شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

في المفهوم ، نظير المجاز العقلي السكّاكي. فإنّ اعتبار الرجل الشجاع أسدا ليس فيه مجاز في اللفظ ، فإنّ الرجل الشجاع على معناه الحقيقي والأسد على معناه الحقيقي فالمفهوم ثابت من دون أيّة عناية مجازيّة ، وإنّما المجازيّة في المصداق بحيث إنّ العقل يحكم بوجود مصداق آخر للأسد ادّعاء واعتبارا. فالأسد يشمل الحيوان المعروف ويشمل الرجل الشجاع على حدّ واحد ، فهو مستعمل في معناه الحقيقي. غاية الأمر إنّ له فردين أحدهما حقيقي وتكويني ، والآخر ادّعائي واعتباري اخترعه العقل وأوجده.

وهنا كذلك فإنّ دليل الحجّيّة يعتبر الأمارة علما ادّعاء واعتبارا ، بمعنى أنّ العلم على حاله وهو الانكشاف التامّ ، وهذا المفهوم له فردان أحدهما فرد حقيقي تكويني وهو العلم الوجداني أي القطع واليقين ، والآخر هو العلم التعبّدي الاعتباري الجعلي والذي هو الأمارة ، فالشارع جعل الأمارة وهذا الظنّ علما ، بمعنى أنّها مصداق من مصاديق العلم اعتبارا وادّعاء.

وحينئذ فإذا ثبت كونها علما ، فتترتّب عليها آثار العلم من المنجّزيّة والمعذّريّة ، فإنّهما من آثار العلم والأمارة مصداق ادّعائي للعلم كما أنّ القطع مصداق حقيقي للعلم.

وفرق هذا عن التنزيل أنّ التنزيل ينزّل الأمارة منزلة القطع ، بحيث يريد إسراء آثار القطع عليها مع الحفاظ على كونها ظنّا ، فيرد عليه الإشكال السابق. وأمّا هنا فإنّه يسري آثار العلم للأمارة لا بوصفه أمارة وظنّا ، بل بوصفها علما ، أي أنّه يوجد الموضوع ، فإذا تحقّق الموضوع ثبت الحكم.

وهذا المسلك يسمّى بالحكومة ، أي أنّ أدلّة جعل الحجّيّة للأمارة حاكمة على ( قبح العقاب بلا بيان ) ؛ لأنّها توجد العلم والبيان ، بمعنى أنّها توسّع الموضوع ليشمل العلم الحقيقي والعلم الاعتباري (١).

__________________

(١) إلا أنّ هذا المسلك غير صحيح في نفسه ، أوّلا. وثانيا : كما تقدّم من أنّ الحكومة نوع من التخصيص إلا أنّها بلسان رفع الموضوع ادّعاء ، والأحكام العقليّة غير قابلة للتخصيص كما تقدّم في شبهة ابن قبة الثالثة.

وثالثا : أنّ الحكومة كما سيأتي يشترط فيها النظر بين الحاكم والمحكوم ، وهنا الحاكم دليل شرعي والمحكوم هو دليل عقلي ولا يمكن النظر فيهما لعدم وحدة الرتبة ، فإنّ كلاّ منهما من سنخ خاصّ يختلف عن الآخر.

٢٤١

والصحيح : أنّ قيام الأمارة مقام القطع الطريقي في التنجيز وإخراج مؤدّاها عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ على تقدير القول بها ـ إنّما هو بإبراز اهتمام المولى بالتكليف المشكوك على نحو لا يرضى بتفويته على تقدير ثبوته كما تقدّم ، وعليه ، فالمهمّ في جعل الخطاب الظاهري أن يكون مبرزا لهذا الاهتمام من المولى لأنّ هذا هو جوهر المسألة.

والصحيح في حلّ هذا الإشكال المطروح ـ على مستوى الصياغة وكيفيّة جعل الأمارة ، بحيث يكون دليل جعلها حجّة وافيا بقيامها مقام القطع الطريقي ثبوتا بعد التسليم بوجوده إثباتا ـ أن نقول : إنّ الأحكام الظاهريّة خطابات لإبراز الأهمّ من الملاكات الواقعيّة في حالة الاشتباه والاختلاط وعدم تمييز المكلّف لها في صورة الشكّ والجهل بالواقع ، فإنّ الأمارات تنجّز وتعذّر ؛ لأنّها تحكي عن أهمّيّة الملاك الإلزامي أو الترخيصي بالمنجّزيّة والمعذّريّة للملاك الواقعي المبرز بهذه الأمارة.

وليس للأمارة منجّزيّة ومعذّريّة مستقلّة عن الواقع ، ولذلك لا يسجّل الإشكال أصلا.

وأمّا بناء على مبنى المشهور القائل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان حيث إنّ القاعدة الأوّلية بحكم العقل عندهم هي البراءة والتأمين ، فالإشكال بمنجّزيّة الأمارة عند قيامها على الإلزام يمكن حلّه أيضا بأن نقول : إنّ القاعدة مختصّة بالأحكام المشكوكة التي

__________________

ورابعا : أنّ ما ذكره الميرزا لا يتناسب مع الحكومة ؛ لأنّ المجاز العقلي المذكور يوجد فردا حقيقيّا لا أنّه يوجد فردا ادّعائيّا واعتباريّا ، ولذلك فكلامه يتناسب مع الورود ؛ لأنّه ايجاد فرد حقيقي بلسان تعبّدي اعتباري. ولذلك يسمّى هذا النوع بالحكومة الميرزائيّة تمييزا لها عن الحكومة الاصطلاحيّة أي الحكومة الظاهريّة ، إلا أنّه مع ذلك لا يتمّ ما ذكره ؛ لأنّ المجعول وإن كان هو العلميّة إلا أنّ هذا لا يمسّ حقيقة الحكم الظاهري المجعول في الأمارة ، وإنّما هو مجرّد صياغة إنشائية في مقام التعبير عن هذا الحكم الثبوتي الملحوظ بنظر المولى ، وإلا فإنّ السؤال يبقى مطروحا ، وهو أنّ هذا الحكم الظاهري المبرز في الأمارة ، بلسان جعلها علما ما هي حقيقته وهل هو ناشئ من مبادئ ملاكات مستقلّة أو ليس ناشئا من ذلك؟ فإن قيل بوجود ملاكات مستقلّة جاءت شبهة ابن قبة في لزوم اجتماع الضدّين أو المثلين ، وإن لم يقل بوجود ملاكات مستقلّة فلا بدّ من بيان دور هذا الحكم الظاهري ، وما هي المهمّة التي جعل لأجلها؟

٢٤٢

على تقدير ثبوتها ممّا يعلم بعدم اهتمام المولى بها ويرضى بتفويتها ، وأمّا الأحكام المشكوكة التي يعلم باهتمام المولى بها ولا يرضى بتفويتها على تقدير ثبوتها فهي غير داخلة في القاعدة رأسا ، بل هي خارجة عنها تخصّصا. وحينئذ فالأمارة الدالّة على الإلزام إنّما تدلّ على أنّ هذا الحكم المشكوك ممّا لا يرضى المولى بتفويته على تقدير ثبوته واقعا ، فهي تبرز لنا أهميّة الملاكات الواقعيّة على تقدير ثبوتها ، فتكون منجّزة ؛ لأنّها تبرز لنا الواقع وأنّه يوجد في الواقع حكم منجّز على تقدير ثبوته. وعليه فالمطلوب من الأمارة المنجّزة إبراز هذا الأمر ، فإنّ هذا هو المهمّ في جعل الحكم الظاهري مطلقا حتّى في الأصول العمليّة ، فالتنجيز تابع لإبراز الأمارة أو الأصل والواقع أنّ المولى لا يرضى بتفويته على تقدير ثبوته. وعليه فالصياغة الإنشائيّة يجب أن تكون وافية بهذا المقدار ؛ لأنّه جوهر البحث في المسألة.

وأمّا لسان هذا الإبراز وصياغته وكون ذلك بصيغة تنزيل الظنّ منزلة العلم ، أو جعل الحكم المماثل للمؤدّى ، أو جعل الطريقيّة ، فلا دخل لذلك في الملاك الحقيقي وإنّما هو مسألة تعبير فحسب ، وكلّ التعبيرات صحيحة ما دامت وافية بإبراز الاهتمام المولوي المذكور ؛ لأنّ هذا هو المنجّز في الحقيقة.

وحينئذ فلا تضرّ الصياغة الإنشائيّة في المقام ، لأنّها مجرّد صياغات إنشائيّة. فما دامت وافية بإبراز الغرض المذكور وهو أنّ المولى مهتمّ بهذا الواقع وأنّه لا يرضى بتفويته على تقدير ثبوته فالصياغة صحيحة مهما كانت ، وإن لم تكن وافية بذلك فهي مخطئة مهما كانت. فإنّ المسالك المذكورة لا تبرز جوهر المسألة والمنجّز الحقيقي في الأمارة وإنّما هي تعبيرات فقط ، فإن أدّت وحكت وكشفت عن الملاك الحقيقي المنجّز فهي صحيحة وإلا فلا.

وأمّا البحث الثاني : فإن كان القطع مأخوذا موضوعا لحكم شرعي بوصفه منجّزا ومعذّرا فلا شكّ في قيام الأمارة المعتبرة شرعا مقامه ؛ لأنّها تكتسب من دليل الحجّيّة صفة المنجّزيّة والمعذّريّة فتكون فردا من الموضوع ، ويعتبر دليل الحجّيّة في هذه الحالة واردا على دليل ذلك الحكم الشرعي المرتّب على القطع ؛ لأنّه يحقّق مصداقا حقيقيّا لموضوعه.

القطع له حيثيّتان نوريّتان فهو نور في نفسه ونور لغيره ، ولذلك فهو على نحوين :

٢٤٣

الأوّل : بما هو نور في نفسه أي بما هو كاشف تامّ وبما هو حالة تحصل لدى النفس من الاستقرار والإذعان ، وهو المسمّى بالصفتيّة.

الثاني : بما هو نور لغيره أي بما هو كاشف تامّ وطريق إلى غيره ، بحيث يكون منكشفا ومظهرا به وهو المسمّى بالكاشفيّة. ثمّ إنّ القطع من آثاره وأحكامه العقليّة كونه منجّزا ومعذّرا كما تقدّم.

ثمّ إنّه على القسمين الأوّلين تارة يؤخذ تمام الموضوع ، وأخرى يؤخذ جزء الموضوع ، فالمجموع أقسام خمسة للقطع الموضوعي.

فإن كان القطع المأخوذ في الموضوع للحكم الشرعي مأخوذا كذلك بوصفه منجّزا ومعذّرا أي بما هو حجّة ، أي بلحاظ أثره العقلي فهنا تقوم الأمارة مقامه ؛ لأنّ القدر المتيقّن من جعل الحجّيّة للأمارة كونها منجّزة للتكليف ومعذّرة عنه في صورة المخالفة.

فالمنجّزيّة والمعذّريّة ثابتتان للأمارة كما تقدّم سابقا ، وبالتالي تقوم مقام القطع الموضوعي. فإذا قيل مثلا : إذا قطعت بخمريّة شيء فاجتنبه ، وكان القطع المأخوذ في الموضوع بنحو المنجّزيّة والمعذّريّة. فإذا قامت الأمارة على كون هذا خمرا فيجب اجتنابه ؛ لأنّها تحقّق المنجّزيّة. ففي الحقيقة لم تكن الخصوصيّة والمناط للقطع ، وإنّما للمنجّزيّة والمعذّريّة وليس هو إلا كمثال وكمصداق لها فقط ، ولذلك يقوم غيره من المصاديق مقامه.

وحينئذ نقول : إنّ دليل حجّيّة الأمارة الذي يكسبها المنجّزيّة والمعذّريّة يكون واردا على دليل ذلك الحكم الشرعي المرتّب على القطع بوصفه منجّزا ومعذّرا. فإنّ الدليل المفروض في المثال مفاده أنّ الحكم الشرعي بوجوب الاجتناب موضوعه مركّب من الخمريّة والقطع بها ، ودليل حجّيّة الأمارة يجعلها منجّزة ومعذّرة ادّعاء ، بمعنى أنّه يحقّق فردا من أفراد المنجّزيّة والمعذّريّة ، ويدّعي أنّه مصداق حقيقي كغيره من المصاديق الأخرى.

وبتعبير آخر : إنّ القطع المأخوذ في الموضوع إنّما أخذ بوصفه مصداقا حقيقيّا للمنجّزيّة والمعذّريّة لا لنفسه أو بما هو كاشف تامّ ، ودليل الحجّيّة الذي يجعل الأمارة منجّزة ومعذّرة يدّعي أنّه يوجد مصداق حقيقي آخر لهذه المنجّزيّة والمعذّريّة. فهما ليستا محصورتين ضمن القطع ، بل موجودتان ضمن الأمارة أيضا. وبهذا يكون

٢٤٤

دليلها واردا على دليل ذلك الحكم الشرعي بوجوب الاجتناب ؛ لأنّه يحقّق فردا ومصداقا حقيقيّا من أفراد ومصاديق موضوعه الذي هو المنجّزيّة والمعذّريّة ، والقطع وإن ذكر في الموضوع إلا أنّه ذكر بوصفه منجّزا ومعذّرا ، أي مصداقا لهما لا بوصفه كاشفا تامّا أو طريقا إلى الغير.

وهذا القسم ممّا لا شكّ فيه عند أحد منهم. والدليل عليه نفس دليل حجّيّتها ولا يحتاج إلى دليل آخر.

وأمّا إذا كان القطع مأخوذا بما هو كاشف تامّ فلا يكفي مجرّد اكتساب الأمارة صفة المنجّزيّة والمعذّريّة من دليل الحجّيّة لقيامها مقام القطع الموضوعي ، فلا بدّ من عناية إضافية في دليل الحجّيّة.

وأمّا إذا كان كان القطع مأخوذا في موضوع الحكم الشرعي بوصفه كاشفا تامّا وطريقا محرزا لما تعلّق به وأضيف اليه أي المقطوع. فهنا لا يكفي أن تكون الأمارة منزّلة منزلة القطع في المنجّزيّة والمعذّريّة أي القطع الطريقي ؛ للقول أنّها منزّلة منزلة القطع الكاشفيّة التامّة أي ( القطع الموضوعي ). فإنّ دليل الحجّيّة الذي يكسب الأمارة المنجّزيّة والمعذّريّة لا يفي بنفسه أيضا لإثبات قيامها مقام القطع الموضوعي بما للقطع من كاشفيّة تامّة ؛ وذلك لأنّ هذه الكاشفيّة التامّة ليست موجودة في الأمارة لا حقيقة ؛ لأنّها كاشف ناقص ، ولا بدليل الحجّيّة ؛ لأنّ المستفاد من دليل الحجيّة كونها منجّزا ومعذّرا فقط أي حجّة وهذا غير الكاشفيّة.

إذا فنحتاج إلى إثبات قيامها مقام القطع الموضوعي بما هو كاشف تامّ وطريق إلى دليل آخر غير دليل الحجّيّة (١).

وقد التزم المحقّق النائيني قدس‌سره بوجود هذه العناية بناء على ما تبنّاه من

__________________

(١) مضافا إلى أنّ صاحب ( الكفاية ) أشكل على استفادة قيامها مقام القطع الموضوعي بما يلي : إنّ قيام الأمارة مقام القطع الطريقي معناه لحاظ الأمارة والقطع بما هما آلة ، بينما قيامها مقام القطع الموضوعي معناه لحاظ الأمارة والقطع بما هما مستقلاّن ؛ وذلك لأنّ اللحاظ الأوّل إنّما يتمّ فيما إذا نزلت الأمارة منزلة القطع في المؤدّى والواقع ، بينما اللحاظ الثاني إنّما يتمّ إذا نزّلت الأمارة منزلة القطع مستقلاّ بنفسه ، والجمع بين التنزيلين معا في دليل واحد معناه الجمع بين اللحاظين الآلي والاستقلالي في دليل واحد وهو مستحيل ؛ لأنّهما متضادّان لا يجتمعان على شيء واحد.

٢٤٥

مسلك جعل الطريقيّة فهو يقول : إنّ مفاد دليل الحجّيّة جعل الأمارة علما ، وبهذا يكون حاكما على دليل الحكم الشرعي المرتّب على القطع ؛ لأنّه يوجد فردا جعليّا وتعبّديا لموضوعه فيسري حكمه إليه.

ذكر المحقّق النائيني أنّ دليل حجّيّة الأمارة يتكفّل بنفسه لإثبات قيامها مقام القطع الطريقي والموضوعي معا بنحو لا يلزم منه أي محذور ؛ وذلك لأنّ المحذور السابق كان مبنيّا على أنّ دليل الحجّيّة إنّما هو عمليّة تنزيل للأمارة منزلة العلم أو منزلة المؤدّى ، فيلزم اجتماع اللحاظين الآلي والاستقلالي بدليل واحد وهو محال. بينما الصحيح هو أنّ دليل حجّيّة الأمارة مفاده جعل الأمارة علما ، أي جعل الطريقيّة والعلميّة والكاشفيّة. وعلى هذا فيكون دليل حجّيّة الأمارة حاكما على دليل الحكم الشرعي المرتّب على القطع ؛ لأنّه مأخوذ في موضوعه.

ووجه هذه الحكومة أنّ دليل الحكم الشرعي موضوعه القطع والعلم بما هو كاشف تامّ ، والعلم الوجداني الحقيقي مصداق حقيقي لذلك من باب حمل الشيء على نفسه أوّلا وبالذات ، ودليل حجّيّة الأمارة يعتبر الأمارة علما بمعنى أنّ الأمارة تكوينا وحقيقة ليست إلا الظنّ والكشف الناقص ، فجاء دليل الحجّيّة واعتبر هذا الظنّ علما وهذا الكشف الناقص كشفا تامّا فهو متمّم لهذا النقص. ولذلك فدليل الحجّيّة يدّعي بوجود فرد آخر جعلي واعتباري وتعبّدي من أفراد العلم وبهذا يكون موسّعا لموضوع الحكم الشرعي ليشمل الأعمّ من العلم الحقيقي الوجداني ومن العلم التعبّدي الاعتباري الجعلي.

وحينئذ نقول : إنّ كل الآثار التي تترتّب على العلم الوجداني سواء الشرعيّة والعقليّة فهي تترتّب على الأمارة أيضا بوصفها علما ، ولذا تقوم الأمارة مقام العلم في كونه كاشفا وطريقا وتقوم مقامه في كونه منجّزا ومعذّرا أي حجّة ، وتقوم مقامه فيما إذا كان الحكم مترتّبا عليه نفسه بنحو الاستقلاليّة بأن كان موضوعا للحكم ، وهذا يستفاد من نفس دليل حجّيّتها الذي يجعلها علما ادّعاء وتعبّدا ، وبالتالي لا تحتاج إلى دليل آخر ؛ لأنّ هذه العناية والمئونة الزائدة يتكفّل بها دليل الحجّيّة. ولا يلزم محذور اللحاظين ؛ إذ ليس هناك إلا لحاظ واحد فقط وهو جعلها علما فقط.

٢٤٦

غير أنّك عرفت في بحث التعارض من الحلقة السابقة (١) أنّ الدليل الحاكم إنّما يكون حاكما إذا كان ناظرا إلى الدليل المحكوم ، ودليل الحجّيّة لم يثبت كونه ناظرا إلى أحكام القطع الموضوعي ، وإنّما المعلوم فيه نظره الى تنجيز الأحكام الواقعيّة المشكوكة خاصّة إذا كان دليل الحجّيّة للأمارة هو السيرة العقلائيّة ؛ إذ لا انتشار للقطع الموضوعي في حياة العقلاء لكي تكون سيرتهم على حجّيّة الأمارة ناظرة إلى القطع الموضوعي والطريقي معا.

والصحيح : هو أنّ الأمارة لا تقوم مقام القطع الموضوعي وذلك لأمرين :

الأوّل : أنّ ما ذكره الميرزا من حكومة دليل حجّيّة الأمارة على دليل الحكم الشرعي المأخوذ فيه القطع موضوعا غير تامّ ؛ لأنّ الحكومة بين شيئين يشترط فيها النظر من الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم ، كما تقدّم ذلك في مبحث التعارض من الحلقة الثانية عند البحث في الحكومة والورود.

كما في « الطواف بالبيت صلاة » الحاكم على « لا صلاة إلا بطهور » فإنّه ناظر إلى آثار الصلاة في الطهارة ويوسّعها لتعمّ الطواف أيضا.

وكما في « لا ربا بين الوالد وولده » الحاكم على « الربا حرام » حيث إنّه ينظر إلى موضوعه ويخرج هذا الفرد منه ادّعاء والتالي يخرج عن الحرمة.

وأمّا هنا فإنّ دليل الحجّيّة ليس ناظرا إلى دليل الحكم الشرعي ؛ لأنّ حكومته عليه تستدعي كونه ناظرا إلى ترتيب آثار القطع الطريقي وآثار القطع الموضوعي معا ، وهذا غير محرز. إذ المتيقّن من دليل الحجّيّة هو جعلها منجّزة ومعذّرة فقط ، أي ترتيب آثار القطع الطريقي على الأمارة ، وأمّا آثار القطع الموضوعي فلا يحرز نظره إليها ؛ لأنّ ترتيب آثار القطع الموضوعي على الأمارة إنّما يتمّ لو كانت الأمارة فردا ومصداقا حقيقيّا من أفراد العلم ، وهذا لا يتمّ إلا بالورود وهذا لا يقول به الميرزا.

الثاني : أنّ دليل حجّيّة الأمارة إنّما هو السيرة العقلائيّة ؛ لأنّ مهمّ الأمارات هو الظهور وخبر الثقة ، ودليل حجّيّتها السيرة العقلائيّة كما اعترف بذلك الميرزا نفسه ، والأخبار الدالّة على حجّيّتهما ليس إلا أدلّة إرشاديّة إلى ما هو المرتكز عند العقلاء ، فهي إمضائيّة فقط.

__________________

(١) تحت عنوان : ( الحكم الأوّل : قاعدة الجمع العرفي ).

٢٤٧

وحينئذ لا بدّ أن نلاحظ هذه السيرة وأنّها هل انعقدت على قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي أيضا ، أو قيامها مقام القطع الطريقي فقط؟

والجواب : أنّ الملاحظ من سيرة العقلاء في أمورهم التكوينيّة والتشريعيّة أي علاقة المأمورين بالآمرين والأسياد بالعبيد والرؤساء بالمرءوسين والآباء بالأبناء أنّهم يتعاملون مع الأمارة ويبنون عليها بلحاظ آثار القطع الطريقي فقط أي بلحاظ الحجّيّة ( المنجّزيّة والمعذّريّة ). وأمّا آثار القطع الموضوعي فلم تنعقد سيرتهم على قيام الأمارة مقامه ؛ لعدم شيوعها في معاملاتهم المولويّة والتشريعيّة ، بل إنّه لا وجود للقطع الموضوعي في حياتهم المولويّة أصلا. ولذلك يكون دليل الحجّيّة قاصرا عن إفادة قيامها مقام القطع الموضوعي ، فنحتاج إلى دليل آخر غير دليل الحجّيّة وهو غير موجود (١).

__________________

(١) وثالثا : أنّ الحكومة إنما تكون في الأدلة اللفظية لأنّ اللفظ هو الذي يقبل التوسعة أو التضييق في مفاده ومدلوله ، وأما الأدلة اللبيّة والعقليّة فهي لا يمكن فيها الحكومة ؛ لأنّها أدلة قطعية لا تقبل التوسعة والتضييق.

وهنا دليل الحجيّة إنّما هو السيرة وهي دليل لبيّ فلا يمكن أن تتصور الحكومة بلحاظها ، والأدلة اللفظية الدالة على الحجيّة قلنا : إنّها إرشاد للمرتكز العقلائي وإمضاء له فهي تتحدّد بهذا المقدار الذي انعقدت عليه السيرة بحيث لا يقبل التوسعة أو التضييق.

بقي شيء : ـ وهو القطع الموضوعي بنحو الصفتيّة وهذا مما لا إشكال عندهم فيه بعدم قيام الأمارة مقامه ؛ إذ لا يوجد استقرار وإذعان وجزم وتصديق في الأمارة بالنحو الذي هو ثابت للقطع بما هو صفة أي بما هو نور لنفسه فإنّ هذه النوريّة ليست موجودة في الأمارة.

٢٤٨

إثبات الأمارة

لجواز الإسناد

٢٤٩
٢٥٠

إثبات الأمارة لجواز الإسناد

يحرم إسناد ما لم يصدر من الشارع إليه ؛ لأنّه كذب ، ويحرم أيضا إسناد ما لا يعلم صدوره منه إليه وإن كان صادرا في الواقع.

إسناد شيء إلى الشارع لا بدّ فيه من العلم أو الإذن من الشارع في الإسناد.

فالأصل الأوّلي هو حرمة الإسناد لقوله تعالى : ( آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ )(١) وعليه :

١ ـ فإذا علم بعدم صدور هذا الحكم من الشارع ومع ذلك أسند إليه فهو كذب وافتراء على الله تعالى ، وهو من أشدّ المحرّمات ؛ لحكم العقل بقبح ذلك إذ هو تعدّ على حقّ المولى واستهتار بكرامته وخروج عن حقّ الطاعة ورسم العبوديّة ، مضافا إلى الآيات والروايات التي تذمّ ذلك وتحرّمه ، ويضمّ إليه الإجماع الذي ادّعاه الوحيد البهبهاني.

٢ ـ وإذا لم يعلم بصدور الحكم من الشارع ولم يعلم بعدم صدوره ، يعني يشكّ في صدوره وعدمه فأيضا يحرم إسناده إلى المولى ؛ لأنّه تشريع باطل منهيّ عنه ، حتّى وإن كان هذا الحكم ثابتا في الواقع ؛ فإنّ الحرمة موضوعها عدم الصدور ظاهرا أي عدم الوصول إلى المكلّف.

فإذا وصل الحكم إلى المكلّف فهو صادر وإلا فهو ليس بصادر ظاهرا ، ولذلك يحرم إسناده ونسبته إلى الشارع.

وهذا يعني أنّ القطع بصدور الحكم من الشارع طريق لنفي موضوع الحرمة الأولى فهو قطع طريقي ، وموضوع لنفي الحرمة الثانية فهو من هذه الناحية قطع موضوعي.

__________________

(١) يونس : ٥٩.

٢٥١

فلدينا حرمتان :

الحرمة الأولى : وهي حرمة إسناد ما ليس صادرا واقعا. فهنا عدم الصدور أخذ موضوعا في الحرمة ، فإذا علم بالصدور انتفت الحرمة ، فيكون العلم طريقا لنفي الموضوع والذي هو عدم الصدور ؛ لأنّه إذا علم بالصدور فهذا يعني أنّ العلم كان طريقا كاشفا عن كون موضوع الحرمة غير متحقّق لأنّ الصدور ثابت واقعا ، فالقطع هنا طريقي.

الحرمة الثانية : وهي حرمة إسناد غير معلوم الصدور. فهنا العلم أخذ في الموضوع ؛ لأنّ الموضوع مركّب من أمرين الصدور وعدم العلم به ، فإذا علم بالصدور كان هذا العلم رافعا للحرمة ؛ لأنّ الحرمة ثابتة لغير المعلوم صدوره ، فإذا علم بالصدور انتفى الموضوع بانتفاء جزء منه ومعه تنتفي الحرمة. فهو قطع موضوعي ؛ لأنّه مأخوذ في موضوع نفي الحرمة وعدمه مأخوذ في الحرمة.

وعليه ، فإذا كان الدليل قطعيّا انتفت كلتا الحرمتين ؛ لحصول القطع ، وهو طريق إلى أحد النفيين وموضوع للآخر.

فهنا توجد حالتان :

الأولى : أن يكون الدليل الدالّ على الحكم الشرعي قطعيّا كالتواتر والكتاب ، وحكم العقل القطعي كالمستقلاّت العقليّة : القبح والحسن فهنا يتحقّق العلم بصدور الحكم من الشارع ، وعندئذ يجوز إسناده إلى الشارع ولا حرمة فيه.

أمّا الحرمة الأولى : وهي حرمة إسناد ما ليس صادرا فهي منتفية ؛ وذلك للعلم بالصدور. فهذا العلم كاشف عن الصدور فهو قطع طريقي ينفي موضوع الحرمة المذكورة ؛ لأنّه يكشف عن الصدور والطريق إليه فلا يكون عدم الصدور متحقّقا وإلا لزم اجتماع النقيضين.

وأمّا الحرمة الثانية : وهي حرمة ما ليس معلوما صدوره فهي منتفية أيضا ؛ لأنّ جزء الموضوع فيها وهو عدم العلم منتف ؛ وذلك لتحقّق العلم بالصدور. فكان هذا العلم نافيا لموضوع الحرمة فهو قطع موضوعي ؛ لأنّه أخذ في موضوع عدم هذه الحرمة حيث إنّ عدمه كان مأخوذا في الحرمة.

وعليه ، فالحرمتان منتفيتان عند حصول العلم ، وهذا ممّا لا إشكال فيه عندهم.

٢٥٢

وإذا لم يكن الدليل قطعيّا بل أمارة معتبرة شرعا فلا ريب في جواز إسناد نفس الحكم الظاهري إلى الشارع ؛ لأنّه مقطوع به.

الثانية : أن يكون الدليل الدالّ على الحكم الشرعي ظنيّا قامت الحجّة شرعا على التعبّد به كالأمارات وخبر الثقة ، فهنا نقول :

إنّ إسناد الحكم الظاهري نفسه إلى الشارع جائز ؛ لأنّه مقطوع به. فخبر الثقة الذي هو أمارة ظنيّة معتبرة شرعا يجوز لنا إسناد الحكم الظاهري المجعول له إلى الشارع فنقول : ( إنّ خبر الثقة جعله الشارع حجّة ) ، فالحجّيّة التي هي حكم ظاهري يمكن إسنادها إلى الشارع ونسبتها إليه ؛ وذلك لأنّ الدليل الدالّ على حجّيّة خبر الثقة مقطوع به وهو السيرة العقلائيّة الممضاة شرعا.

وهذا المقدار ممّا لا إشكال فيه أيضا.

وأمّا إسناد المؤدّى فالحرمة الأولى تنتفي بدليل حجّيّة الأمارة ؛ لأنّ القطع بالنسبة إليها طريقي ، ولا شكّ في قيام الأمارة مقام القطع الطريقي. غير أنّ انتفاء الحرمة الأولى كذلك مرتبط بحجّيّة مثبتات الأمارات ؛ لأنّ موضوع هذه الحرمة عنوان الكذب وهو مخالفة الخبر للواقع ، وانتفاء هذه المخالفة مدلول التزامي للأمارة الدالّة على ثبوت الحكم ؛ لأنّ كلّ ما يدلّ على شيء مطابقة يدلّ بالالتزام على أنّ الإخبار عنه ليس كذبا.

وأمّا إسناد المؤدّى أي مؤدّى الأمارة وهو ما يحكي عنه الثقة من حكم كالوجوب والحرمة ، فهل يجوز إسنادهما إلى الشارع بأن يقال : هذا الوجوب الذي حكمت به الأمارة صادر من الشارع أو لا يجوز؟

والجواب : أنّ الحرمة الأولى وهي حرمة إسناد ما ليس صادرا من الشارع تنتفي ؛ لأنّ القطع كان طريقا إلى نفي موضوعها ؛ لأنّه طريق إلى الصدور وكاشف عنه. وقد تقدّم سابقا أنّ الأمارة تقوم مقام القطع الطريقي ، فنفس دليل حجّيّة الأمارة يبرّر لنا إسناد مؤدّاها إلى الشارع ؛ لأنّه يعبّدنا بأنّ مؤدّى الأمارة وما تحكي عنه وتكشفه صادر من الشارع وأنّه حكم الله الواقعي ، فكما أنّ القطع كان طريقا وكاشفا عن الصدور فكذلك الأمارة طريق وكاشف عن الصدور. وإذا ثبت كون الحكم صادرا فينتفي موضوع الحرمة ؛ لأنّ موضوعها هو ما ليس صادرا ، وهذا

٢٥٣

منتف إمّا بالقطع وإمّا بالأمارة ؛ لأنّ دليلها يعبّدنا شرعا بمؤدّاها.

إلا أنّ هذا المقدار مرتبط بما تقدّم سابقا من البحث عن لوازم الأمارات ، وأنّها حجّة أو لا؟ فإذا قلنا : إنّ مثبتات الأمارة ليست حجّة ـ لأنّه لا يستفاد من دليل الحجّيّة فيها إلاّ التعبّد بالمؤدّى فقط دون لوازمها كما تقدّم عن السيّد الخوئي ـ فلا تنتفي هذه الحرمة. وأمّا إذا قلنا بحجّيّة لوازمها ومثبتاتها فتنتفي هذه الحجّيّة بنفس دليل الحجّيّة.

وتوضيح ذلك : أنّ موضوع الحرمة الأولى وهو حرمة إسناد ما ليس صادرا كان عنوان الكذب ، فإنّ عدم الصدور معناه أنّه ليس ثابتا في الواقع وهو معنى الكذب أي هو عدم مطابقة الخبر للواقع. والأمارة مؤدّاها المطابقي هو ما تحكي عنه من وجوب أو حرمة ، وهذا المدلول المطابقي له مدلول التزامي ، وهو أنّ هذا الحكم الذي أدّت إليه الأمارة وكشفت عنه مطابق للواقع وليس كاذبا ، بناء على أنّ الإخبار عن شيء بالمطابقة يدلّ بالالتزام على أنّه صادق مطابق للواقع أي صادر من الشارع ، وحينئذ فيكون موضوع الحرمة الذي هو الكذب أو المخالفة للواقع أو عدم الصدور منتفيا على أساس المدلول الالتزامي للأمارة لا بالمدلول المطابقي.

فبناء على ما هو الصحيح من كون مثبتات الأمارة ولوازمها حجّة فتكون هذه الحرمة منتفية لانتفاء موضوعها بالمدلول الالتزامي للأمارة ، وبالتالي يصحّ إسناد الحكم إلى الشارع وكونه صادرا منه. والدليل هو نفس دليل حجّيّة الأمارة.

بخلاف ما إذا لم تكن مثبتاتها ولوازمها حجّة فإنّه يحتاج إلى دليل آخر مستقلّ لإثبات انتفاء الحرمة الأولى.

وأما الحرمة الثانية فموضوعها ـ وهو عدم العلم ـ ثابت وجدانا ، فانتفاؤها يتوقّف إمّا على استفادة قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي من دليل حجّيّتها ، أو على إثبات مخصّص لما دلّ على عدم جواز الإسناد بلا علم من إجماع أو سيرة يخرج موارد قيام الحجّة الشرعيّة.

وأمّا الحرمة الثانية وهي إسناد ما لا يعلم بصدوره فعدم العلم مأخوذ في موضوعها ، وانتفاء هذه الحرمة متوقّف على انتفاء عدم العلم ، فإذا ثبت العلم انتفى الموضوع.

وأمّا مع قيام الأمارة على الحكم وثبوته شرعا وكونه صادرا من الشارع فهذا لا

٢٥٤

يخرج المورد إلى العلم ؛ لأنّ الأمارة ليست علما حقيقيّا ، فالموضوع وهو عدم العلم لا يزال ثابتا بالوجدان.

وحينئذ يكون هذا البحث مرتبطا بالبحث المتقدّم من أنّ الأمارة هل تقوم مقام القطع الموضوعي أو لا؟

فإن قيل بأنّها تقوم مقام القطع الموضوعي من نفس دليل حجّيّتها ـ كما هي مقالة الميرزا ـ كان ذلك كافيا لإثبات أنّ الأمارة هنا تنفي موضوع الحرمة الثانية بنفس دليل حجّيّتها ولا تحتاج إلى دليل آخر.

وإن قيل بأنها لا تقوم مقامه ـ كما هو الصحيح ـ كان انتفاء الحرمة الثانية يحتاج إلى دليل خاصّ أو قرينة معيّنة تكون مخصّصا للدليل الدالّ على عدم جواز الإسناد بلا علم ، بأن كان هناك إجماع أو سيرة ممضاة شرعا على أنّ الحجّة المعتبرة شرعا كالأمارات خارجة عن موضوع هذه الحرمة ، كالعلم الوجداني ، وأمّا مع عدم وجود مثل هذا المخصّص فلا يمكننا إثبات أنّ الأمارة خارجة عن موضوع الحرمة الثانية من نفس دليل الحجّيّة ؛ لأنّه لا يفيد قيامها مقام القطع الموضوعي.

٢٥٥
٢٥٦

إبطال طريقيّة الدليل

٢٥٧
٢٥٨

إبطال طريقيّة الدليل

كلّ نوع من أنواع الدليل حتّى لو كان قطعيّا يمكن للشارع التدخّل في إبطال حجّيّته ، وذلك عن طريق تحويله من الطريقيّة إلى الموضوعيّة.

الدليل سواء كان قطعيّا أو ظنّيّا وسواء كان شرعيّا أو عقليّا يمكن للشارع التدخّل في إبطال طريقيّته وحجّيّته.

أمّا الدليل الظنّي فلا إشكال في إمكان إبطال حجّيّته ؛ لأنّها كانت متوقّفة على عدم الإذن والترخيص من الشارع ، فمع وجودهما يبطل موضوع الحجّيّة ويرتفع بارتفاع قيده ، وهذا ممّا لا إشكال فيه.

وأمّا الدليل القطعي فقد تقدّم أنّ حجّيّة القطع وطريقيّته من اللوازم الذاتيّة للقطع بتكليف المولى ، فإذا قطع بتكليف المولى حكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال وحرمة المخالفة ، وهو معنى المنجّزيّة والحجّيّة. مضافا إلى كونه طريقا وكاشفا تامّا عن المقطوع ؛ لأنّ الطريقيّة والكاشفيّة نفس القطع. فكيف يتمّ إبطال حجّيّته وطريقيّته؟!

والجواب : أنّ هذا يتمّ عن طريق تحويل القطع من القطع الطريقي إلى القطع الموضوعي ، وتوضيح ذلك :

بأن يأخذ عدم قيام الدليل الخاصّ على الجعل الشرعي في موضوع الحكم المجعول في ذلك الجعل ، فيكون عدم قيام دليل خاصّ على الجعل الشرعي قيدا في الحكم المجعول ، فإذا قام هذا الدليل الخاصّ على الجعل الشرعي انتفى المجعول بانتفاء قيده ، وما دام المجعول منتفيا فلا منجّزيّة ولا معذّريّة.

كيفيّة تحويل القطع من الطريقيّة إلى الموضوعيّة : أن يأخذ الشارع عدم هذا الدليل القطعي الخاصّ موضوعا في الحكم المجعول بأن يقول مثلا : ( إذا قام هذا الدليل الخاصّ المعيّن القطعي على الجعل فالمجعول غير ثابت وغير متحقّق ؛ لأنّه يشترط في فعليّة

٢٥٩

المجعول أن يكون عدم الدليل المذكور متحقّقا ، فإذا لم يكن هذا الدليل الخاصّ موجودا كان المجعول فعليّا ، وإذا كان موجودا لم يكن فعليّا ).

وقد تقدّم أنّ الجعل غير المجعول ، فالجعل : هو الحكم الثابت في عالم التشريع والواقع مع كلّ قيوده وشروطه المأخوذة فيه على نحو القضيّة الحقيقيّة ، بينما المجعول : هو الجعل الموجود والمتحقّق في الخارج ، وذلك بفعليّة قيوده وشروطه خارجا كالحجّ والاستطاعة. فإنّ الحجّ على المستطيع واجب وهذا موجود في عالم الجعل ، وأمّا وجوب الحج خارجا ففعليّته مرتبطة بتحقّق قيوده في الخارج بأن يوجد مكلّف مستطيع فيكون الوجوب فعليّا ، وإلا لم يكن فعليّا وإذا لم يكن فعليّا فلا أثر له.

وهنا يأخذ الشارع عدم هذا الدليل الخاصّ القطعي بالجعل في الحكم في موضوع الحكم المجعول ، فإذا كان عدم الدليل متحقّقا كان المجعول فعليّا والحكم الشرعي ثابتا ؛ لتحقّق قيوده في الخارج. وإن كان الدليل المذكور موجودا كان معنى ذلك أنّ القيد المأخوذ موضوعا في الحكم المجعول منتفيا فينتفي المجعول ؛ لانتفاء قيوده في الخارج. فإذا كان المجعول منتفيا في الخارج بانتفاء قيوده وعدم تحقّقها لم يكن له أثر تنجيزي أو تعذيري كالحجّ عند فقدان الاستطاعة. وهذا يعني أنّ هذا القطع الحاصل من الدليل الخاصّ فاقد للحجّيّة ؛ لأنّه ليس منجّزا ولا معذّرا وفاقد للطريقيّة ؛ لأنّه ليس كاشفا عن الحكم أو أنّ كشفه عن الحكم كان مساوقا لعدم كشفه عنه.

وبتعبير آخر : يدّعى أنّ القطع الحاصل من الدليل الخاصّ بالجعل قد أخذ عدمه قيدا في المجعول. بمعنى أنّ عدم القطع بالحكم الشرعي ( الدليل الخاصّ ) على مستوى الجعل شرط وقيد في فعليّة الحكم المجعول ، فإذا تحقّق ذلك بأن قطع بالحكم الشرعي من دليل آخر كان الحكم فعليّا ؛ لفعليّة قيوده في الخارج. وأمّا إذا قطع بالحكم الشرعي من الدليل الخاصّ الذي أخذ عدمه قيدا فالحكم ليس فعليّا ؛ وذلك لانتفاء قيده إذ قيده عدم هذا الدليل ، والموجود في الخارج هو تحقّق الدليل ، فإذا انتفى القيد انتفى المقيّد ، وبالتالي لا يكون الحكم فعليّا أي أنّ المجعول ليس فعليّا ، وإذا لم يكن فعليّا لم يكن منجّزا ولا معذّرا ، وهو معنى انتفاء حجّيّته.

وليس ذلك من سلب المنجّزيّة عن القطع بالحكم الشرعي ، بل من الحيلولة دون

٢٦٠