وغيرهما فلا تفيد التعيّن

٥١٧

والتحدّد ؛ لأنّه لا يعلم فيها الفرد الداخل من الفرد الخارج. فيبقى التردّد والحيرة في كلّ هذه المراتب وهذا يتنافى مع دلالة اللام على التشخّص والتعيّن.

وبهذا ظهر أنّ ( اللام ) الداخلة على الجمع تفيد التعيّن والتشخص ، وهذا لا يحصل إلا في المرتبة الأخيرة من الجمع ، فيكون المراد من ( أكرم العلماء ) وجوب إكرام كلّ الأفراد التي ينطبق عليها هذا الجمع ، وهذا يعني العموم ؛ لأنّ لازم تعيّن المرتبة العليا هو الشمول والاستيعاب لكلّ الأفراد ، فالاستيعاب هنا لم يكن مدلولا ( اللام ) ، بل كان لازما لمدلولها (١).

__________________

(١) نعم ، نحتاج هنا الى إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة في المدخول ؛ لأنّ كون التعيّن لا يحصل إلا بالمرتبة العليا. غاية ما يفيد كون الأفراد التي ينطبق عليها المدخول داخلة ، وأمّا أنّ هذا المدخول وهذه الأفراد هل هي أفراد الطبيعة المطلقة أو أنّها أفراد الطبيعة المقيّدة؟

فهذا لا يمكن إثباته من الكلام واللفظ أو ( اللام ) أو المرتبة العليا من الجمع ، بل لا بدّ من إثباته بالإطلاق وقرينة الحكمة.

٥١٨

النكرة في

سياق النهي أو النفي

٥١٩
٥٢٠