شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

وأمّا الجواب عن التصوّر الذي ذكره المشهور من أنّ الترخيص معناه الترخيص في فعل المعصية وهو قبيح عقلا فيستحيل صدوره ، فهذا التصوّر مبني على القول بأنّ حقّ الطاعة والمنجّزيّة فعليّة غير معلّقة على شيء ، أي بمجرّد ثبوت القطع بتكليف المولى فيحكم العقل بلزوم الامتثال والإطاعة وحرمة المخالفة واستحقاق العقاب عليها ؛ لأنّها معصية قبيحة فيكون الترخيص مستحيلا لكونه ترخيصا في فعل القبيح والمعصية.

إلا أنّ هذا المبنى غير صحيح ؛ لما تقدّم من أنّ المنجّزيّة وحقّ الطاعة متوقّف على عدم ورود ترخيص جادّ من الشارع الذي له حقّ الطاعة والمولويّة ؛ لأنّه من الواضح أنّ الشارع إذا رخّص في مخالفة تكليفه وسمح للمكلّف بالاقتحام لا يطالبه بحقّ الطاعة ولا يدينه بالعقاب على المخالفة ؛ لأنّه هو نفسه قد أذن ورخّص له في المخالفة. فالمنجّزيّة معلّقة وليست فعليّة.

وعليه فالكلام ينبغي أن ينصبّ حول هذه المسألة ، وأنّه هل يمكن للمولى أن يرخّص في المخالفة في موارد القطع بالتكليف أو لا يمكنه ذلك؟ فإذا قيل بالإمكان فلا مخالفة ولا قبح ولا معصية. وإذا قيل بعدم الإمكان فتثبت المنجّزيّة لثبوت موضوعها فعلا.

وقد ذكرنا فيما سبق أنّ الصحيح هو أنّه لا يمكن للشارع أن يرخّص في مخالفة التكليف المقطوع لا ترخيصا ظاهريّا ولا ترخيصا واقعيّا ؛ لاستحالة صدورهما منه ، ولو فرض الصدور فهو ليس جدّيّا بالنسبة للقاطع كما تقدّم.

هذا بالنسبة لمنجّزيّة القطع. وأمّا معذّريّة القطع فالكلام فيها نفس الكلام في المنجّزيّة ولذلك قال السيّد الشهيد :

وكما أنّ منجزيّة القطع لا يمكن سلبها عنه كذلك معذّريّته ؛ لأنّ سلب المعذّريّة عن القطع بالإباحة ؛ إمّا أن يكون بجعل تكليف حقيقي أو بجعل تكليف طريقي ، والأوّل مستحيل ؛ للتنافي بينه وبين الإباحة المقطوعة ، والثاني مستحيل ؛ لأنّ التكليف الطريقي ليس إلا وسيلة لتنجيز التكليف الواقعي كما تقدّم (١) ، والمكلّف القاطع بالإباحة لا يحتمل تكليفا واقعيّا في مورد قطعه لكي يتنجّز ، فلا يرى للتكليف الطريقي أثرا.

__________________

(١) تحت عنوان : وظيفة الأحكام الظاهريّة.

١٦١

كلّ ما ذكرناه بالنسبة إلى المنجّزيّة وأنّه لا يمكن سلبها عن القطع بالتكليف يأتي في الكلام عن المعذّريّة وسلبها عن القطع بالإباحة والترخيص ، فإنّ القاطع بالإباحة والترخيص يكون معذورا في عدم الامتثال والإطاعة لو كان هناك تكليف واقعي ؛ إذ لا يمكنه أن يتحرّك نحو تكليف لا يؤمن بوجوده بل لا يراه موجودا أصلا ، وهذا معنى معذّريّة القطع.

وهذه المعذّريّة لا يمكن سلبها عن القطع ؛ لأنّ سلبها إمّا أن يكون بصدور تكليف واقعي حقيقي ، وإمّا بصدور تكليف طريقي ، وكلاهما مستحيل ؛ أمّا عدم إمكان صدور التكليف الحقيقي الواقعي الذي له مبادئ وملاكات مستقلّة فلما تقدّم من أنّه يؤدّي إلى اجتماع حكمين واقعيّين حقيقيّين لكلّ منهما ملاكات منافية للآخر على واقعة واحدة وهذا مستحيل ، وهذا فيما إذا كان القطع مصيبا وكانت الإباحة واقعيّة ، فيكون صدور التكليف الواقعي الآخر منافيا ومضادّا لها ويستحيل اجتماعهما ولذلك يشمل صدوره.

وإذا كان قطعه مخطئا وكانت الإباحة غير ثابتة واقعا فيلزم من التكليف الواقعي اجتماع الضدّين باعتقاد نظر المكلّف ؛ لأنّه يعتقد أنّ قطعه مصيب دائما وأنّ مقطوعه ـ وهو الإباحة ـ ثابت واقعا ، فيرى أنّ هذا التكليف مناقض ومناف لما يعتقده فهو مستحيل صدوره برأيه ، ولو فرض صدوره فهو ليس جدّيّا بالنسبة إليه ؛ لأنّه شامل لمن قطع خطأ وهو يرى نفسه قاطعا مصيبا دائما.

وأمّا عدم إمكان صدور التكليف الطريقي سواء كان بحكم ظاهري أو على أساس حكم آخر يحمل روح الحكم الظاهري فهو لا يمكن ؛ لأنّ هذا التكليف الطريقي كان لأجل تنجيز التكليف والواقع على عهدة المكلّف بإبراز أنّ ملاكات الإلزام الواقعيّة هي الأهمّ في حالة الشكّ والحيرة أو في حالة كثرة وقوع القاطعين في الخطأ. وهذا القاطع بالإباحة لا يرى أنّ هناك تكليفا وإلزاما ، بل لا يحتمل ذلك أصلا وإلا لم يكن قاطعا. ولذلك فصدور هذا التكليف الطريقي بالنسبة إليه ليس جدّيّا ؛ لأنّه صادر بحقّ من يقع في الخطأ بقطعه وهو لا يرى أنّه يقع في الخطأ ، بل يرى قطعه دائما مصيبا. ولذلك لن يحرّكه هذا التكليف الطريقي ولا يكون له أيّ أثر وفائدة بالنسبة إليه فيكون صدوره بلا أثر وفائدة لغوا ؛ لأنّه ليس جدّيّا. لذلك فهو مستحيل الصدور.

١٦٢

العلم الإجمالي

١٦٣
١٦٤

العلم الإجمالي

كما يكون القطع التفصيلي حجّة كذلك القطع الإجمالي ـ وهو ما يسمّى عادة بالعلم الإجمالي ـ كما إذا علم إجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة.

القطع التفصيلي هو العلم بالشيء على سبيل التعيين بحيث لا تردّد ولا حيرة ولا شكّ.

والقطع الإجمالي هو العلم بالشيء لا على سبيل التعيين بل يكون هناك تردّد وحيرة وشكّ.

إلا أنّ العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي في كونه حجّة ومنجّزا للتكليف المعلوم وهو الجامع ؛ لأنّ العلم الإجمالي ينحلّ بالدقّة العقليّة إلى علم تفصيلي بالجامع وشكّا في الأطراف ، كما إذا علم بوجوب الظهر أو الجمعة فإنّه يعلم بوجوب صلاة ولكن هناك تردّد وحيرة وشكّ في أنّها الظهر أو الجمعة ، فالشكّ في الأطراف لا في الجامع.

ولا يقال : إنّه يحكم بالاحتياط بالإتيان بكلتا الصلاتين حيث إنّه يمكن الجمع بينهما ولا تضادّ بينهما ذاتا ؛ لأنّه يقال : إنّه وإن لم يكن بينهما تضادّ ذاتي إلا أنّ بينهما تعارضا بالعرض ؛ وذلك للعلم من الخارج بأنّه لم يفرض في الوقت الواحد إلا فريضة واحدة ولا يوجد إلا خمس صلوات في اليوم والليلة. فهذا العلم إذا ضممناه إلى ذلك حصل لنا العلم بكذب أحد الدليلين وعدم صدوره من المعصوم ، ولذلك فواحد فقط هو الحجّة دون الآخر.

ثمّ إنّ البحث حول منجّزيّة العلم الإجمالي يقع في مرحلتين :

ومنجّزيّة هذا العلم الإجمالي لها مرحلتان :

الأولى : مرحلة المنع عن المخالفة القطعيّة بترك كلتا الصلاتين في المثال المذكور.

١٦٥

والثانية : مرحلة المنع حتّى عن المخالفة الاحتماليّة المساوق لإيجاب الموافقة القطعيّة ، وذلك بالجمع بين الصلاتين.

يقع البحث في منجّزيّة العلم الإجمالي في مرحلتين :

المرحلة الأولى : حرمة المخالفة القطعيّة ، بمعنى أنّ العلم الإجمالي يمنع عن المخالفة القطعيّة بترك كلّ الأطراف المردّدة والمشكوكة ؛ لأنّ هذا الترك سوف يؤدّي إلى ترك الجامع المعلوم تفصيلا.

المرحلة الثانية : وجوب الموافقة القطعيّة ، بمعنى أنّ العلم الإجمالي يوجب الإتيان بكلّ الأطراف المشكوكة والتي هي ضمن دائرة هذا العلم ، وهذه الموافقة القطعيّة مساوقة للمنع عن المخالفة الاحتماليّة بفعل بعض الأطراف دون البعض الآخر. فهل العلم الإجمالي ينجّز جميع الأطراف لا بعضها فقط أو لا؟ وهذه المرحلة محلّها الأصول العمليّة.

والكلام الآن يقع في المرحلة الأولى :

أمّا المرحلة الأولى فالكلام فيها يقع في أمرين :

أحدهما : في حجّيّة العلم الإجمالي بمقدار المنع عن المخالفة القطعيّة.

والآخر : في إمكان ردع الشارع عن ذلك وعدمه.

الكلام في المرحلة الأولى وهي المنع عن المخالفة القطعيّة يقع في أمرين :

الأوّل : في أنّ العلم الإجمالي حجّة بمقدار المنع عن المخالفة القطعيّة أو ليس حجّة في ذلك ؛ بمعنى أنّ العلم الإجمالي هل يمنع عن المخالفة القطعيّة بنحو العليّة أو بنحو الاقتضائيّة ، فهل هو نفسه علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعيّة أو مقتضي فقط؟

الثاني : في أنّه هل يمكن للشارع سلب المنجّزيّة عن العلم الإجمالي ؛ بمعنى أنّه هل يمكنه الردع عن هذه المنجّزيّة وإزالتها عن العلم الإجمالي أو لا يمكن ذلك ، فهل يمكن ورود الترخيص بالمخالفة للأطراف كلاّ أو جلاّ أو لا يمكن ذلك؟

أمّا الأمر الأوّل فلا شكّ في أنّ العلم الإجمالي حجّة بذلك المقدار ؛ لأنه مهما تصوّرناه فهو مشتمل حتما على علم تفصيلي بالجامع بين التكليفين ، فيكون مدخلا لهذا الجامع في دائرة حقّ الطاعة.

أمّا كون العلم الإجمالي يمنع عن حرمة المخالفة القطعيّة سواء بنحو العليّة أو

١٦٦

الاقتضائيّة فهذا المقدار مما لا شكّ فيه عند أحد ؛ لأنّ العلم الإجمالي على كثرة التصوّرات والمسالك الموجودة فيه وأنّه علم بالجامع وشكّ في الأطراف كما هو قول المشهور ، أو أنّه علم بالواقع المردّد بين الأطراف ، أو أنّه علم بالفرد المردّد من بين هذه الأفراد ، فهذا العلم الإجمالي مهما كان تصوّره فهو يستبطن العلم التفصيلي بالجامع بين التكليفين. وعليه فيكون هذا الجامع منكشفا انكشافا تامّا ، ولذلك يدخل ضمن دائرة حقّ الطاعة ، ويكون موضوعا للمنجّزيّة عقلا ، فيحكم العقل بلزوم الامتثال والإطاعة وحرمة المخالفة سواء في ذلك المسلك المشهور أو مسلكنا المختار. ولذلك قال السيّد الشهيد :

أمّا على رأينا في سعة هذه الدائرة فواضح. وأمّا على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان فلأنّ العلم الإجمالي يستبطن انكشافا تفصيليّا تامّا للجامع بين التكليفين ، فيخرج هذا الجامع عن دائرة قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

أمّا على مسلك حقّ الطاعة فقد قلنا سابقا : إنّ دائرة هذا الحقّ وموضوع المنجّزيّة يعمّ مطلق الانكشاف ، سواء في ذلك العلم والظنّ والاحتمال ، والعلم الإجمالي فيه كشف عن الواقع بدرجة ما لا تقلّ عن الاحتمال ، ولذلك يكون دخول الجامع في العهدة وحقّ الطاعة على مسلكنا على القاعدة. فهذا واضح جدّا.

وأمّا على مسلك المشهور القائل بقبح العقاب بلا بيان فهذا العلم الإجمالي قلنا : إنّه يتضمّن ويستبطن العلم التفصيلي بالجامع ، وهذا معناه أنّ الجامع قد تمّ البيان عليه فيكون خارجا عن موضوع هذه القاعدة تخصّصا ، أي أنّ القاعدة لا تشمله أصلا ؛ لأنّه علم وبيان بمقدار الجامع بين التكليفين.

ولا يمكن أن يكون داخلا في القاعدة بقبح العقاب بلا بيان ؛ لأنّه يؤدّي إلى المنافاة بين المعلوم التفصيلي وهو الجامع بين الأطراف وبين التأمين عن هذا المعلوم التفصيلي (١).

__________________

(١) وما دام الجامع قد تمّ البيان عليه فتحرم مخالفته ويجب امتثاله وإطاعته ، ومن الواضح أنّ مخالفة الجامع إنّما تكون بإعدام كلا الفردين ؛ لأنّ الطبيعة والماهيّة لا تنعدم إلا بانعدام تمام أفرادها ، وهذا يعني أنّ ترك كلا الفردين مخالفة قطعيّة للجامع المعلوم تفصيلا.

١٦٧

وأمّا الأمر الثاني : فقد ذكر المشهور (١) : أنّ الترخيص الشرعي في المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي غير معقول ؛ لأنّها معصية قبيحة بحكم العقل ، فالترخيص فيها يناقض حكم العقل ويكون ترخيصا في القبيح ، وهو محال.

ذكر المشهور أنّ الدليل على عدم إمكان سلب المنجّزيّة عن العلم الإجمالي والردع عن العمل به هو نفس الدليل المتقدّم في العلم التفصيلي وحاصله : أنّ الترخيص الشرعي في المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي يؤدّي إلى ترك الجامع المعلوم تفصيلا المتنجّز على المكلّف والداخل في عهدته بحكم العقل بلزوم الامتثال والإطاعة وحرمة المخالفة وكونها معصية قبيحة ، فيلزم من الترخيص في المخالفة الترخيص في فعل القبيح والمعصية ، ومن المستحيل صدور مثل ذلك من الشارع الحكيم ؛ لأنّه يناقض حكم العقل والشارع رأس العقلاء لا يحكم بما هو قبيح ومعصية عند العقل.

وهذا البيان غير متّجه ؛ لأنّنا عرفنا سابقا (٢) أنّ مردّ حكم العقل بقبح المعصية ووجوب الامتثال إلى حكمه بحقّ الطاعة للمولى ، وهذا حكم معلّق على عدم ورود الترخيص الجادّ من المولى في المخالفة ، فإذا جاء الترخيص ارتفع موضوع الحكم العقلي ، فلا تكون المخالفة القطعيّة قبيحة عقلا.

وعلى هذا فالبحث ينبغي أن ينصبّ على أنّه : هل يعقل ورود الترخيص الجادّ من قبل المولى على نحو يلائم مع ثبوت الأحكام الواقعيّة؟

الجواب على ذلك هو : أنّ ذلك يعتمد على أمرين كلاهما غير صحيح :

الأوّل : أنّ العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي منجّزيته فعليّة غير متوقّفة على شيء.

الثاني : أنّ حكم العقل بقبح المعصية والمخالفة ناجز وفعلي وليس معلّقا على شيء أيضا.

والصحيح أنّ العلم الإجمالي يختلف عن العلم التفصيلي في المنجّزيّة ، كما سيأتي بيانه. وحكم العقل بقبح المعصية والمخالفة مرجعه في الحقيقة إلى حقّ الطاعة للمولى ؛ بمعنى أنّ العقل إنّما يحكم بقبح المعصية ووجوب الامتثال والإطاعة رعاية لحقّ المولى ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٤١ ، مصباح الأصول ٢ : ٣٤٥ ـ ٣٤٦.

(٢) في الردّ على تصوّر المشهور بالنسبة إلى عدم إمكان الردع عن العمل بالقطع.

١٦٨

فلا بدّ أوّلا من تحديد دائرة هذا الحقّ وهل هو ثابت بنحو مطلق غير مشروط ، أو أنّه معلّق ومتوقّف على عدم الترخيص الجادّ من المولى؟

والجواب ـ كما تقدّم ـ أنّ حقّ الطاعة ووجوب الامتثال وقبح المعصية متوقّف على عدم ورود الترخيص الجادّ من المولى نفسه ؛ لأنّه من الواضح أنّه لا قبح ولا معصية ولا مخالفة فيما إذا سمح المولى نفسه وأذن في ترك الامتثال والإطاعة.

فيكون موضوع حكم العقل بقبح المعصية ووجوب الإطاعة والامتثال مقيّدا ومشروطا ومتوقّفا على عدم ورود الترخيص الجادّ ، فإذا لم يأت هذا الترخيص كان حكم العقل بذلك فعليّا ، وأمّا إذا جاء الترخيص الجادّ في ترك الإطاعة والامتثال فهنا يرتفع موضوع حكم العقل بالقبح.

وعلى هذا الأساس ينبغي أن ينصبّ البحث والكلام في أنّ هذا الترخيص الجادّ هل يعقل وروده في موارد العلم الإجمالي بالتكليف أو لا يمكن صدوره من المولى أصلا؟

والجواب : أنّه معقول ؛ لأنّ الجامع وإن كان معلوما ولكن إذا افترضنا أنّ الملاكات الاقتضائيّة للإباحة كانت بدرجة من الأهميّة تستدعي لضمان الحفاظ عليها الترخيص حتّى في المخالفة القطعيّة للتكليف المعلوم بالإجمال ، فمن المعقول أن يصدر من المولى هذا الترخيص ، ويكون ترخيصا ظاهريّا بروحه وجوهره ؛ لأنّه ليس حكما حقيقيّا ناشئا من مبادئ في متعلّقه ، بل خطاب طريقي من أجل ضمان الحفاظ على الملاكات الاقتضائيّة للإباحة الواقعيّة.

والجواب على السؤال المذكور : هو أنّه ممكن ثبوتا ومعقول تصوّرا أن يصدر المولى ترخيصا ظاهريّا في موارد العلم الإجمالي بالتكليف. فهنا وإن كان يوجد علم تفصيلي بالجامع والترخيص الظاهري سيؤدّي إلى ترك هذا الجامع بترك الأطراف كلّها لورود الترخيص فيها ، إلا أنّ هذا يمكن فرضه فيما إذا كانت ملاكات الإباحة الواقعيّة بدرجة من الأهميّة تستدعي لأجل الحفاظ عليها وضمانها الترخيص حتّى في المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال.

والوجه في ذلك أنّ كلّ طرف من أطراف العلم الإجمالي بنفسه مشكوك ، ونحن قلنا : إنّ المنجّزيّة في موارد الظنّ والاحتمال والشكّ معلّقة على عدم ورود الترخيص

١٦٩

الجادّ من المولى ، وهذا يعني أنّه يمكن فرض ورود الترخيص الجادّ في كلّ طرف من الأطراف المشكوكة ، وهذا بالطبع سوف يؤدّي في نهاية الأمر إلى مخالفة المعلوم التفصيلي وهو الجامع ووقوع المكلّف في المخالفة القطعيّة ، إلا أنّ هذا لا يمنع من صدور الترخيص إذا كانت ملاكات الإباحة هي الأهمّ واقعا بنظر الشارع من ملاكات الإلزام بأن كانت ملاكات الإباحة اقتضائيّة في أن يكون المكلّف مطلق العنان في حالات الشكّ والاحتمال والظنّ للتكليف.

فكما يعقل أن يصدر إلزام ظاهري في وجوب التحفّظ على ملاكات الإلزام في ضمن هذه الأطراف التي يحتمل فيها الإلزام ، والذي بدوره سوف يؤدّي إلى تفويت ملاك الترخيص في بعضها. فكذلك يعقل ورود الترخيص في كلّ الأطراف التي يوجد ضمنها ملاكات الإباحة ، وبالتالي سوف تفوت ملاكات الإلزام في بعضها أيضا ، فلا فرق في الموردين ؛ لأنّ هذا الحكم الظاهري وظيفته إبراز الأهمّ من ملاكات الواقع لأجل المحافظة على ضمانها ، فالمكلّف لأجل ذلك سوف يترك الإلزام أو يترك الترخيص ولكن لأجل تلك الملاكات الأهمّ.

وعلى هذا فيحتمل صدور مثل هذا الترخيص الظاهري ؛ لأنّه ليس فيه مبادئ وملاكات مستقلّة عن مبادئ وملاكات الواقع ؛ إذ ليس هو حكما واقعيّا حقيقيّا له مبادئ وملاكات مستقلّة في نفسه أو في متعلّقه بقطع النظر عن الحكم الواقعي ، بل هو خطاب طريقي يستخدمه المولى لأجل ضمان الأهمّ من الملاكات الواقعيّة عند اختلاطها وعدم تمييز المكلّف بها.

وعلى هذا الأساس لا يحصل تناف بينه وبين التكليف المعلوم بالإجمال ؛ إذ ليس له مبادئ خاصّة به في مقابل مبادئ الأحكام الواقعيّة ليكون منافيا للتكليف المعلوم بالإجمال.

فإن قيل : إنّ هذا الترخيص الظاهري في كلّ الأطراف سوف يؤدّي إلى الترخيص في التكليف المعلوم بالإجمال ، فيكون هذا الترخيص الظاهري منافيا للتكليف الواقعي المعلوم إجمالا ولذلك يستحيل صدوره.

كان الجواب : أنّه لا تنافي بين هذا الترخيص الظاهري وبين التكليف المعلوم بالإجمال ؛ وذلك لأنّ الترخيص الظاهري حكم طريقي ليس فيه مبادئ وملاكات

١٧٠

مستقلّة عن الحكم الواقعي ، وإنّما هو خطاب لتعيين الأهمّ من الملاكات الواقعيّة.

والمفروض أنّ ملاكات الإباحة الاقتضائيّة كانت بنظر الشارع أهمّ من ملاكات الإلزام ، ولذلك يصدر هذا الترخيص الظاهري.

وتصوّر المنافاة فاسد ؛ إذ لا منافاة بينهما لا في عالم الجعل والاعتبار ولا في عالم المبادئ ولا في عالم الامتثال.

أمّا أنّه لا منافاة بينهما في عالم الجعل فلأنّ الجعل والاعتبار سهل المئونة ، ولا منافاة في الاعتبار والصياغة كما تقدّم.

وأمّا عالم المبادئ فلأنّ مبادئ الحكم الواقعي في متعلّقه ، بينما الحكم الظاهري ليس فيه مبادئ مستقلّة ، ولذلك فلا يوجد إلا مبادئ الحكم الواقعي فقط والحكم الظاهري طريق لإبراز الأهمّ منها. فإن أصاب الواقع فلا إشكال ، وإن أخطأ كان المكلّف معذورا في ذلك ؛ لأنّه تعبّد بما هو حجّة عند الشارع.

وأمّا عالم الامتثال فلأنّ وصول الحكم الظاهري يقتضي أنّ الحكم الواقعي غير واصل إلى المكلّف ؛ لأنّ ظرف الحكم الظاهري هو الشكّ ومع الشكّ لا علم بالواقع ، ووصول الحكم الواقعي يعني أنّه لا شكّ في مجال الحكم الظاهري ، فلا وصول إلا لأحدهما فقط ، ولذلك لا امتثال إلا لواحد منهما فقط وهو الواصل والمنجّز على المكلّف.

فإن قيل : ما الفرق بين العلم الإجمالي والعلم التفصيلي؟ إذ تقدّم (١) أنّ الترخيص الطريقي في مخالفة التكليف المعلوم تفصيلا مستحيل ، وليس العلم الإجمالي إلا علما تفصيليّا بالجامع.

حاصل الإشكال : أنّ العلم التفصيلي يستحيل سلب المنجّزيّة عنه ويستحيل الردع عن العمل به ، وهذا معناه أنّ منجّزيّته فعليّة غير متوقّفة على صدور الترخيص ؛ إذ صدوره مستحيل كما تقدّم. والعلم الإجمالي لا يفترق عن العلم التفصيلي في مقدار المعلوم بالإجمال وهو الجامع فإنّ العلم الإجمالي كما تقدّم يتضمّن علما تفصيليّا بالجامع وشكّا في الأطراف ، إذا فهناك علم تفصيلي بالجامع فلما ذا يفرّق بين العلم التفصيلي السابق وبين العلم التفصيلي الموجود ضمن العلم الإجمالي؟ إذ كلاهما علم تفصيلي ، فما يثبت لأحدهما يثبت للآخر ولا معنى للتفرقة بينهما.

__________________

(١) في بحث حجّيّة القطع على مبنى حقّ الطاعة.

١٧١

كان الجواب على ذلك : أنّ العالم بالتكليف بالعلم التفصيلي لا يرى التزامه بعلمه مفوّتا للملاكات الاقتضائيّة للإباحة ، لأنّه قاطع بعدمها في مورد علمه. والترخيص الطريقي إنّما ينشأ من أجل الحفاظ على تلك الملاكات ، وهذا يعني أنّه يرى عدم توجّه ذلك الترخيص إليه جدّا.

والجواب : أنّه يوجد فرق كبير جدّا بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي وهو أنّه في موارد العلم التفصيلي بالتكليف كالقطع بوجوب صلاة الظهر يوم الجمعة أو كالقطع بنجاسة هذا الإناء ، فهنا القطع التفصيلي معناه الإراءة والكشف التامّ عن الواقع فالمكلّف يرى بسبب علمه التفصيلي أنّ الواقع هو الوجوب أو النجاسة مثلا ، وهذا معناه أنّه يرى أنّ الملاكات الواقعيّة الثابتة هي ملاكات الإلزام ، ولا يرى وجودا ولو احتمالا لوجود ملاكات الترخيص والإباحة ؛ لأنّه لو كان يحتمل وجوده ولو احتمالا ضئيلا لم يكن قاطعا ، والمفروض أنّه قاطع.

وحينئذ فهو لا يرى أنّ الالتزام بالتكليف كالوجوب أو النجاسة مفوّتا للملاكات الواقعيّة للترخيص والطهارة ولو احتمالا ؛ لأنّه يقطع بعدم وجودها بتاتا. ولذلك إذ ورد ترخيص طريقي لأجل الحفاظ على ملاكات الإباحة الواقعيّة وضمانها فلا يراه متوجّها إليه جدّا ؛ لأنّه لا يعتقد بوجود ملاكات الإباحة فضلا عن التحفّظ عليها ، فهو لا يصدّق أنّه مشمول لهذا الترخيص الظاهري ، بل يراه متوجّها لغيره ، وعمومه وإطلاقه كان لأجل قصور اللفظ وضيق الخناق وعدم إمكان التقيّد فيه.

وبتعبير آخر : أنّ التزاحم الحفظي بين الملاكات الواقعيّة الذي هو ملاك الحكم الظاهري لا يحتمل وجوده بالنسبة للقاطع بالتكليف تفصيلا ؛ لأنّه لا يرى سوى ملاكات الإلزام وأنّها هي الثابتة واقعا دون غيرها ولو احتمالا. فالترخيص الظاهري الذي يحافظ على ملاكات الإباحة الواقعيّة لا يعنيه في شيء وليس هو المقصود منه ، وليس شاملا له بنحو الجدّيّة ؛ لأنّه يعتقد أنّ هذا الترخيص الظاهري جاء ليبرز للمكلّف الملاك الواقعي الأهمّ بنظر الشارع في صورة الاشتباه والخطأ والحيرة والشكّ ، وهو ليس متحيّرا أو شاكّا أو مشتبها ولو باعتقاده ، بل يرى قطعه مصيبا ويرى مقطوعه ثابتا واقعا ولا يوجد سوى ملاكات الإلزام فقط ، فلا يمكن أن يصدّق بهذا التكليف أبدا.

١٧٢

وهذا خلافا للقاطع في موارد العلم الإجمالي ، فإنّه يرى أنّ إلزامه بترك المخالفة القطعيّة قد يعني إلزامه بترك المباح لكي لا تتحقّق المخالفة القطعيّة. وعلى هذا الأساس يتقبّل توجّه ترخيص جادّ إليه من قبل المولى في كلا الطرفين لضمان الحفاظ على الملاكات الاقتضائيّة للإباحة.

أمّا العلم الإجمالي بالتكليف كالعلم بوجوب الجمعة أو الظهر يوم الجمعة أو العلم بنجاسة أحد هذين الإناءين. فهنا لا توجد إراءة تامّة عن الواقع وإنّما هناك كشف ناقص عن الواقع ؛ لأنّه لا مجال لتعيين المعلوم بهذا أو بذاك فإنّ نسبة الجامع إلى الواقع ليست معلومة وإنّما هي مشكوكة ، فالقاطع في موارد العلم الإجمالي أمامه فردان : أحدهما يحقّق المعلوم إجمالا وهو الوجوب أو النجاسة ، والآخر ليس واجبا وليس نجسا ؛ ولكنّه لا يعلم بذلك على وجه التعيين ، ولذلك فإنّ إلزامه بعدم المخالفة القطعيّة معناه إمّا وجوب الموافقة القطعيّة أو وجوب الموافقة الاحتماليّة ، فإمّا أن يأتي بالصلاتين ويترك كلا الإناءين ؛ ليتحقّق عدم المخالفة القطعيّة أو يأتي بصلاة واحدة ويترك إناء واحدا ، فإنّه لا يكون مخالفا قطعا ، بل احتمالا.

ففي الصورة الأولى يكون قد ألزم بفعل المباح أو بترك الطاهر لأجل تحقّق عدم المخالفة القطعيّة ، وفي الصورة الثانية يكون من المحتمل أنّه ألزم بفعل المباح أو بترك الطاهر ، بأن كانت الصلاة التي أدّاها ليست هي الواجبة أو الإناء الذي تركه ليس هو النجس واقعا. ففي كلتا الصورتين يعني إلزامه بترك المخالفة القطعيّة إلزامه بالمباح فعلا أو تركا لأجل عدم تحقّق المخالفة القطعيّة.

وعلى هذا الأساس لن يكون هناك مانع من ورود الترخيص الظاهري في ترك كلا الصلاتين أو جواز ارتكاب كلا الإناءين فيما إذا كانت ملاكات الإباحة تستدعي لأجل الحفاظ عليها وضمانها الترخيص حتّى في الواجب الواقعي أو ارتكاب النجس الواقعي. ولذلك يكون هذا الترخيص بالنسبة إليه جدّيّا ؛ إذ كما أنّ الإلزام بترك المخالفة قد يؤدّي إلى الإلزام بفعل أو بترك المباح إذا كانت ملاكات الإلزام الواقعيّة هي الأهمّ فكذلك الترخيص في جواز المخالفة ، فإنّه يؤدّي إلى ترك الإلزام إذا كانت ملاكات الإباحة هي الأهم. فلا فرق بين الأمرين ولذلك كما أنّه يتقبّل الإلزام الظاهري يتقبّل الترخيص الظاهري ويكون ترخيصا جدّيّا كالإلزام. فالقاطع في موارد

١٧٣

العلم الإجمالي يرى وجودا للإباحة ولو احتمالا ، ولذلك فإلزامه بالتكليف قد يفوّت ملاكات الإباحة فالترخيص الجادّ الناشئ لأجل الحفاظ على ملاكات الإباحة يراه جدّيّا ؛ لأنّ ملاكات الإباحة محتملة عنده.

وبتعبير آخر : أنّ موارد التزاحم الحفظي متصوّرة هنا ؛ لأنّ القاطع إجمالا يحتمل الإباحة مضافا إلى التكليف ، ولذلك يكون موضوع التزاحم موجودا فلا مانع من صدور الترخيص كما لا مانع من صدور الإلزام ظاهرا.

ويبقى بعد ذلك سؤال إثباتي وهو : هل ورد الترخيص في المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي؟ وهل يمكن إثبات ذلك بإطلاق أدلّة الأصول؟

كان الكلام في المرحلة الثبوتيّة وقلنا : إنّه يعقل ورود الترخيص الظاهري في موارد العلم الإجمالي.

وأمّا المرحلة الإثباتيّة ، فهل يمكن إثبات أنّ هذا الترخيص قد ورد فعلا؟ أو هل يمكن إثبات الترخيص من خلال التمسّك بإطلاق أدلّة الأصول العمليّة الترخيصيّة كالبراءة والإباحة؟

فهل هناك دليل مستقلّ يدلّ على الترخيص في موارد العلم الإجمالي؟ أو أنّ دليل البراءة يشمل باطلاقه موارد العلم الإجمالي وغيره أيضا؟

والجواب : هو النفي ؛ لأنّ ذلك يعني افتراض أهميّة الغرض الترخيصي من الغرض الإلزامي حتّى في حالة العلم بالإلزام ووصوله إجمالا أو مساواته له على الأقلّ ، وهو وإن كان افتراضا معقولا ثبوتا ولكنّه على خلاف الارتكاز العقلائي ؛ لأنّ الغالب في الأغراض العقلائيّة عدم بلوغ الأغراض الترخيصيّة إلى تلك المرتبة ، وهذا الارتكاز بنفسه يكون قرينة لبّيّة متّصلة على تقييد إطلاق أدلّة الأصول.

وبذلك نثبت حرمة المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي عقلا.

والجواب : هو النفي ؛ لأنّه لا يوجد إثباتا دليل مستقلّ على ورود الترخيص في موارد العلم الإجمالي بالخصوص ، ولا يمكن التمسّك بإطلاق أدلّة الأصول الترخيصيّة لموارد العلم الإجمالي أيضا ؛ لأنّها مقيّدة.

وتوضيح ذلك : إنّ ورود الترخيص الظاهري وإن كان ممكنا ثبوتا ولا مانع منه عقلا ولا استحالة فيه ، إلا أنّه يعني أنّ الملاكات الواقعة للإباحة الاقتضائيّة هي الأهمّ

١٧٤

بنظر الشارع من ملاكات الإلزام عند الاختلاط والاشتباه وعدم التمييز ، أو على الأقلّ هي مساوية لها. وهذا الافتراض على خلاف المرتكزات العرفيّة العقلائيّة ، فإنّ العقلاء لا يرون أنّ ملاكات الترخيص والإباحة تصل إلى هذه الدرجة والمرتبة من الأهميّة أو المساواة ؛ لأنّ الغالب عندهم هو أهميّة ملاكات الإلزام عادة ، فالعقلاء في بنائهم وسيرتهم في الأغراض الشخصيّة التكوينيّة أو في أغراضهم التشريعيّة بين الموالي والعبيد العرفيّين يحكمون بأهميّة ملاكات الإلزام غالبا وعادة في موارد العلم الإجمالي بالإلزام ، ولا يرون أنّ ملاكات الإباحة والترخيص المحتملة تصل إلى تلك الدرجة من الأهميّة أو المساواة.

وحينئذ نقول : إنّه لا يوجد دليل إثباتي مستقلّ فيما وصل إلينا من الأدلّة يبرز أهميّة ملاكات الترخيص والإباحة على ملاكات الإلزام في خصوص موارد العلم الإجمالي.

يبقى إطلاق أدلّة الأصول الترخيصيّة كالإطلاق مثلا في قوله : ( رفع ما لا يعلمون ) الشامل بإطلاقه لموارد عدم العلم مطلقا سواء في الشبهات البدويّة أو الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، إلا أنّ هذا الإطلاق مقيّد بقيد لبّي متّصل وهو الارتكاز العقلائي المذكور. فإنّ هذا الارتكاز والبناء العقلائي يعتبر مقيّدا لبيّا حاليّا لهذا الإطلاق ، فعند صدور هذا الدليل كان هذا الارتكاز موجودا ومتّصلا به ، ولذلك فهو يقيّد ويمنع من إطلاقه لموارد العلم الإجمالي بالإلزام وبالتكليف.

ولا فرق بين المقيّد اللفظي المتّصل وبين المقيّد اللبّي المتّصل في كونهما يمنعان من انعقاد الإطلاق في أدلّة الأصول الترخيصيّة. وبهذا نصل إلى نفس النتيجة التي قال بها المشهور من أنّ العلم الإجمالي يثبت حرمة المخالفة القطعيّة ولكن عقلائيّا لا عقلا.

ويسمّى الاعتقاد بمنجّزيّة العلم الإجمالي لهذه المرحلة على نحو لا يمكن الردع عنها عقلا أو عقلائيّا بالقول بعلّيّة العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعيّة. بينما يسمّى الاعتقاد بمنجّزيّته لهذه المرحلة مع افتراض إمكان الردع عنها عقلا وعقلائيّا بالقول باقتضاء العلم الإجمالي للحرمة المذكورة.

أي أنّ المسلك الذي سار عليه المشهور من أنّ العلم الإجمالي منجّز لحرمة المخالفة القطعيّة عقلا وعقلائيّا ، أي يستحيل سلب المنجّزيّة عنه عقلا وعقلائيّا يسمّى بمسلك

١٧٥

علّيّة العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعيّة. والمقصود من مسلك العلّيّة أنّ العلم الإجمالي بنفسه منجّز لحرمة المخالفة بنحو يستحيل تصوّر ورود الترخيص عقلا ، فإذا وجد العلم الإجمالي وجدت المنجّزيّة وإذا انتفى انتفت حرمة المخالفة القطعيّة ، فهو علّة وهي معلولة له.

وأمّا مسلك السيّد الشهيد القائل بأنّ العلم الإجمالي يقتضي المنجّزيّة بمعنى أنّه لا يستحيل صدور الترخيص في المخالفة القطعيّة عقلا ، بل هي ممكنة ثبوتا إلا أنّه يستحيل ذلك إثباتا للارتكاز العقلائي المذكور ، فيسمّى هذا المسلك باقتضاء العلم الإجمالي للمنجّزيّة المذكورة. بمعنى أنّ هذه المنجّزيّة لحرمة المخالفة معلّقة على عدم ورود الترخيص الممكن ثبوتا وعقلائيّا ، فإذا ورد الترخيص إثباتا ارتفعت المنجّزيّة لارتفاع موضوعها ، وإذا لم يرد الترخيص ثبتت المنجّزيّة لتحقّق موضوعها ، وهذا مسلك صاحب ( الكفاية ) أيضا.

فالفرق بين مذهب العلّيّة والاقتضائيّة أنّه على الأوّل يستحيل صدور الترخيص بينما على الثاني لا يستحيل صدوره ، وإنّما لم يصدر لوجود المانع العقلائي. فالمنجّزيّة على الأوّل فعليّة ، بينما المنجّزيّة على الثاني معلّقة على عدم ورود الترخيص.

هذا تمام الكلام في المرحلة الأولى.

وأمّا المرحلة الثانية فيقع الكلام عنها في مباحث الأصول العمليّة إن شاء الله.

المرحلة الثانية هي المنع عن المخالفة الاحتمالية المساوقة لوجوب الموافقة القطعيّة ، بمعنى أنّ العلم الإجمالي هل يمنع بنحو العلّيّة أو بنحو الاقتضاء عن المخالفة الاحتماليّة ، فلا يسمح بترك أي طرف من الأطراف ، بل يوجب الالتزام بكلّ الأطراف فعلا في موارد العلم الإجمالي بالوجوب أو تركا في موارد العلم الإجمالي بالحرمة ، أو لا. وهذا البحث سوف يأتي التعرّض له في مباحث الأصول العمليّة حيث إنّه مرتبط بها ، بمعنى أنّ الأصول العمليّة الترخيصيّة هل تجري في بعض الأطراف أو لا تجري؟

١٧٦

حجّية القطع

غير المصيب ( وحكم التجرّي )

١٧٧
١٧٨

حجّيّة القطع غير المصيب وحكم التجرّي

هناك معنيان للإصابة :

أحدهما : إصابة القطع للواقع ، بمعنى كون المقطوع به ثابتا.

والآخر : إصابة القاطع في قطعه ، بمعنى أنّه كان يواجه مبرّرات موضوعيّة لهذا القطع ولم يكن متأثّرا بحالة نفسيّة ، ونحو ذلك من العوامل.

هنا سؤال وهو : هل أنّ القطع غير المصيب حجّة أو ليس حجّة؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال لا بدّ من معرفة المراد من الإصابة المأخوذة في السؤال ، فإنّ الإصابة على نحوين :

الأوّل : الإصابة بمعنى مطابقة القطع للواقع ، أي أنّ قطعه كان صحيحا ومصيبا للواقع ، وهذا لازمه أنّ ما تعلّق به القطع وهو المقطوع ثابت في الواقع أيضا. فالقطع المصيب هو الذي طابق الواقع ، والقطع غير المصيب هو القطع الذي يخالف ما هو ثابت واقعا. فمثلا إذا قطع المكلّف بالوجوب وكان الوجوب ثابتا في الواقع فيقال : إنّ قطعه مصيب ، وإن لم يكن هناك وجوب في الواقع فيقال : إنّ قطعه غير مصيب بل مخطئ.

الثاني : الإصابة بمعنى موافقة القطع للمبرّرات الموضوعيّة والمنطقيّة ، فإذا كان القاطع قد حصل له القطع استنادا إلى القوانين والضوابط الصحيحة المعتمد عليها في حصول القطع فيكون قطعه مصيبا ، أي أنّ قطعه صحيح من وجهة منطقيّة وموضوعيّة ، سواء كان مصيبا للواقع أم لا ، وفي مقابلة القطع الذي لا ينشأ من مبرّرات موضوعيّة وضوابط صحيحة ، بل كان ناشئا نتيجة لتأثّر القاطع ببعض العوامل النفسيّة والذاتيّة والظروف الخاصّة به بحيث أثّرت عليه في حصول القطع.

وقد يتحقّق المعنى الأوّل من الإصابة دون الثاني ، فلو أنّ مكلّفا قطع بوفاة

١٧٩

إنسان لإخبار شخص بوفاته وكان ميّتا حقّا غير أنّ هذا الشخص كانت نسبة الصدق في إخباراته عموما بدرجة سبعين في المائة ، فقطع المكلّف مصيب بالمعنى الأوّل ، ولكنّه غير مصيب بالمعنى الثاني ؛ لأنّ درجة التصديق بوفاة ذلك الإنسان يجب أن تتناسب مع نسبة الصدق في مجموع أخباره.

والنسبة بين هذين المعنيين من الإصابة هي العموم والخصوص من وجه ، ولذلك يمكن اجتماعهما في مورد ويفترقان في مورد آخر. فقد يتحقّق المعنى الأوّل من الإصابة بأن يكون قطعه مصيبا للواقع ، بأن كان ما قطع به ثابتا واقعا. ولا يتحقّق المعنى الثاني من الإصابة بأن لا يكون قطعه مصيبا للمبرّرات الموضوعيّة والمنطقيّة.

فمثلا لو أنّ شخصا أخبره بوفاة زيد وكان زيد ميّتا واقعا فقطع بوفاته استنادا إلى إخباره ، إلا أنّ هذا المخبر نفترض أنّ درجة الصدق في مجموع إخباراته لا توجب القطع ، بل توجب الظنّ فقط كنسبة سبعين في المائة. فهنا يطلق على هذا القاطع أنّه مصيب في قطعه بالمعنى الأوّل ؛ لأنّ ما قطع به ثابت واقعا فقطعه مطابق للواقع فهو مصيب ، ولكنّه لا يطلق عليه أنّه مصيب في قطعه بالمعنى الثاني ؛ لأنّ المبرّرات الموضوعيّة والمنطقيّة لم تكن متوفّرة لحصول القطع. وإنّما هذه المبرّرات توجب حصول الظنّ فقط ، فكان المناسب أن يظنّ بالوفاة لا أن يقطع بها ، لأنّ درجة الصدق من هذا الخبر لم تتناسب مع المبرّرات الموضوعيّة ، فلم يكن مصيبا في قطعه بلحاظ هذه المبرّرات والضوابط. نعم ، لو ظنّ بالوفاة في الفرض المذكور لكان مصيبا بالمعنى الثاني أيضا فيكون ظنّه مصيبا بالمعنى الأوّل ؛ لمطابقته للواقع ، ومصيبا بالمعنى الثاني ؛ للتناسب بين درجة التصديق هذه وبين المبرّرات الموضوعيّة (١).

__________________

(١) وقد يتحقّق المعنى الثاني من الإصابة دون الأوّل. فلو أنّ شخصا أخبر بوفاة زيد وكان مجموع إخباراته عموما تفيد الظنّ ، فظنّ هذا الشخص بالوفاة فهو مصيب في ظنّه بالمعنى الثاني ؛ للتناسب بين المبرّرات الموضوعيّة وبين درجة التصديق. فإذا لم يكن زيد ميّتا ، بل كان حيّا فهو غير مصيب بالمعنى الأوّل ؛ لعدم مطابقة ظنّه للواقع.

وقد يفرض القطع هنا بأن كان إخبار هذا الشخص يوجب القطع إلا أنّه لم يكن ميّتا واقعا ، ولكنّه مجرّد فرض ولعلّه غير صحيح ؛ لأنّ القطع معناه الإراءة التامّة عن الواقع فكيف لا يكون مقطوعه ثابتا. نعم يمكن ذلك في حالات الجهل المركّب والتي هي ليست من العلم في شيء.

١٨٠