شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

وجود هذا القطع ؛ لأنّ القطع المنجّز هو القطع بفعليّة المجعول لا القطع بمجرّد الجعل ، ولا قطع في المقام بالمجعول وإن كان القطع بالجعل ثابتا ، غير أنّ هذا القطع الخاصّ بالجعل بنفسه يكون نافيا لفعليّة المجعول نتيجة لتقيّد المجعول بعدمه.

وهذه الطريقة في إبطال حجّيّة القطع الخاصّ لا محذور فيها ثبوتا ، فلا يشكل بأنّها من سلب المنجّزيّة عن القطع بالحكم الشرعي بعد ثبوت القطع به ، وسلب المنجّزيّة عن القطع بعد ثبوته وتحقّقه مستحيل ؛ لأنّه تفكيك بين الذاتي والذات ولأنّه يلزم منه التناقض إمّا واقعا أو باعتقاد المكلّف كما تقدّم.

فإنّ إبطال المنجّزيّة غير سلب المنجّزيّة ، فإنّ سلب المنجّزيّة إنّما تكون بعد حصول القطع الفعلي المنجّز وهذا محال ، وأمّا إبطال المنجّزيّة فهو الحيلولة دون حصول وتحقّق هذه المنجّزيّة ، أي إيجاد المانع من تحقّقها كما هو محلّ كلامنا.

فإنّ القطع الذي يثبت كونه منجّزا ومعذّرا إنّما هو القطع بفعليّة الحكم المجعول لا القطع بمجرّد الجعل ، فإنّ القطع بوجوب الحجّ على المستطيع لا ينجّز وجوب الحجّ على القاطع بمجرّده ، وإنّما المنجّز لهذا القطع هو تحقّق الاستطاعة في الخارج ، أي ثبوت الحكم المجعول بثبوت قيوده في الخارج. وهنا كذلك فإنّ عدم القطع من هذا الدليل الخاصّ مأخوذ في موضوع الحكم المجعول ، فإذا تحقّق عدمه بأن كان القطع من دليل آخر كان الحكم المجعول فعليّا لفعليّة قيوده ، أي عدم القطع من هذا الدليل الخاصّ. وأمّا إذا انتفى قيده بأن قطع بالحكم من هذا الدليل الخاصّ يكون الحكم المجعول منتفيا لانتفاء قيده ، إذ قيده هو عدم هذا الدليل والمفروض أنّ هذا الدليل موجود وثابت ، فالمجعول منتف لانتفاء فعليّة قيده وعدم وجوده في الخارج.

نعم ، الجعل ثابت ؛ لأنّه مقطوع به بهذا الدليل الخاصّ ، إلا أنّ هذا الجعل لا منجّزيّة له ؛ لأنّ المنجّزيّة كما ذكرنا ثابتة للمجعول لا للجعل ، فالثابت وهو الجعل ليس منجّزا ، والمنجّز وهو المجعول غير ثابت.

ومن هنا يقال : إنّ هذا القطع بالجعل الحاصل من هذا الدليل الخاصّ بنفسه ينفي الحكم المجعول ؛ لأنّه ينفي القيد المأخوذ في موضوع الحكم المجعول ، فإنّ القيد هو عدم هذا الدليل والمتحقّق في الخارج هو ثبوت هذا الدليل لا عدمه ، ولذا فإنّ القطع بالحكم يساوق القطع بعدمه.

٢٦١

وقد سبق في أبحاث الدليل العقلي في الحلقة السابقة (١) أنّه لا مانع من أخذ علم مخصوص بالجعل شرطا في المجعول ، أو أخذ عدمه قيدا في المجعول ، ولا يلزم من كلّ ذلك دور.

وهذا التصوير لإبطال طريقيّة الدليل القطعي الخاصّ معقول ثبوتا ولا مانع منه ولا استحالة فيه ؛ لأنّه كما تقدّم في الحلقة الثانية من أبحاث الدليل العقلي أنّه لا مانع من أخذ علم مخصوص بالجعل شرطا في المجعول ، بأن يؤخذ العلم الحاصل من النقل بالجعل شرطا في المجعول ، فيقال : إذا حصل لديك علم بالجعل عن طريق النقل فالحكم فعلي. وكذا لا مانع من أن يؤخذ عدم علم مخصوص قيدا في المجعول أيضا ، بأن يقال : إنّ عدم العلم بالجعل عن طريق العقل قيد في المجعول ، فإذا علم بالحكم من طريق آخر كان الحكم فعليّا لفعليّة قيده ، وهو عدم العلم بالحكم عن طريق العقل.

وأمّا إذا علم بالحكم عن طريق العقل فالمجعول منتف لانتفاء قيده ، فلا يكون الحكم فعليّا وبالتالي لا يكون منجّزا.

وهذان النحوان لا دور فيهما ولا استحالة ؛ إذ محذور الدور أو الخلف أو التقدّم والتأخّر كان مسجّلا على أخذ العلم بالمجعول قيدا في المجعول أو أخذ عدم العلم بالمجعول قيدا في المجعول ، أي أخذ العلم أو عدمه في موضوع شخصه أو ضدّه أو مثله. كما سيأتي توضيحه في مباحث الدليل العقلي.

وقد ذهب جملة من العلماء (٢) إلى أنّ العلم المستند إلى الدليل العقلي فقط ليس بحجّة.

ذهب الأخباريّون إلى أنّ العلم بالحكم الشرعي المستند إلى الدليل العقلي فقط ليس بحجّة ، بمعنى أنّ هذا الدليل العقلي لا يكون حجّة شرعا على الأحكام الشرعيّة واستكشافها. وقبل الحديث عن ذلك لا بدّ من معرفة المراد من الدليل العقلي فنقول :

الدليل العقلي : هو الحكم المستند إلى حكم العقل في مقام استنباط الأحكام الشرعيّة مع عدم وجود دليل من الكتاب أو السنّة أو الإجماع على هذا الحكم

__________________

(١) تحت عنوان : حجّيّة الدليل العقلي.

(٢) نسبه الشيخ الأنصاري إلى بعض الأخباريّين في فرائد الأصول ١ : ٥١.

٢٦٢

الشرعي. وهذا الدليل العقلي هو المفيد للقطع واليقين لا الدليل العقلي الظنّي كالقياس والاستحسان ونحوهما مما ثبت شرعا عدم حجّيّته.

وأمّا وجه عدم حجّيّة هذا الدليل العقلي القطعي فسيأتي الكلام فيه في بحث حجّيّة الدليل العقلي.

وقيل في التعقيب على ذلك : إنّه إن أريد بهذا تحويله من طريقي إلى موضوعي بالطريقة التي ذكرناها ـ بأن يكون عدم العلم العقلي بالجعل قد أخذ قيدا في المجعول ـ فهو ممكن ثبوتا ، ولكنّه لا دليل على هذا التقييد إثباتا.

فأجيب على هذه الدعوى بجوابين :

الأوّل : أنّه إذا أريد من عدم حجّيّة الحكم الشرعي المنكشف من الدليل العقلي القطعي أنّ الدليل العقلي قد أبطل الشارع حجّيّته عن طريق تحويله من قطع طريقي إلى قطع موضوعي ، بأن يقال : إنّ الحكم الشرعي إن قطع به عن طريق العقل فهو ليس فعليّا فيؤخذ عدم الدليل العقلي بالجعل قيدا في الحكم المجعول ، فالعلم بالحكم الشرعي عن طريق العقل ينفي الحكم المجعول لانتفاء قيده ، وعدمه بأن قطع بالحكم عن طريق النقل يحقّق فعليّة المجعول لتحقّق قيده وفعليّته.

فهذا التحويل قلنا : إنّه ممكن عقلا وثبوتا إلا أنّ إثبات هذا التحويل بالنسبة إلى الدليل العقلي لا دليل عليه. بمعنى أنّه لم يثبت أنّ الشارع قد حوّل القطع العقلي إلى الموضوعيّة بدلا من الطريقيّة. وهذا بحث دلالي إثباتي.

والصحيح هو أنّ أدلّة الأحكام الشرعيّة مطلقة وعامّة ، وليست مقيّدة بهذا القيد ، فيتمسّك بالإطلاق والعموم لإثبات حجّيّة القطع العقلي.

وإن أريد بهذا سلب الحجّيّة عن العلم العقلي بدون التحويل المذكور فهو مستحيل ؛ لأن القطع الطريقي لا يمكن تجريده عن المنجّزيّة والمعذّريّة.

الجواب الثاني : أنّه إن أريد أنّ الدليل العقلي القطعي ليس بحجّة ، بمعنى أنّه ليس منجّزا بعد تحقّقه من دون أن يكون هناك تحويل لهذا القطع من الطريقيّة إلى الموضوعيّة ، بمعنى أنّ هذا القطع العقلي قطع طريقي ومع ذلك ليس بحجّة فتسلب الحجّيّة عنه مع الحفاظ على طريقيّته فهذا مستحيل وغير ممكن ؛ لأنّ القطع إذا حصل وتحقّق وكان قطعا طريقيّا فهو منجّز ومعذّر ويستحيل سلب الحجّيّة عنه عندئذ من

٢٦٣

باب اجتماع النقيضين أو التفكيك بين الذات والذاتي. أو لزوم الدور والخلف.

وسيأتي الكلام عن ذلك في مباحث الدليل العقلي (١) إن شاء الله تعالى.

وسيأتي الحديث عن حجّيّة الدليل العقلي في مباحثه (٢).

__________________

(١) تحت عنوان : أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه.

(٢) وهنا نضيف شيئا آخر وهو : أنّ ظاهر الأخباريّين هو إنكار حجّيّة الدليل العقلي ؛ لأنّه ليس كاشفا تامّا عن الواقع ، بمعنى أنّ الدليل العقلي غالبا ما يؤدّي إلى الظنّ فقط ؛ وذلك لكثرة الاشتباه والخطأ في الأحكام العقليّة. وعليه ، فالقطع لا يمكن تحصيله من الدليل العقلي ، لا أنّه بعد حصول القطع تبطل حجيّته من باب التحويل أو من باب سلب المنجّزيّة ، بل من باب السالبة بانتفاء الموضوع. فالدليل العقلي ليس حجّة ؛ لأنّه لا يؤدّي إلى القطع.

وهذا الدليل يناقش فيه :

أوّلا : أنّ الروايات التي ذكروها على ذلك لا تنفع في إثبات المطلوب ؛ لأنّ بعضها ظاهر في الردّ على العامّة الذين اتّخذوا الأدلّة العقليّة حجّة ودليلا ، وبعضها ناظر إلى اشتراط الولاية في صحّة الأعمال ، وبعضها ناظر إلى التأنيب على ترك الفحص عن الأدلّة الشرعيّة ، فإنّه لا يلتجئ إلى العقل إلا بعد اليأس عن وجود الدليل في الكتاب والسنّة.

وثانيا : أنّ الاعتماد على العقل الفطري الخالي من الشوائب والأخطاء لا العقل المتأثّر بحالات نفسيّة وموضوعيّة. وتفصيل ذلك خارج عن موضوع هذا الكتاب.

مضافا إلى الروايات الكثيرة الآمرة باتّباع العقول وكونها حجّة باطنة لله تعالى.

٢٦٤

تقسيم البحث

في الأدلّة المحرزة

٢٦٥
٢٦٦

تقسيم البحث في الأدلّة المحرزة

وسنقسّم البحث في الأدلّة المحرزة وفقا لما تقدّم في الحلقة السابقة إلى قسمين :

أحدهما : في الدليل الشرعي.

وهو الدليل النقلي كالكتاب والسنّة والإجماع والسيرة العقلائيّة والمتشرّعيّة والتواتر وخبر الواحد.

والآخر : في الدليل العقلي.

وهو الدليل الحدسي أي الاستنتاجي الاستنباطي الذي يحكم به العقل ، كالمستقلاّت العقليّة وهي مسائل القبح والحسن ، وغير المستقلاّت العقليّة كالملازمات العقليّة من قبيل وجوب المقدّمة عن وجوب ذيها أو حرمة الضدّ ونحو ذلك.

كما أنّ القسم الأوّل نوعان :

أحدهما : الدليل الشرعي اللفظي.

كالكتاب والسنّة والأخبار والتواتر.

والآخر : الدليل الشرعي غير اللفظي.

كالسيرة بنوعيها أي فعل المعصوم وتقريره ، والإجماع.

والبحث في الدليل الشرعي :

تارة في تحديد ضوابط عامّة لدلالته وظهوره.

أي في البحث عن الدلالات والظهورات من الألفاظ ، وهذا يشمل مباحث الألفاظ جميعا كالعامّ والمطلق والمفاهيم ، ويشمل الدلالات التصوريّة والاستعماليّة والتصديقيّة ، والدلالات المطابقيّة والتضمنيّة والالتزاميّة.

وأخرى في ثبوت صغراه ، أي في حيثيّة الصدور.

بمعنى أنّ هذا الدليل الشرعي هل هو صادر عن المعصوم أو ليس بصادر؟ فالبحث

٢٦٧

يقع في إثبات الصدور وهو بحث صغروي ؛ لأنّه بعد إثبات الصدور يقع البحث في تحديد دلالته وظواهره وحجّيّتها.

وثالثة في حجّيّة ظهوره.

بمعنى أنّ هذا الدليل الشرعي الذي حدّد معناه ودلالته وظهوره ، وبعد أن أثبتنا كونه صادرا يبحث في أنّ هذا الظهور هل هو حجّة أو ليس بحجّة؟

وعلى هذا المنوال تجري البحوث في هذه الحلقة.

٢٦٨

الدليل الشرعي

البحث الأوّل :

تحديد دلالات الدليل الشرعي

الدليل الشرعي اللفظي

٢٦٩
٢٧٠

الدليل الشرعي

البحث الأوّل : تحديد دلالات الدليل الشرعي

الدليل الشرعي اللفظي

الدلالات الخاصّة والمشتركة :

هناك في الألفاظ دلالات خاصّة لا تشكّل عناصر مشتركة في عمليّة الاستنباط تتولاّها علوم اللغة ولا تدخل في علم الأصول.

وهناك دلالات عامّة تصلح للدخول في استنباط مسائل مختلفة ، وهذه يبحث عنها علم الأصول بوصفها عناصر مشتركة في عمليّة الاستنباط ، كدلالة صيغة ( افعل ) على الوجوب ، ودلالة اسم الجنس الخالي من القيد على إرادة المطلق ، ونحو ذلك.

الدلالات الخاصّة : هي مداليل الألفاظ التي لا تشكّل عنصرا مشتركا في عمليّة الاستنباط ، وإنّما تقع عنصرا خاصّا في عمليّة الاستنباط للحكم الشرعي ، فيبحث عنها الفقيه بوصفه من أهل اللغة ، أو يرجع إلى أهل اللغة إن وثق بقولهم ، أو يعتمد على ما يتبادر إلى ذهنه من معنى مدلول لهذا اللفظ. ولذلك لا تدخل مثل هذه الدلالات الخاصّة في علم الأصول ، فهي وإن كان لها تأثير في استنباط الحكم الشرعي إلا أنّها خارجة عن موضوع علم الأصول ؛ لأنّ موضوعه كما تقدّم هو الأدلّة والعناصر المشتركة ، وهي التي لها صلاحيّة للاستنباط في كلّ الأبواب الفقهيّة. وأمّا هذه الدلالات فهي تقع في طريق الاستنباط بوصفها بحثا فقهيّا من قبيل دلالة كلمة :

٢٧١

( الصعيد ) ، فإنّ البحث عن مدلول هذه الكلمة ليس أصوليّا ؛ لأنّ كلمة ( الصعيد ) ليس لها قابليّة للجريان في كلّ الأبواب ، وإنّما تختصّ في باب الصلاة والتيمّم مثلا. ولذلك كان البحث عنها في ذمّة أهل اللغة فيرجع الفقيه إليهم ، أو يبحث هو نفسه عنها إن كان من أهل اللغة ، أو اعتمد على التبادر.

الدلالات المشتركة : هي الدلالات العامّة التي تشكّل عناصر مشتركة في عمليّة الاستنباط في مختلف الأبواب الفقهيّة بحيث تكون لها الصلاحيّة للجريان والتطبيق في كلّ الأبواب على فرض وقوعها فيها. فيقع البحث الأصولي حول دلالتها إن كانت غامضة عند أهل اللغة ، أو يبحث في تحليل وكنه هذه الدلالة إن كانت معلومة عند أهل اللغة.

وهذا من قبيل دلالة صيغة ( افعل ) على الوجوب ، فإنّ اللغوي يذكر أنّ هذه الصيغة تدلّ على الوجوب ، إلا أنّ تحليل هذه الدلالة وتفسيرها وهل هي وضعا أو عقلا أو إطلاقا؟ فهذا لا يستفاد من أهل اللغة مع أنّ ذلك له أهميّة كبيرة في كيفيّة الاستفادة من هذه الصيغة ، مضافا إلى أنّ هذه الصيغة تشكّل عنصرا مشتركا بحيث إنّها إذا وقعت في أي باب فقهي كانت لها الصلاحيّة لاستنباط الحكم الشرعي بالوجوب. وهكذا الحال بالنسبة لدلالة اسم الجنس الخالي من القيد على إرادة المطلق ، كما في قولنا : ( أكرم العالم ) فإنّ اسم الجنس وهو كلمة العالم لم تقيّد بقيد ، فيستدلّ على كون المراد هو الطبيعة بما هي هي المساوقة للإطلاق ، فإنّ هذه الدلالة على الإطلاق هل هي بقرينة الحكمة أو هي بالوضع بأن يكون اسم الجنس موضوعا للطبيعة المطلقة لغة؟ فإنّ ذلك له علاقة وطيدة في الاستنباط فيما إذا وردت هذه الكلمة في مختلف الأبواب.

وقد يقال : إنّ غرض الأصولي إنّما هو تعيين ما يدلّ عليه اللفظ من معنى أو ما هو المعنى الظاهر للفظ عند تعدّد معانيه لغة ، وإثبات هذا الغرض إنّما يكون عادة بنقل أهل اللغة ، أو بالتبادر الذي هو عمليّة عفويّة يمارسها كلّ إنسان بلا حاجة إلى تعمّل ومزيد عناية ، فأي مجال يبقى للبحث العلمي ولإعمال الصناعة والتدقيق في هذه المسائل لكي يتولّى ذلك علم الأصول؟!

قد يشكل على ما ذكرناه من كون الدلالات المشتركة يبحث عنها علم الأصول

٢٧٢

لكونها عناصر مشتركة بأنّ الغرض منها تعيين المعنى المراد منها ، أو تعيين المعنى الظاهر فيما إذا كان لها عدّة معان في اللغة. وليس هناك غرض آخر للأصولي من بحث هذه الدلالات المشتركة ، فهي كالدلالات الخاصّة يرجع فيها إلى أهل اللغة أو إلى التبادر. فالبحث عن كون صيغة ( افعل ) دالّة على الوجوب ، أو البحث عن كون اسم الجنس الخالي من القيد يدلّ على الإطلاق الغرض من ذلك أصوليّا هو إثبات أنّ صيغة ( افعل ) ظاهرة في الوجوب لا الاستحباب ، وإثبات أنّ اسم الجنس دالّ على الإطلاق.

وهذان البحثان يمكن الرجوع فيهما إلى أهل اللغة إن كان يثق الفقيه بنقلهم ، أو ببحثه كذلك بوصفه من أهل اللغة إن كان عالما باللغة ، أو يرجع إلى التبادر ؛ لأنّه يعيّن المعنى الظاهر والمدلول عليه من اللفظ. وقد تقدّم أنّ التبادر عمليّة عفويّة يمارسها كلّ إنسان من أهل اللغة والمحاورة ولا تحتاج إلى عناية ومئونة زائدة.

وحينئذ فما هو الداعي والغرض للأصولي من بحثها في علم الأصول وإتعاب نفسه تحليلا وتدقيقا في أنّ الظاهر هو الوجوب من صيغة الأمر أو أنّ اسم الجنس يدلّ على الإطلاق؟! بل إنّ البحث عنها كذلك ليس إلا تكرارا لغوا وتحصيلا للحاصل.

والتحقيق : أنّ البحوث اللفظية التي يتناولها علم الأصول على قسمين : أحدهما البحوث اللغويّة ، والآخر البحوث التحليليّة.

والجواب عن هذا الإشكال : أنّ البحوث اللفظيّة التي يتناولها علم الأصول لم يبحث عنها في اللغة : إمّا من باب الإهمال والتقصير ، أو من باب خروجها عن موضوع اللغة. ولأجل توضيح ذلك نذكر هذه المقدّمة :

إنّ البحث عن صيغة ( افعل ) أو عن اسم الجنس ونحوهما يمرّ في عدّة مراحل من البحث ، وهي :

١ ـ البحث عن مدلول هذه الكلمة وتحديد المعنى المستفاد منها ، وهذا بحث لغوي يرجع فيه إلى أهل اللغة أو التبادر.

٢ ـ البحث عن المصاديق والموضوع والأفراد الخارجيّة لهذه الكلمة والمفهوم ، وهذا بحث علمي طبيعي تتولاّه العلوم الطبيعيّة التجريبيّة.

٣ ـ البحث عن حقيقة وكنه وجوهر هذا المفهوم الموجود في الخارج ، وهذا بحث فلسفي يتولاّه فقه اللغة أو فلسفة اللغة.

٢٧٣

٤ ـ البحث عن المفهوم وتحليله بما هو هو بقطع النظر عن وجوده الخارجي ، بمعنى البحث عمّا يتألّف منه هذا المفهوم ذاتا أو عرضا ، وهذا البحث يتولاّه علم المنطق.

٥ ـ البحث عن حقيقة وجوهر هذا المفهوم بما هو حاك وكاشف عن الخارج ، أي البحث عن هذا المفهوم المتصوّر في الذهن بما هو حاك عن الخارج ، فالمعنى لهذا المفهوم متصوّر ذهنا إلا أنّ مطابقته للخارج وتفسير هذه المطابقة وتحليلها غير واضحة. وهذا البحث لم يتعرّض له أحد من العلوم المذكورة لا اللغة ولا المنطق ولا الفلسفة ولا الطبيعة ، ولذلك كان من واجب الأصولي التعرّض لهذا البحث لما له من علاقة وطيدة وارتباط وثيق في عمليّة الاستنباط. فإنّ تحليل هذا المفهوم الذهني وكيفيّة ارتباطه بالخارج وحكايته عنه يوصلنا إلى المعرفة الدقيقة للمعنى الموضوع له هذا اللفظ ، أو المعنى الذي يدلّ عليه اللفظ وإن لم يكن موضوعا له لغة.

وحينئذ يكون للبحث الأصولي فائدة كبيرة جدّا حول هذه الألفاظ ؛ لأنّها ترتبط مباشرة في الاستنباط بوصفها عناصر مشتركة.

ولتفصيل ذلك نقول : إنّ البحوث اللفظيّة على قسمين :

الأوّل : البحوث اللغويّة : وهي البحث عن مدلول الكلمة واكتشاف معانيها ، أو تفسير هذه المعاني والكشف عنها.

الثاني : البحوث التحليليّة : وهي البحث عن كيفيّة نشوء هذا المعنى بعد معرفته وتحليل ذلك.

أمّا البحوث اللغويّة : فهي بحوث يراد بها اكتشاف دلالة اللفظ على معنى معيّن ، من قبيل البحث عن دلالة صيغة الأمر على الوجوب ، ودلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم.

البحوث اللغويّة التي يبحثها الأصولي لأجل اكتشاف دلالة اللفظ على المعنى المعيّن تنقسم إلى قسمين : الاكتشاف المحض والاكتشاف التفسيري. فصيغة الأمر هل تدلّ على الوجوب وكيف تدلّ على الوجوب؟

والجملة الشرطيّة التي تدلّ على المفهوم يراد اكتشاف وتفسير هذه الدلالة الثابتة وجدانا وما هو نوع الربط الذي يفيد المفهوم؟

وأمّا البحوث التحليليّة فيفترض فيها مسبقا أنّ معنى الكلام معيّن ودلالة الكلام

٢٧٤

عليه واضحة ، غير أنّ هذا المعنى مستفاد من مجموع أجزاء الكلام على طريقة تعدّد الدالّ والمدلول ، فكلّ جزء من المعنى يقابله جزء في الكلام.

ومن هنا قد يكون ما يقابل بعض أجزاء الكلام من أجزاء المعنى واضحا ، ولكن ما يقابل بعضها الآخر غير واضح ، فيبحث بحثا تحليليّا عن تعيين المقابل.

البحوث التحليليّة هي أن يكون اللفظ دالاّ على المعنى ولا شكّ فيه ، والكلام المؤلّف من مجموعة أجزاء واضح المعنى أيضا على طريقة تعدّد الدالّ والمدلول ، فكلّ جزء من المعنى له جزء من اللفظ ، فمجموع المعنى يستفاد من مجموع الكلام.

غير أنّ هذه المعاني التي يقابلها ألفاظ بعضها واضح وبعضها الآخر فيه غموض ، ولذلك يأتي البحث التحليلي في علم الأصول ليكشف القناع عن هذا الغموض ، وأنّ هذا اللفظ كيف يمكنه أن يدلّ على ذاك المعنى بعد أن ثبت كونه دالاّ عليه بشكل إجمالي؟ فيبحث في تحليل هذه الدلالة وكيفيّة ثبوتها.

ومثال ذلك : البحث عن مدلول الحرف والمعاني الحرفيّة ، فإنّنا حين نقول : ( زيد في الدار ) نفهم معنى الكلام بوضوح ، ونستطيع بسهولة أن ندرك ما يقابل كلمة ( زيد ) وما يقابل كلمة ( دار ) ، وأمّا ما يقابل كلمة ( في ) فلا يخلو من غموض ، ومن أجل ذلك يقع البحث في معنى الحرف ، وهو ليس بحثا لغويّا ؛ إذ لا يوجد فيمن يفهم العربيّة من لا يتصوّر معنى ( في ) ضمن تصوّره لمدلول جملة ( زيد في الدار ) ، وإنّما هو بحث تحليلي بالمعنى الذي ذكرناه.

من البحوث التحليليّة التي يراد فيها معرفة وتحليل دلالة اللفظ على المعنى بعد معرفة المعنى الحروف والمعاني الحرفيّة.

فمثلا جملة ( زيد في الدار ) تدلّ بمجموعها على معنى واضح ، وهو أنّ زيدا داخل الدار وموجود فيها. وكذلك فإنّ هذا المعنى المستفاد يوجد في الجملة ما يدلّ كلّ جزء فيها من اللفظ على جزء من المعنى على طريقة تعدّد الدالّ والمدلول. فكلمة ( زيد ) تدلّ بوضوح على ذاك الشخص المعيّن ، وكلمة ( الدار ) تدلّ بوضوح أيضا على ذاك المبنى المعروف. وأمّا كلمة ( في ) الموجودة في الجملة والتي يقابلها جزء من المعنى المستفاد من مجموع الكلام يوجد غموض في دلالتها على الظرفيّة ، فهي تدلّ على الظرفيّة ولكن دلالتها على الظرفيّة ليست بنحو واضح ؛ لأنّ الظرفيّة كمعنى اسمي

٢٧٥

ليس مرادفا لكلمة ( في ) بحيث لا يمكن استعمال أحدهما مكان الآخر ، فكيف دلّت كلمة ( في ) على الظرفيّة إذا؟

ومن هنا يكون البحث حول مدلول كلمة ( في ) على الظرفيّة وفرقها عن استعمال كلمة ( الظرفيّة ) من مباحث علم الأصول ؛ لأنّ هذا البحث يرتبط ارتباطا وثيقا في عمليّة الاستنباط فيما إذا وردت كلمة ( في ) في دليل شرعي ، إذ توجد ثمرات وفوائد عمليّة كما سيأتي في محلّه. فإنّ هذه المعاني الحرفيّة هل الوضع فيها عامّ والموضوع له عامّ أو أنّ الوضع عامّ والموضوع له خاصّ؟ والثمرة هي أنّه هل يمكن الإطلاق فيها أو لا؟

وهكذا الحالة بالنسبة لكثير من البحوث كهيئات الجمل التامّة والناقصة ، فإنّ المعنى مختلف فيهما مع أنّ الموادّ التي تتألّف منها الجملتان قد تكون واحدة ، فكيف حصل الاختلاف وما هو المعنى الذي تدلّ عليه هذه الهيئات تفصيلا؟

فإنّ كلّ هذه البحوث لم يتعرّض لها أهل اللغة مع كونها ذا أهميّة في علم الأصول.

ومن الواضح أنّ البحث التحليلي بهذا المعنى لا يرجع فيه إلى مجرّد التبادر أو نصّ علماء اللغة ، بل هو بحث علمي تولاّه علم الأصول في حدود ما يترتّب عليه أثر في عمليّة الاستنباط ، على ما يأتي (١) إن شاء الله تعالى.

وهذا البحث التحليلي لمدلول المعاني لا يمكن الرجوع فيه إلى أهل اللغة ؛ لأنّهم لم يبحثوا ذلك ، ولا يمكن الاعتماد فيه على التبادر ؛ لأنّه عمليّة عفويّة لتعيين المعنى المدلول من اللفظ أو الظاهر عند تعدّد المعاني. ونحن لا نشكّ في المعنى إجمالا ولكن نريد أن نتبيّن حقيقة هذا المعنى ، وكيف يدلّ عليه اللفظ. وهذا البحث العلمي التحليلي تولاّه علم الأصول بالحدود التي يترتّب عليها أثر عملي في عمليّة الاستنباط ، إذ لا يراد من البحث التحليلي هنا التوسّع في كيفيّة نشوء العلاقة بين اللفظ والمعنى وكيفيّة الارتباط بينهما ، وما هو منشأ العلاقة والارتباط ، وكيف تمّ جعل هذه العلاقة اللغويّة ، فإنّ ذلك موكول إلى فلسفة اللغة وفقهها.

فأهل اللغة مثلا قالوا : إنّ الجملة التامّة ما يحسن السكوت عليها ، بينما الجملة الناقصة لا يحسن السكوت عليها.

__________________

(١) في نهاية بحث المعاني الحرفيّة ، تحت عنوان : الثمرة.

٢٧٦

وهذا المقدار لا يكفي لمعرفة الفارق الجوهري بين الجملتين ؛ إذ متى يحسن السكوت ومتى لا يحسن السكوت؟ وكيف كان السكوت حسنا في هذه دون تلك؟ وما هو المعنى الموجود في كلّ من الجملتين اللتين قد تتّفقان في الألفاظ مع اختلافهما في المعنى؟

وأمّا البحوث اللغويّة فهي يمكن أن تقع موضعا للبحث العلمي في إحدى الحالات التالية :

ذكرنا أنّ المعنى ليس واضحا في البحوث اللغويّة ، بل يراد معرفته واكتشافه وهي على قسمين :

البحوث اللغويّة الاكتشافيّة المحضة أي اكتشاف المعنى فقط.

والبحوث اللغويّة الاكتشافيّة التفسيريّة أي اكتشاف المعنى مع بيان المناط والملاك الموجود فيه.

الحالة الأولى : أن تكون هناك دلالة كلّيّة كقرينة الحكمة ، ويراد إثبات ظهور الكلام في معنى كتطبيق لتلك القرينة الكلّيّة.

الحالة الأولى من البحوث اللغويّة هي البحوث اللغويّة الاكتشافيّة المحضة ، وذلك اعتمادا على دلالة كلّيّة كقرينة الحكمة ، فإنّ هذه القرينة إذا تمّت مقدّماتها جميعا في مورد تمّ اكتشاف أنّ هذا المورد يدلّ على الإطلاق. فنحن نريد أن نطبّق هذه الدلالة الكلّيّة لإثبات ظهور الكلام في المعنى المراد اكتشافه بحيث يكون تطبيقا وصغرى لهذه الدلالة الكلّيّة.

فهل هذه الصيغة المعيّنة أو هذه الكلمة الفلانيّة ظاهرة في المعنى المعيّن الذي هو الإطلاق او ليست ظاهرة فيه؟ فإثبات ذلك واكتشاف أنّ المعنى المعيّن يمكن استفادته من اللفظ أو من الصيغة يمكن إثباته بواسطة هذه الدلالة الكلّيّة التي هي قرينة الحكمة ، وذلك فيما إذا كانت مقدّماتها موجودة في هذه الصيغة أو الكلمة.

فعندئذ نحقّق صغرى ومصداقا تطبيقيّا لهذه القاعدة ، فتكون هذه الدلالة الكلّيّة دالّة على المعنى المراد اكتشافه من باب تطبيق القاعدة الكلّيّة على مصاديقها الخارجيّة.

ومثال ذلك : أن يقال بأنّ ظاهر الأمر هو الطلب النفسي لا الغيري ، والتعييني

٢٧٧

لا التخييري ، تمسّكا بالإطلاق وتطبيقا لقرينة الحكمة عن طريق إثبات أنّ الطلب الغيري والتخييري طلب مقيّد فينفى بتلك القرينة ، كما تقدّم في الحلقة السابقة (١) ، فإنّ هذا البحث في التطبيق يستدعي النظر العلمي في حقيقة الطلب الغيري والطلب التخييري ، وإثبات أنّهما من الطلب المقيّد.

مثال ذلك : إثبات أنّ الطلب الظاهر من الأمر هو الطلب الوجوبي لا الاستحبابي ، والطلب النفسي لا الغيري ، والطلب التعييني لا التخييري ، والطلب العيني لا الكفائي. وذلك عن طريق التمسّك بدلالة كلّيّة وهي قرينة الحكمة بحيث تكون مقدّماتها تامّة في الوجوب النفسي والتعييني والعيني وغير تامّة في مقابلاتها ، فإذا تمّت قرينة الحكمة في تلك الموارد أمكن التمسّك بها وتطبيقها عليها لإثبات المذكورات من باب كونها مصداقا للقاعدة الكلّيّة.

إلا أنّ هذا الأمر يتوقّف أوّلا على إثبات أنّ الطلب الوجوبي وأخواته ليس طلبا مقيّدا ، وثانيا إثبات أنّ الطلب الاستحبابي وأخواته من الطلب المقيّد بحيث يحتاج فيه إلى مئونة زائدة وقرينة خاصّة تدلّ عليه ، فإذا ثبت ذلك جرت قرينة الحكمة لنفي القيود في حالة الشكّ في وجودها مع عدم دليل عليها ، وبذلك يثبت الإطلاق في الأمر والذي يدلّ على النفسي و ...

وإثبات ذلك أيضا يحتاج إلى البحث عن حقيقة الطلب الغيري والتخييري ، والاستحبابي والكفائي ، لنرى أنّه هل فيها مئونة زائدة على أصل الطلب بحيث إنّ إرادتها تحتاج إلى دليل خاصّ وقرينة معيّنة في لسان الدليل أو ليس فيها ذلك؟

وهذا بحث علمي يتولاّه علم الأصول لإثبات أنّها من الطلب المطلق أو من الطلب المقيّد.

فالطلب مدلول للأمر وهذا الطلب له أقسام متعدّدة وهي :

الطلب الوجوبي وهو شدّة الطلب ، ويقابله الطلب الاستحبابي وهو الطلب الضعيف.

الطلب النفسي وهو وجوب الشيء مستقلا عن غيره ، ويقابله الطلب الغيري وهو وجوب الشيء تبعا لغيره من باب الوجوب المقدّمي.

__________________

(١) في بحث الإطلاق ، تحت عنوان : بعض التطبيقات لقرينة الحكمة.

٢٧٨

الطلب التعييني وهو وجوب الشيء بعينه ولا يجزي غيره عنه ، ويقابله الطلب التخييري وهو وجوب هذا أو ذاك على نحو البدليّة.

الطلب العيني وهو وجوب الشيء على الشخص نفسه ، ويقابله الطلب الكفائي أي وجوب الشيء على الجميع ويسقط بفعل بعضهم.

فهنا بواسطة قرينة الحكمة يثبت الطلب بنحو مطلق على أساس نفي القيود الزائدة المشكوك وجودها كما سيأتي. وبهذا الإطلاق نثبت الطلب الوجوبي والتعييني والعيني والنفسي دون تلك الأقسام ؛ لأنّ تلك الأقسام تحتاج إلى مئونة زائدة لا بدّ من ذكرها في الكلام فعدم ذكرها يدلّ على عدم إرادتها.

وأمّا كيف أنّ تلك الأقسام كانت من الطلب المطلق ، وهذه من الطلب المقيّد فهذا بحث يتولاّه علم الأصول لاكتشاف الإطلاق من التقييد.

الحالة الثانية : أن يكون المعنى متبادرا عرفا ومفروغا عن فهمه من اللفظ ، وإنّما يقع البحث العلمي في تفسير هذه الدلالة ، وهل هي تنشأ من الوضع أو من قرينة الحكمة أو من منشأ ثالث؟

الحالة الثانية من البحوث اللغويّة هي البحوث اللغويّة التفسيريّة بمعنى أنّ المعنى المدلول عليه من اللفظ واضح لا إشكال فيه ، استنادا إلى أهل اللغة أو إلى التبادر ، فليس هناك بحث في اكتشاف هذا المعنى ؛ لأنّه مفهوم ومفروغ عنه. وإنّما يقع البحث في تفسير هذه الدلالة وكيف كان هذا اللفظ دالاّ على المعنى المذكور؟ هل هو عن طريق الوضع بأن كان اللفظ موضوعا لغة لهذا المعنى ، أو هو عن طريق قرينة الحكمة ، بأن كان اللفظ دالاّ على الجامع بين هذا المعنى ومعنى آخر ، وكانت دلالته على المعنى الآخر فيها مئونة زائدة منتفية بقرينة الحكمة ، أو أنّ العقل هو الذي يحكم بأنّ اللفظ دالّ على المعنى المذكور؟ فهذا بحث علمي أصولي يختلف الأمر والثمرة فيه باختلاف هذا البحث التفسيري.

ومثال ذلك : أنّه لا إشكال في تبادر المطلق من اسم الجنس مع عدم ذكر القيد ، ولكن يبحث في علم الأصول أنّ هذا هل هو من أجل وضع اللفظ للمطلق ، أو من أجل دالّ آخر كقرينة الحكمة؟ وهذا بحث لا يكفي فيه مجرّد الإحساس بالتبادر الساذج ، بل لا بدّ من جمع ظواهر عديدة ليستكشف من خلالها ملاك الدلالة.

٢٧٩

مثال ذلك : أنّ اسم الجنس الخالي من القيد يدلّ على الإطلاق للتبادر ، فقولنا : ( أكرم العالم ) يتبادر أنّه مطلق العالم وليس مختصّا بفرد دون آخر ، وهذا نحسّ به وجدانا وهو معنى التبادر ؛ إذ هو عمليّة عفويّة ساذجة تحصل لكلّ من كان من أهل اللغة. بخلاف قولنا : ( أكرم العالم العادل ) فإنّه لا إشكال في دلالته على التقييد وإرادة بعض الأفراد من العالم لا جميع الأفراد.

إلا أنّ الكلام يقع في أنّ هذا الإطلاق المستفاد من اسم الجنس الخالي من القيد ما هو الملاك والسبب فيه؟ وهل الإطلاق مستفاد لأجل كونه موضوعا لغة ، أو لأجل حكم العقل بذلك ، أو لأجل تطبيق قرينة الحكمة؟

والجواب عن هذا السؤال لا يكفي فيه مجرّد التبادر الساذج ؛ لأنّه يعيّن المعنى فقط ولا يفيدنا في معرفة واستنتاج الملاك والمناط لهذا المعنى بذاك اللفظ.

ولذلك يكون البحث العلمي الأصولي هو الجواب عن هذا التساؤل ، والذي له ثمرة مهمّة في عمليّة الاستنباط بوصف اسم الجنس عنصرا عامّا مشتركا ، ودلالته على الإطلاق وضعا تختلف عنها عقلا أو بقرينة الحكمة.

وحينئذ لا بدّ من البحث العلمي ، وهو يستند على جمع عدد من الظواهر المختلفة التي ورد فيها اسم الجنس ليستكشف من خلالها ملاك دلالته على الإطلاق ؛ كما هو الحال في العلوم التجريبيّة حيث يتمّ تطبيق النظريّة المفروضة على عدد من الظواهر في أوضاع مختلفة زمانا ومكانا وظروفا ، فإن كانت النتيجة واحدة في الجميع كانت النظريّة صحيحة ، وإن اختلفت في مورد لم تكن صحيحة.

وهنا نجمع عددا من الظواهر التي ورد فيها اسم الجنس في مختلف الحالات فمثلا :

١ ـ استعمال اسم الجنس مع القيد هل يدلّ على المجازيّة أم لا؟

والجواب : أنّه لا يدلّ على المجاز ، فهذا دليل على أنّ اسم الجنس ليس موضوعا لغة للإطلاق ، وإلا لكان استعماله في غير معناه الذي وضع له مجازا.

٢ ـ استعمال اسم الجنس في مقام الإبهام والإجمال هل يدلّ على الإطلاق؟

والجواب : أنّه لا يدلّ على الإطلاق ، وهذا دليل على أنّ اسم الجنس في حالات الإجمال وعدم البيان لا يدلّ على الإطلاق.

٢٨٠