شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

نفسه ، ولذلك لا يكون موضوعا مستقلاّ لحكم العقل بدخول التكليف في العهدة.

ولهذا فإنّ من يخالف وجوب الاحتياط في مورد ويتورّط نتيجة لذلك في ترك الواجب الواقعي لا يكون مستحقّا لعقابين بلحاظ مخالفة الوجوب الواقعي ووجوب الاحتياط الظاهري ، بل لعقاب واحد ، وإلا لكان حاله أشدّ ممّن ترك الواجب الواقعي وهو عالم بوجوبه.

وبناء على أنّ الأحكام الظاهريّة مجرّد طرق ووسائل وليست موضوعا مستقلا لحكم العقل بالإطاعة واستحقاق العقاب على المخالفة لا يكون مستحقّا لعقابين فيما لو خالف الإلزام الظاهري ، كأن قام الحكم الظاهري على وجوب فعل ما فتركه المكلّف ، فإنّه لا يكون بهذه المخالفة مستحقّا لعقابين أحدهما على مخالفة الإلزام والوجوب الظاهري والآخر على مخالفة الوجوب الواقعي لو فرض مطابقة هذا الحكم الظاهري للواقع وكان الوجوب ثابتا واقعا ، بل يستحقّ عقابا واحدا فقط على تركه التحفّظ فقط عن الوجوب الواقعي المحتمل ؛ وذلك لأنّه لا يوجد مبادئ مستقلّة للحكم الظاهري ليعاقب على تركها.

والقول بأنّه يستحقّ عقابين كذلك مع عدم وجود مبادئ مستقلّة للحكم الظاهري يعني أنّ حاله أسوأ وأشدّ ممّن علم بالحكم الواقعي وخالفه ؛ إذ مع العلم بالواقع ومخالفته يستحقّ عقابا واحدا ، بينما هذا الذي يجهل الواقع وقام عنده أمارة أو أصل على التنجيز يكون مستحقّا لعقابين. فيكون الجاهل المخالف أسوأ حالا من العالم المخالف ، وهذا واضح الفساد (١).

وأمّا الأحكام الواقعيّة فهي أحكام حقيقيّة لا طريقيّة ، بمعنى أنّ لها مبادئ خاصّة بها ، ومن أجل ذلك تشكّل موضوعا مستقلاّ للدخول في العهدة ، ولحكم العقل بوجوب امتثالها واستحقاق العقاب على مخالفتها.

فحاصل الكلام في الأحكام الظاهريّة أنّها طرق ووسائل فقط ليس لها مبادئ وليست موضوعا مستقلاّ لحكم العقل بالإطاعة والامتثال والتنجيز ودخول التكليف في عهدة المكلّف ، بل هي مجرّد وسائط بين حكم العقل وبين الحكم الواقعي بمعنى

__________________

(١) مضافا إلى أنّه يلزم إناطة العقاب على المطابقة للواقع والتي هي خارجة عن قدرة المكلّف ، فيكون معاقبا على شيء غير قادر عليه ، وهو قبيح عقلا.

١٢١

أنّها تبرز الحكم الواقعي الأهمّ والذي على أساسه يحكم العقل بالإطاعة واستحقاق العقاب على الترك والمخالفة.

وأمّا الأحكام الواقعيّة فهي أحكام حقيقيّة لها مبادئ مستقلّة بها وتكون موضوعا لحكم العقل باستحقاق العقاب والثواب ، ولدخول التكليف في ذمّة المكلّف وعهدته بحيث يكون مسئولا عنه ومطالبا به ، لما تقدّم من أنّ حكم العقل موضوعه المبادئ والملاكات وهي موجودة في الحكم الواقعي ، فالمعذّريّة والمنجّزيّة عقلا تابعة لحقّ الطاعة ، وهو التكليف الذي وقع مصبّا للمبادئ والإرادة والشوق المولوي.

١٢٢

التصويب بالنسبة

لبعض الأحكام الظاهريّة

١٢٣
١٢٤

التصويب بالنسبة لبعض الأحكام الظاهريّة

تقدّم (١) أنّ الأحكام الواقعيّة محفوظة ومشتركة بين العالم والجاهل ، واتّضح أنّ الأحكام الظاهريّة تجتمع مع الأحكام الواقعيّة على الجاهل دون منافاة بينهما ، وهذا يعني أنّ الحكم الظاهري لا يتصرّف في الحكم الواقعي.

عرفنا أنّ الأحكام الواقعيّة محفوظة حتّى في حالة الشكّ ، وهذا معناه اشتراك الأحكام الواقعيّة بين العالم والجاهل فهي ثابتة في كلا الموردين. وعرفنا أيضا أنّ الأحكام الظاهريّة ليست إلا طرق ووسائل ؛ لأجل تسجيل الواقع وإدخاله في عهدة المكلّف من خلال إبرازها لما هو الأهمّ من الملاكات الواقعيّة. وعليه ، فلا مانع من اجتماع حكمين واقعي وظاهري متضادّين ، ولا منافاة في ذلك لا في عالم الجعل ولا في عالم المبادئ ولا في عالم الامتثال كما تقدّم. وهذا يعني أنّ الحكم الظاهري لا يغيّر ولا يبدّل ولا يتصرّف بالحكم الواقعي ، بل هو ثابت دائما حتّى مع الشكّ والجهل فإن وافق الحكم الظاهري الحكم الواقعي فهو وإلا كان معذورا. ومقتضى ذلك أنّ الأحكام الظاهريّة في صورة الخطأ لا توجب الإجزاء ، كما إذا قامت الأمارة أو الأصل على الجواز والترخيص ثمّ تبيّن فيما بعد الخطأ بأن انكشف الواقع للمكلّف وعلم به ، فبناء على ما تقدّم ينبغي الإعادة ولا يكون هناك إجزاء ؛ لأنّ هذه المبادئ الواقعيّة والملاكات لا زالت موجودة والمكلّف لم يحصلها ولم يحقّق الامتثال الموجب لسقوطها.

ولكن هناك من ذهب إلى أنّ الأصول الجارية في الشبهات الموضوعيّة ـ كأصالة الطهارة ـ تتصرّف في الأحكام الواقعيّة ، بمعنى أنّ الحكم الواقعي بشرطيّة الثوب الطاهر في الصلاة مثلا يتّسع ببركة أصالة الطهارة فيشمل الثوب المشكوكة

__________________

(١) في هذه الحلقة ، تحت عنوان : شمول الحكم للعالم والجاهل.

١٢٥

طهارته الذي جرت فيه أصالة الطهارة حتّى لو كان نجسا في الواقع ، وهذا نحو من التصويب الذي ينتج أنّ الصلاة في مثل هذا الثوب تكون صحيحة واقعا ، ولا تجب إعادتها على القاعدة ؛ لأن الشرطيّة قد اتّسع موضوعها.

ذهب صاحب ( الكفاية ) إلى التفصيل بين قسمين من الأحكام الظاهريّة :

١ ـ الأمارات والأصول العمليّة الجارية في الشبهات الحكميّة كالبراءة والاحتياط ، فهذه لا تتصرّف في الأحكام الواقعيّة ، ولذلك فهي على القاعدة إن وافقت الواقع فلا إشكال ، وإن خالفت الواقع وعلم المكلّف بذلك فيما بعد. فإن كان في الأثناء تجب الإعادة ؛ لعدم تحقّق الامتثال والإطاعة واقعا ولبقاء الملاكات والمبادئ على حالها ، فيحكم العقل بوجوب الامتثال ، وإن كان بعد فوات الوقت فالقضاء يحتاج إلى دليل خاصّ ولا يستفاد من نفس أدلّة الأحكام ؛ لأنّ الزمان بمثابة قيد في الحكم.

٢ ـ الأصول العمليّة الجارية في الشبهات الموضوعيّة كأصالة الحليّة والطهارة والاستصحاب في الموضوعات ، فهذه تتصرّف بالأحكام الواقعيّة. ومعنى التصرّف هو أنّنا لو أخذنا الحكم الواقعي بشرطيّة الثوب الطاهر في الصلاة أي أنّه يشترط في الصلاة أن تكون بثوب طاهر ، فإنّ هذه الشرطيّة تتّسع ببركة أصالة الطهارة لتشمل الشرطيّة الواقعيّة أي الثوب المعلوم طهارته واقعا ، والشرطيّة الظاهريّة أي الثوب المشكوك الطهارة الذي تجري فيه أصالة الطهارة فإنّه ثوب طاهر ظاهرا فيكون مصداقا للشرطيّة المذكورة. فلو صلّى بهذا الثوب أي الطاهر ظاهرا ثمّ تبيّن فيما بعد أنّه نجس واقعا فإن كان في الأثناء فضلا عن خارج الوقت لا تجب الإعادة ؛ لأنّ الشرطيّة المذكورة قد اتّسعت لتشمل الثوب الطاهر واقعا وظاهرا ، بعد إن كان مقتضى القاعدة هو وجوب الإعادة في الأثناء.

وهذا نحو من أنحاء التصويب أي كون الأحكام الظاهريّة مصيبة للواقع في خصوص هذا القسم دائما ؛ لأنّ الواقع يتغيّر على وفقها سعة وضيقا.

وتقريب ذلك : أنّ دليل أصالة الطهارة بقوله : ( كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر ) يعتبر حاكما على دليل شرطيّة الثوب الطاهر في الصلاة ؛ لأنّ لسانه لسان توسعة موضوع ذلك الدليل وإيجاد فرد له ، فالشرط موجود إذن.

١٢٦

والدليل على ما ذكره من التوسعة والتصرّف : هو أنّ دليل أصالة الطهارة أو أصالة الحليّة أو استصحابها يعتبر حاكما على دليل شرطيّة الثوب الطاهر في الصلاة ، وهذا معناه أنّ شرطيّة طهارة الثوب قد اتّسعت ؛ لأنّ معنى الحكومة إيجاد فرد ومصداق ادّعائي تعبّدي للموضوع ، فدليل أصالة الطهارة يثبت لنا أنّ هذا الثوب المشكوك الذي جرت فيه أصالة الطهارة فرد من أفراد الشرطيّة ومصداق للشرطيّة.

وعليه ، فالمكلّف عند ما دخل في الصلاة بهذا الثوب يكون محقّقا للشرطيّة ؛ لأنّه جاء بفرد من أفرادها وهو الفرد الادّعائي التعبّدي. فالشارع اعتبر هذا الفرد مصداقا والمكلّف قد أتى به ، فلا وجه للإعادة حتّى لو انكشف الخلاف في الأثناء ؛ لأنّه أتى بالمأمور به والإتيان بالمأمور به مسقط للتكليف من حيث الفاعليّة كما سيأتي في محلّه. وهذه التوسعة ثبتت ببركة الحكومة التي هي مفاد لسان دليل الطهارة الذي يدّعي أنّ هذا طاهر.

وليس الأمر كذلك لو ثبتت طهارة الثوب بالأمارة فقط (١) ؛ لأنّ مفاد دليل حجيّة الأمارة ليس جعل الحكم المماثل ، بل جعل الطريقيّة والمنجّزيّة ، فهو بلسانه لا يوسّع موضوع دليل الشرطيّة ؛ لأنّ موضوع دليلها الثوب الطاهر ، وهو لا يقول : هذا طاهر ، بل يقول : هذا محرز الطهارة بالأمارة فلا يكون حاكما.

وأمّا لو كانت طهارة الثوب المشكوك ثابتة بالأمارة من قبيل إخبار الثقة بأنّ هذا الثوب طاهر فهنا لو انكشف الخلاف وتبيّن كون الثوب نجسا فتجب الإعادة في الأثناء ؛ وذلك لأنّ مفاد دليل حجيّة الأمارة جعل خبر الثقة علما وطريقا كاشفا عن الواقع. وهذا معناه أنّ خبر الثقة يحرز لنا الواقع ولسانه : أنّ هذا الثوب طاهر واقعا ومحرز للطهارة الواقعيّة ، وليس لسانه لسان التوسعة للشرطيّة للأعمّ من

__________________

(١) إضافة كلمة ( فقط ) لأجل موردين : أحدهما ما إذا كانت الأمارة ثابتة مع أصالة الطهارة في نفس المورد ، فهنا يلحق بالفرض السابق. والآخر ما إذا كانت الواقعة مشكوكة الطهارة ذاتا فيجري الأمارة دون أصالة الطهارة ، أو كانت الواقعة معلومة الطهارة والنجاسة سابقا وشكّ في المتقدّم والمتأخّر منهما وقامت الأمارة على أحدهما فإنّهما يتعارضان ويتساقطان ، فتجري الأمارة وحدها فقط.

١٢٧

الثوب الطاهر واقعا والثوب الطاهر ظاهرا ، وإنّما لسانه إيجاد فرد حقيقي ومصداق واقعي للشرطيّة ، فهو يخبرنا عن كون هذا الثوب محرز الطهارة واقعا لا أنّه فرد من أفراد الشرطيّة الأعمّ من الظاهريّة والواقعيّة. والوجه في ذلك أنّ لسان الأمارات لسان الورود وهو معناه إيجاد فرد حقيقي للموضوع ، فالأمارة تدّعي أنّ هذا الثوب المشكوك طاهر واقعا ومصداق حقيقي للطهارة الواقعيّة ، ولذلك إذا أتى المكلّف بهذا المصداق ثمّ انكشف الخلاف تبيّن أنّه لم يأت بالشرطيّة ؛ لأنّه لم يحقّق مصداقها الواقعي الحقيقي ، وهذا يعني أنّه أتى بغير المأمور به وهو لا يجزي ولا يسقط التكليف عن فاعليّته فتبقى ذمّته مشغولة فتجب عليه الإعادة في الوقت دون خارجه ؛ لعدم الدليل الخاصّ على القضاء. وأمّا الإعادة فدليلها عدم تحقّق الامتثال فيحكم العقل بوجوب الامتثال ثانيا. هذا كلّه بناء على أنّ المجعول في الأمارات الكاشفيّة والطريقيّة والعلميّة (١).

وعلى هذا الأساس فصّل صاحب ( الكفاية ) بين الأمارات والأصول المنقّحة للموضوع ، فبنى على أنّ الأصول الموضوعيّة توسّع دائر الحكم الواقعي المترتّب على ذلك الموضوع دون الأمارات.

وعلى هذا الأساس من التفرقة بين الأمارات والأصول الموضوعيّة حيث إنّ الأولى تكون واردة بينما الثانية تكون حاكمة ، فصّل صاحب ( الكفاية ) بينهما بلحاظ الإجزاء وعدم الإعادة في الوقت في الثانية دون الأولى ؛ لأنّ الثانية توسّع الموضوع لما يشمل الظاهر والواقع دون الأولى فإنّها توجد فردا واقعيّا فقط.

وهذا غير صحيح ، وسيأتي بعض الحديث عنه إن شاء الله تعالى.

والصحيح : هو عدم الفرق بين الأمارات وبين الأصول الموضوعيّة في عدم الإجزاء ووجوب الإعادة لو انكشف الخلاف في الأثناء ؛ وذلك لأنّ هذه الأصول الموضوعيّة كأصالة الحليّة والطهارة واستصحابهما ليس مفاد دليلها التوسعة والحكومة للموضوع

__________________

(١) وأمّا لو قلنا بأنّ المجعول فيها هو الحكم المماثل فهذا يعني أنّه بقيام الأمارة على كون هذا الثوب طاهرا يجعل المولى حكما تكليفيّا أو وضعيّا على وفقها أي أنّه يجعل طهارة لهذا الثوب طبقا لمؤدّى الأمارة ، ولذلك تكون الصلاة صحيحة ولا تجب الإعادة في الأثناء فضلا عن الخارج ؛ لأنّ جعل الحكم المماثل أنّه يجعل طهارة لهذا الثوب واقعا.

١٢٨

والشرطيّة ، بل هي كالأمارات واردة على الموضوع وتوجد فردا حقيقيّا من الموضوع (١).

__________________

(١) والوجه في بطلان الحكومة أنّها إنّما تتصوّر بين دليلين عرضيّين لكي يكون أحدهما ناظرا إلى الآخر ، حيث إنّ إحراز النظر في الحكومة شرط لجريانها ، وأمّا إذا كان بين الدليلين مرتبة طوليّة فلا يكون أحدهما ناظرا إلى الآخر ؛ لاختلاف الرتبة بينهما.

وهنا الحكم الواقعي سابق رتبة ومتقدّم عن الحكم الظاهري ، فالمرتبة بينهما طوليّة لا عرضيّة ، ولذلك لا نظر بينهما ؛ لأنّ لسان الحكم الظاهري كأصالة الطهارة مثلا لا يمكن أن يكون موجدا لأكثر من أصالة الطهارة بمعنى كون دليل أصالة الطهارة لسانه إنشاء أصالة الطهارة وجعلها ، ولا يمكن أن يكون ناظرا إلى كونها حاكمة على موضوع الطهارة الواقعيّة ؛ لأنّ اعتبارها حاكمة فرع ثبوتها أوّلا ثمّ تكون حاكمة ثانيا ؛ لأنّ الحكومة صفة وجوديّة لها والصفات الوجوديّة تفترض مسبقا تحقّق الموضوع أوّلا ، والمفروض هنا أنّ أصالة الطهارة لم تثبت إلا بهذا الدليل الذي يراد ادّعاء كونه ناظرا إلى أنّها حاكمة.

وبتعبير آخر أنّ هذا الدليل إمّا أن يثبت أصالة الطهارة أو يثبت كونها حاكمة ، وأمّا كونه مثبتا للأمرين معا فهو غير ممكن لاستلزام ذلك تعدّد النظر في اللسان الواحد مع اختلاف الرتبة بين المنظورين والمفادين.

مضافا إلى أنّ تعبير صاحب ( الكفاية ) بالحكومة ليس صحيحا ؛ لأنّ التطبيق الذي ذكره هو نفسه الورود فيكون تعبيره اللفظي بالحكومة ، ولكن المضمون والمحتوى هو الورود. ويدلّ على ذلك : أنّ الحكومة عنده هي الحكومة اللفظيّة التفسيريّة بإحدى الكلمات الدالّة على التفسير ( أعني ، أقصد ، أريد ) الدالّة على تفسير المراد من الكلام السابق.

فما ذكره من مثال إنّما هو تطبيق صحيح للورود لا الحكومة عنده فتكون هذه الأصول مفادها الورود كالأمارات ، وحينئذ لا فرق بين الأمارات وبين الأصول من حيث الإجراء وعدمه. فإمّا أن يلتزم بالإجزاء فيهما معا ؛ لأنّ النكتة واحدة وهي الورود ، وإمّا ألاّ يلتزم بذلك فيهما أيضا.

والصحيح : هو كون الأمارات والأصول جميعا غير موجبة للإجزاء في الفرض المذكور ، بل تجب الإعادة لو انكشف الخلاف في الأثناء ؛ لأنّ هذا النحو من الإجزاء يؤدّي إلى القول بالتصويب بنحو من أنحائه ولو بدرجة خفيفة ، وقد تقدّم أنّ التصويب باطل بكل معانيه ، والصحيح هو القول بالتخطئة.

١٢٩
١٣٠

القضيّة الحقيقيّة

والخارجيّة للأحكام

١٣١
١٣٢

القضيّة الحقيقيّة والخارجيّة للأحكام

مرّ بنا في الحلقة السابقة (١) أنّ الحكم تارة يجعل على نهج القضيّة الحقيقيّة ، وأخرى يجعل على نهج القضيّة الخارجيّة.

تقدّم أنّ الحاكم عند ما يجعل حكمه على موضوعه : تارة يجعله على نهج القضيّة الحقيقيّة أي يفترض وجود الموضوع بكلّ حيثيّاته وقيوده ، وأخرى يجعله على نحو القضيّة الخارجيّة ، بأن يشير إلى الموضوع المحقّق في الخارج ويجعل حكمه عليه. فهناك نوعان من الموضوع : الموضوع المفترض والمقدّر الوجود ، والموضوع الموجود فعلا في الخارج.

والقضيّة الخارجيّة : هي القضيّة التي يجعل فيها الحاكم حكمه على أفراد موجودة فعلا في الخارج في زمان إصدار الحكم ، أو في أي زمان آخر ، فلو أتيح لحاكم أن يعرف بالضبط من وجد ومن هو موجود ومن سوف يوجد في المستقبل من العلماء فأشار إليهم جميعا وأمر بإكرامهم ، فهذه قضيّة خارجيّة.

القضيّة الخارجيّة : هي التي يكون موضوعها موجودا في الخارج في أحد الأزمنة الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل ، بحيث يلاحظ الحاكم هذه الأفراد ويشير إليها في حكمه. فالأفراد فيها موجودة فعلا قد فرغ عن وجودها وقد لاحظها الحاكم في حكمه فعلا ، وهنا مثالان لذلك :

الأوّل : أن تكون الأفراد موجودة فعلا في زمان إصدار الحكم ، بأن يشير الحاكم إلى هذه الأفراد الموجودة فعلا ويحكم عليها ، ويكون وجودها مقارنا لوجود الحكم أي يتّحد زمان الحكم وزمان وجود الأفراد ، فيقول مثلا : ( أكرم كلّ من في هذا المعسكر من جنود ). فإنّ الجنود موجودون فعلا في زمان إصدار الحكم.

__________________

(١) ضمن بحوث التمهيد ، تحت عنوان : القضيّة الحقيقيّة والقضيّة الخارجيّة للأحكام.

١٣٣

الثاني : أن يكون زمان إصدار الحكم مقارنا لوجود بعض هذه الأفراد ومتقدّما عن وجود الأفراد الأخرى ، بأن يلاحظ الحاكم هذه الأفراد الموجودة سابقا والموجودة الآن والتي ستوجد فيما بعد إلى زمان معيّن ويشير إليها في حكمه ويصبّه عليها ، فيقول : ( أكرم العلماء الذين وجدوا سابقا والذين يوجدون الآن والذين سيوجدون إلى سنة مثلا ). فحكمه هنا منصبّ على موضوع خارجي ؛ لأنّه أشار إلى هذا الموضوع في حكمه ، وإن كان بعض أفراد الموضوع لم يكن فعليّا الآن ولكن يفترض أنّه أتيح له أن يحصي من سيوجد من العلماء في خلال الزمان الاستقبالي. فهذه قضيّة خارجيّة أيضا.

والحاصل : أنّ القضيّة الخارجيّة قد يكون أفراد موضوعها موجودين فعلا ، وقد يكونون موجودين في المستقبل. فإنّ المهمّ فيها هو أن يشير إليهم الحاكم في حكمه ، فالإشارة إلى الخارج هي الملاك في القضيّة الخارجيّة.

والقضيّة الحقيقيّة : هي القضيّة التي يلتفت فيها الحاكم إلى تقديره وذهنه بدلا عن الواقع الخارجي ، فيشكّل قضيّة شرطيّة شرطها هو الموضوع المقدّر الوجود وجزاؤها هو الحكم ، فيقول : ( إذا كان الإنسان عالما فأكرمه ) ، وإذا قال : ( أكرم العالم ) قاصدا هذا المعنى فالقضية ـ روحا ـ شرطيّة وإن كانت ـ صياغة ـ حمليّة.

القضيّة الحقيقيّة : هي التي يكون موضوعها موجودا في نفس الأمر والواقع ، بمعنى أنّ الموضوع موجود في ذهن الشارع وتصوّره بقطع النظر عن كونه موجودا في الخارج الآن أو في الماضي أو في المستقبل ، فالشارع ينظر إلى الموضوع بما هو موجود فعلا في تصوّره وذهنه سواء كان موجودا في الخارج أم لا. فالوجود الخارجي للموضوع لم يكن مأخوذا بعين الاعتبار حين إصدار الحكم والتشريع. وهذا يعني أنّ الموضوع مفترض ومقدّر الوجود على نهج القضيّة الشرطيّة التي يكون الجزاء فيها معلّقا على تقدير تحقّق الشرط في الخارج ، وعلى هذا الأساس يصبّ المولى حكمه إمّا بلسان قضيّة شرطيّة ، وإمّا بلسان قضيّة حمليّة جوهرها وروحها قضيّة شرطيّة.

مثال الأوّلى : أن يقول : ( إن وجد عالم فأكرمه ). فهذه القضيّة أخذ فيها الموضوع مقدّر ومفترض الوجود والتحقّق ؛ لأنّ تعليق الجزاء على الشرط يدلّ على ذلك وضعا.

مثال الثانية : أن يقول : ( أكرم العالم ) ، فإنّها وإن كانت في صياغتها الإنشائيّة قضيّة

١٣٤

حمليّة ـ والمفروض في القضايا الحمليّة أن يكون الموضوع موجودا فعلا ـ إلا أنّها في حقيقتها وجوهرها وروحها قضيّة شرطيّة ؛ لأنّها بالتحليل العقلي بمعنى قوله : ( إن وجد عالم فأكرمه ). فبأحد هذين اللسانين يصوغ المولى القضيّة الحقيقيّة التي ملاكها أن يكون الموضوع مفترض الوجود في ذهن الحاكم وتصوّره ، بقطع النظر عن كونه موجودا في الخارج أو لا.

وهناك فوارق بين القضيّتين : منها ما هو نظري ، ومنها ما يكون له مغزى عملي.

توجد فوارق نظريّة وأخرى عمليّة بين القضيّة الحقيقيّة والخارجيّة لا بأس بالإشارة إلى جملة منها :

فمن الفوارق : أنّنا بموجب القضيّة الحقيقيّة نستطيع أن نشير إلى أي جاهل ونقول : ( لو كان هذا عالما لوجب إكرامه ) ؛ لأنّ الحكم بالوجوب ثبت على الطبيعة المقدّرة وهذا مصداقها ، وكلّما صدق الشرط صدق الجزاء ، خلافا للقضيّة الخارجيّة التي تعتمد على الإحصاء الشخصي للحاكم ، فإنّ هذا الفرد الجاهل ليس داخلا فيها لا بالفعل ولا على تقدير أن يكون عالما. أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلأنّ القضيّة الخارجيّة ليس فيها تقدير وافتراض ، بل هي تنصبّ على موضوع ناجز.

من الفوارق النظريّة بين القضيّتين هو :

في القضيّة الحقيقيّة : ( أكرم العالم ) يمكننا أن نشير إلى فرد جاهل ونقول في حقّه هذه القضيّة الشرطيّة الافتراضيّة ، وهي : ( إن كان هذا الجاهل عالما فيجب إكرامه ) ؛ لأنّ القضيّة الحقيقيّة مجعولة على الموضوع المفترض والمقدّر الوجود ، أي كلّ فرد يتّصف بماهيّة العلم يجب إكرامه في أي زمان وأي مكان. والقضيّة الشرطيّة المفروضة صادقة من حيث الفرض والتقدير والتصوّر ؛ لأنّ الجزاء فيها معلّق على فرض تحقّق الشرط والشرط متحقّق تصوّرا وذهنا وإن لم يكن متحقّقا صدقا وخارجا ؛ إذ يكفي في صدق القضيّة الشرطيّة أن تكون صادقة ذهنا وتصوّرا ، ولا يشترط أن يكون شرطها متحقّقا واقعا وصادقا خارجا.

وأمّا في القضيّة الخارجيّة فلا يمكننا الإشارة إلى هذا الفرد الجاهل ونقول : ( إن كان هذا الجاهل عالما فيجب إكرامه ) ؛ وذلك لأنّ القضيّة الخارجيّة تعتمد على إحصاء

١٣٥

الحاكم والاستقراء والتتبّع لأفراد موضوعه في الزمان الماضي أو الحاضر أو المستقبل ، فعند ما يصبّ حكمه يكون مصبّه هو الأفراد في الخارج الذين يتّصفون بهذا الوصف والماهيّة ، وهذا الجاهل ليس فردا من أفراد الموضوع لا فعلا ولا تقديرا. أمّا أنّه ليس فردا بالفعل فلأنّه جاهل بحسب الفرض وليس عالما فلم يكن داخلا في الأفراد الذين أحصاهم الحاكم ولاحظهم وأشار إليهم. وأمّا أنّه ليس فردا بالفرض والتقدير فلأنّ القضيّة الخارجيّة ليس فيها فرض وتقدير في أفرادها ، بل أفرادها يكونون مصبّا للحكم بما هم موجودون في إحصاء الحاكم. فالقضيّة الخارجيّة تنصبّ على الموضوع الفعلي الناجز لا على الموضوع المفترض والمقدّر.

ومن الفوارق : أنّ الموضوع في القضيّة الحقيقيّة وصف كلّي دائما يفترض وجوده فيرتّب عليه الحكم ، سواء كان وصفا عرضيّا كالعالم أو ذاتيّا كالإنسان. وأمّا الموضوع في القضيّة الخارجيّة فهو الذوات الخارجيّة أي ما يقبل أن يشار إليه في الخارج بلحاظ أحد الأزمنة ، ومن هنا استحال التقدير والافتراض فيها ؛ لأنّ الذات الخارجيّة وما يقال عنه : ( هذا ) خارجا لا معنى لتقدير وجوده ، بل هو محقّق الوجود.

من الفوارق النظريّة بين القضيّتين هو أنّ الموضوع في القضيّة الحقيقيّة لا بدّ أن يكون وصفا كلّيّا دائما ، ولا يمكن أن يكون مفهوما جزئيّا ؛ لأنّ الوصف الكلّي هو الذي يقبل الافتراض والتقدير والذي هو جوهر القضيّة الحقيقيّة فيرتّب الحكم على هذا الموضوع الذي هو عنوان كلّي بفرض وجوده ، دون الجزئي الذي لا يكون إلا مشخّصا ومتميّزا في الخارج عن غيره ، ولذلك فهو لا يقبل الفرض والتقدير ؛ لأنّه موجود فعلا.

ثمّ إنّ هذا العنوان والقصد الكلّي على قسمين :

فتارة يكون وصفا عرضيّا كالعالم ، فإنّ العالم هو الذات التي يعرض عليها العلم. فالعلم عرض على الذات ، فيقال مثلا : ( أكرم العالم ) ، أو ( إن وجد عالم فأكرمه ). فينصبّ الحكم على هذا العنوان العرضي الكلّي المفترض الوجود.

وأخرى يكون وصفا ذاتيّا كالإنسان ، فإنّه ذات تتألّف بالتحليل العقلي من جنس وفصل ، وهي عنوان كلّي ، فيقال مثلا : ( أكرم الإنسان ) ، أو ( إن وجد إنسان فأكرمه ).

١٣٦

وأمّا الموضوع في القضيّة الخارجيّة فهو الذوات الخارجيّة المتشخّصة بوجودها والمتميّزة عن غيرها ، ولذلك فهي الجزئيّات والأفراد والمصاديق الموجودة فعلا ؛ لأنّ القضيّة الحقيقيّة موضوعها ما يقبل الإشارة إليه ، والإشارة لا تتحقّق إلا إذا كان المشار إليه موجودا ومتشخّصا في وجوده ومتميّزا عن غيره بلحاظ أحد الأزمنة الثلاثة.

وعلى هذا فالافتراض والتقدير مستحيل في القضيّة الخارجيّة ؛ لأنّ الذوات الخارجيّة وما يقال عنه : ( هذا ) أي ما يشار إليه لا بدّ من كونه موجودا بالفعل ، ولا معنى لافتراضه وتقديره. فهناك تناف بين الإشارة وبين الافتراض والتقدير ؛ لأنّ الإشارة معناها أنّ المشار إليه متحقّق الوجود بالفعل ، والافتراض والتقدير معناه أنّه ليس موجودا فعلا.

والحاصل : أنّ الموضوع في القضيّة الحقيقيّة كلّي ، بينما في القضيّة الخارجيّة الذات المتشخّصة المشار إليها وهي الجزئيّات.

فإن كان وصف ما دخيلا في ملاك الحكم في القضيّة الخارجيّة تصدّى المولى لإحراز وجوده ، كما إذا أراد أن يحكم على ولده بوجوب إكرام أبناء عمّه وكان لتديّنهم دخل في الحكم ، فإنّه يتصدّى بنفسه لإحراز تديّنهم ، ثمّ يقول : ( أكرم أبناء عمّك كلّهم ) أو ( إلا زيدا ) تبعا لما أحرزه من تديّنهم كلاّ أو جلاّ. وأمّا إذا قال : ( أكرم أبناء عمّك إن كانوا متديّنين ) فالقضيّة شرطيّة وحقيقيّة من ناحية هذا الشرط ؛ لأنّه قد أفترض وقدّر.

وهذا الفارق النظري يترتّب عليه ثمرة عمليّة وهي :

إذا كان هناك وصف ما دخيلا في ملاك الحكم أي كان يوجد في الملاك هذا الوصف والذي على أساسه صدر هذا الحكم ، فهنا إن كانت القضيّة خارجيّة فهذا الوصف الدخيل في ملاك الحكم يجب على الحاكم نفسه التصدّي لإحراز وجوده في الذوات الخارجيّة ، والأفراد التي انصبّ عليها حكمه وكانت موضوعا لحكمه. وليس المكلّف مطالبا بالتصدّي لإحراز هذا الوصف الدخيل في الملاك.

فمثلا : إذا أراد الحاكم من ولده إكرام أبناء عمّه وكان لوصف التديّن دخالة في الملاك ، فهنا وبما أنّ القضيّة الخارجيّة التي معناها : أنّ الحاكم يحصي الأفراد الذين هم مصبّ لحكمه ، فيجب أن يتصدّى الحاكم لإحراز هذا الوصف في كلّ فرد من أفراد

١٣٧

موضوعه. فإن أحرز وجوده فيهم جميعا أصدر حكمه بنحو عامّ وشامل فيقول : ( أكرم أبناء عمّك كلّهم ). وإن أحرز وجوده فيهم إلا واحدا منهم فيقول : ( أكرم أبناء عمّك إلا فلانا ) فيخرج الفرد الذي لم يتّصف بهذا الوصف الدخيل في ملاك الحكم.

وأمّا إن كانت القضيّة الخارجيّة فهذا الوصف الدخيل في ملاك الحكم لا يجب على الحاكم التصدّي لإحرازه ، بل يجب على المكلّف إحراز وجوده في مصاديق الموضوع ؛ وذلك لأنّ الحاكم يجعل حكمه في القضيّة الحقيقيّة على نهج القضيّة الشرطيّة أي يفترض فيها ويقدّر وجود الشرط والموضوع فيقول : ( إن كان أبناء عمّك متديّنين فأكرمهم ). فهذه قضيّة شرطيّة حقيقيّة ؛ لأنّ موضوعها وشرطها مقدّر الوجود. ومعنى ذلك أنّ الموضوع والشرط إذا تحقّق وجوده وفرض وجود هذا الوصف في أحدهم فيجب إكرامه وإلا فلا يجب الإكرام ، بمعنى أنّ الحكم ينتفي بانتفاء الموضوع في الخارج عن الفرد الفاقد للشرط والوصف ، وبما أنّ الحاكم يصبّ حكمه على الموضوع المتحقّق في ذهنه فلا يجب عليه التصدّي لإحراز الوصف في الخارج ؛ لأنّ نظره ليس إلى الخارج بل إلى ذهنه وتصوّره والوصف موجود في ذهنه واقعا. وأمّا تطبيق هذا الحكم على مصاديقه الخارجيّة فهي في عهدة المكلّف ، ولذلك يجب عليه التصدّي لإحراز هذا الوصف ، فإن أحرزه بهذا وجب عليه الإكرام وإلا فلا.

ومن الفوارق المترتّبة على ذلك : أنّ الوصف الدخيل في الحكم في باب القضايا الحقيقيّة إذا انتفى ينتفي الحكم ؛ لأنّه مأخوذ في موضوعه ، وإن شئت قلت : لأنّه شرط ، والجزاء ينتفي بانتفاء الشرط ، خلافا لباب القضايا الخارجيّة ، فإنّ الأوصاف ليست شروطا وإنّما هي أمور يتصدّى المولى لإحرازها فتدعوه إلى جعل الحكم. فإذا أحرز المولى تديّن أبناء العمّ فحكم بوجوب إكرامهم على نهج القضيّة الخارجيّة ثبت الحكم ، ولو لم يكونوا متديّنين في الواقع ، وهذا معنى أنّ الذي يتحمّل مسئوليّة تطبيق الوصف على أفراده هو المكلّف في باب القضايا الحقيقيّة ، وهو المولى في باب القضايا الخارجيّة لها.

من الفوارق العمليّة بين القضيتين هو :

إنّ الوصف الدخيل في الحكم في باب القضايا الحقيقيّة يتصدّى المكلّف لإحرازه

١٣٨

في الخارج ، فإن أحرز وجوده فيترتّب عليه الحكم وإلا فلا يترتّب. وهذا يعني أنّ الحكم ينتفي بانتفاء الوصف ويثبت بثبوته ؛ لأنّه حيثيّة تقييديّة للحكم يدور الحكم مدارها نفيا وإثباتا. وبتعبير آخر : إنّ الحكم هو الجزاء والوصف هو الشرط ، فإذا ثبت الشرط ثبت الجزاء وإذا انتفى الشرط انتفى الجزاء.

فمثلا إذا قال : ( أكرم العالم إن كان عادلا ) فهذا يعني أنّ وجوب الإكرام معلّق على تحقّق العدالة ثبوتا وانتفاء. والمكلّف هو الذي يتصدّى لإحراز هذا الوصف في الخارج ويطبّقه على مصاديقه وأفراده دون المولى ؛ لأنّ هذا القيد محرز عنده تصوّرا في الواقع. وهذا معناه أنّ الوصف هنا حيثيّة تقييديّة ، فالحكم مقيّد بالوصف ثبوتا وانتفاء.

وأمّا الوصف الدخيل في الحكم في باب القضايا الخارجيّة فهو ليس بمثابة الشرط للجزاء ، فليس هو حيثيّة تقييديّة وإنّما هو حيثيّة تعليليّة أي هي العلّة لإنشاء الحكم وعلّة الحكم فيتصدّى المولى لإحرازها بنفسه ؛ لأنّها هي السبب والعلّة والداعي لجعله الحكم. فإذا أحرزها المولى أنشأ حكمه ويجب على المكلّف الامتثال.

فمثلا إذا أحرز المولى وصف العدالة في أبناء العمّ فحكم بوجوب إكرامهم بسبب كونهم عادلين ، فأنشأ هذا الحكم على ذمّة المكلّف ، فهنا يجب على المكلّف الامتثال والإطاعة حتّى لو قطع بأنّهم غير عادلين كلاّ أو بعضا ؛ لأنّه ليس من شأنه التصدّي لإحراز هذا الوصف ، وإنّما مهمّة إحرازه في عهدة المولى ، سواء كانوا متديّنين أو لم يكونوا متديّنين في الواقع بنظر المكلّف طبعا فيجب عليه إكرامهم.

وهذا مختصّ في المولى العرفي الذي قد يخطأ في تشخيص المصلحة واقعا وقد يصيب ، وإلا فالمولى الحقيقي يستحيل بحقّه ذلك. فإذا أحرز الوصف فقطعا الوصف ثابت واقعا ، وعلم المكلّف بالخلاف يكون خطأ أو شبهة أو جهلا مركّبا. والحاصل : أنّ الذي يتحمّل المسئوليّة في التصدّي لإحراز الوصف وتطبيقه على مصاديقه في باب القضايا الحقيقيّة هو المكلّف ، بينما في باب القضايا الخارجيّة يكون المتصدّي لإحراز الوصف هو المولى نفسه.

وينبغي أن يعلم أنّ الحاكم ـ سواء كان حكمه على نهج القضيّة الحقيقيّة أو على نهج القضيّة الخارجيّة ، وسواء كان حكمه تشريعيّا كالحكم بوجوب الحجّ

١٣٩

على المستطيع أو تكوينيّا وإخباريّا كالحكم بأنّ النار محرقة أو أنّها في الموقد ـ إنّما يصبّ حكمه في الحقيقة على الصورة الذهنيّة لا على الموضوع الحقيقي للحكم.

ذكرنا أنّ الحكم تارة يكون على نهج القضيّة الحقيقيّة التي يفترض فيها الموضوع ويقدّر وجوده ، وأخرى على نهج القضيّة الخارجيّة التي يكون موضوعها الأفراد المشار إليهم في الخارج بلحاظ أحد الأزمنة.

وهذا الحكم سواء كان موضوعه حقيقيّا أو خارجيّا ، تارة يكون حكما شرعيّا كالحكم بوجوب الحجّ على المستطيع أو وجوب الصلاة ، وأخرى يكون حكما إخباريّا تكوينيّا أي إخبار عن واقعة خارجيّة حدثت أو تحدث مستقبلا أو الآن أو يفترض حدوثها كالإخبار ( بأنّ النار محرقة أو النار في الموقد ). فإنّ الأوّل قضيّة إخبارية تكوينيّة بنحو القضيّة الحقيقية ؛ لأنّ روحها وجوهرها قضيّة شرطيّة وهي إن وجدت نار فهي محرقة ، بينما الثانية قضيّة إخباريّة تكوينيّة بنحو القضيّة الخارجيّة ، وهي الحكم على النار الموجودة في الخارج بأنّها في الموقد لا في مكان آخر.

فالحكم في هذه الموارد كلّها ينصبّ في الحقيقة على الصورة الذهنيّة للموضوع لا على الموضوع الحقيقي للحكم ، وتوضيح ذلك : إنّ حكم الحاكم أمر ذهني في تصوّر الحاكم ، فلا بدّ من فرض الموضوع في الذهن وما يوجد في الذهن إنّما هو الصورة لا نفس الموضوع الحقيقي ، ولذلك قال السيّد الشهيد :

لأنّ الحكم لمّا كان أمرا ذهنيّا فلا يمكن أن يتعلّق إلا بما هو حاضر في الذهن ، وليس ذلك إلا الصورة الذهنيّة.

فمصبّ الحكم الذي هو موضوعه لا بدّ أن يكون ذهنيّا ؛ لأنّ نفس الحكم ذهني حيث إنّه موجود في نفس الحاكم وتصوّره أوّلا لا ما هو موجود في الخارج ، وإلا صار هناك مغايرة سنخيّة بين الحكم وموضوعه.

وهي وإن كانت مباينة للموضوع الخارجي بنظر ولكنّها عينه بنظر آخر. فأنت إذا تصوّرت النار ترى بتصوّرك نارا ، ولكنّك إذا لاحظت بنظرة ثانية إلى ذهنك وجدت فيه صورة ذهنيّة للنار لا النار نفسها ، ولمّا كان ما في الذهن عين الموضوع الخارجي بالنظر التصوّري وبالحمل الأوّلي صحّ أن يحكم عليه بنفس

١٤٠