شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

يختلف عن بقيّة العلوم في وجود محور له تدور حوله موضوعات مسائله وهذا المحور هو : الأدلّة المشتركة في الاستدلال الفقهي خاصّة ، فكلّ البحوث والمسائل الأصوليّة تدور حول هذا المحور وهل أنّها تشكّل دليلا على استنباط الحكم الشرعي الكلّي أو لا؟ فالبحث فيها حول دليليّتها وأنّها دليل أو ليست بدليل.

وهكذا يتّضح أنّ هناك محورا دائما لكلّ علم من العلوم تدور حوله كلّ البحوث المطروحة في هذا العلم.

وهذا المحور مفهوم كلّي جامع بين موضوعات مسائل العلم ويطلق عليه اسم موضوع العلم. فمقصودنا من موضوع العلم هو ذلك المفهوم الكلّي الجامع بين موضوعات المسائل والذي يسمّى بالمحور ، وعلى أساس هذا المحور تتمايز العلوم فيما بينها ، ولذا صحّ ما قيل : من أنّ التمايز بين العلوم بالموضوعات بناء على أنّ المراد من الموضوع هو المحور الذي يدور حوله بحث كل مسائل العلم.

٤١
٤٢

الحكم الشرعي

وتقسيماته

٤٣
٤٤

الحكم الشرعي وتقسيماته

قد تقدّم في الحلقة السابقة (١) أنّ الأحكام الشرعيّة على قسمين : أحدهما الأحكام التكليفيّة ، والآخر الأحكام الوضعيّة ، وقد عرفنا سابقا نبذة عن الأحكام التكليفيّة. وأمّا الأحكام الوضعيّة فهي على نحوين :

يقسّم الحكم الشرعي إلى قسمين ، هما : الحكم التكليفي ، والحكم الوضعي.

فالحكم التكليفي : هو الخطاب الشرعي المتكفّل لتوجيه عملي مباشر لأفعال الإنسان وتنظيم أموره.

والحكم الوضعي : لا يتعلّق مباشرة بأفعال الإنسان وإنّما له تأثير غير مباشر على أفعاله وتنظيم أموره.

ثمّ إنّ الحكم التكليفي يتكوّن من ثلاثة أمور هي : الملاك ، والإرادة ، والاعتبار.

فالملاك : هو المصلحة أو المفسدة التي يدركها الحاكم ويتصوّرها في الفعل أو الترك.

والإرادة : هي المحبوبيّة أو المبغوضيّة للفعل بحسب ما فيه من الملاك.

والاعتبار : عمليّة إنشاء الحكم وجعله على ذمّة المكلّف.

وهذه المراحل الثلاث مترابطة فيما بينها ، فإنّ الإرادة إنّما تنشأ في نفس الحاكم على ضوء ما يحدّده من مصلحة أو مفسدة في الفعل ، وبعد ذلك يصيغ إرادته بنوع الاعتبار والجعل.

والحكم التكليفي يقسم إلى الأحكام الخمسة تبعا لنوع الإرادة ، فإنّه إذا كانت المحبوبيّة بدرجة عليا كان الحكم واجبا ، وإذا كانت أقلّ كان مستحبّا ، والمبغوضيّة إذا كانت عليا كان حراما وإلا كان مكروها ، ثمّ إذا تساوت المحبوبيّة والمبغوضيّة أو لم يكن فيه شيء منهما كان مباحا.

__________________

(١) ضمن مباحث التمهيد ، تحت عنوان : الحكم الشرعي وتقسيمه.

٤٥

وأمّا الحكم الوضعي فهو ليس محتويا لمبادئ الحكم التكليفي ، وإنّما هو خطاب يتعلّق بأمور لها تأثير على أفعال الإنسان فيكون له توجيه عملي لأفعال الإنسان بصورة غير مباشرة. فالحكم الوضعي ينصبّ على مسائل خارجيّة لها تأثير على سلوك الإنسان وفعله ، ولكن لا ينصبّ مباشرة عليها كالشرطيّة والسببيّة والمانعيّة والصحّة والفساد والجزئيّة ، بل على الأمور الانتزاعيّة كالزوجيّة والرقيّة ونحوهما ، ثمّ إنّ الحكم الوضعي يقسم إلى قسمين :

الأوّل : ما كان واقعا موضوعا للحكم التكليفي ، كالزوجيّة الواقعة موضوعا لوجوب الإنفاق ، والملكيّة الواقعة موضوعا لحرمة تصرّف الغير في المال بدون إذن المالك.

القسم الأوّل من الأحكام الوضعيّة هو : الأحكام الوضعيّة الواقعة موضوعا لحكم تكليفي بحيث يكون الحكم الوضعي متقدّما وسابقا من حيث الرتبة على الحكم التكليفي ، فإنّه بعد فرض وجود الحكم الوضعي يفرض ترتّب الحكم التكليفي عليه مثال ذلك : مفهوم الزوجيّة المنتزع من عقد الزواج بين الرجل والمرأة ، فإنّ مفهوم الزوجيّة قد جعل موضوعا لكثير من الأحكام التكليفيّة سواء من طرف الزوج أو الزوجة ، فيجب الإنفاق على الزوج ويجب التمكين على المرأة.

وكذلك الحال بالنسبة لمفهوم الملكيّة المنتزع من العقد الواقع بين البائع والمشتري ، فإنّ مفهوم الملكيّة يقع موضوعا لبعض الأحكام التكليفيّة كحرمة تصرّف البائع بالسلعة من دون إذن المشتري ، وكوجوب تسليم السلعة إلى المشتري ونحو ذلك.

وهذا القسم يفترض فيه أوّلا الحكم الوضعي ثمّ ينشأ في طوله الحكم التكليفي.

الثاني : ما كان منتزعا عن الحكم التكليفي ، كجزئيّة السورة للواجب المنتزعة عن الأمر بالمركّب منها ، وشرطيّة الزوال للوجوب المجعول لصلاة الظهر المنتزعة عن جعل الوجوب المشروط بالزوال.

القسم الثاني من الأحكام الوضعيّة هو : الأحكام الوضعيّة المنتزعة من الحكم التكليفي ، وهذا معناه افتراض الحكم التكليفي أوّلا ثمّ ينتزع منه الحكم الوضعي وفي طوله ، ولا يعقل وجود الحكم الوضعي إلا بعد افتراض وجود الحكم التكليفي ؛ لكونه منتزعا منه ، ومثاله : عنوان الجزئيّة المنتزع من الأمر بالمركّب منها كوجوب الصلاة

٤٦

المركّب من عدد من الأجزاء ومنها السورة ، فلو لا وجود الأمر بالمركّب لم يمكن أن يتحقّق عنوان الجزئيّة للسورة ؛ لأنّ الجزء لا يمكن أن يفترض أو يتصوّر إلا ضمن الكلّ والمركّب. وكذلك الحال في عنوان الشرطيّة ، فإنّه لا يتحقّق إلا بعد افتراض وجود الأمر المشروط كوجوب الصلاة المشروط بالزوال ، فانتزاع شرطيّة الزوال للصلاة لا يمكن فرضها وتصوّرها من دون افتراض الصلاة المشروطة بالزوال.

وهذا معناه أنّ مثل الجزئيّة والشرطيّة من الأحكام الوضعيّة أمور انتزاعية من الأمر بالمركّب والأمر بالمشروط ، وهذا معناه أنّ وجودهما في طول ذاك المركّب والمشروط ، ولا يعقل تصوّرهما بعنوانيهما بمعزل عن المركّب والمشروط.

وعلى هذا يقع البحث في أنّ المولى هل يمكنه أن يجعل هذين القسمين من الأحكام الوضعيّة بنحو الاستقلاليّة أو لا يمكنه؟ ولذلك قال السيّد الشهيد :

ولا ينبغي الشكّ في أنّ القسم الثاني ليس مجعولا للمولى بالاستقلال ، وانّما هو منتزع عن جعل الحكم التكليفي ؛ لأنّه مع جعل الأمر بالمركّب من السورة وغيرها يكفي هذا الأمر التكليفي في انتزاع عنوان الجزئيّة للواجب من السورة ، وبدونه لا يمكن أن تتحقّق الجزئيّة للواجب بمجرّد إنشائها وجعلها مستقلا.

لا شكّ في أنّ القسم الثاني من الأحكام الوضعيّة وهو ما كان منتزعا من الحكم التكليفي كالجزئيّة والشرطيّة لا يمكن جعله بالجعل الاستقلالي من المولى ، وإنّما هو منتزع من جعل الحكم التكليفي. فالمولى يجعل الحكم التكليفي بنحو الاستقلاليّة ثمّ بتبع ذلك ينتزع منه الحكم الوضعي كالجزئيّة والشرطيّة ولا يمكن جعله استقلالا ؛ لأنّ ذلك خلاف فرضها منتزعة إذ معنى انتزاعها وجود شيء متقدّم عليها في الوجود يكون له الجعل الاستقلالي.

والدليل على ذلك أوّلا : أنّه مع جعل الأمر بالمركّب كالصلاة المركّبة من السورة وغيرها من الأجزاء كان هذا الجعل وحده كافيا في انتزاع عنوان جزئيّة السورة للمركّب الواجب أي الصلاة ، ولا تحتاج إلى جعل مستقلّ لعنوان جزئيّة السورة ؛ لأنّه يكون لغوا أو تحصيلا للحاصل ، وبدون جعل الأمر بالمركّب أي إذا لم يجعل الشارع الصلاة واجبة أصلا فلا معنى لأن يكون هناك جعل استقلالي لجزئيّة السورة في الصلاة ؛ إذ ما دامت الصلاة غير موجودة أصلا فلا معنى لوجود وجعل عنوان الجزئيّة

٤٧

على أحد أجزائها ، بل إنّه لا يمكن أن يتحقّق عنوان الجزئيّة للسورة ولو جعلت بالجعل الاستقلالي ؛ لأنّ كونها جزءا يعني تصوّرها منضمّة إلى الكلّ والمركّب وبدون وجود المركّب أصلا يستحيل انتزاع عنوان الجزئيّة منه.

وبكلمة أخرى : إنّ الجزئيّة للواجب من الأمور الانتزاعيّة الواقعيّة ، وإن كان وعاء واقعها هو عالم جعل الوجوب ، فلا فرق بينها وبين جزئيّة الجزء للمركّبات الخارجيّة من حيث كونها أمرا انتزاعيا واقعيّا ، وإن اختلفت الجزئيّتان في وعاء الواقع ومنشأ الانتزاع ، وما دامت الجزئيّة أمرا واقعيّا فلا يمكن إيجادها بالجعل التشريعي والاعتبار.

الدليل الثاني على أنّ مثل الجزئيّة والشرطيّة لا يمكن جعلها بالجعل الاستقلالي عن المركّب : هو ما ذكره من كون الجزئيّة من الأمور الانتزاعيّة الواقعيّة. وقبل بيان هذا الدليل لا بدّ من الإشارة إلى نكتة أساسيّة وهي :

المراد من الأمور الانتزاعيّة الواقعيّة هي التي لها تحقّق وراء جعلها فلها وجود حقيقي تبعا لوجود منشأ انتزاعها بحيث تترتّب عليها الآثار وهي على قسمين :

الأوّل : المركّبات الخارجيّة والتي يكون عالم الجزئيّة فيها عالم التحقّق الخارجي التكويني.

والثاني : المركّبات الشرعيّة والتي يكون عالم الجزئيّة فيها عالم الاعتبار والجعل ، والأمور الانتزاعيّة الواقعيّة في مقابل الأمور الاعتباريّة التي أمرها بيد المولى كالطهارة التي هي شرط في الصلاة.

وحينئذ نقول : إنّ الجزئيّة ما دامت من الأمور الانتزاعيّة الواقعيّة التي لها تحقّق وراء انتزاعها ـ عالم وعاء واقعها هو عالم الجعل والاعتبار للوجوب ـ فلها تحقّق في ذاك العالم في نفس المولى وجعله للأحكام. وهذا معناه أنّه لا فرق بين جزئيّة السورة في الواجب وبين جزئيّة الجزء كالغرفة مثلا في المركّبات الخارجيّة التكوينيّة ، فإنّ كلاّ منها يعتبر جزءا من الكلّ والمركّب ، ولا يمكن انتزاع عنوان الجزئيّة للسورة أو للغرفة بمعزل عن هذا المركّب ما دامت الجزئيّة من الأمور الواقعيّة الانتزاعيّة الذي يفترض وجود واقع تتحقّق فيه الجزئيّة ، نعم يختلف الأمر بين هاتين الجزئيّتين من جهة أخرى وهي وعاء الواقع ومنشأ الانتزاع ، حيث إنّ جزئيّة المركّبات الخارجيّة وعاء واقعها ومنشأ

٤٨

انتزاعها هو العالم الخارجي التكويني المادي ، بينما جزئيّة السورة في المركّبات الشرعيّة وعاء واقعها ومنشأ انتزاعها هو عالم الجعل والاعتبار للأحكام الشرعيّة.

وعلى هذا فما دامت الجزئيّة من الأمور الانتزاعيّة الواقعيّة فلا يمكن إيجادها بالجعل الاستقلالي عن الأمر بالمركّب ، ولا يمكن أن يكون هناك تشريع أو اعتبار يثبت عنوان الجزئيّة بنحو مستقلّ عن الأمر بالمركّب ؛ وإلا لصارت من الأمور الاعتباريّة المحضة التي بيد الشارع جعلها ابتداء ، والمفروض أنّها من الأمور الانتزاعيّة التي لها واقع وراء انتزاعها ؛ وهو وعاء عالم الخارج التكويني أو عالم الجعل والاعتبار ، وعلى كلا الفرضين لا بدّ من فرض تحقّق المركّب أوّلا لينتزع منه الجزئيّة (١).

وأمّا القسم الأوّل فمقتضى وقوعه موضوعا للأحكام التكليفيّة عقلائيّا وشرعا هو كونه مجعولا بالاستقلال ، لا منتزعا عن الحكم التكليفي ؛ لأنّ موضوعيّته للحكم التكليفي تقتضي سبقه عليه رتبة ، مع أنّ انتزاعه يقتضي تأخّره عنه.

وأمّا القسم الأوّل من الأحكام الوضعيّة وهو ما كان واقعا موضوعا للحكم التكليفي كالملكيّة والزوجيّة ونحوهما ، فلا إشكال في كونه مجعولا بالجعل الاستقلالي وليس منتزعا عن الحكم الشرعي ، فهنا دعويان :

الأولى : كونه مجعولا بالاستقلال.

والثانية : كونه ليس منتزعا من الحكم الشرعي خلافا للشيخ الأنصاري. والدعوى الثانية متفرّعة عن الأولى ، وبرهانه : أنّ الملكيّة والزوجيّة من الأمور الاعتباريّة التي يعتبرها العرف والعقلاء عند حصول أحد أسبابها ، والشارع أمضى هذه الملكيّة والزوجيّة وليست من الأمور الانتزاعيّة لدى الشارع. نعم ، قد يفرض الشارع بعض الشروط أو القيود أو الخصوصيّات أو ينفي بعضها ، إلا أنّها ليست من الأمور الانتزاعيّة عن الحكم التكليفي. وإنّما هي تقع موضوعا للأحكام التكليفيّة ، بحيث يترتّب على ثبوت الملكيّة أو الزوجيّة بأحد أسبابهما بعض الأحكام التكليفيّة. وهذا معناه افتراض وجود هذه الأحكام الوضعيّة في مرتبة سابقة ومتقدّمة عن الأحكام التكليفيّة على أساس أنّ ما جعل موضوعا لشيء بمقتضى موضوعيّته كونه متقدّما

__________________

(١) هذا خلاصة الكلام في القسم الثاني وإن كان محلاّ للشكّ عند بعضهم كالسيّد الإمام رحمه‌الله حيث برهن على إمكان جعلها بالجعل الاستقلالي راجع الرسائل ج ١ ص ١١٦.

٤٩

وسابقا عليه رتبة ، وهذا يفترض كونها مجعولة بنحو الاستقلال وبمعزل عن تلك الأحكام التكليفيّة المترتّبة عليها ؛ لأنّ فرض انتزاعها عنها يستلزم الدور أو التقدّم والتأخّر ؛ إذ فرض كونها موضوعا يقتضي كونها متقدّمة وفرض كونها منتزعة يقتضي كونها متأخّرة ، فيلزم كونها متقدّمة ومتأخّرة في آن واحد من جهة واحدة وهو محال (١).

وقد تثار شبهة لنفي الجعل الاستقلالي لهذا القسم أيضا ، بدعوى أنّه لغو ؛ لأنّه بدون جعل الحكم التكليفي المقصود لا أثر له ، ومعه لا حاجة إلى الحكم الوضعي ، بل يمكن جعل الحكم التكليفي ابتداء على نفس الموضوع الذي يفترض جعل الحكم الوضعي عليه.

قد يقال : إنّ القسم الأوّل وهو الأحكام الوضعيّة الواقعة موضوعا للأحكام التكليفيّة يستحيل جعلها بالجعل الاستقلالي ، بل لا بدّ من فرضها منتزعة من الأحكام التكليفيّة ، فالملكيّة مثلا تنتزع من جواز التصرّف في ماله وحرمة تصرّف الغير به ، والزوجيّة تنتزع من جواز الاستمتاع للزوج وحرمته على غيره ، وهكذا.

ويدّعى للبرهان على ذلك أنّ الجعل الاستقلالي لهذه الأحكام الوضعيّة لغو ، وبيانه : أنّه إذا جعلت الملكيّة ونحوها بالجعل الاستقلالي :

__________________

(١) وممّا يدلّ على كونها أمورا اعتباريّة وليست انتزاعيّة أنّها موجودة عند كلّ الناس حتّى الذين لا يؤمنون بالشرع والشريعة ، وهذا يعني أنّها مجعولة بنحو الاستقلال عن الأحكام التكليفيّة.

فمثلا قوله : ( الناس مسلّطون على أموالهم ) يستفاد منه ترتيب حرمة تصرّف الغير بأموال الناس وسلطنة الناس على أموالهم وتصرّفهم بها كيفما شاءوا ، وهذان الحكمان ينتزعان من فرض وجود الملكيّة في مرحلة سابقة ؛ وإلا لم يجز تصرّفهم أو لم يحرم تصرف غيرهم ما داموا ليسوا مالكين لها. وجواز الاستمتاع مترتّب ومتفرّع من وجود علاقة الزوجيّة في مرتبة سابقة ، وليست الزوجيّة منتزعة من جواز الاستمتاع للزوج.

وعليه ، فبمجرّد إيقاع عقد الزواج أو عقد البيع تتحقّق الملكيّة والزوجيّة وإن لم يفرض وجود أي نوع من الأحكام التكليفيّة فيما بعد ، ويدلّ على صحّة ذلك كونهما موجودين عند العرف والعقلاء جميعا. ولو كانتا منتزعتين من الأحكام التكليفيّة لم يصحّ تحقّقهما من دون فرض الأحكام التكليفيّة.

٥٠

فإن لم يترتّب عليها الحكم التكليفي المقصود ، كجواز التصرّف في ماله وسلطته عليه وحرمة ذلك على الغير لا يكون هناك أثر ولا فائدة من الجعل الاستقلالي المذكور ولا قيمة له ؛ إذ ما لم يكن هناك أحكام تكليفيّة على هذا الموضوع فما هو الداعي والغرض من جعله موضوعا بالجعل الاستقلالي؟! وليس هو إلا عبثا ولغوا.

وإن كان هناك أحكام تكليفيّة فوقيّة على هذا الجعل الاستقلالي لم نكن بحاجة إلى مثل هذا الجعل أيضا ؛ وذلك لأنّه بالإمكان أن يجعل الشارع ابتداء مثل هذه الأحكام التكليفيّة بالجعل الاستقلالي من دون جعل الأحكام الوضعيّة. نعم ، تكون هذه الأحكام الوضعيّة منتزعة منها ، وهذا معناه أنّ الجعل الاستقلالي لا طائل تحته ولا فائدة منه ما دام بالإمكان وجود تلك الأحكام التكليفيّة بمعزل عنها ، ففرضها موضوعا يمكن الاستغناء عنه بالجعل الابتدائي للأحكام التكليفيّة.

وعلى كلا التقديرين لا يكون هناك معنى ولا فائدة لجعل الأحكام الوضعيّة ، بل بالإمكان جعل الحكم التكليفي ابتداء على نفس الموضوع الذي يفترض جعل الحكم الوضعي عليه ، فيمكن للشارع أن يرتّب حقّ الاستمتاع والتمكين على نفس عنواني الزوج والمرأة من دون توسّط عنوان الزوجيّة ، ويمكنه أيضا أن يحكم بأنّ الماء الملاقي للنجاسة يحرم شربه من دون توسّط كونه نجسا ، وهكذا.

والجواب على هذه الشبهة : أنّ الأحكام الوضعيّة التي تعود إلى القسم الأوّل اعتبارات ذات جذور عقلائيّة ، الغرض من جعلها تنظيم الأحكام التكليفيّة وتسهيل صياغتها التشريعيّة ، فلا تكون لغوا.

إنّ الأحكام الوضعيّة المذكورة كالملكيّة والزوجيّة من الأمور العقلائيّة العرفيّة المرتكزة عندهم والتي يسيرون عليها بفطرتهم أو ببنائهم العرفي ، ولذلك أصبح لهذه الأحكام الوضعيّة تأصّلا وتجذّرا وارتكازا عندهم. وعلى هذا فالشارع عند ما أمضى هذه البناءات العقلائيّة كان الغرض من إمضائها وجعلها استقلالا أحد أمرين أو مجموعهما :

الأوّل : تنظيم الأحكام التكليفيّة حيث إنّ الأحكام الوضعيّة تكون محتوية وجامعة لعدد كبير من الأحكام التكليفيّة ، فبدلا من الإتيان بكلّ هذه الأحكام التكليفيّة في

٥١

كلّ مرحلة يمكنه الإتيان بهذا الحكم الوضعي الشامل لها جميعا. وهذا الأمر مستحسن عقلا ، وفيه فائدة وله أثر عملي وليس لغوا.

الثاني : تسهيل صياغة الأحكام التشريعيّة ؛ لأنّها مترتّبة على موضوعها وهو الحكم الوضعي ، فتوجد حيثما وجد من دون حاجة إلى إيجادها بجعل آخر جديد. فهذه الطريقة توفّر كثيرا من الجعولات ولذلك فلها فائدة عظيمة فليست لغوا.

٥٢

شمول الحكم

للعالم والجاهل

٥٣
٥٤

شمول الحكم للعالم والجاهل

وأحكام الشريعة ـ تكليفيّة ووضعيّة ـ تشمل في الغالب العالم بالحكم والجاهل على السواء ، ولا تختصّ بالعالم. وقد ادّعي أنّ الأخبار الدالّة على ذلك مستفيضة (١) ، ويكفي دليلا على ذلك إطلاقات أدلّة تلك الأحكام ، ولهذا أصبحت قاعدة اشتراك الحكم الشرعي بين العالم والجاهل موردا للقبول على وجه العموم بين أصحابنا ، إلا إذا دلّ دليل خاصّ على خلاف ذلك في مورد.

الأحكام الشرعيّة سواء كانت تكليفيّة كالأحكام الخمسة ، أو كانت وضعيّة كالصحّة والفساد والجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة والسببيّة والطهارة والنجاسة ـ على قول ـ لا تختصّ بالعالم بها ، وإنّما هي مجعولة من قبل الشارع لكلّ الناس سواء في ذلك العالم بها والجاهل ؛ غاية الأمر أنّه لا منجزيّة على الجاهل إذا كان جهله عن قصور لا عن تقصير وتفريط منه ، وهذا الحكم بالاشتراك موجود في غالب الأحكام الشرعيّة لا في جميعها.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري قد ادّعى كون الأخبار الدالّة على هذه القاعدة أي اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل مستفيضة ، وغيره ادّعى تواترها ، إلا أنّه في الحقيقة لا يوجد ما يدلّ على ذلك سوى بعض أخبار الآحاد ، فدعوى التواتر أو الاستفاضة غير تامّة.

__________________

(١) بل قد ادّعى الشيخ الأنصاري في فرائده ١ : ١١٣ أنّها متواترة. والظاهر أنّ المقصود بها أخبار الاحتياط الوارد جلّها في كتاب الوسائل الجزء ٢٧ الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، وذلك بدعوى أنّ هذه الأخبار لو لم تتمّ دلالتها على وجوب الاحتياط عند الشكّ ، فلا أقلّ من دلالتها على شمول الحكم الواقعي للإنسان الشاكّ ، وإن كان محكوما بالبراءة ظاهرا.

٥٥

ولكن يكفي دليلا على قاعدة الاشتراك إطلاقات أدلّة الأحكام سواء التكليفيّة أو الوضعيّة ، فإنّ إطلاقها وعدم تقييدها بالعالم يعني كونها شاملة للعالم بها والجاهل على حدّ سواء ، فيتمسّك بهذا الإطلاق الظاهر في العموم والشمول لكلّ الأفراد من دون تقييد أو تخصيص للعالم فقط. وهذا الإطلاق حجّة ويكون كاشفا على أساس مقدّمات الحكمة أنّ المراد الجدّي للشارع هو الاشتراك لا الاختصاص.

وعلى هذا الأساس أصبحت قاعدة الاشتراك من الأمور المقبولة على وجه العموم بين الأصحاب ، بحيث يمكن دعوى الإجماع والتسالم على هذه القاعدة ، حيث إنّه لم يشذّ منهم أحد على دعوى الاشتراك ، ولهذا يكون الإجماع من الأصحاب دليلا آخر على صحّة هذه القاعدة.

نعم ، هناك بعض الموارد الخاصّة دلّ الدليل الخاصّ على عدم شمولها للجاهل ، وإنّما هي مختصّة بالعالم فقط. ولذلك عبّر السيّد الشهيد في كلامه بكلمة ( الغالب ). ومن هذه الموارد موارد الجهر والإخفات والإتمام والقصر ، فإذا جهر في مورد الإخفات جهلا أو بالعكس صحّ ذلك ، وكذا لو قصّر من حكمه الإتمام جهلا بالحكم فحكموا بصحّة صلاته.

وقد يبرهن على هذه القاعدة عن طريق إثبات استحالة اختصاص الحكم بالعالم ؛ لأنّه يعني أنّ العلم بالحكم قد أخذ في موضوعه ، وينتج عن ذلك تأخّر الحكم رتبة عن العلم به وتوقّفه عليه وفقا لطبيعة العلاقة بين الحكم وموضوعه.

قد يقال في مقام الاستدلال على اشتراك الأحكام : إنّ اختصاص الأحكام بالعالم بها مستحيل ؛ حيث يلزم من ذلك أن يكون العلم قد أخذ موضوعا للعلم بالحكم ، وهذا يلزم منه عدّة محاذير لا يمكن الالتزام بها لاستحالتها ، وهي :

أوّلا : محذور الدور ببيان : أنّ العلم إذا أخذ قيدا في الحكم فيلزم كون الحكم موجودا في رتبة سابقة ليتعلّق به العلم ؛ لأنّ العلم مضاف إلى المعلوم وهو هنا الحكم ، والمفروض أنّ الحكم لا يثبت إلا إذا علم به ، وهذا لازمه أنّ الحكم متوقّف على العلم به ، والحال أنّ العلم متوقّف على ثبوت الحكم أوّلا فيدور.

وثانيا : محذور الخلف ببيان : أنّ العلم معناه الإراءة والانكشاف ، ففرض العلم

٥٦

بالحكم يعني كونه منكشفا لدى العالم ، فإذا أخذ العلم قيدا في الحكم فمعناه أنّ الإراءة والانكشاف غير تامّين للعالم ، وهو خلف ؛ لأنّه عند ما يحصل العلم لا يحتاج إلى شيء آخر معه لتحقّق الانكشاف والإراءة لديه ، فإذا لا معنى لكون الانكشاف قيدا لثبوت الحكم ؛ إذ أخذه قيدا خلاف حقيقته ، فيؤدّي إلى لزوم التعارض والتناقض ولو في نظر المكلّف.

وثالثا : محذور التقدّم والتأخّر ببيان : أنّ الحكم متأخّر رتبة عن العلم به ؛ وذلك لأنّ الحكم متوقّف على العلم به ، وطبيعة العلاقة بين الحكم وموضوعه تقتضي أن يكون الموضوع ثابتا أوّلا ، وهذا يعني فرض ثبوت العلم بعد ثبوت الحكم مع أنّ أخذ العلم قيدا معناه ثبوت العلم أوّلا ثمّ ثبوت الحكم ثانيا ؛ لأنّ المقيّد لا يوجد إلا بعد وجود القيد ، فيلزم كون العلم متقدّما ومتأخّرا عن الحكم معا وكذا العكس وهو محال.

ولكن قد مرّ بنا في الحلقة السابقة (١) : أنّ المستحيل هو أخذ العلم بالحكم المجعول في موضوعه ، لا أخذ العلم بالجعل في موضوع الحكم المجعول فيه.

هذا جواب من السيّد الشهيد على برهان الاستحالة وأنّه غير تامّ. وذلك كما تقدّم في الحلقة الثانية ، وبيانه : أنّ المستحيل هو أخذ العلم بالحكم المجعول في موضوع الحكم المجعول ، وأمّا أخذ العلم بالجعل في موضوع الحكم المجعول ، فلا مانع منه على أساس المبنى القائل بالفرق بين الجعل والمجعول.

فالجعل هو عالم الثبوت الواقعي للحكم في اللوح ، والمجعول هو عالم إثبات الحكم على المكلّفين في الخارج ، وصيرورته في ذمّتهم وعلى عهدتهم وذلك بعد تماميّة كلّ ما أخذ قيدا أو شرطا فيه.

وعلى هذا لا مانع من ورود أحكام من هذا القبيل كما هو الحال في القصر والإتمام والجهر والإخفات ، حيث إنّ الشارع اعتبر وجوب القصر على المكلّف العالم بالجعل ، فيكون العلم بجعل القصر مأخوذا في موضوع الحكم المجعول على المكلّف ، بحيث إنّه إذا لم يعلم بالجعل لا يكون هناك مجعول في حقّه ؛ لأنّه لا يكون هناك حكم أصلا ولو على مستوى الجعل. ولذلك فالأحكام على مستوى الجعل مشتركة

__________________

(١) ضمن مباحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : أخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم.

٥٧

بين العالم والجاهل بمعنى أنّها مشرّعة وثابتة في عالم الواقع التشريعي وعالم الاعتبار واللوح المحفوظ. وأمّا الأحكام على مستوى المجعول فهي تابعة لثبوت القيود والشروط فقد تثبت لشخص دون آخر.

وعليه ، فيمكن أخذ العلم بالحكم في عالم الجعل في موضوع الحكم المجعول ولا يلزم منه الدور أو الخلف.

ويترتّب على ما ذكرناه من الشمول : أنّ الأمارات والأصول التي يرجع إليها المكلّف الجاهل في الشبهة الحكميّة أو الموضوعيّة قد تصيب الواقع ، وقد تخطئ. فللشارع إذن أحكام واقعيّة محفوظة في حقّ الجميع ، والأدلّة والأصول في معرض الإصابة والخطأ ، غير أنّ خطأها مغتفر ؛ لأنّ الشارع جعلها حجّة ، وهذا معنى القول بالتخطئة.

ومن لوازم القول بقاعدة اشتراك الأحكام للجاهل والعالم هو القول بالتخطئة الذي انفردت به الإماميّة. ومعناه أنّ المكلّف والمجتهد قد يصيبان الحكم الواقعي اعتمادا على الأمارات والأصول وقد يخطئان الواقع ، وفي كلا الحالين هناك أحكام واقعيّة للشارع محفوظة سواء أصاب المكلّف أو المجتهد الواقع أو أخطأ. غاية الأمر أنّه في حال الخطأ يكون خطؤه مغتفرا ؛ لأنّ الشارع هو الذي أجاز لهما الاعتماد على الأمارات والأصول حيث جعل لها الحجيّة.

وبيان ذلك : أنّ المكلّف أو المجتهد عند ما يجهلان الحكم الواقعي أو يكون هناك شكّ يجوز لهما الاعتماد على الأمارات والأصول التي جعلها الشارع حجّة في مورد الجهل والشكّ ، فإذا قامت الأمارة أو الأصل على أنّ هذا المورد الحكم فيه الإباحة أو الحليّة أو الطهارة ، أو أنّ هذا الموضوع ليس خمرا مثلا ، فمقتضى جعل الحجيّة من الشارع للأدلّة والأصول جواز التعويل عليها. فإذا ارتكب ذلك فقد يكون مصيبا بأن يكون ما قامت عليه الأمارة أو الأصل مطابقا للحكم الواقعي ، وقد يكون مخطئا بأن لا تكون مطابقة للواقع ، إلا أنّه في حالة الخطأ يكون معذورا لاعتماده على ما هو حجّة شرعا. وهذا معناه انحفاظ الحكم الواقعي بحقّ العالم والجاهل ، وهو معنى التخطئة.

وفي مقابله ما يسمّى بالقول بالتصويب ، وهو : أنّ أحكام الله تعالى ما يؤدّي

٥٨

إليه الدليل والأصل ، ومعنى ذلك أنّه ليس له من حيث الأساس أحكام ، وإنّما يحكم تبعا للدليل أو الأصل ، فلا يمكن أن يتخلّف الحكم الواقعي عنهما.

يوجد مقابل القول بالتخطئة الذي هو مذهب الإماميّة قول آخر بالتصويب وهو على قسمين :

الأوّل : التصويب الذي يقول به الأشاعرة وملخّصه : أنّ الأحكام الإلهيّة ليست ثابتة في مرحلة سابقة عن قيام الأمارة أو الأصل ، وإنّما تثبت الأحكام الإلهيّة وفقا لما قام عليه الدليل والأصل ، فالأحكام الإلهيّة تدور نفيا أو إثباتا مدار الأمارة والأصل ، فإذا قاما على الوجوب فيثبت الوجوب واقعا ، وإن قاما على الإباحة ثبتت الإباحة واقعا ، وقبل قيامهما لا وجود للأحكام الواقعيّة. وهذا معناه أنّ الأحكام الواقعيّة تابعة لرأي المجتهد الذي يستنبطه من الأمارة أو الأصل ، فالله تعالى يحكم وفقا لرأي المجتهد.

ولازم ذلك كون الأمارة أو الأصل مصيبة للواقع دائما ؛ لأنّ الواقع ينشأ على طبقهما فمن المستحيل الخطأ فيهما ، وهذا معنى التصويب.

وهناك صورة مخفّفة للتصويب ، مؤدّاها : أنّ الله تعالى له أحكام واقعيّة ثابتة من حيث الأساس ، ولكنّها مقيّدة بعدم قيام الحجّة من أمارة أو أصل على خلافها ، فإن قامت الحجّة على خلافها تبدّلت واستقرّ ما قامت عليه الحجّة.

القسم الثاني : من التصويب : هو التصويب الذي يقول به المعتزلة وملخّصه :

أنّه يوجد لله تعالى أحكام واقعيّة ثابتة في اللوح المحفوظ وفي عالم الواقع والجعل ، إلا أنّ هذه الأحكام الواقعيّة ليست ثابتة بنحو مطلق ، بل هي مقيّدة بقيد وهذا القيد هو عدم قيام الأمارة أو الأصل على خلافها. فإذا لم يقم على خلافها أمارة أو أصل فهذه الأحكام الواقعيّة ثابتة ومستمرّة ، وأمّا إذا قام على خلافها أمارة أو أصل فهذا يعني ارتفاع قيد استمرارها وبقائها ، وهذا يعني تبدّلها وتغيّرها وفقا لما قامت عليه الحجّة من أمارة أو أصل ، فمثلا إذا كان الحكم الواقعي حرمة شرب التتن وقامت الأمارة أو الأصل على حلّيّته ، فهذا يعني تبدّل الحرمة إلى الإباحة ؛ وذلك لأنّ الحرمة كانت مقيّدة بقيد وهذا القيد هو عدم قيام الأمارة أو الأصل على خلافها. فعند قيامها على الخلاف يرتفع موضوع الحرمة ؛ لارتفاع قيدها ويحلّ مكانها حكم آخر

٥٩

هو الحلّيّة ، وهذه الحلّيّة تصبح هي الثابتة والمستقرّة واقعا ما لم يتغيّر رأي المجتهد إلى رأي آخر أو يكتشف خطأ الأمارة أو الأصل. وهكذا تكون الأحكام الواقعيّة في حال تبدّل وتغيّر دائما تبعا للأمارة أو الأصل.

وهذا نحو من التصويب أيضا ؛ لأنّ معناه أنّ الحكم الواقعي يكون متلائما مع الأمارة والأصل دائما ، بل إنّه يتغيّر ويتبدّل وفقا لهما. ولكن هذا النحو أخفّ من النحو الأوّل ؛ لأنّه يفترض وجود أحكام واقعيّة في مرحلة متقدّمة بخلاف الأوّل فإنّه ينكر وجودها أصلا.

وكلا هذين النحوين من التصويب باطل :

أمّا الأوّل : فلشناعته ووضوح بطلانه ، حيث إنّ الأدلّة والحجج إنّما جاءت لتخبرنا عن حكم الله وتحدّد موقفنا تجاهه ، فكيف تفترض أنّه لا حكم لله من حيث الأساس؟!

الردّ على القسم الأوّل من التصويب وهو التصويب الأشعري : هو أنّ الأمارات والأصول إنّما جعلت لها الحجيّة في ظرف الشكّ في الحكم الواقعي الإلهي ، وهذا يفترض وجود حكم واقعي في صورة مسبقة. وكذلك الأدلّة المحرزة فإنّها جاءت لتخبرنا عن الحكم الإلهي الواقعي لا لتنشأ حكما واقعيّا على وفق مؤدّاها ؛ ولذلك كانت كاشفا وطريقا إلى الواقع ، ولكنّها قد تكون كاشفا قطعيّا كما في القرآن والسنّة المتواترة والإجماع والعقل ، وقد تكون كاشفة كشفا ظنيّا كالأمارات التي جعلت لها الحجيّة. والأصول العمليّة جعلت لتحديد الموقف العملي اتّجاه الحكم الواقعي المجهول والمشكوك.

فكيف يقال : إنّ الأدلّة المحرزة والأمارات والأصول تثبت الحكم الواقعي مع أنّها جعلت وجاءت لتخبر عن الحكم الواقعي؟! فهذا خلاف ما هو المفروض فيها وعلى خلاف حقيقتها. وهذا شنيع ؛ لأنّه يفترض أنّ الشارع لم يكن حكيما حيث إنّه لم يعط أحكاما للناس مع وجود المصلحة أو المفسدة فيها.

وأمّا الثاني : فلأنّه مخالف لظواهر الأدلّة ، ولما دلّ على اشتراك الجاهل والعالم في الأحكام الواقعيّة.

وأمّا الردّ على القسم الثاني وهو التصويب المعتزلي فأوّلا : إنّ ظواهر الأدلّة الدالّة

٦٠