شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

الثمرة

قد يقال : إنّ من ثمرات هذا البحث أنّ الحروف بالمعنى الأصولي الشامل للهيئات إذا ثبت أنّها موضوعة بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ فهذا يعني أنّ المعنى الحرفي خاصّ وجزئي. وعليه ، فلا يمكن تقييده بقرينة خاصّة ، ولا إثبات إطلاقه بقرينة الحكمة العامّة ؛ لأنّ التقييد والإطلاق من شئون المفهوم الكلّي القابل للتحصيص.

من جملة الثمرات التي ذكروها في الفرق بين المعاني الاسميّة والمعاني الحرفيّة هذه الثمرة ، وهي :

إنّ الحروف كمصطلح أصولي تشمل الحروف وهيئات الجمل والهيئات الإفراديّة ، وقد قلنا : إنّها موضوعة للنسبة وكلّ نسبة متقوّمة بطرفيها. وهذا يعني أنّ الحروف موضوعة للنسبة الخاصّة فتكون من باب الوضع العامّ ؛ لأنّ الحرف يوضع بإزاء العنوان العرضي الاسمي الجامع لفظا بين أنحاء النسب المختلفة ، ولكن الموضوع له الخاصّ ؛ لأنّ الحروف موضوعة بإزاء النسبة الخارجيّة أو الذهنيّة المتقوّمة بطرفيها والتي يستحيل تصوّرها من دونهما.

وهذا يعني أنّ الحروف معان جزئيّة لا تقبل الصدق على كثيرين بخلاف المعاني الاسميّة ، فإنّها قد تقبل الصدق على كثيرين كما في أسماء الأجناس.

وحينئذ نقول : إنّ الحروف لا تقبل التقييد ولا الإطلاق بخلاف الأسماء ، فإنّها تقبل التقييد والإطلاق. والوجه في ذلك أنّ الأسماء كالعالم يمكن تقييده بذكر قرينة خاصّة ؛ لأنّه مفهوم قابل للتحصيص ومفهوم واسع يشمل كلّ ذات لها العلم والتي هي حصص كثيرة ، ويمكن الإطلاق فيه بأن لا يذكر فيه القيد فتجري فيه قرينة الحكمة العامّة التي هي قرينة كلّيّة عامّة تجري في كلّ مورد تتمّ فيه أركانها ( وهي أن يكون المتكلّم في مقام البيان والتفهيم لتمام مراده الجدّي ولم يذكر قرينة على التقييد ، فهو يريد الإطلاق إذا ).

٣٤١

بينما الحروف ( من ) و ( إلى ) و ( افعل ) و ( لا تفعل ) ونحو ذلك فهي موضوعة لمعنى خاصّ وجزئي ، وهو لا يقبل الصدق على كثيرين ؛ لأنّه مفهوم ومعنى ضيق لا ينطبق إلا على نفسه. ولذلك لا يقبل التقييد بقرينة خاصّة ؛ لأنّه غير قابل للتحصيص وليس له أفراد عديدة ، وليس قابلا للإطلاق ؛ لأنّه لا ينطبق إلا على نفسه فقط ولا يشمل غيره. وبهذا ظهر أنّ التقييد والإطلاق من شئون المفهوم الكلّي القابل للتحصيص وهو الاسم لا الحرف بالمصطلح الأصولي.

وممّا يترتّب على ذلك أنّ القيد إذا كان راجعا في ظاهر الكلام إلى مفاد الهيئة فلا بدّ من تأويله ، كما في الجملة الشرطيّة فإنّ ظاهرها كون الشرط قيدا لمدلول هيئة الجزاء ، وحيث إنّ هيئة الجزاء موضوعة لمعنى حرفي وهو جزئي فلا يمكن تقييده ، فلا بدّ من تأويل الظهور المذكور.

وهنا إشكال : وهو أنّ القيد إذا كان راجعا إلى مفاد الهيئة فلا بدّ من تأويله وإرجاعه إلى المادّة ؛ لأنّ الهيئة غير قابلة للإطلاق والتقييد ، إذ هي معنى حرفي كما تقدّم ، والمعاني الحرفيّة موضوعة لمعنى خاصّ جزئي غير قابل للتحصيص ولا ينطبق على كثيرين. ولذلك لا يمكن تقييده ؛ لأنّه لا يكون فيه الإطلاق إذ الإطلاق والتقييد متقابلان تقابل الملكة والعدم فكلّ مورد يصحّ فيه الإطلاق يصحّ فيه التقييد أيضا وكلّ مورد لا يصحّ فيه الإطلاق فلا يصحّ فيه التقييد. وحينئذ لا بدّ أن نلتزم بالتأويل فرارا من هذا المحذور.

فالجملة الشرطيّة مثلا ظاهرها تعليق مفاد الهيئة والجزاء والذي هو الوجوب على الشرط ، فيكون الشرط كما هو ظاهر الجملة قيدا في الوجوب ، ولكن حيث إنّ الوجوب المدلول عليه بهيئة الجزاء معنى حرفي وهو خاصّ وجزئي فهو غير قابل للتقييد ، كما أنّه ليس قابلا للإطلاق.

وحينئذ لا بدّ من الالتزام بالتأويل ومخالفة ظاهر الجملة وذلك بإرجاع القيد ، أي الشرط إلى المادّة أي متعلّق مفاد الهيئة والذي هو الواجب ؛ لأنّه مفهوم اسمي قابل للإطلاق والتقييد فيكون الواجب مقيّدا لا الوجوب.

فإذا قيل : ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) دلّ الكلام بظهوره الأوّلي على أنّ المقيّد بالمجيء مدلول هيئة الأمر في الجزاء ، وهو الطلب والوجوب الملحوظ بنحو المعنى الحرفي فيكون الوجوب مشروطا.

٣٤٢

مثال ذلك : الجملة الشرطيّة ( إذا جاءك زيد فأكرمه ) ، فإنّ ظاهرها الأوّلي كون الشرط وهو المجيء قيدا لهيئة الجزاء ( أكرمه ) ، وحيث إنّ مفاد هيئة الجزاء ومدلولها وهو الوجوب أو الطلب معنى حرفي وهو خاصّ وجزئي فيأتي المحذور والإشكال ، إذ كيف يمكن أن يكون الوجوب أو الطلب الملحوظ بنحو المعنى الحرفي وهو الخاص ، والجزئي مقيّدا بالمجيء؟ مع أنّ كونه معنى حرفيّا معناه أنّه غير قابل للإطلاق ولا للتقييد ، فيكون هذا الظاهر الأوّلي من الجملة غير ممكن وفيه المحذور المذكور ، ولذلك كان لا بدّ من التأويل بالنحو التالي :

ولكن حيث يستحيل التقييد في المعاني الحرفيّة فلا بدّ من إرجاع الشرط إلى متعلّق الوجوب لا إلى الوجوب نفسه ، فيكون الوجوب مطلقا ومتعلّقه مقيّدا بزمان المجيء على نحو الواجب المعلّق ، الذي تقدّم الحديث عن تصويره في الحلقة السابقة (١).

وحلّ الإشكال أن نلتزم بالتأويل فنقول : إنّه حيث كان التقييد مستحيلا في المعاني الحرفيّة لكونها خاصّة وجزئيّة ومفهومها ضيّق ولا معنى لتضييق الضيّق في نفسه ، فنقول : إنّ هذا القيد وهو الشرط الذي بظاهره راجع إلى مدلول الهيئة وهو الوجوب لا بدّ من رفع اليد عنه ، وارجاعه إلى متعلّق الوجوب ، أي إلى الواجب والذي هو المادّة التي ركّبت فيها الهيئة أي الإكرام في المثال المذكور.

وحينئذ نقول : إنّ الوجوب الذي هو معنى حرفي ليس مقيّدا بالمجيء ، بل هو مطلق من هذه الناحية ، وإنّما المقيّد هو متعلّق الوجوب أي المادّة والواجب ، فيكون الإكرام الذي هو الواجب مقيّدا بزمان المجيء ؛ لأنّ الإكرام مفهوم اسمي كلّي واسع قابل التحصيص ، فإنّه يتحقّق مع المجيء وبدونه فيكون المطلوب هو الإكرام في زمان المجيء لا الإكرام مطلقا ، أي حصّة خاصّة من الإكرام لا مطلق الإكرام.

وبهذا يكون هذا التأويل من قبيل الواجب المعلّق لا الوجوب المشروط ، وقد تقدّم في الحلقة السابقة تصوير الواجب المعلّق وملخّصه : أن يكون القيد أو الشرط راجعا إلى المادّة ، والواجب كما في شرطيّة الطهارة في الصلاة ، فإنّ الطهارة شرط في الصلاة لا في وجوبها ، ولذلك يجب تحصيله ويكون في ذمّة المكلّف بخلاف

__________________

(١) في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : زمان الوجوب والواجب.

٣٤٣

الشروط الراجعة إلى الوجوب ، فإنّه لا يجب على المكلّف تحصيلها ، ولذلك كان مقامنا من قبيله ونحوه لا منه حقيقة.

ولكنّ الصحيح أنّ كون المعنى الحرفي جزئيّا ليس بمعنى ما لا يقبل الصدق على كثيرين لكي يستحيل فيه التقييد والإطلاق ، بل هو قابل لذلك تبعا لقابليّة طرفيه ، وإنّما هو جزئي بلحاظ خصوصيّة طرفيه ، بمعنى أنّ كلّ نسبة مرهونة بطرفيها ولا يمكن الحفاظ عليها مع تغيير طرفيها.

والصحيح عدم تماميّة الثمرة المذكورة ؛ لأنّها مبنيّة على كون المعنى الموضوع له في الحروف خاصّ وجزئي حقيقي لا يقبل الصدق على كثيرين ، فهو ضيّق لا يقبل الإطلاق ولا التقييد. إلا أنّ أصل هذا المبنى غير صحيح كما تقدّم ؛ لأنّ المراد من الخاصّ هنا ليس الجزئي الحقيقي ، وإنّما المراد منه الأخصّ ، أي المفهوم الأضيق دائرة من مفهوم آخر كالجزئي الإضافي.

فقولنا : المعنى الحرفي موضوع لمعنى خاصّ المقصود منه أنّه تارة يكون جزئيّا ، وذلك بلحاظ خصوصيّة الطرفين فإنّ كلّ نسبة متقوّمة بطرفيها ويستحيل سلبها عن طرفيها وتعقّلها بدونهما ؛ لأنّها إذا سلبت عنهما انعدمت النسبة ، وإذا تغيّر الطرفان صار هناك نسبة أخرى غيرها ، فالجزئيّة بهذا اللحاظ.

إلا أنّ هذا لا يمنع أن يكون المعنى الحرفي مفهوما كلّيّا ، وذلك تبعا لكلّيّة الطرفين وتعدّد صدقهما في الخارج على كثيرين ، فالطرفان مفهوم كلّي ينطبق على كثيرين في الخارج ، وإن كانا بلحاظ كلّ نسبة بخصوصها مقوّمين لها ويستحيل تعقّلها بدونهما ذهنا ، وهو معنى الجزئيّة.

وحينئذ نقول : إنّ المعنى الحرفي بلحاظ كلّيّة طرفيه في الخارج معنى كلّي قابل للإطلاق والتقييد ، ولذلك لا تتمّ الثمرة المذكورة ؛ لأنّه يمكن إرجاع الشرط في الجملة الشرطيّة إلى الجزاء. وكون هيئة الجزاء مقيّدة بالشرط فيكون الوجوب مشروطا ، ولا موجب للتأويل المذكور (١).

__________________

(١) هناك عدّة أجوبة على هذه الثمرة المذكورة أهمّها :

١ ـ على مسلك صاحب ( الكفاية ) : لا موضوع لهذه الثمرة ؛ لأنّه يقول بأنّ الوضع عامّ والموضوع له خاصّ أيضا. فلا مجال للإشكال على مبناه ، وإن كان أصل المبنى غير صحيح.

٣٤٤

__________________

٢ ـ على مسلك الأصفهاني : يقال : إنّ علّة الجزئي إمّا أن تكون فعليّة فيكون فعليّا ، وإمّا أن تكون مقدّرة الوجود ومفروضة فيكون معلّقا عليها. وعلى فرض تحقّقها ووجودها وهذا يعني أنّه قابل للتقييد ، لا بمعنى أنّ معناه يتضيّق ؛ إذ يستحيل ذلك لأنّه جزئي حقيقي ، بل بمعنى كون وجوده معلّقا على علّته.

٣ ـ على مسلك العراقي : يقال : إنّ الإطلاق والتقييد في المعنى الحرفي مستحيل بلحاظ الفرد ؛ لأنّه معنى جزئي حقيقي. وأمّا أحوال هذا الفرد فإنّه يمكن فيها التقييد والإطلاق ، فيجري الإطلاق الأحوالي والتقييد الأحوالي في المعنى الحرفي.

وهنا ثمرة أخرى غير تامّة : وهي أنّ المعنى الاسمي يمكن التمسّك بإطلاقه لإثبات كون الوجوب نفسيّا وعينيّا وتعيينيّا ومطلقا غير مشروط ، بخلاف المعنى الحرفي فإنّه لا إطلاق فيه ليتمسّك به لإثبات ذلك ؛ لأنّه جزئي يمتنع فيه الإطلاق والتقييد.

وعدم التماميّة اتّضحت ممّا سبق ؛ لأنّ الخاصّ هنا بمعنى الأخصّ لا بمعنى الجزئي الحقيقي.

نعم توجد ثمرة تامّة وهي : أنّه يوجد فرق بين قولنا : ( وجوب الصدقة معلّق على الغني ) ، وبين قولنا : ( وجوب الصدقة المعلّق على الغني ثابت ). ففي الحالة الأولى إذا شككنا أنّ التعليق لوجوب الصدق هل هو على طبيعي الغني أو على حصّة خاصّة من الغني كالغني العادل أو المؤمن مثلا؟ فهنا يمكننا التمسّك بالإطلاق وقرينة الحكمة لإثبات الطبيعي ونفي القيود المتوهّمة والمشكوكة ؛ لأنّه لم يذكرها ، ولأنّ الغني مفهوم اسمي قابل للتقييد والإطلاق.

وأمّا في الحالة الثانية فإذا شككنا في كون الوجوب معلّقا على طبيعيّ الغني أو على بعض أفراده وحصصه ، فلا يمكننا التمسّك بالإطلاق وقرينة الحكمة ، مع أنّ الغني مفهوم اسمي قابل للإطلاق والتقييد أيضا ، فما الفرق بين الموردين إذا؟

والفرق بينهما هو أنّ الجملة الأولى فيها نسبة تامّة متقوّمة بين طرفين ظاهرين في صقع الذهن بارزين هما : ( وجوب الصدقة ) و ( الغني ) ، فيمكننا التمسّك بالإطلاق لإثبات كلّي الوجوب وطبيعيّه ولإثبات كلّي الغني وطبيعيّه.

بينما الجملة الثانية فيها نسبة ناقصة ، وقد تقدّم أنّ النسبة الناقصة اندماجيّة تحليليّة ليست بارزة في صقع الذهن بين الطرفين ، وإنّما تجعل الطرفين طرفا واحدا وحصّة واحدة ، وهي هنا ( وجوب الصدقة المعلّق على الغني ) ، وهذا طرف واحد ليس فيه نسبة بين شيئين ظاهرا وليس بارزا ، وإنّما هناك حصّة خاصّة من وجوب الصدقة وهو الوجوب المعلّق على الغني.

ولذلك لا يمكننا التمسّك بقرينة الحكمة هنا ؛ لأنّه يوجد حصّة خاصّة معيّنة ولا يوجد مفهوم اسمي كلّي ، فاختلّت إحدى مقدّمات الحكمة ؛ لأنّ المتكلّم ذكر القيد والحصّة الخاصّة ولم يقتصر على ذكر المفهوم الكلّي والطبيعي.

٣٤٥
٣٤٦

الأمر أو أدوات الطلب

٣٤٧
٣٤٨

الأمر أو أدوات الطلب

ينقسم ما يدلّ على الطلب إلى قسمين :

أحدهما ما يدلّ بلا عناية ، كمادّة الأمر وصيغته.

والآخر ما يدلّ بالعناية ، كالجملة الخبريّة المستعملة في مقام الطلب. فيقع الكلام في القسمين تباعا :

الأمر يدلّ على معان عديدة ، منها : الطلب ، والشيء ، والحادثة ، والغرض ؛ على نحو المشترك اللفظي.

والطلب يدلّ على معنيين : الطلب التكويني كطلب العطشان للماء ، والطلب التشريعي وهو تحريك الغير نحو المقصود.

فيلتقي الأمر والطلب في الطلب التشريعي أي إرسال الغير وتحريكه نحو المقصود ، فيصدق عليه عنوان الأمر وعنوان الطلب. وهذا يعني أنّ النسبة بين المفهومين العموم والخصوص من وجه.

ثمّ إنّ ما يدلّ على الطلب لغة يقسم إلى قسمين :

الأوّل : ما يدلّ على الطلب من دون عناية ولا يحتاج إلى قرينة زائدة ، كما في مادّة الأمر أو صيغته كقولنا : ( آمرك بالصلاة ) أو ( أقيموا الصلاة ) ، فإنّهما يدلاّن على الطلب لغة بلا إشكال وبلا حاجة إلى عناية وقرينة زائدة.

الثاني : ما يدلّ على الطلب مع وجود العناية والقرينة الزائدة ، بحيث لا يكون موضوعا لغة للطلب ، وإنّما دلّ على ذلك لأجل وجود قرينة لفظيّة أو حاليّة أو مقاميّة كانت لها الدلالة على الطلب. كما في الجملة الخبريّة المستعملة في مقام الطلب كقولنا : ( أعاد الصلاة ، أو يعيد صلاته ، أو صلاته باطلة ) في جواب من سأل عن حكم الصلاة في حالة مخصوصة ، فإنّ كون المتكلّم في مقام بيان الأحكام وتشريعها قرينة على أنّ المراد من

٣٤٩

الجملة الخبريّة هنا هو الإنشاء والطلب وجعل الحكم لا الإخبار والحكاية كما سيأتي.

القسم الأوّل : الطلب هو السعي نحو المقصود ، فإن كان سعيا مباشرا كالعطشان يتحرّك نحو الماء فهو طلب تكويني. وإن كان بتحريك الغير وتكليفه فهو طلب تشريعي.

الطلب لغة : هو السعي نحو المقصود.

وهو على قسمين :

الأوّل : الطلب التكويني ، وذلك بأن يكون السعي نحو المقصود سعيا مباشرا من نفس الطالب والمريد كما في العطشان الذي يطلب الماء ، فإنّه إذا سعى نحوه بنفسه وقام بتحصيله بتحرّك منه ذاتا كان طلبه للماء تكوينا. وبمعنى آخر أن يكون الطالب والمريد هو الذي يحصّل الغرض بنفسه ويتحرّك نحوه.

الثاني : الطلب التشريعي ، وذلك بأن يكون السعي نحو المقصود بتحريك الغير وتكليفه كما في أوامر السادة مع عبيدهم والرئيس مع المرءوسين ، فإنّه يحرّكهم ويدفعهم نحو تحقيق الغرض الذي يريده ويطلبه. فكان الطالب والمريد غير المتحرّك والساعي نحو تحصيل الغرض.

والطلب التشريعي بدوره يقسم إلى قسمين :

الأوّل : الطلب التشريعي من العالي حقيقة ، سواء كان متظاهرا في علوّه أم لم يكن متظاهرا في ذلك.

الثاني : الطلب التشريعي من العالي ادّعاء ، وهو من يتظاهر بالعلوّ مع كونه ليس عاليا حقيقة.

ولا شكّ في دلالة مادّة الأمر على الطلب بمفهومه الاسمي ، ولكن ليس كلّ طلب ، بل الطلب التشريعي من العالي.

ثمّ إنّ مادّة الأمر تدلّ على الطلب بمعنى كونها موضوعة لغة للطلب ، كما أنّها موضوعة لغيره على نحو الاشتراك اللفظي كما تقدّم.

إلا أنّ المادّة ليست موضوعة لمطلق الطلب الشامل للتكويني والتشريعي ، بل هي موضوعة للطلب التشريعي ، وكذلك للطلب التشريعي الذي يكون من العالي حقيقة لا العالي ادّعاء.

٣٥٠

فقوله : ( آمرك بالصلاة ) تدلّ مادّة الأمر لغة على الطلب التشريعي من العالي ، بنحو المعنى الاسمي ؛ وذلك لأنّ الطلب كمفهوم اسمي معناه السعي نحو المقصود والإرسال نحو المادّة ، والتشريعي معناه تحريك الغير وتكليفه ، فكلمة ( آمرك ) تدلّ على هذا المعنى كمفهوم اسمي ؛ لأنّ مادّة الأمر مفهوم اسمي وليست معنى حرفيّا ، حيث تقدّم في المعاني الحرفيّة أنّ المادّة مفهوم اسمي بخلاف الهيئة فإنّها معنى حرفي.

كما لا إشكال في دلالة صيغة الأمر على الطلب ؛ وذلك لأنّ مفاد الهيئة فيها هو النسبة الإرساليّة ، والإرسال ينتزع منه مفهوم الطلب ، حيث إنّ الإرسال سعيّ نحو المقصود من قبل المرسل.

ثمّ إنّه لا إشكال أيضا بأنّ صيغة الأمر ( افعل ) تدلّ على الطلب أيضا لكن لا بما هو معنى مفهوم اسمي ، بل بما هو معنى حرفي ؛ وذلك لأنّ مفاد الهيئة ( افعل ) هو النسبة التامّة المتحقّقة في الذهن بين المرسل والمرسل إليه. فهناك إذا نسبة تامّة إرساليّة تدلّ عليها صيغة ( افعل ) ؛ لأنّ الهيئة فيها معنى حرفي فهي تدلّ على النسبة حتما.

ثمّ إنّ هذه النسبة الإرساليّة ينتزع منها مفهوم الطلب ؛ وذلك لأنّ الإرسال معناه السعي نحو المقصود بإرسال الغير ، وهذا نفسه مفهوم الطلب ؛ لأنّ الطلب سعي نحو المقصود أيضا بتحريك الغير.

وبهذا يتبيّن أنّ الهيئة لصيغة الأمر ( افعل ) تدلّ على النسبة الإرساليّة ، وهذه النسبة الإرساليّة ينتزع منها مفهوم الطلب ؛ لأنّ الطلب والإرسال كلاهما سعيّ نحو المقصود من الغير إمّا بتحريكه وإمّا بإرساله.

فتكون الهيئة دالّة على الطلب بالدلالة التصوّريّة تبعا لدلالتها تصوّرا على منشأ انتزاعه.

وحينئذ تكون هيئة الأمر ( افعل ) التي تدلّ على النسبة الارساليّة تصوّرا ؛ لأنّها موضوعة لها تدلّ أيضا على الطلب بالدلالة التصوّريّة الوضعيّة ، وهذا يعني أنّها موضوعة لغة للدلالة على الطلب أيضا كمادّة الأمر.

غاية الأمر أنّ المادّة تدلّ على الطلب كمفهوم اسمي مباشرة وابتداء ، بحيث تكون المادّة موضوعة لغة للطلب ابتداء ومباشرة. بينما صيغة الأمر تدلّ على الطلب كنسبة من خلال دلالتها على النسبة الإرساليّة الموضوعة لها والتي هي منشأ الانتزاع للطلب ،

٣٥١

فتكون دالّة على الطلب بتوسّط دلالتها على النسبة الإرساليّة ؛ وذلك لأنّ النسبة الإرساليّة تستبطن الدلالة على الطلب ؛ لأنّ مفهوم الطلب ينتزع من مفهوم الإرسال.

فإنّه إذا تحقّق الإرسال بإرسال الغير نحو المرسل إليه انتزع العقل من ذلك الطلب ؛ لأنّ هذا المرسل يسعى نحو المقصود وهو المرسل إليه ، ولمّا كانت الهيئة دالّة تصوّرا على النسبة الإرساليّة فهي تدلّ تصوّرا على الطلب المستبطن بداخلها ؛ لأنّها منشأ انتزاعه ومن الواضح أنّ الدلالة التصوّريّة هي المدلول الوضعي ، فتكون الهيئة موضوعة لغة للدلالة على الطلب كنسبة.

كما أنّ الصيغة نفسها بلحاظ صدورها بداعي تحصيل المقصود تكون مصداقا حقيقيّا للطلب ؛ لأنّها سعي نحو المقصود.

ثمّ إنّ صيغة الأمر ( افعل ) التي تدلّ على النسبة الإرساليّة وعلى الطلب تصوّرا ووضعا تكون تصديقا مصداقا حقيقيّا للطلب التكويني عند صدورها بلحاظ داعي تحصيل المقصود ؛ لأنّ الطلب التكويني هو السعي نحو المقصود مباشرة والوجه في ذلك : أنّ الصيغة بحسب مدلولها التصوّري كما قلنا تدلّ على النسبة الإرساليّة ، ولكنّها بحسب مدلولها التصديقي لها عدّة دواع ، فتارة تكون بداعي التّرجي ، وأخرى بداعي التمنّي ، وثالثة بداعي الالتماس ، ورابعة بداعي الطلب.

فإن لوحظ صدورهما بداعي الطلب كانت مصداقا حقيقيّا للطلب التكويني الذي هو السعي نحو المقصود ؛ وذلك لأنّ النسبة الإرساليّة أو الطلبيّة المدلول عليها تصوّرا يكون مدلولها التصديقي الحقيقي أو الأقرب من غيره هو الطلب الخارجي ؛ لأنّه من خلال الطلب الخارجي والسعي نحو المقصود خارجا تتحقّق النسبة الإرساليّة أو النسبة الطلبيّة على أساس أصالة التطابق بين المدلولين التصوّري والتصديقي ؛ لأنّ الدواعي الأخرى كالتمنّي والترجّي والالتماس ليس فيها سعي نحو المطلوب والمقصود في الخارج إلا مع العناية والتقدير. هذا كلّه بلحاظ الآمر وأمّا المأمور فسعيه نحو المقصود طلب تشريعي.

وممّا اتّفق عليه المحصّلون من الأصوليّين (١) تقريبا دلالة الأمر ـ مادّة وهيئة ـ على الوجوب ، بحكم التبادر وبناء العرف العامّ على كون الطلب الصادر من المولى

__________________

(١) انظر : كفاية الأصول : ٨٣ و ٩٢. أجود التقريرات ١ : ٨٧. المقالات ١ : ٢٠٨ و ٢٢.

٣٥٢

بلسان الأمر مادّة أو هيئة وجوبا ، وإنّما اختلفوا في توجيه هذه الدلالة وتفسيرها إلى عدّة أقوال :

اتّفق الأصوليّون على أنّ الأمر ـ مادّة وهيئة ـ يدلّ على الوجوب على نحو الحقيقة ، بمعنى أنّ الأمر إذا أطلق من دون قرينة كان دالاّ على الوجوب. وهذا الاتّفاق تقريبي ؛ لأنّ بعضهم قال بأنّ الأمر يدلّ على الطلب الأعمّ من الوجوب والاستحباب ، وبعضهم قال بأنّ الأمر يدلّ على الندب ، وبعضهم قال بأنّ الأمر يدلّ على الجامع المشترك بين الوجوب والندب.

إلا أنّ الصحيح هو دلالتهما على الوجوب بنحو الحقيقة ، والدليل على ذلك :

أوّلا : التبادر ، فإنّ المتبادر إلى الذهن من إطلاق الأمر مادّة أو هيئة هو الوجوب والإلزام ، والتبادر علامة الحقيقة كما تقدّم سابقا.

وثانيا : الفهم العرفي ، فإنّ بناء العرف العامّ عند إطلاق الأمر مادّته أو هيئته هو دلالته على الوجوب ، مضافا إلى أنّ بناءهم وتعاملهم فيما بينهم على ذلك كما هو مقتضى سيرة الآمرين مع المأمورين العرفيّين ، والشارع ليس له طريقة جديدة على خلاف ما هو مرتكز عند العرف أو ما هو مبني عند العقلاء (١).

وهذا المقدار لا خلاف فيه تقريبا ، وإنّما الخلاف في توجيه وتفسير هذه الدلالة ، وأنّها على أي أساس تدلّ على الوجوب ، فهنا عدّة أقوال :

القول الأوّل : إنّ ذلك بالوضع (٢) ، بمعنى أنّ لفظ الأمر موضوع للطلب الناشئ من داع لزومي ، وصيغة الأمر موضوعة للنسبة الإرساليّة الناشئة من ذلك. ودليل هذا القول هو التبادر مع إبطال سائر المناشئ الأخرى المدّعاة لتفسير هذا التبادر.

القول الأوّل : ما ذهب إليه المشهور من كون الأمر بمادّته وهيئته موضوعا لغة للطلب الوجوبي الناشئ من داع لزومي.

__________________

(١) وثالثا : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) وغيره من الاستشهاد للدلالة على الوجوب ببعض الآيات الشريفة كقوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) فإنّ التحذير من مخالفة تتناسب مع كون الأمر للوجوب لا للأعمّ أو لخصوص الندب.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو لا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسواك فإنّ المشقّة تتناسب مع الوجوب أيضا ؛ وذلك لعدم المشقّة في الندب.

(٢) كما عليه ظاهر عبارة الكفاية : ٨٣ و ٩٢.

٣٥٣

أمّا مادّة الأمر فقد قلنا : إنّها تدلّ على الطلب بمفهومه الاسمي لكن خصوص الطلب الوجوبي ؛ لأنّ الطلب ينقسم إلى قسمين طلب ضعيف وطلب شديد. فالأمر موضوع للطلب الشديد لغة والذي هو الوجوب.

وأمّا صيغة الأمر فقد قلنا : إنّها تدلّ على النسبة الإرساليّة المتضمّنة للطلب ، وهذه النسبة الإرساليّة أيضا تنقسم إلى قسمين وذلك تبعا للطلب المتضمّن فيها ، فتكون موضوعة للنسبة الإرساليّة الناشئة من داع لزومي أي الوجوب.

والدليل على ذلك هو التبادر ، فإنّ المتبادر إلى الذهن عند إطلاق المادّة والصيغة هو الوجوب دون غيره.

وهذا الدليل يحتاج إلى ضميمة وهي إبطال المناشئ الأخرى التي تفسّر دلالة الأمر مادّة وصيغة على الوجوب ، فإذا بطلت سائر المناشئ تعيّن كونهما موضوعين للوجوب على أساس التبادر الذي هو علامة الحقيقة.

القول الثاني : ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه‌الله (١) : من أنّ ذلك بحكم العقل ، بمعنى أنّ الوجوب ليس مدلولا للدليل اللفظي ، وإنّما مدلوله الطلب ، وكلّ طلب لا يقترن بالترخيص في المخالفة يحكم العقل بلزوم امتثاله ، وبهذا اللحاظ يتّصف بالوجوب. بينما إذا اقترن بالترخيص المذكور لم يلزم العقل بموافقته ، وبهذا اللحاظ يتّصف بالاستحباب.

القول الثاني : ذهب المحقّق النائيني إلى أنّ دلالة الأمر مادّة وصيغة على الوجوب إنّما هي بحكم العقل ، وتوضيح ذلك يكون برسم أمور :

الأول : أنّ الوجوب معناه الثبوت ، ومنه يقال الواجب بالذات والواجب بالغير أي الثابت ، والثبوت يحتاج إلى علّة.

الثاني : أنّ الطلب معناه البعث والتحريك من العالي حقيقة أي الشارع ، والطلب والبعث هو علّة الثبوت والوجوب.

الثالث : أنّ مادّة الأمر وصيغته موضوعة لغة للدلالة على الطلب ، فقولنا : ( آمرك بالصلاة ) أو ( صلّ ) مدلوله الوضعي اللفظي هو الطلب ، أي البعث والتحريك نحو المقصود.

__________________

(١) فوائد الأصول ١ : ١٣٦.

٣٥٤

والنتيجة هي أنّ الشارع مهمّته أن ينشأ ما يكون دالاّ على البعث والطلب وهو الأمر مادّة أو هيئة ؛ لأنّ وظيفته إيجاد العلّة أو الموجب والمقتضي فقط.

وأمّا التحرّك والانبعاث نحو المقصود والمطلوب فهو ليس من وظيفة الشارع ، بل إنّ العقل يحكم بذلك على أساس أنّ المولى له حقّ الطاعة على عبده.

فالعبد يحكم العقل عليه بوجوب الإطاعة والامتثال لطلب مولاه وبعثه وتحريكه.

وحينئذ يقال : إنّ هذا الطلب إذا اقترن بما يدلّ على جواز المخالفة والإذن والترخيص في الترك من الشارع فعندئذ لا يحكم العقل بالانبعاث والتحرّك ؛ لأنّ المولى نفسه قد سمح بذلك ، ولذلك يحكم العقل بأنّ هذا الطلب متّصف بالاستحباب ، أي البعث نحو المقصود مع جواز الترك.

وأمّا إذا لم يقترن هذا الطلب بما يدلّ على جواز المخالفة والترخيص في الترك فإنّ العقل يحكم بوجوب الإطاعة والامتثال والانبعاث نحو المقصود الذي طلبه المولى وبعث العبد إليه ، وعندئذ ينتزع العقل وصف الوجوب.

فالحاصل : أنّ الوجوب والاستحباب ليسا مدلولين وضعيّين لفظيّين لمادّة الأمر وصيغته ، بل المدلول الوضعي اللفظي للمادّة والصيغة هو الطلب.

وأمّا الوجوب والاستحباب فهما من شئون العقل ، فإنّ العقل ينتزع صفة الوجوب من كلّ طلب لم يقترن بالترخيص وجواز المخالفة ، وينتزع صفة الاستحباب من كلّ طلب اقترن بالترخيص وجواز المخالفة.

ومن هنا كان تعريف الوجوب أنّه الطلب الذي لا يجوز تركه بينما الاستحباب هو الطلب الذي يجوز تركه ؛ لأنّه طلب مقترن بالترخيص في الترك.

ويرد عليه :

أوّلا : أنّ موضوع حكم العقل بلزوم الامتثال لا يكفي فيه مجرّد صدور الطلب مع عدم الاقتران بالترخيص ؛ لوضوح أنّ المكلّف إذا اطّلع ـ بدون صدور ترخيص من قبل المولى ـ على أنّ طلبه نشأ من ملاك غير لزومي ، ولا يؤذي المولى فواته ، لم يحكم العقل بلزوم الامتثال.

ويرد أوّلا على ما ذكره المحقّق النائيني ـ من أنّ العقل يحكم بالوجوب إذا صدر

٣٥٥

الطلب من المولى ولم يقترن بالترخيص وجواز المخالفة ـ أنّه غير تامّ في تمام الموارد ، ويكفي في إبطال الموجبة الكلّيّة أن يكون هناك سالبة جزئيّة.

وهنا يوجد بعض الموارد لا يتمّ فيها ما ذكر ، وذلك فيما إذا صدر طلب من المولى ولم يقترن بالترخيص وجواز المخالفة ، ولكنّنا نفرض أنّ المكلّف قد اطّلع على الملاك والمبادئ التي نشأ منها هذا الطلب ، بناء على أنّ الأحكام والتكاليف تابعة للملاك والمبادئ الواقعيّة.

فهنا إذا اطّلع المكلّف على هذا الملاك فوجده ملاكا غير لزومي بمعنى أنّ المكلّف علم بعد اطّلاعه على الملاك أنّ المولى لا يهتمّ كثيرا بتحقّق طلبه في الخارج ، بل يرضى بتفويته ولا يؤذيه فوات طلبه وعدم تحقّقه ؛ لأنّ ملاكه لم يكن ذا مصلحة ملزمة وشوق أكيد ، بل كان ممّا يحسن فعله ولكن لا يضرّ تركه. فلو فرضنا ذلك فهل يحكم العقل هنا بلزوم الانبعاث ووجوب التحرّك وحرمة المخالفة والترك أيضا؟!

من الواضح أنّ العقل لا يحكم بذلك ؛ لأنّ العقل إنّما يحكم بالوجوب والانبعاث وحرمة المخالفة ولزوم الامتثال رعاية لحقّ المولى ، والمفروض أنّ المولى يرضى بتفويت حقّه هنا ؛ لأنّ المكلّف اطّلع على أنّ الملاك والمبادئ ليست بدرجة من الأهمّيّة ، بل المولى يرضى بفواتها ولا يؤذيه ذلك.

وحينئذ نقول : إنّ المفروض هنا أنّ العقل يحكم بالانبعاث والوجوب بناء على ما ذكره الميرزا من القاعدة الكليّة ؛ لأنّ هذا الطلب صادر من المولى ولم يقترن بما يدلّ على الترخيص وجواز المخالفة ، مع أنّنا وجدنا أنّ العقل لم يحكم بذلك لاطّلاع المكلّف على الملاك ، والذي هو سنخ ملاك لا يؤذي المولى فواته ومخالفته ، فكيف يحكم العقل بالوجوب والحال هذه؟! بل الميرزا وغيره لا يقولون بالوجوب هنا.

ومثال ذلك : لو فرضنا أنّ المولى قد أمر عبده بأن يأتيه بالماء ليشربه ولم يقترن هذا الطلب بترخيص وإذن في المخالفة ، غير أنّ العبد علم أنّ المولى بعد ذلك قد شرب الماء وارتوى من عطشه ، فهل يحكم العقل عليه بوجوب الإتيان بالماء أيضا مع انتفاء الملاك الداعي للطلب؟!

فالوجوب العقلي فرع مرتبة معيّنة في ملاك الطلب ، وهذه المرتبة لا كاشف

٣٥٦

عنها إلا الدليل اللفظي ، فلا بدّ من فرض أخذها في مدلول اللفظ لكي يتنقّح بذلك موضوع الوجوب العقلي.

وممّا ذكر يتّضح أنّ الوجوب الذي يحكم به العقل ليس موضوعه صدور طلب من المولى غير مقترن بالترخيص فقط ، بل الوجوب العقلي موضوعه أن يكون هناك ملاك ملزم لا يرضى المولى بتفويته ، بأن كان بدرجة من الأهمّية يؤذيه فواته ومخالفته. فإنّ العقل حينئذ يحكم بوجوب الامتثال والإطاعة وحرمة المخالفة ؛ رعاية لحقّ المولى وكون طاعته واجبة على عبيده.

وهذا معناه أنّ الوجوب فرع وجود مرتبة معيّنة من الملاك للطلب. فإذا كان الطلب صادرا من هذه المرتبة المعيّنة من الملاك والمبادئ حكم العقل بالوجوب ، وإن لم يكن صادرا عنها بأن كان الملاك الذي هو العلّة للطلب ذا مرتبة ضعيفة بحيث يرضى المولى بفوات طلبه ولا يضرّه مخالفته لم يحكم العقل بالوجوب. ويدلّ على ذلك أنّ المكلّف لو اطّلع على الملاك الملزم الذي لا يرضى المولى بفواته فيحكم العقل بوجوب الامتثال وحرمة المخالفة. وإن لم يصدر من المولى طلب بالفعل ، ويكون مدانا ومستحقّا للعقاب لو خالف ذلك بأن اطّلع على الملاك الإلزامي ولم يمتثله.

فموضوع الوجوب العقلي إذا هو هذه المرتبة من ملاك الطلب.

وحينئذ نقول : إنّ هذه المرتبة من ملاك الطلب الملزمة ـ والتي لا يرضى المولى بتفويت طلبه لأجلها لأنّها العلّة لطلبه ـ لا بدّ للمولى من أن يدلّ ويكشف عنها لعبده ، ولا يتركها للعبد نفسه إذا اطّلع عليها امتثل وإن لم يطّلع عليها لم يمتثل ؛ لأنّه بذلك يكون مفوّتا لغرضه بيده وهذا قبيح صدوره من الشارع الحكيم.

وهذا الكاشف والدالّ ليس هو إلا الدليل اللفظي ؛ لأنّ الشارع يتعامل مع عبيده بالتكاليف والأوامر والخطابات اللفظيّة ، فلا بدّ من فرض وجود هذه المرتبة من الملاك ضمن الدليل اللفظي. وهذا يعني أنّ اللفظ يدلّ ويكشف عن هذه المرتبة ، وحيث إنّه لا يوجد في الدليل اللفظي إلا الأمر بمادّته أو هيئته لأنّه الدالّ على طلب المولى ، فتكون هذه المرتبة موجودة في الأمر مادّة أو هيئة.

وهذا هو المقصود من الوجه الأوّل القائل بأنّ الأمر بمادّته وهيئته دالّ على الوجوب وضعا ، وبذلك يتنقّح موضوع الوجوب العقلي ؛ لأنّ المادّة والصيغة تدلاّن على الطلب

٣٥٧

الناشئ من ملاك لزومي لا يرضى المولى بتفويته ، فإذا اتّضح هذا الموضوع حكم العقل بالوجوب وحرمة المخالفة.

وثانيا : أنّ لازم القول المذكور أن يبنى على عدم الوجوب فيما إذا اقترن بالأمر عامّ يدلّ على الإباحة في عنوان يشمل بعمومه مورد الأمر.

وتوضيح ذلك : وثانيا : أنّ لازم القول الذي ذكره الميرزا من أنّ الطلب إذا لم يقترن بالترخيص فيحكم العقل بالوجوب ، وإذا اقترن بالترخيص فيحكم العقل بالاستحباب ، هو أن يحكم بالاستحباب وعدم الوجوب في بعض الموارد ، مع أنّه لا يلتزم بذلك أحد من الفقهاء حتّى الميرزا نفسه.

وذلك فيما إذا اقترن بالأمر عامّ يدلّ على الإباحة في عنوان يشمل بعمومه مورد الأمر ، ومثاله : أن يصدر أمر من قبيل ( أكرم العالم العادل ) ويقترن هذا الأمر بدليل يدلّ على الإباحة والترخيص ويكون شاملا بعمومه لمورد الأمر من قبيل ( لا بأس بترك إكرام العالم ) أو ( يجوز ترك إكرام العالم ). فإنّ دليل الأمر موضوعه ( العالم العادل ) بينما دليل الترخيص موضوعه ( العالم ) وهو عنوان يشمل بعمومه وإطلاقه موضوع الأمر أي ( العالم العادل ) ؛ لأنّ النسبة بينهما العموم والخصوص مطلقا.

فهنا تختلف النتيجة على المسلكين المذكورين وتوضيح ذلك :

أنّه إذا بنينا على أنّ اللفظ بنفسه يدلّ على الوجوب فالأمر في الحالة في الحالة التي أشرنا إليها يكون مخصّصا لذلك العامّ الدالّ على الإباحة ومخرجا لمورده عن عمومه ؛ لأنّه أخصّ منه ، والدالّ الأخصّ يقدّم على الدالّ العامّ كما تقدّم (١).

إذا بنينا على مسلك المشهور القائل بأنّ الأمر بمادّته وصيغته يدلّ على الوجوب وضعا فحينئذ يكون هناك تعارض غير مستقرّ بين الدليلين المذكورين ؛ لأنّه يجمع بينهما جمعا عرفيّا. فيكون الأمر ( أكرم العادل العالم ) مخصّصا ومقيّدا للعامّ ( لا بأس بترك إكرام العالم ) الذي يدلّ على الإباحة والترخيص.

ومقتضى الجمع العرفي أن يكون الأمر الدالّ على الوجوب مقدّما على العامّ الدالّ على الإباحة والترخيص ، بمعنى أنّ دليل الأمر يخرج مورده وهو ( العالم العادل ) من

__________________

(١) في بحث التعارض في الحلقتين الأولى والثانية.

٣٥٨

موضوع دليل الإباحة ( العالم ) ، على أساس قانون الأخصّية والقرينيّة ، فإنّه سوف يأتي في مباحث التعارض أنّ موارد الجمع العرفي تتمّ فيما إذا كان أحد الدليلين قرينة على الآخر ومفسّرا للمراد منه.

وهذه القرينة على نوعين القرينة الشخصيّة وهي الحكومة ، والقرينة النوعيّة وهي تشمل موارد ثلاثة وهي : ( التقييد والتخصيص والأظهريّة ). وهنا يقع موردنا صغرى لكبرى القرينيّة بالتقييد أو التخصيص القائلة بأنّ كلّ مفهوم كان أضيق دائرة من مفهوم آخر فهو يصلح لأن يكون قرينة نوعيّة على تفسير المراد من المفهوم الأوسع الأعمّ.

ومقامنا من هذا القبيل ، فإنّ مفهوم ( العالم العادل ) أضيق دائرة من مفهوم ( العالم ) ولذلك يصلح أن يكون قرينة نوعيّة على تفسير المراد من العالم وأنّه غير العادل.

والنتيجة هي أنّ الأمر دالّ على وجوب إكرام العالم العادل ، بينما دليل الترخيص والإباحة دالّ على جواز ترك إكرام العالم غير العادل. والوجه في ذلك كما تقدّم هو الأخصّية والأضيقيّة.

وهذا جمع عرفي نوعي يحكم به العقلاء والعرف العامّ ، والشارع أمضى ذلك وسار على بنائهم وطريقتهم كما سيأتي بيانه مفصّلا.

وأمّا إذا بنينا على مسلك المحقّق النائيني المذكور فلا تعارض ولو بنحو غير مستقر بين الأمر والعامّ ليقدّم الأمر بالأخصّيّة ؛ وذلك لأنّ الأمر لا يتكفّل الدلالة على الوجوب بناء على هذا المسلك ، بل المتعيّن بناء عليه أن يكون العامّ رافعا لموضوع حكم العقل بلزوم الامتثال ؛ لأنّ العامّ ترخيص وارد من الشارع ، وحكم العقل معلّق على عدم ورود الترخيص من المولى.

وأمّا إذا بنينا على مسلك الميرزا من أنّ الأمر لا يدلّ إلا على الطلب ، وأمّا الوجوب والاستحباب فهما من شئون العقل الحاكم بالوجوب إذا لم يقترن الطلب بالترخيص ، والحاكم بالاستحباب إذا اقترن الطلب بالترخيص.

فهنا لا يكون هناك تعارض أصلا بين هذين الدليلين لا مستقرّ ولا غير مستقرّ ، فلا معنى للجمع العرفي المذكور بحمل الدليل العامّ على غير مورد الأمر كما تقدّم على

٣٥٩

المسلك السابق ؛ لأنّ دليل الأمر لا يدلّ على الوجوب وضعا وإنّما يدلّ على الطلب فقط بحسب الوضع اللغوي.

وحينئذ لن يكون هناك تعارض بين قوله : ( أكرم العالم العادل ) وبين قوله : ( يجوز ترك إكرام العالم ) ؛ لأنّ الأمر الدالّ على الطلب كما أنّه يتناسب مع الوجوب كذلك يتناسب مع الاستحباب والإباحة والترخيص في الترك ، وهذا الطلب الذي يجوز تركه ينسجم مع دليل الإباحة الدالّ على جواز ترك إكرام العالم مطلقا حتّى العادل.

وبما أنّه لا تعارض بينهما فلا معنى للجمع العرفي ؛ لأنّ الجمع بعد فرض وجود تعارض ولو بنحو غير مستقرّ بين الدليلين ، فلا معنى للتقديم بلحاظ الأخصّيّة والأضيقيّة لإمكان الأخذ بالدليلين معا من دون محذور أصلا.

وحينئذ لا معنى لحمل الأمر على الوجوب وكون دليل الإباحة مختصّا بالعالم غير العادل ، بل يتعيّن بناء على مسلك الميرزا المذكور أن يكون دليل الترخيص العامّ رافعا لموضوع حكم العقل بلزوم الامتثال والوجوب ؛ وذلك لأنّه على هذا المسلك يكون الوجوب من أحكام العقل القائل بأنّه إذا صدر طلب من المولى ولم يقترن بالترخيص فهو يدلّ على الوجوب.

فحكم العقل بالوجوب معلّق إذا على عدم ورود الترخيص من المولى ، فإذا ورد ترخيص من المولى كان حكم العقل منتفيا بانتفاء موضوعه ، وهنا العامّ ترخيص وارد وصادر من المولى ومقترن بدليل الأمر ، وهذا يعني ارتفاع موضوع حكم العقل المعلّق على عدم ورود الترخيص ؛ لأنّ الترخيص ثابت.

وحينئذ لا بدّ من رفع اليد عن الوجوب والحكم بالاستحباب لتماميّة موضوعه ؛ لأنّ العقل يحكم بالاستحباب في كلّ مورد صدر فيه طلب واقترن الترخيص ، وهذا طلب وأمر مقترن بالترخيص وهو العامّ فيحمل الأمر على الاستحباب بناء على مسلك الميرزا.

مع أنّ بناء الفقهاء والارتكاز العرفي على تخصيص العامّ في مثل ذلك والالتزام بالوجوب.

وهذا اللازم المذكور مخالف لبناء الفقهاء ومخالف للارتكاز العرفي وبناء العقلاء في محاوراتهم وأحكامهم التشريعيّة ، فإنّهم يحكمون في مثل هذا المورد بتخصيص

٣٦٠