شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

ونفس المعنيين من الإصابة يمكن افتراضهما في درجات التصديق الأخرى أيضا ، فمن ظنّ بوفاة إنسان لإخبار شخص بذلك وكان ذلك الإنسان حيّا فهو غير مصيب في ظنّه بالمعنى الأوّل ، ولكنّه مصيب بالمعنى الثاني إذا كانت نسبة الصدق في إخبارات ذلك الشخص أكثر من خمسين في المائة.

وهذان المعنيان للإصابة يمكن فرضهما في درجات التصديق الأخرى كالظنّ ، فيقال : ظنّ مصيب بالمعنى الأوّل إذا كان الظنّ مطابقا للواقع وكان ما ظنّه ثابتا واقعا. ويقال : ظنّ مصيب بالمعنى الثاني إذا كان الظنّ مطابقا للمبرّرات الموضوعيّة والمنطقيّة ومتناسبا مع درجة التصديق.

فمثلا لو أخبره شخص بوفاة زيد فظنّ بالوفاة وكان ميّتا واقعا فهو مصيب بالمعنيين أمّا المعنى الأوّل فلأنّ ظنّه مطابق للواقع ؛ لأنّه ميّت ، وأمّا المعنى الثاني فلأنّ درجة التصديق التي عنده مطابقة للمبرّرات المنطقيّة ومتناسبة مع إخباره الذي يوجب الظنّ عموما.

ويمكن تحقّق أحدهما دون الآخر ، ففي المثال المذكور لو كان زيد حيّا واقعا فهو غير مصيب بالمعنى الأوّل ، ولكنّه مصيب بالمعنى الثاني. وقد يكون غير مصيب في المعنيين معا بأن قطع بالوفاة من خلال هذا الإخبار وكان حيّا فهو غير مصيب بالمعنى الأوّل ؛ لكونه غير مطابق للواقع ، وغير مصيب بالمعنى الثاني لعدم التناسب بين درجة التصديق التي حصلت عنده وهي القطع مع المبرّرات الموضوعيّة التي توجب الظنّ من إخباره.

ونطلق على التصديق المصيب بالمعنى الثاني اسم ( التصديق الموضوعي واليقين الموضوعي ) ، وعلى التصديق غير المصيب بالمعنى الثاني اسم ( التصديق الذاتي والقطع الذاتي ).

المعنى الثاني من الإصابة وهو موافقة القطع للمبرّرات الموضوعيّة ، فعدم الإصابة هو عدم مطابقة القطع لهذه المبرّرات الموضوعيّة. فالتصديق المصيب يسمّى التصديق الموضوعي واليقين الموضوعي ، وهو القطع واليقين والتصديق الموافق للمبرّرات الموضوعيّة. والتصديق غير المصيب يسمّى التصديق الذاتي والقطع الذاتي. وهو القطع واليقين والتصديق غير الموافق للمبرّرات الموضوعيّة.

١٨١

وانحراف التصديق الذاتي عن الدرجة التي تفترضها المبرّرات الموضوعيّة له مراتب ، وبعض مراتب الانحراف الجزئيّة ممّا ينغمس فيه كثير من الناس. وبعض مراتبه يعتبر شذوذا ومنه قطع القطّاع ، فالقطّاع إنسان يحصل له قطع ذاتي وينحرف غالبا في قطعه هذا انحرافا كبيرا عن الدرجة التي تفترضها المبرّرات الموضوعيّة.

عرفنا أنّ القطع الذاتي هو القطع غير الموافق للمبرّرات الموضوعيّة ، ولذلك فالقطع الذاتي انحراف عن جادّة الصواب. إلا أنّ هذا الانحراف مفهوم كلّي مشكّك ، أي له درجات ومراتب وأفراد ومصاديق بعضها أشدّ من البعض الآخر.

وبعض مراتب هذا الانحراف ممّا يتواجد في كثير من الناس ، وهي المرتبة الجزئيّة الأقلّ والتي فيها انحراف يسير فقط. فمثلا لو أنّ إنسانا أخبره بوفاة زيد وكانت درجة التصديق من إخباره بنسبة سبعين في المائة فحصل له ظنّ بنسبة خمسة أو سبعين أو ثمانين في المائة فهذا انحراف إلا أنّه جزئي ويسير ؛ لأنّه لا يزال ضمن دائرة الظنّ ولم يتحوّل من الظنّ إلى الدرجة الأعلى كالاطمئنان أو القطع. وهذه المرتبة والدرجة ينغمس فيها أكثر الناس بحيث لا تحصل الدرجة التصديقيّة المطابقة تماما للخبر ، بل تحصل لهم درجة تصديقيّة قريبة من درجة التصديق الموضوعيّة.

وأمّا بعض المراتب الأخرى من الانحراف فهي تعتبر شذوذا ، كأن يحصل له الاطمئنان بدرجة خمسة أو تسعين في المائة أو يحصل له القطع مائة في المائة من خلال إخبار شخص درجة التصديق في إخباره سبعين أو ستين في المائة فقط بحسب المبرّرات الموضوعيّة.

ومن هذه المرتبة في الانحراف والشذوذ قطع القطّاع ، وهو الإنسان الذي يحصل له قطع ذاتي غير مستند إلى مبرّرات موضوعيّة ، بل كان معتمدا على حالات نفسيّة معيّنة أوجبت له هذا الانحراف والشذوذ ، بحيث إنّه ينحرف في الغالب بدرجة كبيرة جدّا عن الدرجة التي تفرضها عليه المبرّرات الموضوعيّة ، بأن كانت المبرّرات توجد درجة التصديق بنسبة ستّين في المائة فقط ولكنّه ولأجل بعض الحالات النفسيّة والذاتيّة حصل له القطع واليقين مائة في المائة. فإنّ هذا انحراف كبير جدّا لا يتسامح فيه عرفا في الغالب.

١٨٢

وحجّيّة القطع من وجهة نظر أصوليّة ـ وبما هي معبّرة عن المنجّزيّة والمعذّريّة ـ ليست مشروطة بالإصابة بأي واحد من المعنيين.

وأمّا الجواب عن السؤال المتقدّم فهو أنّ القطع حجّة سواء كان مصيبا بالمعنيين أو لم يكن مصيبا فيهما ، فالحجّيّة الأصوليّة التي تعني المنجّزيّة والمعذّريّة ثابتة للقطع كما تقدّم ، سواء كان منشؤه المبرّرات الموضوعيّة أو الحالات الذاتيّة والنفسيّة ، وسواء كان مصيبا للواقع أو لم يكن مصيبا للواقع.

فالحجّيّة لا يشترط فيها الإصابة بأي نحو من هذين المعنيين. والدليل على عدم الاشتراط هو :

أمّا المعنى الأوّل فواضح ؛ إذ يعتبر القطع بالتكليف تمام الموضوع لحقّ الطاعة ، كما أنّ القطع بعدمه تمام الموضوع لخروج المورد عن هذا الحقّ.

أمّا عدم اشتراط كون القطع مصيبا للواقع بحيث يكون القطع منجّزا سواء أصاب الواقع أم لا ، فلأنّ القطع بالتكليف المولوي هو تمام الموضوع لحكم العقل بوجوب الامتثال والإطاعة وحرمة المخالفة واستحقاق العقاب عليها. وكذلك القطع بعدم التكليف هو تمام الموضوع ؛ لخروج هذا المورد الذي قطع المكلّف فيه بعدم التكليف عن دائرة حكم العقل بالمنجّزيّة والإطاعة ، وهو معنى معذّريّة القطع. فإذا حصل القطع بالتكليف حكم العقل بالمنجّزيّة وكان المورد داخلا في العهدة وفي موضوع حقّ الطاعة ، وإذا قطع بعدم التكليف حكم العقل بنفي العقاب إذ لا مخالفة ؛ لأنّه لا تكليف للمولى ليجب رعايته وامتثاله (١).

__________________

(١) والدليل على ما ذكره السيّد الشهيد : هو أنّ موضوع حقّ الطاعة يمكن أن يتصوّر على أنحاء ثلاثة هي :

١ ـ أن يكون الموضوع هو التكاليف الثابتة واقعا سواء علم بها المكلّف أم لا.

٢ ـ أن يكون الموضوع هو التكاليف الواقعيّة مع قيام الحجّة شرعا أو عقلا عليها.

٣ ـ أن يكون الموضوع هو التكاليف التي تنجّزت بمنجّز شرعي أو عقلي ، أي التكاليف التي قامت الحجّة عليها شرعا أو عقلا.

والصحيح هو الأخير ؛ لأنّ من حقّ المولى على المكلّف الإطاعة والامتثال في كلّ تكليف وصل إلى المكلّف. وهذا يعني أنّه لا بدّ من فرض الوصول ، وهذا يكون بفرض قيام الحجّة أي المنجّز المعتبر لدى الشارع ، سواء كان هذا التكليف ثابتا في الواقع أم لا. فيكون تمام ..... الموضوع لحقّ الطاعة هو ثبوت التكليف عند المكلّف بالقطع به أو قيام المنجّز المعتبر شرعا عليه ، وكذلك تمام الموضوع لخروج التكليف من موضوع حقّ الطاعة هو القطع بعدمه أو قيام الحجّة المعتبرة شرعا على نفيه والتأمين من ناحيته.

١٨٣

ومن هنا كان المتجرّي مستحقّا للعقاب كاستحقاق العاصي ؛ لأنّ انتهاكهما لحقّ الطاعة على نحو واحد. ونقصد بالمتجرّي : من ارتكب ما يقطع بكونه حراما ولكنّه ليس بحرام في الواقع. ويستحيل سلب الحجّيّة أو الردع عن العمل بالقطع غير المصيب للواقع ؛ لأنّ مثل هذا الردع يستحيل تأثيره في نفس أي قاطع ؛ لأنّه يرى نفسه مصيبا وإلا لم يكن قاطعا.

المتجرّي : هو من يقطع بحرمة شيء أو بوجوبه ثمّ يخالف قطعه ، فيرتكب الحرام الذي قطع بحرمته ويترك الواجب الذي قطع بوجوبه ، ثمّ يتبيّن أنّه لم يكن حراما أو واجبا في الواقع. من قبيل أن يقطع بأنّ هذا المائع خمر فيشربه ، ثمّ يتبيّن أنّه ماء ، أو يقطع بأنّ هذه المرأة أجنبيّة فيطأها ، ثمّ يتبيّن أنّها جاريته أو زوجته. فهنا لم يكن قطعه مصيبا للواقع.

ولكن تقدّم منّا أنّ حجّيّة القطع ومنجّزيّته لا يشترط فيها الإصابة للواقع ؛ لأنّ القطع بالتكليف هو تمام الموضوع لحقّ الطاعة. وعليه فإنّ المتجرّي القاطع بالتكليف يجب عليه بحكم العقل الإطاعة والامتثال وحرمة المخالفة واستحقاق العقاب عليها ؛ وذلك رعاية لحقّ المولى واحتراما لأدب العبوديّة المفروض عليه ، فهو كالقاطع بالتكليف ثمّ يعصيه. فلا فرق بين العاصي والمتجرّي من جهة أنّهما انتهكا حقّ المولى وخرجا عن حدود العبوديّة ؛ لأنّهما خالفا التكليف المقطوع والذي هو تمام الموضوع لحقّ الطاعة. ولذلك يحكم العقل بلزوم العقاب عليهما.

ومجرّد كون المتجرّي لم يصب الواقع بينما العاصي أصابه لا يصحّ أن يكون ملاكا للفرق بينهما في استحقاق العقاب للعاصي دون المتجرّي ؛ وذلك لأنّ إناطة العقاب بذلك معناه تعليق الحكم على شيء غير مقدور للمكلّف ، فإنّ الإصابة للواقع وعدمها ليست مقدورة للمكلّف ، فلا يمكن أن تكون شرطا في التكليف.

والدليل على ذلك : أنّ المنجّزيّة يستحيل سلبها عن القطع ويستحيل الردع عن العمل بالقطع ، فالقاطع يجب عليه العمل وفقا لقطعه ويكون قطعه منجّزا عليه ، وهذا

١٨٤

المعنى موجود سواء المتجرّي أو العاصي. فإنّ القاطع كما تقدّم يرى أنّ قطعه مصيب دائما للواقع ويرى مقطوعه ثابتا في الواقع ، فهو يعتقد ذلك ويؤمن به ، ولذلك لا يصدّق بسلب المنجّزيّة أو الردع عن القطع على أساس ترخيص ظاهري كما تقدّم ؛ لأنّه لا يراه جدّيّا بالنسبة إليه ؛ لأنّه لا يحتمل وجودا إلا للتكليف ولا يحتمل عدمه أصلا ، وإلا لم يكن قاطعا.

ومن هنا نحكم على المتجرّي باستحقاق العقاب كالعاصي ؛ لأنّ ملاك الاستحقاق فيهما واحد ، وهو مخالفته للتكليف المقطوع به الذي هو تمام الموضوع للمنجّزيّة وحقّ الطاعة والامتثال والإطاعة ، خلافا للشيخ الأنصاري حيث نفى العقاب عنه.

والمتجرّي على نوعين :

الأوّل : التجرّي بالنيّة بأن ينوي فعل ما قطع بحرمته أو ينوي ترك ما قطع بوجوبه من دون أن يفعل ذلك. وهذا النحو ليس هو محلّ الكلام. وهذا اختلفت فيه الأخبار.

الثاني : التجرّي بفعل ما قطع بحرمته أو بترك ما قطع بوجوبه ، وهو محلّ الكلام فعلا.

وكما يستحقّ المتجرّي العقاب كالعاصي كذلك يستحقّ المنقاد الثواب بالنحو الذي يفترض للممتثل ؛ لأنّ قيامهما بحقّ المولى على نحو واحد. ونقصد بالمنقاد :

من أتى بما يقطع بكونه مطلوبا للمولى فعلا أو تركا رعاية لطلب المولى ، ولكنّه لم يكن مطلوبا في الواقع.

المنقاد : هو ذاك الإنسان الذي يقطع بوجوب شيء ويمتثله رعاية لحقّ المولى ، أو الذي يقطع بحرمة شيء فيتجنّبه رعاية لحقّ المولى أيضا ، ثمّ يتبيّن أنّه لا وجوب ولا حرمة واقعا. من قبيل أن يقطع بوجوب صلاة الجمعة فيأتي بها ، ثمّ يتبيّن أنّها ليست واجبة ، أو يقطع بحرمة هذا المائع لأنّه خمر فيتجنّبه ، ثمّ يتبيّن أنّه ماء.

فهذا المنقاد يستحقّ الثواب كالمطيع والممتثل ؛ لأنّهما يشتركان معا في ملاك استحقاق الثواب ، وهو رعاية حقّ المولى والعمل على وفق ما يريده المولى من عبادة فعلا أو تركا.

فكما أنّ المتجرّي كالعاصي في استحقاق العقاب ؛ لانتهاكهما حقّ المولى ، كذلك المنقاد كالمطيع في استحقاق الثواب ؛ لرعايتهما حقّ المولى.

١٨٥

والوجه في ذلك ما ذكرناه من أنّ تمام الموضوع لدائرة حقّ الطاعة والمنجّزيّة هو القطع بالتكليف. فإذا قطع بالتكليف فينجّز عليه ويجب إطاعته ويحرم مخالفته ويثاب على امتثاله ، سواء كان مصيبا للواقع أم لا ؛ لأنّها ليست شرطا كما تقدّم.

وأمّا المعنى الثاني فكذلك أيضا ؛ لأنّ عدم التحرّك عن القطع الذاتي بالتكليف يساوي عدم التحرك عن اليقين الموضوعي في تعبيره عن الاستهانة بالمولى وهدر كرامته ، فيكون للمولى حقّ الطاعة فيهما على السواء والتحرّك عن كلّ منهما وفاء بحقّ المولى وتعظيم له.

وأمّا عدم اشتراط المنجّزيّة للقطع بكونه مصيبا للمبرّرات الموضوعيّة بمعنى أنّ القطع منجّز ، سواء كان قطعا ذاتيّا ناشئا من حالات ذاتيّة ونفسيّة أو كان قطعا موضوعيّا ناشئا عن مبرّرات وضوابط منطقيّة وموضوعيّة.

والوجه في ذلك : أنّ القطع الذاتي مساو للقطع الموضوعي ـ في حالة عدم التحرّك عنه أي عدم الإطاعة والامتثال له فعلا أو تركا ـ في كونهما معبّرين عن الاستهانة بحقّ المولى وخرق حدود العبوديّة وهدر كرامة المولى وعدم احترامه ؛ لأنّ القطع فيهما واحد وهو موجب للتحرّك. فعدم التحرك عنه فيهما يعبّر عن العصيان وهو قبيح ، ولذلك يكون للمولى حقّ الطاعة فيهما على حدّ واحد.

ويكون التحرّك عن كلّ من القطعين وفاء وتعظيما لحقّ المولى.

ولا يمكن سلب المنجّزيّة عن القطع الذاتي كما لا يمكن سلبها عن القطع الموضوعي ؛ لأنّ هذا الشخص بعد حصول القطع عنده يرى أنّه ملزم بالتكليف فعلا أو تركا ؛ لأنّه يرى أنّ قطعه صحيح ومصيب ، ولذلك لا يصدّق بالترخيص ولا يؤمن بإمكان الردع عن هذه المنجّزيّة ، والسرّ في ذلك هو ما ذكرناه من أنّ القطع بالتكليف هو تمام الموضوع لدخول المورد في دائرة حقّ الطاعة ، سواء كان منشؤه الحالات الذاتيّة أو المبرّرات الموضوعيّة.

وقد يقال : إنّ القطع الذاتي وإن كان منجّزا لما ذكرناه ولكنّه ليس بمعذّر ، فالقطّاع إذا قطع بعدم التكليف وعمل بقطعه وكان التكليف ثابتا في الواقع فلا يعذّر في ذلك لأحد وجهين :

كان الكلام إلى الآن في أنّ منجّزيّة القطع لا يفرّق فيها بين القطع الذاتي والقطع

١٨٦

الموضوعي وبين القطع المصيب للواقع وغير المصيب. وأمّا بالنسبة لمعذّريّة القطع فقد يقال : إنّ القطع الذاتي ليس معذّرا ، بمعنى أنّ قطع القطّاع بعدم التكليف في مورد لا يكون مؤمّنا له عن استحقاق العقاب فيما إذا كان قطعه مخالفا للواقع وكان التكليف ثابتا ، فلا يكون معذورا.

والدليل على ذلك أحد أمرين :

الأوّل : أنّ الشارع ردع عن العمل بالقطع الذاتي أو ببعض مراتبه المتطرّفة على الأقلّ ، وهذا الردع ليس بالنهي عن العمل بالقطع بعد حصوله ، بل بالنهي عن المقدّمات التي تؤدّي إلى نشوء القطع الذاتي للقطّاع أو بالأمر بترويض الذهن على الاتّزان ، وهذا حكم طريقي يراد به تنجيز التكاليف الواقعيّة التي يخطئها قطع القطّاع وتصحيح العقاب على مخالفتها.

الوجه الأوّل لإثبات أنّ قطع القطّاع بعدم التكليف ليس معذّرا هو : أنّ الشارع قد ردع عن العمل بالقطع الذاتي في جميع مراتبه أو على الأقلّ في المرتبة الشديدة الانحراف منه ، أي قطع القطّاع ومع صدور الردع عن العمل به لا يكون العمل به حجّة ومعذّرا ، فهو من قبيل القياس والاستحسان في كون العمل بهما ليس حجّة. وبالتالي يثبت العقاب فيما لو كان التكليف ثابتا وتركه هذا القاطع استنادا على القطع الذاتي.

لا يقال : إنّ الردع عن العمل بالقطع مستحيل سواء كان موضوعيّا أو ذاتيّا لما تقدّم سابقا من استحالة سلب الحجّيّة عن القطع ؛ لأنّ القاطع سواء بالتكليف أو بعدمه لا يحتمل شيئا آخر خلاف ما قطع به وإلا لم يكن قاطعا. وعليه فلا يتعقّل صدور مثل هذا الردع بنحو جادّ ، فيكون مثل هذا الردع لغوا ؛ لأنّه بلا فائدة وبلا أثر.

فإنّه يقال : إنّ هذا الردع عن القطع ليس بالنهي عن العمل بالقطع بعد حصوله ؛ لئلا يلزم المحذور المذكور ؛ لأنّه بعد حصوله لا يمكن الردع عنه لما ذكر. وإنّما الردع يكون بأحد نحوين :

إمّا بالنهي عن المقدّمات التي من شأنها أن تؤدّي إلى حصول هذا القطع ، بأن يشخّص الشارع هذه المقدّمات وينهى عن اتّباعها ؛ لأنّها تستلزم دائما أو غالبا

١٨٧

حصول القطع الذاتي ، ومع النهي عنها يحرم فعلها وارتكابها فيكون معاقبا عليها لا على قطعه.

وإمّا بالأمر بترويض الذهن على الاتّزان وعدم التسرّع في استخلاص النتائج ، بل لا بدّ من التروي والهدوء فيكون أمرا إرشاديا للتأمّل والتدقيق في المسائل والموارد التي يحصل فيها القطع.

وهذا الردع بأحد هذين التصوّرين ليس حكما واقعيّا ؛ ليلزم اجتماع الضدّين واقعا أو في نظر المكلّف. وإنّما هو حكم ظاهري طريقي روحه وحقيقته إبراز الملاكات الواقعيّة للإلزام وأنّها أهمّ ، فيكون الغرض منه التنجيز للتكليف الواقعي في حالة الخطأ بالقطع الناتج غالبا عن قطع القطّاع ، فهو ردع طريقي في مقام خطأ قطع القطّاع لأجل إبراز الملاكات الالزامية الواقعيّة وأهمّيّتها بنظر الشارع ضمانا للحفاظ عليها وعدم تقويتها. والنتيجة هي أنّ القطّاع يكون مستحقّا للعقاب ؛ لمخالفة هذا التكليف الواقعي الذي أبرز أهمّيّة ملاكاتها هذا الحكم الطريقي.

وهذا أمر معقول ، غير أنّه لا دليل عليه إثباتا.

والجواب على هذا الوجه أنّه معقول ثبوتا وممكن من الناحية النظريّة ، إلا أنّه لا دليل عليه إثباتا ؛ إذ لا يوجد دليل خاصّ في هذا المورد ولا يوجد إطلاق في أدلّة الأصول العمليّة الإلزامية كالاحتياط لهذا المورد ؛ لأنّها مختصّة في صورة عدم العلم. وهنا يوجد علم بعدم التكليف.

الثاني : أنّ القطّاع في بداية أمره إذا كان ملتفتا إلى كونه إنسانا غير متعارف في قطعه ، كثيرا ما يحصل له العلم الإجمالي بأنّ بعض ما سيحدث لديه من قطوع نافية غير مطابقة للواقع لأجل كونه قطّاعا ، وهذا العلم الإجمالي منجّز.

الوجه الثاني لإثبات أنّ قطع القطاع بعدم التكليف ليس معذّرا هو أنّ هذا القطّاع إذا التفت إلى كونه إنسانا قطّاعا يحصل له القطع الذاتي كثيرا ، فإنّه سوف يحصل له علم إجمالي من أوّل الأمر بأنّ بعض القطوعات النافية للتكليف التي سوف تحصل له في المستقبل ليست كلّها مطابقة للواقع بسبب علمه بكونه قطّاعا غير متعارف في قطعه ، وهذا العلم الإجمالي منجّز. ومقتضى المنجّزيّة لهذا العلم الإجمالي هي وجوب الاجتناب عن كلّ القطوعات النافية للتكليف التي سوف تحصل له ؛ لأنّه لا

١٨٨

يستطيع تمييز المخطئ من المصيب منها. فكلّ قطع بعدم التكليف يكون داخلا ضمن دائرة العلم الإجمالي بوجود قطوعات نافية مخطئة فيجب الاجتناب عنه.

وعليه ، فلو لم يجتنب بل سار وفقا لما قطع به من عدم التكليف لا يكون معذورا ؛ لأنّه مخالف لوجوب الاحتياط والاجتناب والتحفّظ الذي أبرزه العلم الإجمالي ، فإنّ منجّزيّة العلم الإجمالي لا يمكن سلبها عنه عقلا أو عقلائيّا كما تقدّم.

فإن قيل : إنّ القطّاع حين تتكوّن لديه قطوع نافية يزول من نفسه ذلك العلم الإجمالي ؛ لأنّه لا يمكنه أن يشكّ في قطعه وهو قاطع بالفعل.

هذا إشكال على الوجه الثاني وحاصله : أنّ هذا العلم الإجمالي منحلّ ومع انحلاله لا يكون منجّزا لوجوب الاجتناب عن القطوعات النافية للتكليف.

وكيفيّة الانحلال أن يقال : إنّ هذا القطّاع عند ما يحصل لديه قطع ناف للتكليف بالفعل فيقطع مثلا بعدم وجوب صلاة الجمعة يوم الجمعة ، فإنّ هذا القطع الذي تكوّن لديه وغيره أيضا من القطوعات الفعليّة النافية للتكليف سوف توجب زوال وانحلال العلم الإجمالي ؛ لأنّه يعتقد بأنّ هذا القطع أو القطوعات التي حصل عليها بالفعل ليست داخلة ضمن دائرة ذلك العلم الإجمالي المنجّز ؛ لأنّه يراها مصيبة وصحيحة ولا يحتمل فيها الخطأ ؛ لأنّه لو احتمل كونها مخطئة أو ليست صحيحة لم يكن قاطعا ، وهذا خلف المفروض. إذا ينحلّ العلم الإجمالي لخروج بعض أطرافه من دائرته بالعلم التفصيلي ، فتبقى القطوعات الأخرى مشكوكة ، ولكنّه كلّما حصل لديه قطع ناف كان خارجا عن دائرة العلم الإجمالي ؛ لأنّه لا يشكّ ولا يحتمل الخطأ فيه لأنّه قاطع فعلا.

وعليه فلا يكون مثل هذا العلم الإجمالي ذا أثر أصلا فلا معنى لجعله وصدوره ؛ لأنّه لغو.

كان الجواب : أنّ هذا مبنيّ على أن يكون الوصول كالقدرة. فكما أنّه يكفي في دخول التكليف في دائرة حقّ الطاعة كونه مقدورا حدوثا ـ وإن زالت القدرة بسوء اختيار المكلّف ـ كذلك يكفي كونه واصلا حدوثا وإن زال الوصول بسوء اختياره.

هناك بحث سيأتي وهو أنّ القدرة شرط في التكليف ، بمعنى أنّه لا يجوز التكليف

١٨٩

بغير المقدور والحاكم بذلك هو العقل ؛ لأنّه لا تحريك ولا بعث مع عدم القدرة ، والتكليف يكون بداعي البعث والتحريك ، فيكون جعله هنا لغوا وهذا واضح. ويترتّب على البعث والتحريك الناشئين من التكليف حكم العقل باستحقاق العقاب على المخالفة وباستحقاق الثواب على الإطاعة والامتثال.

والحاصل : أنّ الإدانة متوقّفة على البعث والتحريك وهما متوقّفان على القدرة في التكليف.

ثمّ إنّ هذه القدرة المشروط بها التكليف هل يكفي حدوثها أو لا بدّ من بقائها واستمرارها؟ خلاف بينهم في ذلك.

والصحيح هو أنّ القدرة على التكليف شرط في صحّة التكليف عقلا حدوثا ، بمعنى أنّه إذا كانت هناك قدرة للمكلّف على الفعل فيصحّ جعل التكليف وتوجيهه إليه ، فإذا زالت عنه فيما بعد فلا يضرّ زوالها في التكليف ؛ لأنّ الشرط هو حدوثها لا بقاؤها.

وعلى هذا فإذا كان المكلّف قادرا على الفعل فعصى ولم يمتثل حتّى فات الوقت يكون قد عجّز نفسه عن الإتيان به فارتفعت القدرة باختياره ، وهذا لا يضرّ في بقاء التكليف ولذلك يكون أهلا للإدانة واستحقاق العقاب.

وكذلك إذا كان قادرا على الفعل فأوقع نفسه في التعجيز أي أنّه أذهب القدرة باختياره ، كمن كان قادرا على استعمال الماء في الوضوء فأراقه على الأرض اختيارا فأوقع نفسه في التعجيز وعدم القدرة على الوضوء ، فهنا أيضا يكون مدانا.

والحاصل : أنّ زوال القدرة بسوء الاختيار لا يرفع التكليف ؛ لأنّه يكفي في دخول التكليف في العهدة والذمّة وحكم العقل بلزوم الإطاعة والامتثال واستحقاق العقوبة على المخالفة أن يكون التكليف مقدورا عليه حدوثا وإن زالت القدرة عنه بقاء واستدامة بسوء اختيار المكلّف بأن اختار العصيان أو اختار التعجيز. فلا فرق بين العجز والتعجيز ما داما حاصلين بسوء الاختيار ، ولهذا اشتهر قولهم : ( إنّ العجز بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار ).

والقول الآخر : إنّ القدرة كما أنّها شرط في التكليف ابتداء وحدوثا فهي شرط فيه أيضا بقاء واستدامة ، فإذا زالت القدرة عن التكليف يرتفع التكليف ، ولذلك فلا بعث

١٩٠

ولا إدانة على تركه للتكليف. نعم يكون معاقبا على فعله للمقدّمات التي أوصلت إلى ترك التكليف مثلا. والصحيح هو الأوّل.

فبناء على هذا المسلك نقول في الجواب عن هذا الإشكال : إنّ الوجه الثاني الذي أبرز العلم الإجمالي للمكلّف بأنّ بعض قطوعاته النافية للتكليف غير صحيحة قد وصل إليه فعلا ، فإذا حصل له بعد ذلك علم بقطع ناف للتكليف فعلا ، فهذا العلم والقطع الذي حصل عليه القطّاع بالفعل لا يوجب انحلال العلم الإجمالي وخروج هذا القطع الفعلي بعدم التكليف عن ذكر العلم الإجمالي المنجّز.

والوجه في ذلك : أنّنا نقول : إنّ الوصول كالقدرة ، فكما إنّنا قلنا : إنّ القدرة على التكليف شرط حدوثا ولذلك لا يضرّ ارتفاعها بسوء الاختيار في بقاء التكليف واستحقاق الإدانة عقلا.

كذلك نقول في الوصول وتوضيحه : إنّ وصول العلم الإجمالي المنجّز إلى المكلّف لا ينحلّ ولا يزول بالقطع الفعلي النافي للتكليف ؛ لأنّ هذا القطع قد حصل للمكلّف بسوء اختياره إذ المفروض أنّه قد اتّبع المبرّرات الذاتيّة والنفسيّة للحصول على هذا القطع ولم يعتمد المبرّرات الموضوعيّة والمنطقيّة ، وهو منهيّ عن اتّباع الحالات النفسيّة والذاتيّة بسبب العلم الإجمالي السابق بكونه قطّاعا ، وأنّ قطوعاته غير مطابقة للواقع. فحصول القطع بعدم التكليف كان بسوء اختيار منه ، بمعنى أنّه هو الذي أوقع نفسه في الدائرة التي يحصل فيها على القطع ، ولذلك يكون أوقع نفسه قهرا في الحصول على القطع النافي والذي ينحلّ به العلم الإجمالي برأيه واعتقاده ، فكان الانحلال للعلم الإجمالي بسوء الاختيار ، وهذا لا يوجب الانحلال واقعا وحقيقة أو حكما بنظر الشارع. وعليه ، فالعلم الإجمالي لا يزال منجّزا ولا يزال موجودا واقعا وحكما وهو يفيد المنع من اتّباع القطوعات النافية للتكليف فمع المخالفة يستحقّ الإدانة والعقاب.

وبتعبير آخر : إنّ وصول العلم الإجمالي للمكلّف يكفي في منجّزيّته للاجتناب عن القطوعات النافية للتكليف أن يكون واصلا إلى المكلّف حدوثا وابتداء ، وهنا المكلّف يعلم من أوّل الأمر بأنّ كثيرا من قطوعاته النافية غير مطابقة للواقع بسبب كونه قطّاعا ، فالعلم الإجمالي واصل حدوثا. وهذا العلم الإجمالي لا ينحلّ واقعا بحصول

١٩١

القطع النافي للتكليف فعلا ؛ لأنّ حصول هذا القطع لدى القطّاع كان بسوء اختياره ، فإنّ القطع الفعلي وإن كان يوجب الانحلال للعلم الإجمالي إلا أنّ القطّاع كان عليه الاجتناب عن هذا القطع الفعلي النافي للتكليف بسبب علمه الإجمالي السابق ، فحصول القطع الفعلي أوجب انحلال العلم الإجمالي بسوء اختياره. ولذلك فإنّ هذا العلم الإجمالي لا يزول ، بل تبقى منجّزيّته على حالها ؛ لأنّه يشترط فيه ألاّ ينحلّ بسوء الاختيار ، وعليه فيبقى مكلّفا بالاجتناب ، فمع مخالفته وارتكابه يكون مدانا ومستحقّا للعقاب.

* * *

١٩٢

تأسيس الأصل

عند الشكّ في الحجّيّة

١٩٣
١٩٤

تأسيس الأصل عند الشكّ في الحجّيّة

الدليل إذا كان قطعيّا فهو حجّة على أساس حجّيّة القطع ، وإذا لم يكن كذلك فإن قام دليل قطعي على حجّيّته أخذ به ، وأمّا إذا لم يكن قطعيّا وشكّ في جعل الحجّيّة له شرعا مع عدم قيام الدليل على ذلك فالأصل فيه عدم الحجيّة.

الدليل سواء كان عقليّا أو شرعيّا إن كان قطعيّا فهو حجّة أي منجّز ومعذّر ؛ وذلك لأنّ القطع كما تقدّم حجّة سواء في ذلك القطع الموضوعي أو القطع الذاتي. وإن لم يكن قطعيّا بأن كان ظنيّا فهنا إن قام دليل قطعي على حجّيّته أخذ به على أساس حجّيّة ذلك الدليل القطعي كخبر الثقة مثلا ، وإن قام دليل قطعي على عدم حجّيّته أخذ به أيضا كما في القياس. وهذا المقدار ثابت لا إشكال فيه.

وأمّا إذا لم يكن قطعيّا ولم يقم دليل قطعي على حجيّته أو على عدم حجيّته فهنا الأصل فيه يقتضي عدم الحجّيّة ، كما إذا أخبر الصبي المميّز بحكم شرعي ولا ندري هل الشارع جعل الحجّيّة لخبره أم لا؟.

ونعني بهذا الأصل : أنّ احتمال الحجّيّة ليس له أثر عملي ، وأنّ كلّ ما كان مرجعا لتحديد الموقف بقطع النظر عن هذا الاحتمال يظلّ هو المرجع معه أيضا.

المقصود من قولنا : ( الأصل عدم الحجّيّة ) : هو أنّ القاعدة الأوليّة التي كانت جارية في هذا المورد تظلّ حجّة فيه ، بمعنى أنّ هذه الحجّيّة المشكوكة لا تؤثّر في رفع اليد عمّا كان ثابتا قبلها ، فالمكلّف يتعامل في هذا المورد وكأنّ هذه الحجّيّة المشكوكة ليست موجودة أصلا ، فكما أنّه قبل مجيئها كان يعتمد على ما هو حجّة شرعا في هذا المورد يظلّ أيضا بعد مجيئها يعتمد عليه ، فما كان مرجعا بقطع النظر عنها يظلّ هو المرجع معها ، فالموقف العملي لا يتغيّر عمّا كان عليه.

ولتوضيح ذلك نطبّق هذه الفكرة على خبر محتمل الحجّيّة يدلّ على وجوب

١٩٥

الدعاء عند رؤية الهلال مثلا ، وفي مقابله البراءة العقليّة ـ قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ عند من يقول بها ، والبراءة الشرعيّة ، والاستصحاب ، وإطلاق دليل اجتهادي تفرض دلالته على عدم وجوب الدعاء.

ولأجل توضيح وبيان ما ذكرناه من الأصل من قولنا : ( إنّ كلّ ما كان مرجعا قبل هذه الحجّيّة المشكوكة يظلّ هو المرجع معها ) نفرض أنّه دلّ خبر مشكوك الحجّيّة ـ كخبر المميّز أو خبر العامي الثقة أو خبر مجهول الحال أو خبر الثقة الفاسق ـ على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، فإنّه قبل مجيء هذا الخبر المشكوك الحجيّة كان المرجع في هذا المورد البراءة العقليّة ، أي قاعدة قبح العقاب بلا بيان عند المشهور التي تقيّد التأمين عند عدم العلم وهذا مشكوك فلا عقاب في الترك ، والبراءة الشرعيّة عند السيّد الشهيد وهي تفيد أنّ كلّ ما لا يعلم فهو مرفوع أو حلال أو طاهر فهي تفيد التأمين ونفي الإلزام أيضا ، والاستصحاب أي استصحاب عدم الوجوب ؛ لأنّ الوجوب مشكوك والأصل عدمه إمّا بلحاظ ما قبل التكليف وإمّا بلحاظ صدر التشريع ، والدليل الاجتهادي كالإطلاق والعموم الدالّين على نفي الوجوب المذكور بأن كان لسانهما شاملا للمورد المذكور إن كان الحكم الواقعي عدم وجوب الدعاء بنحو الإطلاق أو العموم.

أمّا البراءة العقليّة فلو قيل بها كانت مرجعا مع احتمال حجّيّة الخبر أيضا ؛ لأنّ احتمال الحجّيّة لا يكمل البيان ، وإلا لتمّ باحتمال الحكم الواقعي. ولو أنكرناها وقلنا : إنّ كلّ حكم يتنجّز بالاحتمال ما لم يقطع بالترخيص الظاهري في مخالفته ، فالواقع منجّز باحتماله من دون أثر لاحتمال الحجّيّة.

أمّا البراءة العقليّة فإن قلنا بها فمفادها التأمين عن العقاب في حال عدم البيان والعلم ، فما دام الحكم الواقعي لم يتمّ عليه البيان فالعقل يحكم بنفي العقاب والإدانة وهو معنى التأمين ، فهذه البراءة العقليّة موضوعها عدم العلم بالحكم الواقعي المساوق للشكّ به ، فمع قيام الحجّيّة المحتملة على وجوب الدعاء يبقى موضوع القاعدة ثابتا ، ولذلك تبقى القاعدة هي المرجع في هذه الحالة ؛ لأنّ البيان والعلم لم يتحقّقا. ومجرّد احتمال الحجّيّة لا يكفي في تماميّة البيان والعلم ولا يكمل البيان والعلم مع ضمّه للواقع المحتمل ، فإنّنا إذا ضممنا هذه الحجّيّة المحتملة إلى الحكم الواقعي بوجوب الدعاء

١٩٦

المحتمل أيضا فإنّه لا يكفي في تكميل البيان ؛ لأنّه مجرّد ضمّ احتمال إلى آخر وهو لا يخرج عن دائرة الشكّ وعدم العلم.

بل إنّنا لو فرضنا أنّ احتمال الحجّيّة كاف في تتميم البيان والعلم لكان احتمال الحكم الواقعي ابتداء كافيا في ذلك أيضا ؛ لأنّ احتمال الحجيّة معناها احتمال الحكم الواقعي ؛ لأنّ المراد من الحجيّة لهذا الخبر المشكوك الحجّيّة الكشف عن الواقع.

ومن الواضح أنّه بناء على مسلك المشهور من البراءة العقليّة لا يكون احتمال الحكم الواقعي منجّزا ما لم يقم الدليل الشرعي الحجّة على الوجوب أو الحرمة ؛ لأنّه يعني رفع اليد عن القاعدة مطلقا في كلّ الموارد التي يحتمل فيها الحكم الواقعي ، وهذا خلاف حكم العقل عندهم. فهذا الافتراض واضح البطلان على مسلك المشهور ، وبه ثبت أنّ المرجع هو البراءة العقليّة لتماميّة موضوعها ولعدم وجود العلم والبيان لا حقيقة ولا تعبّدا ، ولذلك لا يرفع اليد عنها لعدم العلم والبيان.

وأمّا إذا أنكرنا البراءة العقليّة وقلنا بمسلك حقّ الطاعة من أنّ كلّ انكشاف للواقع ولو على مستوى الاحتمال يكون منجّزا للتكليف ولا يرفع اليد عن هذه المنجّزيّة إلا إذا ثبت الترخيص الشرعي الجادّ في المخالفة ، فهنا يكون الواقع منجّزا مع وجود هذه الحجّيّة المشكوكة لا لأجل احتمال الحجّيّة لها ، بل لأجل أنّ احتمال الحكم الواقعي بنفسه منجّز بقطع النظر عن وجود هذه الحجّيّة المشكوكة أو عدم وجودها.

والحاصل : أنّه لا يوجد أثر لهذه الحجّيّة المشكوكة سواء قبلنا قاعدة قبح العقاب بلا بيان أو أنكرناها ؛ لأنّه على قبولها يكون موضوع القاعدة تامّا وعلى إنكارها يكون التنجيز لاحتمال الحكم الواقعي ، وفي كلا الموردين لا أثر تنجيزي أو تعذيري لهذه الحجّيّة المشكوكة فالتقيّد بها كذلك لغو باطل.

وأمّا البراءة الشرعيّة فإطلاق دليلها شامل لموارد احتمال الحجّيّة أيضا ؛ لأنّ موضوعها عدم العلم بالتكليف الواقعي ، وهو ثابت مع احتمال الحجّيّة أيضا ، بل حتّى مع قيام الدليل على الحجّيّة. غير أنّه في هذه الحالة يقدّم دليل حجّيّة الخبر على دليل البراءة ؛ لأنّه أقوى منه وحاكم عليه مثلا ، وأمّا مع عدم ثبوت الدليل الأقوى فيؤخذ بدليل البراءة.

وأمّا البراءة الشرعيّة كقوله : « رفع ما لا يعلمون » وقوله : « كلّ شيء لك حلال حتّى

١٩٧

تعلم أنّه حرام » فهذه الألسنة مطلقة بمعنى أنّه في كلّ مورد لا يعلم الحكم الواقعي فيه فهو مرفوع وحلال ، وهو معنى نفي العقاب والتأمين في حالة المخالفة للواقع.

فموضوع البراءة الشرعيّة هو عدم العلم بالتكليف الواقعي وهذا الموضوع ثابت في الفرض المذكور ، أي قيام دليل مشكوك الحجّيّة على الوجوب مثلا. فإنّ عدم العلم بالتكليف الواقعي متحقّق ؛ لأنّ هذه الحجّيّة المشكوكة لا تكشف عن الواقع كشفا تامّا بل إنّه يحتمل كونها كاشفة فقط. ومع هذا الاحتمال يصدق عدم العلم فتجري البراءة الشرعيّة. وهذا يعني أنّ المورد مشمول للبراءة لأجل إطلاق موضوعها ، بل يمكننا أن نقول أكثر من ذلك : وهو أنّ إطلاق البراءة الشرعيّة يشمل حالة قيام الحجّة المعتبرة شرعا على التكليف كقيام خبر ثقة دالّ على الوجوب ، فإنّ هذا الخبر كاشف ناقص عن الواقع فهو يفيد الظنّ فقط. غاية الأمر جعله الشارع حجّة بمعنى كونه منجّزا ومعذّرا ؛ لأنّه يبرز أنّ ملاكات الإلزام الواقعيّة هي الأهمّ وليس جعله حجّة بمعنى جعله علما كما هو مسلك الميرزا وغيره ، وحينئذ فعدم العلم بالتكليف الواقعي ثابت أيضا في صورة قيام الحجّة على التكليف فيقع التعارض بينهما ، ولكنّه تعارض غير مستقرّ ؛ وذلك لأنّ دليل حجّيّة خبر الثقة كالأخبار والسيرة العقلائيّة أقوى ظهورا ودلالة من دليل البراءة ولذلك يكون مقدّما عليها ، أو يكون حاكما على مسلك الميرزا والمشهور.

ومن المعلوم أنّ الحكومة نوع من التخصيص ؛ لأنّها توسّع أو تضيّق الموضوع أو المحمول بلسان التعبّد والادّعاء ، ولذلك يرفع اليد عن الإطلاق في دليل البراءة لثبوت هذا المخصّص الحاكم. وأمّا إذا لم يثبت هذا المخصّص فلا يؤخذ بالدليل الأضعف كالحجّيّة المشكوكة ويترك الدليل الأقوى وهو الإطلاق ، بل يبقى الإطلاق ثابتا وحجّة لعدم وجود حجّة أقوى منه تكون حاكمة عليه.

وكذلك الكلام في الاستصحاب.

فإنّ موضوعه العلم بالحكم الواقعي فمع عدم العلم به يكون موضوعه تامّا ولا يرفع اليد عنه بالشكّ ، وهذه الحجّة المشكوكة لا تفيد العلم بالحكم الواقعي ، فيبقى الاستصحاب حجّة لتحقّق موضوعه.

فقوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ ولكن تنقضه بيقين آخر » يفيد أنّ اليقين

١٩٨

السابق حجّة ما لم يعلم بارتفاعه وانتقاضه. وعليه ، فاستصحاب عدم التكليف هو المرجع ؛ لأنّه متيقّن إمّا قبل البلوغ وإمّا في صدر التشريع ، فما لم يتحقّق العلم يبقى ثابتا حتّى مع قيام الحجّة شرعا كخبر الثقة ، فإنّ موضوعها ثابت. غاية الأمر يتقدّم دليل خبر الثقة على دليل الاستصحاب لكونه حاكما أو أقوى إذ هو أخصّ منه وأصرح دلالة.

وأمّا الدليل الاجتهادي المفترض دلالته بالإطلاق على عدم الوجوب فهو حجّة مع احتمال حجّيّة الخبر المخصّص أيضا ؛ لأن مجرّد احتمال التخصيص لا يكفي لرفع اليد عن الإطلاق.

وأمّا الدليل الاجتهادي الدالّ بإطلاقه أو بعمومه على عدم الوجوب في هذا المورد فهو حجّة ولا يرفع اليد عنه إلا مع إحراز حجّة أخرى معارضة له أقوى منه دلالة وظهورا. فإنّ حجّيّة الإطلاق والعموم مقيّدة بعدم حجّة أخرى على الخلاف ، فما لم يعلم أو يحرز هذه الحجّة الأخرى المعارضة والأقوى يبقى الإطلاق والعموم على الحجّيّة. وهنا هذه الحجّيّة المشكوكة لا يمكنها أن تعارض حجّيّة الإطلاق أو العموم ولا يرفع اليد عنهما ؛ لأنّه لم يثبت المخصّص أو المقيّد لهما فلم يرتفع موضوع الحجيّة فيهما.

فالإطلاق والعموم شاملان لكلّ فرد علم دخوله تحتهما أو شكّ في خروجه ؛ لأنّ الفرد المشكوك خروجه عن الإطلاق أو العموم والذي لا يعلم وجود الدليل على إخراجه لا يحكم بخروجه ؛ لأنّ إخراجه إنّما يكون بالتقييد أو التخصيص المحرزين والمعلوم حجّيّتهما وهو منتف في مقامنا (١).

ونستخلص من ذلك : أنّ الموقف العملي لا يتغيّر باحتمال الحجّيّة ، وهذا يعني أنّ احتمالها يساوق عمليّا القطع بعدمها.

والنتيجة من ذلك : هو أنّ احتمال الحجيّة والأصل عند الشكّ في الحجّيّة هو عدم الحجّيّة ، أي أنّ احتمالها كالقطع بعدمها من دون فرق بينهما من الناحية العمليّة.

__________________

(١) ولا يقال بأنّه يكون من الشبهة المصداقيّة فلا يشمله الإطلاق ولا التخصيص فيكون مجملا ؛ لأنّه يقال : إنّ هذا إنّما يتمّ لو كان الإخراج بالتخصّص لا بالتخصيص ، أي بالورود لا بالحكومة. والمفروض أنّ التقييد والتخصيص من أنحاء القرينة العامّة كالحكومة.

١٩٩

بمعنى أنّ الموقف العملي لا يتغيّر سواء قطع بعدم الحجّيّة أو احتمل وجود الحجّيّة. فعمليّا لا فرق بينهما في أنّ المكلّف يبقى متمسّكا بالقواعد والأصول والأدلّة التي تجري في المورد بقطع النظر عن وجود هذه الحجّيّة.

نعم ، في الواقع من الممكن أن تكون هذه الحجّيّة المشكوكة ظاهرا ثابتة واقعا ، إلا أنّ هذا لا يكفي لرفع اليد عن تلك الأصول والأدلّة المعتبرة شرعا ؛ لأنّ موضوعها تامّ ، ومجرّد احتمال الحكم الواقعي لا يكفي لرفع اليد عنها.

غاية الأمر أنّ هذا الاحتمال ليس موجودا عند القطع بعدم الحجّيّة إلا أنّه لا فرق بينهما من ناحية عدم الأثر التنجيزي والتعذيري.

ونضيف إلى ذلك : أنّ بالإمكان إقامة الدليل على عدم حجيّة ما يشكّ في حجّيّته بناء على تصوّرنا المتقدّم للأحكام الظاهريّة ، حيث مرّ بنا (١) أنّه يقتضي التنافي بينها بوجوداتها الواقعيّة.

والدليل على أنّ الأصل عند الشكّ في الحجّيّة هو عدم الحجّيّة : هو لزوم التنافي بين هذه الحجّيّة المشكوكة الدالّة على الإلزام والتنجيز للحكم الواقعي وبين تلك الأصول الجارية في المورد ، كالبراءة العقليّة والشرعيّة والاستصحاب والدليل الاجتهادي ؛ وذلك لأنّ الأحكام الظاهريّة كالأحكام الواقعيّة لا يمكن أن يجتمع حكمان ظاهريّان متنافيان على مورد واحد أحدهما يؤمّن والآخر ينجّز ؛ وذلك لأنّ الأحكام الظاهريّة بناء على المسلك المختار متنافية فيما بينها بوجوداتها الواقعيّة في عالم ما تكشف عنه من المبادئ الواقعيّة. فإنّ الترخيص الظاهري يكشف عن كون ملاكات الإباحة الواقعيّة هي الأهمّ بنظر المولى ، بينما الإلزام الظاهري يكشف عن كون الملاكات الواقعيّة للإلزام هي الأهمّ ، ولذلك يقع التنافي والتكاذب بينهما ، فلا يمكن جعلهما معا وصدورهما من الشارع للتنافي بينهما في عالم المبادئ والواقع ، سواء وصلا إلى المكلّف أم لا.

خلافا للمشهور حيث إنّ التنافي بين الأحكام الظاهريّة عندهم إنّما هو في فرض وصولهما معا إلى المكلّف وأمّا في حالة صدورهما ووصول أحدهما فلا تنافي بينهما عندهم.

__________________

(١) تحت عنوان : التنافي بين الأحكام الظاهريّة.

٢٠٠