شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

النكرة في سياق النهي أو النفي

ذكر بعض (١) : أنّ وقوع النكرة في سياق النهي أو النفي من أدوات العموم.

ذكر البعض : أنّ وقوع النكرة في سياق النهي كقولنا : ( لا تكرم فاسقا ) ، أو في سياق النفي كقولنا : ( لم أكرم فاسقا ) ، يجعلها دالّة على العموم. فيكون الدالّ على العموم عندهم هو السياق لا النكرة نفسها ؛ لأنّه تقدّم في مباحث اسم الجنس أنّ النكرة تدلّ على الوحدة بسبب التنكير. وعليه ، لا يمكن استفادة العموم والشمول من النكرة ؛ لأنّ العموم يتنافى مع الوحدة المستفادة من تنوين النكرة. ولذلك قال السيّد الشهيد :

وأكبر الظنّ أنّ الباعث على هذه الدعوى أنّ النكرة ـ كما تقدّم في حالات اسم الجنس من الحلقة السابقة (٢) ـ يمتنع إثبات الإطلاق الشمولي لها بقرينة الحكمة ؛ لأنّ مفهومها يأبى عن ذلك.

وعليه ، فيمكن أن يكون السبب الداعي للقول بأنّ السياق هو الدالّ على العموم لا النكرة ، هو أنّ النكرة نفسها لا تقبل الإطلاق الشمولي ، كقولنا : ( أكرم عالما ) فإنّ التنوين دالّ على الوحدة والوحدة لا تنسجم ولا تتناسب مع الشمول والاستيعاب لكلّ فرد فرد من الأفراد ؛ لأنّ الوحدة في الطبيعة يدلّ على فرد واحد من الأفراد على نحو البدل.

وقد تقدّم في الحلقة السابقة الحديث عن حالات اسم الجنس ، وهناك ذكرنا أنّ النكرة المطعمة بحيثيّة التنكير يمتنع الإطلاق الشمولي فيها ، فلا يستفاد منها العموم

__________________

(١) كالمحقّق الخراساني في كفاية الأصول : ٢٥٤.

(٢) في بحث الإطلاق ، تحت عنوان : الحالات المختلفة لاسم الجنس.

٥٢١

والاستيعاب والشمول لكلّ فرد فرد ، بل تفيد فردا واحدا شائعا من بين الأفراد ، وهذا يتناسب مع الإطلاق البدلي.

والوجه في إباء النكرة عن الإطلاق الشمولي أنّ التنكير يعني تقييد الماهيّة والطبيعة بالوحدة ، ومع التقييد لا تجري قرينة الحكمة ؛ لأنّها تثبت الماهيّة مجرّدة عن القيود وهو خلف المفروض ؛ لأنّها مقيّدة بقيد الوحدة المدلول عليه بالتنوين.

بينما نجد أنّنا نستفيد الشموليّة في حالات وقوع النكرة في سياق النهي أو النفي ، فلا بدّ أن يكون الدالّ على هذه الشموليّة شيئا غير إطلاق النكرة نفسها ، فمن هنا يدّعى أنّ السياق ـ أي وقوع النكرة متعلّقا للنهي أو النفي ـ من أدوات العموم ؛ ليكون هو الدالّ على هذه الشموليّة.

وأمّا في حالات وقوع النكرة في سياق النفي أو النهي نجد أنّنا نستفيد الشموليّة والعموم. فلأجل التوفيق بين ما يحسّ به الوجدان من إفادة الشموليّة والعموم في النكرة الواقعة في سياق النهي أو النفي ، وبين ما تقدّم في الحلقة السابقة من أنّ النكرة لا يستفاد منها الشموليّة لأنّها منوّنة بتنوين التنكير الدالّ على الوحدة ، يقال ـ جمعا بين هذين الأمرين ـ : إنّ السياق نفسه هو الدالّ على هذه الشموليّة والعموم. وبناء عليه يدّعى أنّ السياق من أدوات العموم فيكون دالاّ على العموم بنحو المعنى الحرفي ؛ لأنّ السياق هيئة تركيبيّة ، وقد تقدّم أنّ الهيئات كلّها موضوعة للنسب المحتاجة إلى طرفين دائما ؛ لأنّ النسبة متقوّمة بطرفيها ، ويكون السياق دالاّ على النسبة الاستيعابيّة. ولذلك يفترض هنا وجود ثلاثة دوالّ أحدها دالّ على النسبة ، والآخران دالاّن على المفهومين المستوعب والمستوعب.

ولكنّ التحقيق : أنّ هذه الشموليّة ـ سواء كانت على نحو شموليّة العامّ أو على نحو شموليّة المطلق ـ بحاجة إلى افتراض مفهوم اسمي قابل للاستيعاب والشمول لأفراده بصورة عرضيّة ؛ لكي يدلّ السياق حينئذ على استيعابه لأفراده ، والنكرة لا تقبل الاستيعاب العرضي كما تقدّم ، فمن أين يأتي المفهوم الصالح لهذا الاستيعاب لكي يدلّ السياق على عمومه وشموله؟

والتحقيق : أنّ هذه الدعوى غير صحيحة ؛ وذلك لأنّنا عرفنا أنّ الدلالة على الاستيعاب والعموم تحتاج إلى دالّين على الأقلّ كما في قولنا : ( أكرم كلّ عالم ).

٥٢٢

فهناك دالاّن كلمة ( كلّ ) الدالّة على الاستيعاب وكلمة ( عالم ) الدالّة على الطبيعة التي استوعبت أفرادها. وهكذا الحال بالنسبة للإطلاق الشمولي فتحتاج إلى دالّين أيضا كقولنا : ( أكرم العالم ) ، فإنّ كلمة ( العالم ) دالة على الطبيعة والماهيّة وقرينة الحكمة تدلّ على الشمول لكلّ أفراد هذه الطبيعة.

وهنا نحتاج إلى دالّين على هذه الشموليّة ولا بدّ أن يكونا معا مفهومين اسميّين ؛ لأنّ الحروف تحتاج إلى طرفين ومفهومين اسميّين تربط بينهما. وهنا السياق المفروض دلالته على العموم من الهيئات التركيبيّة والهيئات كلّها معان حرفيّة موضوعة للنسب على اختلافها ، والنسبة متقوّمة بطرفيها كما تقدّم.

وحينئذ نسأل : ما هو المفهوم الذي استوعبت كلّ أفراده؟

والجواب : أنّه لا يوجد في قولنا : ( لا تكرم فاسقا ) أو ( ما أكرمت فاسقا ) إلا كلمة ( فاسق ).

وعندئذ يشكل عليهم بأنّ كلمة الفاسق الواردة في السياق منوّنة بتنوين التنكير وهو يفيد الإطلاق البدلي ؛ لأنّ النكرة المنوّنة تفيد الوحدة وهي تتناسب مع الإطلاق البدلي فيكون هناك شموليّة بدليّة بين الأفراد. بينما المطلوب هنا أن يكون هناك مفهوم يدلّ على الشموليّة العرضيّة بين الأفراد بحيث تكون الأفراد كلّها في مرتبة واحدة وينطبق عليها المفهوم كلّها معا دون تفاوت بينها. فكيف حصل الاستيعاب والشمول إذا؟!

والحاصل : أنّ المفهوم الاسمي الموجود هو النكرة المنوّنة وهي دالّة على الشيوع والشمول البدلي العرضي ، والمطلوب من المفهوم المستوعب أن يكون شاملا لأفراده عرضيّا لا بدليّا.

وعليه ، فمن أين يأتي هذا المفهوم الاسمي الذي ينطبق ويشمل كلّ أفراده بعرض واحد لكي يكون هناك استيعاب وشمول سواء بنحو العموم أو الإطلاق؟

ومن هنا نحتاج إذا إلى تفسير للشموليّة التي نفهمها من النكرة الواقعة في سياق النهي والنفي ، ويمكن أن يكون ذلك بأحد الوجهين التاليين :

والصحيح أنّ النكرة الواقعة في سياق النهي أو النفي تدلّ على الشمول إلا أنّ هذه الشموليّة ليست بنحو العموم لما تقدّم آنفا. وعليه ، فنحتاج إلى تفسير آخر غير العموم

٥٢٣

لتفسير هذه الشموليّة المستفادة من السياق ، وهذا التفسير يمكن أن يكون بأحد وجهين :

الأوّل : أن يدّعى كون السياق قرينة على إخراج الكلمة عن كونها نكرة ، فيكون دور السياق إثبات ما يصلح للإطلاق الشمولي. وأمّا الشموليّة فتثبت بإجراء قرينة الحكمة في تلك الكلمة بدون حاجة إلى افتراض دلالة السياق نفسه على الشموليّة والعموم.

الدعوى الأولى : للسيّد الشهيد : وهي أنّ وقوع النكرة في سياق النهي أو النفي يخرجها من كونها منوّنة بتنوين التنكير ، ويفيد أنّها منوّنة بتنوين التمكين. فهناك أربع حالات للنكرة لا تكون فيها منوّنة بتنوين التنكير ، بل منوّنة بتنوين التمكين وهي :

الأولى : النكرة في سياق النهي كقولنا : ( لا تكرم فاسقا ) فهي بقوّة قولنا : ( لا تكرم الفاسق ).

الثانية : النكرة في سياق النفي كقولنا : ( ما أكرمت فاسقا ) فهو أيضا كقولنا : ( ما أكرمت الفاسق ).

الثالثة : النكرة في سياق الاستفهام كقولنا : ( هل أكرمت فاسقا ) فهي كقولنا : ( هل أكرمت الفاسق ).

الرابعة : النكرة المضافة لنكرة كقولنا : ( أكرم عالم قرية ) فهي كقولنا : ( أكرم عالم القرية ).

ففي هذه الموارد الأربعة تكون النكرة منوّنة بتنوين التمكين ، وهذا يعني أنّها صالحة للانطباق على كلّ فرد من أفرادها ، فيكون السياق هنا قد أكسب النكرة هذه الصلاحيّة لاستيعاب كلّ أفرادها بعد أن أخرجها عن تنوين التنكير المفيد للوحدة والمتنافي مع الاستيعاب والشمول لكلّ الأفراد. فالسياق يثبت أنّ الماهيّة ليست مقيّدة. وعليه ، فتصلح للإطلاق بإجراء قرينة الحكمة فيها.

وحينئذ يبقى علينا إثبات الشموليّة لكلّ الأفراد بعد أن أثبتنا أنّه يوجد في الكلام مفهوم اسمي صالح لأن يستوعب كلّ الأفراد ، وهذا يمكن إثباته بواسطة الإطلاق وقرينة الحكمة في النكرة لإثبات أنّها تدلّ على طبيعة ( الفاسق ) في المثال من دون قيد ، فيثبت شمولها وعمومها لكلّ الأفراد.

٥٢٤

ولا نحتاج للقول بأنّ السياق نفسه من أدوات العموم ، فإنّ الشموليّة والاستيعاب لكلّ الأفراد لا تتوقّف عليه ، بل يثبتها الإطلاق وقرينة الحكمة. وليس دور السياق إلا إعطاءها الصلاحيّة للانطباق على كلّ الأفراد والتي كانت قد فقدتها بتنوين التنكير الدالّ على الوحدة.

الثاني : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) (١) رحمه‌الله من أنّ الشموليّة ليست مدلولا لفظيّا ، وإنّما هي بدلالة عقليّة ؛ لأنّ النهي يستدعي إعدام متعلّقه ، والنكرة لا تنعدم ما دام هناك فرد واحد.

الدعوى الثانية : لصاحب ( الكفاية ) حيث قال : إنّ الشموليّة والاستيعاب المستفادين من وقوع النكرة في سياق النفي أو النهي لا تستفاد من دلالة السياق. وعليه ، فلا يكون هناك دالّ لفظي على الشموليّة والاستيعاب. وإنّما الدالّ على الاستيعاب والشمول في النكرة ـ بعد إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة في النكرة لإثبات كونها دالّة على الطبيعة والماهيّة من دون قيد ـ يثبت بقرينة عقليّة وهي أنّ إعدام الطبيعة المفاد من النهي وانتفاءها المفاد من النفي لا يمكن تحقّقهما إلا بانعدام تمام الأفراد ؛ لأنّه لو بقي فرد واحد من أفراد الطبيعة لم تكن معدومة ومنتفية. فعلى أساس هذه القرينة العقليّة نستطيع تفسير الشموليّة في هذه النكرة ، ولا نحتاج إلى ادّعاء كون السياق من أدوات العموم ، أو أنّه أخرجها من تنوين التنكير إلى تنوين التمكين.

غير أنّ هذه الدلالة العقليّة إنّما تعيّن طريقة امتثال النهي وأنّ امتثاله لا يتحقّق إلا بترك جميع أفراد الطبيعة ، ولا تثبت الشموليّة بمعنى تعدّد الحكم والتحريم بعدد تلك الأفراد ، كما هو واضح.

ويرد عليه : أنّ هذه الدلالة العقليّة إنّما تثبت لنا كيفيّة امتثال النهي أو كيفيّة تحقّق النفي ، فإنّ العقل يحكم بأنّ النهي المتعلّق بالطبيعة المفيد للزجر عنها لا يتحقّق هذا الزجر والانزجار من المكلّف في عالم الخارج إلا بانعدام كلّ أفراد الطبيعة ؛ لأنّ ارتكاب فرد منها لا يكون زجرا وانزجارا عنها. وكذلك انتفاء الطبيعة لا يكون خارجا إلا بانتفاء كلّ أفرادها ؛ لأنّ وجود وإيجاد فرد من الأفراد يتنافى مع انتفائها لأنّها توجد بفرد واحد من الأفراد.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٥٤.

٥٢٥

والحاصل : أنّ هذه الدلالة العقليّة إنّما تعيّن لنا كيفيّة

وطريقة الامتثال للنهي أو للنفي.

وأمّا أنّ الحكم في عالم الجعل هل هو متكثّر ومتعدّد أو هو حكم واحد؟ فهذا لا يمكن إثباته بهذه الدلالة العقليّة. والمطلوب من العموم إثبات أنّ الحكم متعدّد بتعدّد الأفراد في عالم الجعل والتشريع ، بحيث تكون الأفراد موضوعة للأحكام المتعدّدة والمتكثّرة ، على خلاف الإطلاق الشمولي الذي معناه أنّ الحكم واحد وموضوعه واحد أيضا ، ولكنّه بعد الإطلاق وقرينة الحكمة ينحلّ إلى أحكام عديدة في عالم المجعول والامتثال لا في عالم الجعل واللحاظ.

فكان ينبغي لصاحب ( الكفاية ) تعيين الشموليّة بالإطلاق وقرينة الحكمة لا بالدلالة العقليّة.

٥٢٦

الفهرس

الإهداء......................................................................... ٥

المقدمة.......................................................................... ٧

تمهيد......................................................................... ١١

تعريف علم الأصول............................................................ ١٣

موضوع علم الأصول........................................................... ٢٩

الحكم الشرعي وتقسيماته....................................................... ٤٣

شمول الحكم للعالم والجاهل...................................................... ٥٣

الحكم الواقعي والظاهري....................................................... ٦٣

شبهة التضادّ ونقض الغرض..................................................... ٧٥

شبهة تنجّز الواقع المشكوك...................................................... ٩٣

الأمارات والأصول............................................................. ٩٩

التنافي بين الأحكام الظاهريّة................................................... ١١١

وظيفة الأحكام الظاهريّة...................................................... ١١٧

التصويب بالنسبة لبعض الأحكام الظاهريّة...................................... ١٢٣

القضيّة الحقيقيّة والخارجيّة للأحكام............................................. ١٣١

تنسيق البحوث المقبلة......................................................... ١٤٥

حجّيّة القطع................................................................. ١٤٩

العلم الإجمالي................................................................ ١٦٣

حجّية القطع غير المصيب وحكم التجرّي....................................... ١٧٧

تأسيس الأصل عند الشكّ في الحجّيّة............................................ ١٩٣

مقدار ما يثبت بدليل الحجّيّة................................................... ٢٠٧

تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للدلالة المطابقيّة.......................................... ٢١٩

٥٢٧

وفاء الدليل بدور القطع الطريقي والموضوعي..................................... ٢٣١

إثبات الأمارة لجواز الإسناد.................................................... ٢٤٩

إبطال طريقيّة الدليل.......................................................... ٢٥٧

تقسيم البحث في الأدلّة المحرزة................................................. ٢٦٥

الدليل الشرعي............................................................... ٢٦٩

البحث الأوّل : تحديد دلالات الدليل الشرعي................................... ٢٧١

الدليل الشرعي اللفظي........................................................ ٢٧١

المعاني الحرفيّة................................................................ ٢٨٥

هيئات الجمل................................................................ ٣١١

الجملة التامّة والجملة الناقصة................................................... ٣١٧

الجملة الخبريّة والإنشائيّة....................................................... ٣٢٧

الثمرة....................................................................... ٣٣٩

الأمر أو أدوات الطلب........................................................ ٣٤٧

الأوامر الإرشاديّة............................................................. ٣٨٣

النهي أو أدوات الزجر........................................................ ٣٩٧

الفور والتراخي............................................................... ٤٠١

المرّة والتكرار................................................................ ٤٠٥

الإطلاق واسم الجنس......................................................... ٤٠٩

التقابل بين الإطلاق والتقييد................................................... ٤٢٧

احترازيّة القيود وقرينة الحكمة................................................. ٤٤١

تنبيهات..................................................................... ٤٦٣

أدوات العموم................................................................ ٤٨٣

نحو دلالة أدوات العموم....................................................... ٤٩٣

العموم بلحاظ الأجزاء والأفراد................................................. ٥٠٥

دلالة الجمع المعرّف باللام على العموم.......................................... ٥١١

النكرة في سياق النهي أو النفي................................................. ٥١٩

الفهرس..................................................................... ٥٢٧

٥٢٨