شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

السياق غير ظاهرة في كونها غير مستعملة في معنى واحد. فيدور الأمر بين رفع اليد عن ظهور وحدة السياق في المعنى الواحد والالتزام بتعدّد المعنى وتغايره ، وبين إبقاء ظهور السياق في وحدة المعنى والالتزام بوحدة المعنى في الجميع حتّى في بقيّة الأوامر الظاهرة في الوجوب.

وهنا يقدّم وحدة السياق على ظهور الباقي في الوجوب ؛ لأنّ تعدّد المعاني في قوّة استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى ؛ لأنّ وحدة السياق معناها أنّ مدلول الأمر في الجميع واحد.

فإذا كان بعض مدلوله استحبابا وبعضه الآخر وجوبا لزم استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى وهو مستحيل ؛ لأنّ اللفظ الواحد لا يستعمل إلا في معنى واحد ؛ لأنّ اللفظ يفنى في المعنى ، فإذا أفني في هذا لم يبق ما يدلّ على ذلك. وهنا وإن كان هناك ألفاظ متعدّدة إلا أنّ وحدة السياق في قوّة اللفظ الواحد ، فيلزم المحذور مع تعدّد المعاني.

وأمّا على القول الثاني فالوجوب ثابت في الباقي ؛ لعدم كونه دخيلا في مدلول اللفظ لتثلم وحدة المعنى في الجميع.

وأمّا على القول الثاني في كون الأمر مادّة وهيئة يدلّ على الطلب فقط ، وأمّا الوجوب والاستحباب فهما حكمان عقليّان خارجان عن مدلول اللفظ ، فهنا لا تنافي بين وحدة السياق الظاهرة في وحدة المعنى وبين تعدّد المدلولات وتغايرها بأن يكون بعضها وجوبا وبعضها استحبابا ؛ وذلك لأنّ المعنى المدلول عليه باللفظ والذي يجب حفظه بقرينة وحدة السياق هو الطلب فقط ، وهذا محفوظ في كلّ الأوامر ، سواء فيها الوجوبيّة والاستحبابيّة.

وأمّا دلالة بعضها على الوجوب وبعضها الآخر على الاستحباب فهذا لا ينثلم به وحدة السياق ؛ لأنّ الوجوب والاستحباب خارجان عن مدلول اللفظ ، بمعنى أنّ اللفظ لم يستعمل إلا في معنى واحد في الجميع وهو الطلب ، وهذا الذي تقتضيه وحدة السياق.

وأمّا الوجوب والاستحباب فيحكم بهما العقل. فإذا ورد ترخيص حكم بالاستحباب ، وأمّا بقيّة الأوامر التي لم يرد فيه ترخيص فيحكم العقل بأنّها للوجوب.

٣٨١

والحاصل أنّنا نحافظ على وحدة السياق وعلى تعدّد المعاني ؛ لأنّ موضوع كلّ منهما يختلف عن الآخر والحاكم فيهما متعدّد ؛ لأنّ الحكم بوحدة المعنى المدلول باللفظ هو الوضع ، بينما الحاكم بتعدّد المعاني وتغايرها هو العقل ، فلا تعارض ولا تنافي بينهما.

وكذلك الحال على القول الثالث ؛ لأنّ التفكيك بين الأوامر وكون بعضها وجوبيّة وبعضها استحبابيّة لا يعني ـ على هذا القول ـ تغاير مدلولاتها ، بل كلّها ذات معنى واحد ، ولكنّه أريد في بعضها مطلقا وفي بعضها مقيّدا.

وكذلك الحال بناء على القول الثالث من أنّ الأمر يدلّ على الطلب والإرادة ، وأمّا الوجوب والاستحباب فهما خارجان عن مدلول اللفظ ؛ لأنّ كلاّ منهما فيه مئونة زائدة ، إلا أنّ الوجوب يتعيّن بالإطلاق وقرينة الحكمة كما تقدّم.

فهنا لا يلزم التنافي والتعارض بين وحدة السياق الظاهرة في وحدة المعنى وبين تعدّد المعنى وتغايره ؛ وذلك لأنّ وحدة السياق تقتضي وحدة المعنى المدلول عليه باللفظ وهو هنا الطلب والإرادة. فتكون كلّ الأوامر مدلولها واحدا هو الطلب والإرادة.

وأمّا كون هذه الإرادة في بعضها شديدة تفيد الوجوب وفي بعضها الآخر ضعيفة تفيد الاستحباب فهذا خارج عن مدلول اللفظ ؛ لأنّ ذلك تابع للإطلاق ومقدّمات الحكمة كما تقدّم.

ومن المعلوم أنّ قرينة الحكمة عبارة عن ظهور حالي سياقي يعيّن المراد الجدّي ، أي الدلالة التصديقيّة الثانية ، بينما المدلول اللفظي هو الدلالة التصوّريّة فلا تتّحد الجهة ليقع التنافي بين وحدة السياق وبين تعدّد المعنى. فالمعنى واحد وهو الإرادة ، غاية الأمر كانت هذه الإرادة مفيدة للوجوب ؛ لأنّها إرادة شديدة وكانت مفيدة للاستحباب ؛ لأنّها إرادة ضعيفة ، والمعيّن للإرادة الشديدة الوجوبيّة هو الإطلاق وقرينة الحكمة ، بينما المعيّن للإرادة الضعيفة والاستحباب هو التقييد وذكر ما يدلّ على ذلك لفظا ، والإطلاق والتقييد من شئون مقصود المتكلّم الجدّي لا من شئون الدلالة اللفظيّة الوضعيّة. فلا مانع من الالتزام بوحدة السياق وتعدّد المعنى.

٣٨٢

الأوامر الإرشاديّة

٣٨٣
٣٨٤

الأوامر الإرشاديّة

ومهما يكن فالأصل في دلالة الأمر أنّه يدلّ على طلب المادّة وإيجابها ، ولكنّه يستعمل في جملة من الأحيان للإرشاد.

بناء على ما تقدّم فالأصل في دلالة الأمر سواء المادّة أو الهيئة أنّه يدلّ على طلب الفعل ، وأنّ هذا الطلب ناشئ من داع لزومي ، فهو يدلّ على الوجوب على اختلاف الأقوال في كيفيّة هذه الدلالة.

إلا أنّ الأمر قد يخرج عن هذه الدلالة كلّيّا فلا يكون دالاّ على طلب الفعل أصلا فضلا عن كونه وجوبا أو استحبابا ، وإنّما يكون مستعملا للإرشاد الى شيء آخر ينتزع ويفهم من الكلام ، كما في الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة والصحّة والبطلان ونحو ذلك.

وتوضيح ذلك :

فالأمر في قولهم : ( استقبل القبلة بذبيحتك ) ليس مفاده الطلب والوجوب ؛ لوضوح أنّ شخصا لو لم يستقبل القبلة بالذبيحة لم يكن آثما ، وإنّما تحرم عليه الذبيحة. فمفاد الأمر إذا الإرشاد إلى شرطيّة الاستقبال في التذكية ، وقد يعبّر عن ذلك بالوجوب الشرطي باعتبار أنّ الشرط واجب في المشروط.

إذا قيل : ( استقبل القبلة بذبيحتك ) فهذا الأمر ليس مفاده ومدلوله الطلب والوجوب النفسي التكليفي للاستقبال ، بحيث يجب عليه الإطاعة والامتثال وإذا خالف يكون مستحقّا للعقاب ؛ لأنّه من الواضح أنّ من خالف ولم يستقبل القبلة عند الذبح لم يكن آثما وعاصيا ولا يستحقّ العقاب ، وكذلك من أطاع واستقبل القبلة لم يكن مستحقّا للثواب ، ومن المعلوم أنّ الطلب والوجوب النفسي يستلزم العقاب على الترك والمخالفة ويستتبع الثواب على الالتزام والإطاعة. وهذا يعني أنّ هذا الأمر ليس مفاده الوجوب النفسي الذي تقدّم الحديث عنه.

٣٨٥

وإنّما المفاد هنا الإرشاد إلى نكتة أخرى وهي أنّ الاستقبال شرط في الذبح ، بحيث إنّه إذا لم يستقبل ترتّب على ذلك حكم آخر وهو عدم الصحّة أو عدم الحليّة والتذكية ، والتي هي من الأحكام الوضعيّة التي يترتّب عليها بعض الأحكام التكليفيّة كحرمة الأكل مثلا.

فهذا الأمر يتفرّع منه مفهوم الشرطيّة ، ولذلك يعبّر عنه بالوجوب الشرطي والمقصود من هذا التعبير أنّ الاستقبال شرط في تحقّق المشروط وهو التذكية ، فيتّصف الاستقبال بالشرطيّة ؛ لأنّه إذا تحقّق تحقّق المشروط وإذا انتفى انتفى المشروط ، ويتّصف بالوجوب أيضا ، والمقصود الوجوب الوضعي بمعنى أنّه دخيل في المشروط وجودا وعدما.

والأمر في ( اغسل ثوبك من البول ) ليس مفاده طلب الغسل ووجوبه ، بل الإرشاد إلى نجاسته بالبول ، وأنّ مطهّره هو الماء.

وكذلك الحال في قولنا : ( اغسل ثوبك من البول ) ، فإنّ الأمر ليس مفاده هنا الوجوب النفسي التكليفي المستتبع للثواب والعقاب على الامتثال والمخالفة ؛ لوضوح أنّ من يخالف ولا يغسل الثوب لا يكون عاصيا وآثما ، وإنّما المراد من هذا الأمر هو الإرشاد إلى شيء آخر وهو أنّ البول سبب للنجاسة ، وأنّ الثوب المتنجّس بالبول يطهر بغسله بالماء.

ومن المعلوم أنّ النجاسة والطهارة من الأحكام الوضعيّة التي يترتّب عليهما أحكام أخرى من قبيل حرمة شرب الماء المتنجّس ، وعدم صحّة الوضوء به ، وعدم صحّة الصلاة بالثوب الملاقي للبول ، وهكذا.

فمثل هذا الأمر يسمّى بالأمر الإرشادي أيضا.

وأمر الطبيب للمريض باستعمال الدواء ليس مفاده إلا الإرشاد إلى ما في الدواء من نفع وشفاء.

وهذا الأمر الإرشادي في الشريعة الإسلاميّة له مناظر في الأحكام العرفيّة العقلائيّة ، كما في أوامر الطبيب للمريض بأن يستعمل الدواء المعيّن. فإنّ العرف لا يحمل أمر الطبيب على الوجوب النفسي التكليفي كما يحمل أوامر الرئيس والسيّد على ذلك.

٣٨٦

وإنّما يفهمون من أوامر الطبيب أنّ هذا الدواء فيه نفع وشفاء للمريض ، وهذا معناه أنّه يرشد إلى المنفعة الموجودة في استعمال الدواء ، وأنّه يسبّب الشفاء من المرض.

وفي كلّ هذه الحالات تحتفظ صيغة الأمر بمدلولها التصوّري الوضعي ، وهو النسبة الإرساليّة ، غير أنّ مدلولها التصديقي الجدّي يختلف من مورد إلى آخر.

وفي هذه الحالات التي يكون الأمر فيها للإرشاد لا يعني ذلك أنّ صيغة الأمر موضوعة لمعنى آخر غير المعنى الموضوع له في الأوامر التي تفيد الطلب والوجوب ، بل الصيغة مستعملة وموضوعة في معناها التصوّري الوضعي السابق وهو النسبة الإرساليّة.

فالمدلول التصوّري الوضعي محفوظ في الصيغة ، غاية الأمر أنّ المدلول التصديقي الجدّي يختلف من مورد لآخر ، ففي هذه الحالات يكون المدلول التصديقي مخالفا للمدلول التصوّري ؛ لأنّ المراد الجدّي ليس هو الطلب والإرسال والوجوب ، بل الإرشاد.

بينما في حالات الأمر المفيد للطلب والوجوب يكون المدلول التصديقي الجدّي مطابقا للمدلول التصوّري الوضعي. فإذا كانت هناك قرينة ولو لبيّة على أنّ المراد الجدّي ليس هو الطلب والوجوب فيؤخذ بها ، وإن لم تكن هناك قرينة من هذا القبيل فمقتضى أصالة التطابق بين الدلالات كون المراد الجدّي هو الوجوب والطلب أيضا.

وهذا من قبيل المجازات ( اذهب إلى البحر وخذ من علمه ) فإنّ المدلول الوضعي التصوّري للبحر محفوظ ، إلا أنّه ليس مرادا جدّا لوجود هذه القرينة بخلاف ( اذهب إلى البحر ) ، فإنّ المراد الجدّي هو المعنى الوضعي التصوّري لأصالة التطابق بين الدلالات.

القسم الثاني : ونقصد به الجملة الخبريّة المستعملة في مقام الطلب. والكلام حولها يقع في مرحلتين :

القسم الثاني : ما يدلّ على الطلب بإعمال عناية في المقام سواء كانت لفظيّة أو حاليّة أو مقاميّة ، وذلك كالجمل الخبريّة التي تستعمل في إفادة الطلب ، سواء كان جملة اسميّة أو كانت جملة فعليّة. كما إذا قيل : ( إذا قهقه أعاد صلاته ) ، فإنّ استعمال الجمل الفعليّة كثير جدّا من قبيل ( يغتسل ) ( يعيد ) ( يصلي ) ( يصوم ).

٣٨٧

ولا إشكال عندهم في صحّة استعمالها في الطلب ، ولكن اختلفوا في تخريج وتوجيه هذه الدلالة. واختلفوا أيضا في أنّها تدلّ على الطلب بنحو الوجوب أو على الطلب فقط الجامع بينه وبين الاستحباب؟ فالكلام يقع في مرحلتين :

الأولى : في تفسير دلالتها على الطلب ، مع أنّها جملة خبريّة مدلولها التصوّري يشتمل على صدور المادّة من الفاعل ، ومدلولها التصديقي قصد الحكاية ، فما هي العناية التي تعمل لإفادة الطلب بها؟

وفي تصوير هذه العناية وجوه :

المرحلة الأولى : في كيفيّة تفسير وتحليل دلالة هذه الجملة الخبريّة على الطلب. مع أنّها جملة خبريّة لا إنشائيّة.

ومن الواضح كما تقدّم أنّ الجملة الخبريّة مدلولها التصوّري النسبة التامّة التي فرغ عن تحقّقها ، فهناك نسبة صدوريّة بين الفاعل والمادّة قد تحقّقت وأحضرت إلى الذهن بما هي كذلك. ومدلولها التصديقي هو قصد الحكاية والإخبار عن وقوع هذه النسبة. فكيف استعملت هذه الجملة في الإنشاء والذي معناه النسبة التامّة التي ينظر إليها لا بما هي متحقّقة ، بل بما هي في طريق الإنجاز والتحقّق؟ بحيث يكون مدلولها التصوّري هو النسبة الإرساليّة أو النسبة الطلبيّة ويكون مدلولها التصديقي جعل الحكم وإنشائه. فما هي هذه العناية التي جعلت هذه الجملة تخرج عن إفادة المعنى السابق وتفيد هذا المعنى الجديد؟

وللإجابة على ذلك وجدت عدّة اتّجاهات :

الأوّل : أن يحافظ على المدلول التصوّري والتصديقي معا ، فتكون الجملة إخبارا عن وقوع الفعل من الشخص ، غير أنّه يقيّد الشخص الذي يقصد الحكاية عنه بمن كان يطبّق عمله على الموازين الشرعيّة ، وهذا التقييد قرينته نفس كون المولى في مقام التشريع لا نقل أنباء خارجيّة.

التفسير الأوّل : أن يقال : إنّ الجملة الخبريّة المستعملة في مقام الطلب مستعملة في معناها الموضوع لها تصوّرا وتصديقا ، فهي تدلّ على وقوع النسبة الصدوريّة بين الفعل والفاعل تصوّرا ، وتدلّ تصديقا على قصد الحكاية والإخبار عن تحقّق ووقوع هذه النسبة في الخارج. فالفعل وقع الفاعل في الخارج وتحقّق منه هذا بحسب المدلول المطابقي للجملة تصوّرا وتصديقا.

٣٨٨

وأمّا العناية التي من أجلها استعملت في مقام الطلب والتي على أساسها كان للجملة دلالة على الطلب أيضا فهي أنّنا نقيّد الشخص الذي أخبر عن وقوع النسبة منه وقصد الحكاية عن إيجاده للنسبة في الخارج بالشخص الذي يطبّق أعماله وفقا للموازين الشرعيّة ، بحيث إنّه لا يفعل ولا يترك إلا إذا كان هناك أمر ونهي فيمتثل للأمر ولا يخالفه وينزجر عن النهي ولا يرتكبه.

وحينئذ سوف تتشكّل دلالة التزاميّة مفادها أنّ هذه النسبة التي صدرت من هذا الشخص وأوقعها في الخارج وحكي وأخبر عن ذلك كان فعله ناتجا ومعلولا لوجود أمر شرعي بذلك.

فهناك ملازمة بين وقوع الفعل من هذا الشخص والإخبار عن ذلك ، وبين كون هذا الفعل الذي وقع منه قد نشأ من وجود أمر شرعي بذلك.

فالشارع هنا أخبرنا عن وقوع النسبة وتحقّقها والتي هي المعلول ، وبالملازمة نعرف أنّ هناك علّة ؛ لأنّ المعلول لا يقع من دون علّة ، والعلّة هي وجود أمر شرعي بإيقاع النسبة وإيجادها ؛ لأنّنا فرضنا أنّ الشخص من المتشرّعة الذين يطبّقون أعمالهم وفقا لتعاليم الشريعة.

فيكون استعمال الجملة الخبريّة هنا أشدّ وآكد في الدلالة على الطلب والإنشاء من الجملة الإنشائيّة ؛ وذلك لأنّه في الجمل الإنشائيّة يبرز الشارع مراده ومطلوبه ، وهو إيقاع النسبة الذي هو العلّة ، وأمّا تحقّق النسبة ووقوعها في الخارج أي المعلول فقد يتحقّق إن كان الشخص ملتزما ، وقد لا يتحقّق إن كان عاصيا.

وأمّا هنا فالشارع قد أخبرنا عن تحقّق المعلول وأنّ هذا الشخص قد امتثل وأطاع وحقّق مراد الشارع ومطلوبه وهو إيقاع النسبة وإيجادها أي العلّة ؛ لأنّ الإخبار عن تحقّق المعلول يكشف عن وجود العلّة بذلك.

وأمّا الدليل على أنّ العناية هنا هي تقييد الشخص بمن يطبّق أعماله وفقا للموازين الشرعيّة ، فهو ظهور حال الشارع في أنّه في مقام التشريع وإنشاء مراده ومطلوبه ، فإنّ ظاهر حال الشارع في كونه في مقام بيان وإنشاء حكمه ، ومع ذلك استعمل هذه الجملة الخبريّة أنّه يريد من هذه الجملة أن تدلّ على إنشاء الحكم وجعله.

ولمّا كان مدلولها التصوّري والتصديقي لا يزال مستعملا في الإخبار والحكاية

٣٨٩

وقصد وقوع النسبة وتحقّقها بالمطابقة كان هناك مدلول التزامي على أنّه يريد من ذلك جعل الحكم وإنشائه ، وهذا إنّما يتمّ فيما إذا فرضنا الشخص المخبر عنه لا يتصرّف إلا طبقا للموازين الشرعيّة ، فيكشف تصرّفه وفعله هذا عن وجود أمر شرعي بذلك ، وهو مطلوب.

وليس الشارع هنا في مقام الإخبار وقصد الحكاية عن قضايا تكوينيّة خارجيّة ؛ لأنّ ذلك على خلاف المفروض وعلى خلاف ظاهر حاله عند ما طرح عليه السؤال والقضيّة ، فإنّ طرح السؤال عليه لأجل بيان الحكم وإنشائه.

فكونه في مقام التشريع قرينة على تقييد الشخص بما ذكر.

الثاني : أن يحافظ على المدلول التصوّري وعلى إفادة قصد الحكاية ، ولكن يقال : إنّ المقصود حكايته ليس نفس النسبة الصدوريّة المدلولة تصوّرا ، بل أمر ملزوم لها وهو الطلب من المولى ، فتكون من قبيل الإخبار عن كرم زيد بجملة ( زيد كثير الرماد ) على نحو الكناية.

التفسير الثاني : أنّ الجملة الخبريّة مستعملة في مدلولها التصوّري أي النسبة الصدوريّة بين الفاعل والفعل ، وفي مدلولها التصديقي أي قصد الحكاية والإخبار ، إلا أنّ المدلول التصديقي ليس هو قصد الحكاية والإخبار عن صدور النسبة وتحقّقها في الخارج المطابق للمدلول التصوّري ، بل المراد من المدلول التصديقي أمر آخر مغاير للمدلول التصوّري وهذا الأمر الآخر هو الملزوم لهذه النسبة الصدوريّة.

وذلك بأن يقال : إنّ الشارع قد أخبر عن اللازم وأراد الملزوم جدّا ، فالشارع عند ما قال : ( يعيد صلاته ) أخبرنا عن صدور النسبة وتحقّقها في الخارج ، ولكنّه لم يقصد الحكاية والإخبار عن هذا الأمر جدّا ، وإنّما مقصوده الجدّي هو ملزوم الإعادة أي طلب الإعادة وطلب إيقاع النسبة وإيجادها.

والدليل على ذلك : ظهور حال الشارع في أنّه في مقام البيان والتشريع للأحكام وليس في مقام الإخبار والحكاية عن القضايا التكوينيّة الخارجيّة ، فهو وإن استعمل الجملة الخبريّة في قصد الحكاية إلا أنّ مراده الجدّي لم يكن هو الحكاية والإخبار عن المدلول المطابقي ، أي تحقّق النسبة الصدوريّة كالإعادة ، وإنّما مراده الجدّي الحكاية والإخبار عن ملزوم هذه النسبة الصدوريّة. فإنّ الإعادة وتحقّقها ملزومها هو أنّها

٣٩٠

مطلوبة ومرادة للشارع. فالقرينة هنا هي الكناية ، أي أنّه استعمل اللازم وأراد الملزوم.

وهذا نظير الإخبار عن كرم زيد وجوده بجملة ( زيد كثير الرماد ) أو ( زيد هزيل الفصيل ) ، فإنّه وإن استعمل الجملة في مدلولها التصوّري والتصديقي إلا أنّ مراده الجدّي ليس الإخبار والحكاية عن كثرة الرماد أو عن كون الفصيل هزيلا ، بل المراد قصد الحكاية والإخبار عن جوده وكرمه ؛ لأنّ الجود والكرم ملزوم لكثرة الرماد ، فيكون الكلام باللازم والمراد الملزوم.

وممّا يدلّ على ذلك أنّ هذه الجملة صحيحة سواء كان عند زيد رماد أو لا ، ولذلك لا توصف بالصدق والكذب من خلال وجود الرماد وعدم وجوده ، بل توصف بالصدق والكذب فيما إذا كان كريما أو لا.

وهنا كذلك فإنّ المدلول المطابقي وهو صدور النسبة والإخبار عن تحقّقه لا يوصف بالصدق والكذب ؛ لأنّه ليس مرادا جدّا ، وإنّما المراد الجدّي هو ملزوم ذلك أي طلب إيقاع النسبة وطلب إيجادها ، والذي هو أمر إنشائي لا يوصف بالصدق أو الكذب.

وهذا الاتّجاه يحافظ على المدلولين التصوّري والتصديقي إلا أنّ المراد الجدّي يختلف ؛ لأنّه لا يريد المدلول المطابقي ، بل يريد المدلول الالتزامي عن طريق الكناية.

الثالث : أن يفرض استعمال الجملة الخبريّة في غير مدلولها التصوّري الوضعي مجازا ، وذلك بأن تستعمل كلمة ( أعاد ) أو ( يعيد ) في نفس مدلول ( أعد ) أي النسبة الإرساليّة.

التفسير الثالث : ما ذهب إليه السيّد الخوئي رحمه‌الله من أنّ الجملة الخبريّة المستعملة في مقام الطلب والإنشاء يختلف مدلولها التصوّري ، فضلا عن المدلول التصديقي والمراد الجدّي فيما لو استعملت في مقام الإخبار والحكاية.

وهذا يعني أنّها مستعملة في غير معناها الذي وضعت له فتكون مجازا ؛ لأنّه بناء على مسلكه في الوضع من أنّه تعهّد يكون المدلول الوضعي مرتبطا بالمدلول التصديقي دائما. فإذا كان قاصدا الحكاية والإخبار من الجملة الخبريّة فهي مستعملة في معناها الحقيقي ، وإذا كان قاصدا منها الانشاء والطلب فهي مستعملة في معنى آخر غير المعنى الذي وضعت له فتكون مجازا.

وهذا يعني أنّ جملة ( يعيد ) و ( أعاد ) المستعملة في الطلب والإنشاء ليست

٣٩١

موضوعة لقصد الحكاية والإخبار ، وإنّما هي موضوعة لنفس المعنى الذي تدلّ عليه كلمة ( أعد ) وهو الطلب والإنشاء بنحو المعنى الحرفي ، أي النسبة الطلبيّة والنسبة الإرساليّة. فالقرينة والعناية هنا هي المجاز.

وهذا يعني عدم الحفاظ على المدلول التصوّري والتصديقي والمراد الجدّي للجملة الخبريّة.

ولا شكّ في أنّ الأقرب من هذه الوجوه هو الوجه الأوّل ؛ لعدم اشتماله على أيّ عناية سوى التقييد الذي تتكفّل به القرينة المتّصلة الحاليّة.

والأقرب من هذه التفاسير هو التفسير الأوّل ، أي أنّ الجملة الخبريّة مستعملة في مدلولها التصوّري والتصديقي والجدّي. غاية الأمر كون الشخص الذي قصد الحكاية عنه قد قيّد بالشخص الملتزم بالموازين الشرعيّة فلا يخالف ولا يعصي ، بل يطيع ويمتثل دائما.

وهذا يعني أنّه لا يوجد عناية ولا تصرّف في اللفظ ولا في الدلالات الثلاث. وإنّما التصرّف في الشخص وهو خارج عن مدلول اللفظ.

بينما التفسير الثاني يتصرّف في المراد الجدّي وأنّ قصد الحكاية ليس هو المراد ، بل المراد ملزومه وهو الطلب والإنشاء فيتصرّف في الإرادة الجدّيّة ، فهناك عناية في المدلول التصديقي الثاني أي المراد الجدّي.

وكذلك الحال في التفسير الثالث فإنّه يتصرّف في المداليل الثلاثة التصوّري والاستعمالي والمراد الجدّي ، فالأقرب هو الأوّل لأنّه أقلّ عناية.

ولكن إذا كان هناك قرينة تعيّن أحد هذه التفسيرات فيؤخذ بها ومع عدم وجود القرينة على أحدهما يتعيّن الأوّل.

الثانية : في دلالتها على الوجوب.

بعد الفراغ عن كون الجملة الخبريّة المستعملة في الإنشاء تدلّ على الطلب بأحد التفسيرات المتقدّمة ، يبحث في كونها دالّة على الطلب الوجوبي أو على جامع الطلب الأعمّ من الوجوب والاستحباب؟ وهذا البحث مرتبط بالتفسيرات المتقدّمة حيث إنّ النتيجة تختلف بلحاظها ، فنقول :

أمّا بناء على الوجه الأوّل في إعمال العناية فدلالتها على الوجوب واضحة ؛

٣٩٢

لأنّ افتراض الاستحباب يستوجب تقييدا زائدا في الشخص الذي يكون الإخبار بلحاظه ، إذ لا يكفي في صدق الإخبار فرضه ممّن يطبّق عمله على الموازين الشرعيّة ، بل لا بدّ من فرض أنّه يطبّقه على أفضل تلك الموازين.

أمّا على الوجه الأوّل في تفسير دلالة الجملة الخبريّة على الطلب ، وأنّه توجد عناية في الشخص المخبر عنه بأنّه ممّن يطبّق أعماله وفقا للموازين الشرعيّة ، فتكون هذه العناية بنفسها دالّة أيضا على أنّ الطلب هنا هو الطلب الوجوبي ؛ لأنّ فرض هذا الشخص كونه ملتزما لا يعصي ولا يخالف ، بل ينقاد ويمتثل معناه أنّه امتثل وأطاع نتيجة وجود أمر وطلب ناشئ من داع لزومي فيه محركيّة وباعثيّة لكي يتحقّق الانبعاث والتحرّك منه ، والطلب الذي يكون بهذا الداعي إنّما هو الوجوب ، فكانت تلك العناية كافية في الدلالة على الوجوب أيضا ولا تحتاج إلى مئونة زائدة عليها.

وأمّا إرادة الاستحباب من الطلب المفاد تصوّرا من هذه الجملة فهو لا يكفي فيه تلك العناية الدالّة على الطلب ، بل لا بدّ من وجود عناية أخرى زائدة ؛ وذلك لأنّ فرض الشخص ممّن يطبّق أعماله على الموازين الشرعيّة وحده لا يكفي ، بل لا بدّ من قيد زائد في هذا الشخص ، وهو أنّه يطبّق أعماله على أفضل وأكمل وأحسن الموازين الشرعيّة. فهنا يستفاد الاستحباب ؛ لأنّه الفرد الأكمل والأفضل.

وحينئذ نقول : إنّ إطلاق الجملة الخبريّة يستفاد منه تلك العناية الدالّة على أنّ الشخص ممّن يطبّق أعماله على الموازين الشرعيّة والتي تدلّ على الوجوب. وأمّا الاستحباب فهو يحتاج إلى عناية إضافية وقيد زائد.

فعند الإطلاق وعدم وجود ما يدلّ على القيد الزائد نتمسّك بقرينة الحكمة لنفي العناية الإضافيّة والقيد الزائد ، حيث يدور الأمر بين مفهومين ، النسبة بينهما الأقلّ والأكثر من جهة العناية ، فيتعيّن بالإطلاق وقرينة الحكمة العناية الأقلّ الدالّة على الوجوب ؛ لأنّه لو أراد الاستحباب ولم يذكر ما يدلّ على العناية الإضافيّة فيه كان خارقا للفهم العرفي ولأساليب المحاورة والتفاهم عندهم.

وأمّا بناء على الوجه الثاني فتدلّ الجملة على الوجوب أيضا ؛ لأنّ الملازمة بين الطلب والنسبة الصدوريّة المصحّحة للإخبار عن الملزوم ببيان اللازم إنّما هي في

٣٩٣

الطلب الوجوبي ، وأمّا الطلب الاستحبابي فلا ملازمة بينه وبين النسبة الصدوريّة أو هناك ملازمة بدرجة أضعف.

وأمّا على الوجه الثاني في تفسير دلالة الجملة الخبريّة على الطلب ، وأنّه على نحو الكناية أي الإخبار عن اللازم وإرادة الملزوم ، فالجملة أيضا تدلّ على الوجوب ؛ وذلك لأنّ العناية الكنائيّة بين الأخبار عن النسبة الصدوريّة وبين إرادة طلب إيقاع النسبة إنّما تفيد الملازمة بينهما فيما إذا كانت هذه الملازمة المصحّحة للاستعمال الكنائي متحقّقة وموجودة حتما.

وبتعبير آخر : إنّ الكناية تحتاج إلى عناية ، وهذه العناية هي التي تصحّح الاستعمال الكنائي ، والعناية بين الإخبار عن اللازم وإرادة الملزوم إنّما هي وجود ملازمة بينهما. وهذه الملازمة لا بدّ أن تكون موجودة ومتحقّقة فعلا ؛ لأنّها إذا لم تكن موجودة فهذا معناه أنّه لا ملازمة فلا يصحّ الاستعمال الكنائي لعدم وجود العناية عندئذ.

وفي مقامنا العناية هي الإخبار عن اللازم وإرادة الملزوم ، والملازمة المصحّحة لهذه العناية هي أنّ الإخبار عن النسبة الصدوريّة وإرادة طلب إيجاد النسبة وإيقاعها إنّما تتحقّق فيما إذا كان طلب الإيجاد للنسبة محقّقا لصدور النسبة بالفعل وحتما ، وهذا الطلب الذي يفيد لزوم وحتميّة إيقاع النسبة وإيجادها إنّما هو الطلب الوجوبي ؛ لأنّ الوجوب طلب ناشئ من داع لزومي وليس فيه ترخيص في الترك.

بخلاف الطلب الاستحبابي فإنّه لا يستلزم قطعا تحقّق النسبة الصدوريّة ؛ لأنّ الاستحباب طلب مع الترخيص في الترك ، أي أنّه يسمح للمكلّف أن لا يحقّق النسبة ، ولذلك لا يكون هناك ملازمة بين الطلب الاستحبابي وبين موضوع النسبة وتحقّقها ، فلا تتمّ العناية الكنائيّة.

أو على الأقلّ الطلب الاستحبابي يحتمل فيه تحقّق النسبة وصدورها فيما إذا فعل ، ويحتمل عدم تحقّقها فيما إذا لم يفعل. فالنسبة الصدوريّة موجودة ولكن بدرجة أضعف وأقل من وجودها في الطلب الوجوبي ، فيتعيّن بالإطلاق وقرينة الحكمة الملازمة الأقوى والأشدّ من الملازمة الأضعف ؛ لأنّها تحتاج إلى قيد وعناية زائدة في الاستعمال الكنائي.

وأمّا بناء على الالتزام بالتجوّز في مقام استعمال الجملة الخبريّة ـ كما هو

٣٩٤

مقتضى الوجه الأخير ـ فيشكل دلالتها على الوجوب ، إذ كما يمكن أن تكون مستعملة في النسبة الإرساليّة الناشئة من داع لزومي ، كذلك يمكن أن تكون مستعملة في النسبة الإرساليّة الناشئة من داع غير لزومي.

وأما على الوجه الثالث في تفسير دلالة الجملة الخبريّة على الطلب وأنّها مستعملة ابتداء وتصوّرا في النسبة الإرساليّة على سبيل المجاز ، فهنا يشكل استفادة الوجوب منها ؛ لأنّ النسبة الإرساليّة قد تكون ناشئة من داع لزومي فتكون الجملة الخبرية مفيدة للوجوب ، وقد تكون ناشئة من داع غير لزومي فتكون الجملة مفيدة للاستحباب.

ومجرّد كون الوجوب هو أقرب المجازات للمعنى الحقيقي الذي هو النسبة الإرساليّة ؛ لأنّ الوجوب يحقّق النسبة دون الاستحباب لا يوجب حمل الجملة الخبريّة عليه ؛ لأنّها مستعملة في المعنى المجازي وأقربيّة هذا دون ذاك لا تمنع من إرادة المعنى المجازي الأبعد أو البعيد.

٣٩٥
٣٩٦

النهي

أو

أدوات الزجر

٣٩٧
٣٩٨

النهي أو أدوات الزجر

وكلّ ما قلناه في جانب مادّة الأمر وهيئته ، والجملة الخبريّة المستعملة في مقام الطلب ، يقال عن مادّة النهي وهيئته والنفي الخبري المستعمل في مقام النهي ، غير أنّ مفاد الأمر طلب الفعل ، ومفاد النهي الزجر عنه.

النهي تارة يكون بالمادّة كما إذا قال : ( أنهاك أن تفعل هذا الأمر الفلاني ).

وأخرى يكون بالصيغة والهيئة كما إذا قال : ( لا تسرق ) ( لا تشرب الخمر ).

وثالثة يكون بالجملة الخبرية المنفيّة كما إذا قال : ( المؤمن لا يسرق ولا يزني ).

أمّا مادّة النهي فهي كمادّة الأمر من حيث الدلالة على النهي بالمعنى الاسمي. فكما أنّ مادّة الأمر تدلّ على مفهوم الطلب بنحو المعنى الاسمي أي بما هو هو ، كذلك مادّة النهي تدلّ على مفهوم الزجر بنحو المعنى الاسمي أي بما هو هو.

وأمّا هيئة النهي فهي كهيئة الأمر من حيث الدلالة على الزجر وكونه تحريما. فكما أنّ هيئة الأمر تدلّ على الطلب أو النسبة الإرساليّة وعلى أنّه طلب وجوبي على اختلاف الأقوال في المسألة كما تقدّم ، فكذلك هيئة النهي تدلّ على الزجر أو النسبة الزجريّة وكونه زجرا تحريميّا وضعا أو بحكم العقل أو بالإطلاق.

وأمّا الجملة الخبريّة المستعملة في النهي فهي كالجملة الخبريّة المستعملة في الأمر ، فكما أنّ الجملة الخبريّة المستعملة في مقام الطلب والإنشاء وكونه طلبا وجوبيّا على ساس إحدى العنايات المتقدّمة ، فكذلك الجملة الخبريّة المنفيّة تدلّ على النهي والزجر وكونه زجرا تحريميّا بإحدى تلك العنايات المتقدّمة.

والحاصل : أنّ كلّ ما تقدّم في الأمر مادّة وصيغة وجملة خبريّة فهو يجري في النهي أيضا مادّة وصيغة وجملة خبريّة منفيّة ، غاية الأمر أنّ الأمر يدلّ على الطلب بينما النهي يدلّ على الزجر.

٣٩٩

وكما توجد أوامر إرشاديّة ، توجد نواه إرشاديّة أيضا ، والمرشد إليه : تارة يكون حكما شرعيّا كالمانعيّة في « لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه ».

وأخرى نفي حكم شرعي من قبيل ( لا تعمل بخبر الواحد ) فإنّه إرشاد إلى عدم الحكم بحجّيّته.

وثالثة يكون المرشد إليه شيئا تكوينيّا كما في نواهي الأطبّاء للمريض عن استعمال بعض الأطعمة إرشادا إلى ضررها.

النواهي الإرشاديّة كالأوامر الإرشاديّة ، فالصيغة لا تزال مستعملة في مدلولها التصوّري وهو النسبة الزجريّة ، ولكن المراد الجدّي التصديقي ليس هو الزجر والتحريم النفسي المستتبع للثواب على الإطاعة وللعقاب على المخالفة ، وإنّما المراد الجدّي منها هو الإرشاد إلى بعض الأحكام الوضعيّة كالمانعيّة والشرطيّة والفساد ونحو ذلك.

فالمرشد إليه من النهي الإرشادي على أنحاء منها :

١ ـ أن يكون المرشد إليه حكما شرعيّا وضعيّا ، كما في قوله : « لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه » ، فإنّه إرشاد إلى مانعيّة غير المأكول من صحّة الصلاة ويكون موجبا لفسادها.

٢ ـ أن يكون المرشد إليه نفي حكم شرعي وضعي ، كما في قوله : ( لا تعمل بخبر الواحد ) ، فإنّه إرشاد إلى نفي الحجّيّة التعبّديّة عنه ، أي أنّ خبر الواحد ليس حجّة ولا يجوز التعويل عليه شرعيّا.

٣ ـ أن يكون المرشد إليه شيئا تكوينيّا ، كما في نواهي الأطبّاء كقوله : ( لا تأكل الرمّان ) لمن كان مريضا ، فإنّ هذا النهي إرشاد إلى أنّ الرمّان مضرّ لهذا المريض واقعا وتكوينا.

٤٠٠