شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

بلحاظ المبادئ سواء كان جعل الحكم الظاهري بلسان جعل الحكم المماثل أو بلسان جعل العلميّة والطريقيّة.

وهذا لا يستفاد من جواب المحقّق النائيني ؛ لأنّه إنّما غيّر الصياغة الاعتباريّة فقط ولم يتعرّض للمبادئ وأنّها موجودة أو ليست موجودة. فالإشكال على حاله إذن (١).

ومنها : ما ذكره السيّد الأستاذ (٢) من أنّ التنافي بين الحرمة والوجوب مثلا ليس بين اعتباريهما ، بل بين مبادئهما من ناحية ؛ لأنّ الشيء الواحد لا يمكن أن يكون مبغوضا ومحبوبا ، وبين متطلّباتهما في مقام الامتثال من ناحية أخرى ؛ لأنّ كلاّ منهما يستدعي تصرّفا مخالفا لما يستدعيه الآخر.

الجواب الثاني على إشكال التضادّ ما ذكره السيّد الخوئي رحمه‌الله من أنّ التنافي بين الأحكام التكليفيّة كالوجوب والحرمة إنّما يكون بأحد لحاظين هما المبدأ والمنتهى ، وأمّا عالم الاعتبار فلا تنافي بلحاظه ؛ لأنّه مجرّد صياغة إنشائيّة فقط فلا مانع من جعله على المتضادّين بأن يقال : ( يجب أداء الديون للناس ، وبأن يقول حقّ الله قبل حقّ الناس ويجب أداؤه ) ما دام مجرّد صياغة خالية عن المبادئ.

أمّا التنافي بلحاظ المبدأ فالمقصود به هو التنافي بلحاظ مبادئ الأحكام التكليفيّة من ملاك وإرادة ، فإنّه من المستحيل أن يكون هناك حكمان تكليفيّان كالوجوب والحرمة ثابتين معا ؛ لأن مبادئ الوجوب تتنافى مع مبادئ الحرمة. فإنّ المصلحة لا يمكن أن تجتمع مع المفسدة على شيء واحد ، والمحبوبيّة لا تجتمع مع المبغوضيّة على

__________________

(١) ولكن يمكن أن يقال : إنّ المحقّق النائيني قد أشار إلى عدم وجود مبادئ في الحكم الظاهري وذلك بقوله : ( فلا يوجد حكم تكليفي ظاهري زائدا على الحكم الواقعي ) ، فإنّ هذا معناه أنّ الحكم الظاهري لا ينشأ من جعله وجود حكم بالوجوب مثلا كما أخبر به الثقة ، وإذا لم يكن هناك حكم بالوجوب فليست هناك مبادئ مستقلّة على وفق الحكم الظاهري ، بل هناك مبادئ الحكم الواقعي فقط ، ولذلك لا يوجد إلا حكم تكليفي واقعي واحد فقط.

وبهذا يكون مقصود النائيني من نفي وجود الحكم الزائد المطابق للحكم الظاهري هو نفي مبادئه أيضا ؛ لأنّه إذا لم يكن هناك وجوب واقعي فليس هناك مبادئ لهذا الوجوب أيضا.

(٢) مصباح الأصول ٢ : ١٠٨ ـ ١١١.

٨١

متعلّق واحد كذلك ؛ إذ لا يعقل أن يكون شيء واحد محبوبا ومبغوضا وذا مصلحة وذا مفسدة في آن واحد من جهة واحدة.

وأمّا التنافي بلحاظ المنتهى فالمقصود به التنافي بين الأحكام بلحاظ ما يتطلّبه كلّ حكم في عالم الامتثال ، فالوجوب مثلا يتطلّب ويستدعي أن يقوم المكلّف بالفعل ويهيّئ مقدّماته وكلّ ما يتوقّف عليه الفعل فهو يبعث نحو المتعلّق ، وأمّا الحرمة فهي تتطلّب أن يترك المكلّف الفعل وينزجر عنه ويترك حتّى المقدّمات التي تكون موصلة إلى الفعل. ومن المعلوم أنّ هذه المتطلّبات متنافية ولا يمكن للمكلّف أن يجمع بينها في متعلّق واحد ؛ إذ لا يمكنه الفعل وعدم الفعل في آن واحد.

إذن اتّضح أنّ منشأ التضادّ بين الأحكام التكليفيّة هو أحد هذين اللحاظين المبدأ والمنتهى ، وهذا يتصوّر فيما إذا كان هناك حكمان تكليفيّان كالوجوب والحرمة واقعيّين أو ظاهريّين. وأمّا إذا كان الوجوب حكما ظاهريّا والحرمة حكما واقعيّا فلا تنافي بينهما ، وبيان ذلك :

فإذا كانت الحرمة واقعيّة والوجوب ظاهريّا فلا تنافي بينهما في المبادئ ؛ لأنّنا نفترض مبادئ الحكم الظاهري في نفس جعله لا في المتعلّق المشترك بينه وبين الحكم الواقعي ، ولا تنافي بينهما في متطلّبات مقام الامتثال لأنّ الحرمة الواقعيّة غير واصلة ـ كما يقتضيه جعل الحكم الظاهري في موردها ـ فلا امتثال لها ولا متطلّبات عمليّة ؛ لأنّ استحقاق الحكم للامتثال فرع الوصول والتنجّز.

إنّ الحرمة الواقعيّة والوجوب الظاهري لا تنافي بينهما لا بلحاظ المبدأ أي المبادئ ولا بلحاظ المنتهى أي الامتثال والمتطلّبات.

أمّا أنّه لا تنافي بينهما بلحاظ المبادئ فلأنّنا نقول : إنّ مبادئ الحكم الظاهري في نفس جعله لا في المتعلّق.

وتوضيحه : أنّ جعل الحجيّة للأمارات والأصول إنّما كان لأجل مصلحة في نفس هذا الجعل بقطع النظر عن الحكم الذي تحكي عنه وتؤدّي إليه ، فالأحكام الظاهريّة ليست تابعة للمتعلّق وما يشتمل عليه من مصالح أو مفاسد ومن محبوبيّة أو مبغوضيّة ، بل المصلحة موجودة في نفس جعل الحكم الظاهري ، فالاحتياط مثلا مجعول لمصلحة في نفس الاحتياط وهي التحفّظ على مصلحة الواقع على تقدير

٨٢

وجودها أو التحذّر من الوقوع في المفسدة على تقدير وجودها ، والبراءة مجعولة لأجل مصلحة في نفس التسهيل والترخيص على المكلّف ، وأمّا المتعلّق فالأحكام الظاهريّة ليست تابعة له ولما يشتمل عليه من المصالح أو المفاسد ، بل المصلحة في نفس جعلها فقط.

وهذا بخلاف الأحكام الواقعيّة ، فإنّها تابعة للمصالح أو المفاسد وللمحبوبيّة أو المبغوضيّة الموجودة في نفس متعلّقها وهو الفعل أو الترك بحيث يكون في نفس الفعل مصلحة أو في نفس الترك مصلحة كذلك ؛ لأنّ المصالح والمفاسد تابعة للمتعلّقات ذاتا.

وبهذا ظهر أنّ مبادئ الحكم الظاهري هي نفس جعلها بينما مبادئ الحكم الواقعي هي نفس المتعلّق ، فتغايرت الجهة فلا تنافي بينهما بلحاظ المبادئ لاختلاف الجهة حيث إنّ وحدتها من شروط التناقض والتضادّ.

وأمّا أنّه لا تنافي بينهما بلحاظ المنتهى أي عالم الامتثال والمتطلّبات فلأنّنا نقول : إنّ الحرمة الواقعيّة إنّما تستدعي متطلّبات على تقدير تنجّزها على المكلّف ، وهذا لا يكون إلا بوصولها إليه ، فإذا كانت الحرمة الواقعيّة غير واصلة إلى المكلّف فلا تستدعي أي نحو من المتطلّبات ؛ لأنّ عدم وصولها يعني عدم تنجّزها وإذ لا منجّزيّة فلا يحكم العقل بلزوم الإطاعة والامتثال. فحكم العقل بلزوم الامتثال موضوعه الوصول والتنجّز فإذا ارتفع موضوعه يرتفع حكم العقل بالإطاعة والامتثال ، وإذا ارتفع حكم العقل بالإطاعة والامتثال فلا متطلّبات أصلا.

وهنا نقول : إنّ الحرمة الواقعيّة غير واصلة فهي غير منجّزة فلا يحكم العقل بالإطاعة والامتثال ولزوم المتطلّبات ، والدليل على أنّها كذلك هو مقتضى جعل الحكم الظاهري في موردها ، فإنّ الحكم الظاهري موضوعه الشكّ في الحكم الواقعي وعدم العلم به ، وهذا معناه أنّ الحرمة غير معلومة وغير واصلة فليست منجّزة فلا متطلّبات عمليّة لها. وإنّما هناك وصول وتنجّز للحكم الظاهري كالوجوب مثلا حيث إنّ الشارع جعل الحجيّة له على مستوى التنجيز والتعذير على أقلّ تقدير.

وبهذا ظهر أنّ الحرمة الواقعيّة إذا كانت واصلة فهذا يعني لزوم امتثالها فيكون لها متطلّبات ؛ لكونها متنجّزة عقلا ، ومعه لا يكون هناك حكم ظاهري بالوجوب ؛ لأنّ موضوعه الشكّ في الحكم الواقعي ومع تنجّز ووصول الحرمة الواقعيّة لا شكّ. وإذا لم

٨٣

تكن واصلة فهي غير منجّزة فلا متطلّبات لها فيكون الحكم الظاهري هو الواصل والمتطلّبات له فقط. وهذا معناه دائما وصول أحدهما فقط إلى المكلّف ، فليس هناك إلا متطلّبات الحرمة فقط أو الوجوب فقط ولا يمكن اجتماعهما معا في عالم الوصول والتنجّز ؛ لأنّ وصول أحدهما يلزم منه ارتفاع موضوع الآخر قطعا.

وعليه فلا تنافي بين الوجوب الظاهري والحرمة الواقعيّة لا بلحاظ المبادئ ولا بلحاظ الامتثال فضلا عن عالم الاعتبار. وبذلك يرتفع محذور التضادّ المذكور أو اجتماع المثلين.

وبهذا أيضا لا يكون المولى مفوّتا لغرضه ؛ لأنّ له غرضا متعلّقا في نفس جعل الحكم الظاهري ، وبهذا الفرض سوف يكون هناك مصلحة في الحكم الظاهري تعوّض مصلحة الواقع الذي يفوت.

ولكن نتساءل : هل يمكن أن يجعل المولى وجوبا أو حرمة لملاك في نفس الوجوب أو الحرمة؟ ولو اتّفق حقّا أنّ المولى أحسّ بأنّ من مصلحته أن يجعل الوجوب على فعل بدون أن يكون مهتمّا بوجوده إطلاقا ، وإنّما دفعه إلى ذلك وجود المصلحة في نفس الجعل ، كما إذا كان ينتظر مكافأة على نفس ذلك من شخص ، ولا يهمّه بعد ذلك أن يقع الفعل أو لا يقع.

أقول : لو اتّفق ذلك حقّا فلا أثر لمثل هذا الجعل ولا يحكم العقل بوجوب امتثاله ، فافتراض أنّ الأحكام الظاهريّة ناشئة من مبادئ في نفس الجعل يعني تفريغها من حقيقة الحكم ومن أثره عقلا.

يرد على ما ذكره السيّد الخوئي من أنّ الحكم الظاهري ملاكه في نفس جعله أنّه يؤدّي إلى تفريغ الحكم الظاهري من حقيقة الحكم ، ويؤدّي أيضا إلى نفي منجّزيته فلا يحكم العقل بوجوب امتثاله ، وبالتالي لا أثر له. ولذلك يقول السيّد الشهيد : إنّنا نتساءل فعلا حول إمكانيّة أن يجعل المولى وجوبا أو حرمة ظاهريّة لملاك في نفس الوجوب أو الحرمة لا لملاك موجود في متعلّق الوجوب أو الحرمة ، فهل يمكن مثل هذا الجعل أو لا؟

ثمّ لو فرضنا إمكانيّة مثل هذا الجعل تصوّرا ، فهل يمكن أن يقع هذا الجعل خارجا أو لا؟ ولو فرضنا وقوعه خارجا ، فهل يكون له فائدة وأثر كالحكم الحقيقي أو لا؟

والجواب بالنفي لكلّ هذه التساؤلات ، فإنّ مثل هذا الجعل غير ممكن أصلا بحقّ

٨٤

الشارع الحكيم حيث إنّ الأحكام الإلهيّة على رأي العدليّة من الإماميّة والمعتزلة تابعة لملاكات في نفس الفعل والمتعلّق خلافا للأشاعرة.

ولو تنزّلنا وفرضنا إمكانيّة هذا الجعل عقلا وتصوّرا ، فلا يمكن أن نقبل بإمكانه الوقوعي ؛ وذلك لأنّا لو فرضنا أنّ هناك مشرّعا قد أحسّ وأدرك بوجود مصلحة في أن يجعل وجوبا أو حرمة على فعل ومتعلّق من دون أن يكون هناك مصلحة في نفس الفعل والمتعلّق فلا يكون لمثل هذا الجعل فائدة وأثر ، وتوضيح ذلك :

إنّنا لو فرضنا أنّ مشرّعا كان ينتظر مكافأة ما على نفس ذلك الجعل والتشريع بقطع النظر عن وجود مصلحة في الفعل المتعلّق لهذا الوجوب ، بحيث لم يكن هذا المشرّع مهتمّا بأن يحقّق مثل هذا المتعلّق خارجا ، ويمكن أن يكون مثاله أيضا الأمر بالأمر بالصلاة حيث تعلّقت المصلحة في نفس الأمر والجعل والتشريع من دون أن يكون هناك أدنى التفات إلى الفعل ووقوعه. فنقول : إنّ مثل هذه الجعل يكون فاقدا لمضمون الحكم وفارغا عن محتواه ؛ وذلك لأنّ حقيقة الحكم كالوجوب مثلا هي البعث والتحريك نحو المتعلّق الذي تعلّق للمولى غرض وشوق ومحبوبيّة فيه ، ومثل هذا الحكم الظاهري لا يمكن أن يكون باعثا ومحرّكا للمكلّف نحو المتعلّق ؛ إذ لا مصلحة في هذا المتعلّق أصلا.

ومن ثمّ فإنّ العقل لا يحكم بوجوب الإطاعة والامتثال لمثل هذا الحكم الفارغ من المحتوى والمضمون ؛ إذ حكم العقل بذلك فرع كون الحكم مطلوبا للمولى ومحبوبا له نظرا لحقّ الطاعة ، والمفروض أنّ كلّ ذلك منتف عن هذا الحكم ، ولذا لا يكون له أثر في المنجّزيّة لانتفاء موضوعها.

والحاصل : أنّ جعل الحكم الظاهري بهذا النحو المفروض ، وهو كون ملاكه في نفس جعله يعني تفريغه عن حقيقة الحكم وفقدانه للأثر التنجيزي العقلي الحاكم يوجب الإطاعة والامتثال. ومثل هذا الحكم يستحيل صدوره من الشارع الحكيم ، مضافا إلى أنّه بمجرّد جعله يكون الملاك المذكور قد استوفى وتحقّق فلا معنى لجعله على ذمّة المكلّف ؛ لأنّه يكون من باب تحصيل الحاصل أو من باب التكليف اللغوي ؛ لأنّه لا مصلحة موجودة ولا ملاك. فلما ذا يجعله على ذمّة المكلّف؟!

فالجواب المذكور في افتراضه المصلحة في نفس الجعل غير تام ، ولكنّه في

٨٥

افتراضه أنّ الحكم الظاهري لا ينشأ من مبادئ في متعلّقة بالخصوص تامّ ، فنحن بحاجة إذن في تصوير الحكم الظاهري إلى افتراض أن مبادئه ليس من المحتوم تواجدها في متعلّقة بالخصوص ؛ لئلاّ يلزم التضادّ ، ولكنّها في نفس الوقت ليست قائمة بالجعل فقط لئلاّ يلزم تفريغ الحكم الظاهري من حقيقة الحكم.

والنتيجة أنّ الجواب الذي ذكره السيّد الخوئي يتضمّن أمرين :

الأوّل : أنّ المصلحة والملاك في الحكم الظاهري في نفس جعله ، وهذا غير صحيح كما تقدّم سابقا.

الثاني : أنّ الملاك والمصلحة في الحكم الظاهري ليست في متعلّقة بالخصوص ، وهذا المقدار صحيح.

ولذلك فنحن بحاجة إلى بيان حقيقة الحكم الظاهري وكيف أنّ ملاكه ومصلحته ليست في متعلّقة بالخصوص ؛ إذ ليس من الضروري أن نفترض أنّ الملاك والمبادئ في نفس متعلّق الحكم الظاهري ليلزم التضادّ أو المثلين ، وفي نفس الوقت ليست هذه المبادئ والمصلحة موجودة في نفس الجعل ؛ لئلاّ يلزم ما تقدّم من تفريغ الحكم الظاهري من حقيقة الحكم ومن كونه لا فائدة ولا أثر له. فالصحيح أن يقال :

وذلك بأن نقول : إنّ مبادئ الأحكام الظاهريّة هي نفس مبادئ الأحكام الواقعيّة.

والجواب الصحيح عن الإشكال المتقدّم أن نقول : إنّ مبادئ الأحكام الظاهريّة من ملاك وإرادة وشوق ومحبوبيّة ليست في نفس الجعل وليست في متعلّقها بخصوصه ، وإنّما هي نفس مبادئ الأحكام الواقعيّة ، ففي الحقيقة لا يوجد إلا مبادئ الحكم الواقعي فقط ولذلك لا تضادّ بين الحكمين. وتوضيح المطلب يتمّ بذكر أمور :

وتوضيح ذلك : أنّ كلّ حرمة واقعيّة لها ملاك اقتضائي ، وهو المفسدة والمبغوضيّة القائمتان بالفعل ، وكذلك الأمر في الوجوب ، وأمّا الإباحة فقد تقدّم في الحلقة السابقة (١) أنّ ملاكها قد يكون اقتضائيا وقد يكون غير اقتضائي ؛ لأنّها قد تنشأ عن وجود ملاك في أن يكون المكلّف مطلق العنان وقد تنشأ عن خلو الفعل المباح من أي ملاك.

__________________

(١) ضمن بحث ( الحكم الشرعي وتقسيمه ) من مباحث التمهيد ، تحت عنوان : مبادئ الحكم التكليفي.

٨٦

الأمر الأوّل : أنّ الحرمة الواقعيّة كالوجوب الواقعي لهما مبادئ وملاكات اقتضائيّة متعلّقة بالفعل ، فالحرمة الواقعيّة ملاكها الاقتضائي المفسدة والمبغوضيّة القائمتان بالفعل ، والوجوب الواقعي ملاكه الواقعي المصلحة والمحبوبيّة كذلك ، فالوجوب والحرمة متعلّقان بالفعل وجودا أو تركا.

وأمّا الإباحة فهي على قسمين :

فتارة تنشأ من ملاك اقتضائي بأن يكون المكلّف مطلق العنان.

وأخرى تنشأ من خلوّ الفعل من أي ملاك فعلا أو تركا.

وعليه فإذا اختلطت المباحات بالمحرّمات ولم يتميّز بعضها عن البعض ، لم يؤدّ ذلك إلى تغيّر في الأغراض والملاكات والمبادئ للأحكام الواقعيّة ، فلا المباح بعدم تمييز المكلّف له عن الحرام يصبح مبغوضا ، ولا الحرام بعدم تمييزه عن المباح تسقط مبغوضيّته ، فالحرام على حرمته واقعا ولا يوجد فيه سوى مبادئ الحرمة ، والمباح على إباحته ولا توجد فيه سوى مبادئ الإباحة.

الأمر الثاني : أنّه إذا اختلطت المباحات الواقعيّة والمحرّمات ولم يقدر المكلّف على تمييز بعضها عن البعض الآخر ، بمعنى انسداد باب الواقع أمامه ، فهذا لا يؤدّي إلى تغيير المحرّمات عن مبادئها الواقعيّة ولا إلى تغيير المباحات عن مبادئها الواقعيّة أيضا ، فالمحرّمات تبقى فيها مبادئ المفسدة والمبغوضيّة وإن لم يقدر المكلّف على معرفتها وتمييزها ، وكذلك الحال في مبادئ المباحات. وهذا معناه أنّ الحرام الواقعي ليس فيه إلا مبادئ الحرمة الواقعيّة من مفسدة ومبغوضيّة ولا يتغيّر ولا يتبدّل بعدم تمييزه ومعرفته ، والمباح الواقعي لا تتبدّل فيه مبادئ الإباحة ولا تتغيّر ، فلا الحرام يصبح مباحا ولا المباح يصير حراما ؛ نتيجة لعدم التمييز.

وهذا ثابت بحكم وجود أحكام واقعيّة ثابتة بحقّ الجميع سواء العالم بها والجاهل لا تتبدّل ولا تتغيّر.

غير أنّ المولى في مقام التوجيه للمكلّف الذي اختلطت عليه المباحات بالمحرّمات بين أمرين : إمّا أن يرخّصه في ارتكاب ما يحتمل إباحته ، وإمّا أن يمنعه من ارتكاب ما يحتمل حرمته.

الأمر الثالث : أن المولى عند اختلاط الأحكام المباحة والمحرّمة على المكلّف لا بدّ أن

٨٧

يوجّه هذا المكلّف عمليّا ، فهو بين أمرين : إمّا أن يرخّصه في ارتكاب كلّ ما يحتمل إباحته ، وهذا بطبيعته سوف يشمل الحرام الواقعي أيضا ؛ نتيجة عدم تمييزه عن المباح. وإمّا أن يمنعه عن ارتكاب كلّ ما يحتمل حرمته ، وهذا معناه أيضا الشمول للمباح الواقعي ؛ نتيجة عدم تمييزه عن الحرام.

وهذان الأمران لا ثالث لهما ؛ لأنّ المكلّف اتّجاه هذا الواقع المسدود إمّا أن يفعل أو يترك وليس له خيار ثالث بينهما.

وواضح أنّ اهتمامه بالاجتناب عن المحرّمات الواقعيّة يدعوه إلى المنع عن ارتكاب كلّ ما يحتمل حرمته ، لا لأنّ كلّ ما يحتمل حرمته فهو مبغوض وذو مفسدة ، بل لضمان الاجتناب عن المحرّمات الواقعيّة الموجودة ضمنها ، فهو منع ظاهري ناشئ من مبغوضيّة المحرّمات الواقعيّة والحرص على ضمان اجتنابها.

والنتيجة : أنّ المولى إذا كان مهتمّا بجانب المحرّمات ، فهذا يدعوه إلى إصدار منع عن ارتكاب كلّ ما يحتمل حرمته ، كأن يأمر بالاحتياط في الشبهات ، وهذا المنع عن ارتكاب الشبهات التي يحتمل حرمتها سوف يشمل المباح الواقعي ؛ نتيجة للاختلاط وعدم التمييز للحرام عن المباح. فهناك مباحات ضمن دائرة ما يحتمل حرمته سوف يشمله المنع من الارتكاب ، إلا أنّ هذا المنع لم ينشأ من كون ما يحتمل حرمته واجدا لملاك ومبادئ الحرمة من مفسدة ومبغوضيّة ؛ إذ مبادئ الحرمة مختصّة بالحرمة الواقعيّة فقط لا كلّ حرمة محتملة ، بل إنّ هذا المنع كان لأجل الحفاظ على ملاكات الحرام الواقعي ولأجل الحرص على ضمان اجتنابها ، فإنّه إذا اجتنب كلّ هذه الشبهات التي يحتمل حرمتها يكون قد اجتنب الوقوع في الحرام قطعا ، فهذا المنع منع ظاهري ناشئ من الملاك والمبادئ في متعلّق الحرمة الواقعيّة ، وليس ناشئا من وجود مبادئ الحرمة في متعلّق الحكم الظاهري بخصوصه أو أن مبادئه في نفس جعله.

فليس في الحكم الظاهري ملاكات ومبادئ زائدة ومستقلّة عن ملاكات ومبادئ الحكم الواقعي بل هي نفسها ، والغرض منها هو الحفاظ على الملاكات الواقعيّة للحرمة وضمان اجتنابها وعدم توريط المكلّف بالوقوع في المفسدة الواقعيّة.

وفي مقابل ذلك إن كانت الإباحة في المباحات الواقعيّة ذات ملاك لا اقتضائي فلن يجد المولى ما يحول دون إصدار المنع المذكور ، وهذا المنع سيشمل الحرام

٨٨

الواقعي والمباح الواقعي أيضا إذا كان محتمل الحرمة للمكلّف ، وفي حالة شموله للمباح الواقعي لا يكون منافيا لإباحته ؛ لأنه ـ كما قلنا ـ لم ينشأ عن مبغوضيّة نفس متعلّقه ، بل عن مبغوضيّة المحرّمات الواقعيّة والحرص على ضمان اجتنابها.

وفي المقابل نقول : إنّ الإباحة في المباحات الواقعيّة إن كانت ذات ملاك لا اقتضائي بأن كانت ناشئة من خلوّ الفعل من أي ملاك ، فهنا لا يوجد أي مانع من إصدار المولى لذلك المنع الظاهري لكلّ ما يحتمل حرمته ، وهذا ملازمه كما قلنا شمول المنع الظاهري للحرام الواقعي وللمباح الواقعي في حالة احتماله حرمته ؛ نتيجة عدم التمييز للمكلّف بينه وبين الحرام ، وهذا المنع الظاهري في حالة شموله للحرام الواقعي لا إشكال فيه ؛ لأنّ الحرام الواقعي على حرمته ففيه مبادئ الحرمة من مفسدة ومبغوضيّة ، وأمّا في حالة شموله للمباح الواقعي ، فقد يتوهّم كما في الإشكال المطروح لزوم اجتماع الضدّين إلا أنّه مجرّد توهّم واه ؛ وذلك لأنّ المباح الواقعي على إباحته ولا يتغيّر عنها فهو واجد لملاك الإباحة الواقعيّة ، غير أنّ المنع تعلّق به لأجل الحفاظ على ملاكات الحرمة الواقعيّة وضمان اجتنابها والحرص عليها ، وليس المنع متعلّقا به لأجل وجود مبادئ الحرمة في متعلّقه ؛ إذ تقدّم أنّ المباح أو الحرام لا يتغيّر حالهما بمجرّد عدم تمييز المكلّف لهما.

وأمّا إذا كانت الإباحة الواقعيّة ذات ملاك اقتضائي فهي تدعو ـ خلافا للحرمة ـ إلى الترخيص في كلّ ما يحتمل إباحته ، لا لأنّ كلّ ما يحتمل إباحته ففيه ملاك الإباحة ، بل لضمان إطلاق العنان في المباحات الواقعيّة الموجودة ضمن محتملات الإباحة ، فهو ترخيص ناشئ عن الملاك الاقتضائي للمباحات الواقعيّة والحرص على تحقيقه.

وأمّا إذا كانت الإباحة الواقعيّة ذات ملاك اقتضائي بأن يكون المكلّف مطلق العنان ، فهذا معناه أنّ المولى يرخّص في ارتكاب كلّ ما يحتمل إباحته حتّى الحرام الواقعي المحتمل إباحته ؛ نتيجة عدم التمييز والاختلاط. وهذا لا يعني أنّ كلّ ما يحتمل إباحته واجد لملاك الإباحة الواقعيّة ، بل لأجل ضمان الملاك للإباحة الواقعيّة الاقتضائي ، وهو إطلاق العنان والتسهيل والترخيص على المكلّف ، فإنّ هذا الملاك إذا كان بدرجة لا يسمح المولى بفواته على المكلّف فهو سوف يسمح له بارتكاب الحرام

٨٩

الواقعي ، غير أنّه في هذه الحالة لا يتغيّر الحرام الواقعي عن مبادئ الحرمة من مفسدة ومبغوضيّة ، بل هو على تلك المبادئ الواقعيّة للحرمة. وإنّما رخّص المولى في ارتكابه ضمن دائرة المباحات المحتملة ؛ لأنّ ملاك هذه الإباحة وهو إطلاق العنان يقتضي الترخيص في كلّ ما يحتمل إباحته لأجل ضمان هذا الترخيص ولأجل الحرص على تحقّقه.

فالشارع أمامه أحد هذين الخيارين إمّا أن يمنع عن كلّ ما يحتمل حرمته إن كانت الإباحة ذات ملاك لا اقتضائي وإمّا أن يرخّص في كلّ ما يحتمل إباحته إن كانت الإباحة ذات ملاك اقتضائي ، وحينئذ :

وفي هذه الحالة يزن المولى درجة اهتمامه بمحرّماته ومباحاته ، فإن كان الملاك الاقتضائي في الإباحة أقوى وأهمّ رخّص في المحتملات ، وهذا الترخيص يشمل المباح الواقعي والحرام الواقعي إذا كان محتمل الإباحة ، وفي حالة شموله للحرام الواقعي لا يكون منافيا لحرمته ؛ لأنّه لم ينشأ عن ملاك للإباحة في نفس متعلّقه ، بل عن ملاك الإباحة في المباحات الواقعيّة والحرص على ضمان ذلك الملاك. وإذا كان ملاك المحرّمات الواقعيّة أهمّ منع من الإقدام في المحتملات ضمانا للمحافظة على الأهمّ.

ثمّ إنّه إذا كانت الإباحة ذات ملاك اقتضائي فيقع التزاحم في حالة الاشتباه وعدم التمييز للمباح عن الحرام بين الترخيص في ارتكاب كلّ ما يحتمل إباحته أو المنع عن ارتكاب كلّ ما يحتمل حرمته. فهنا يزن المولى درجة اهتمامه بمحرّماته ومباحاته ، فإن كان الملاك الاقتضائي في الإباحة أقوى وأهمّ فهو يرخّص في ارتكاب المحتملات. وهذا الترخيص سوف يشمل بطبيعة الحال الحرام الواقعي كما تقدّم ، إلا أنّ هذا الشمول لا يضرّ ؛ لأنّه شمول ظاهري لم ينشأ من وجود مبادئ الإباحة في متعلّق الحرام ، وإنّما هو على مبادئ الحرمة الواقعيّة. وإنّما تعلّق به الترخيص الظاهري لأجل مصلحة أخرى ، وهي الحفاظ على مبادئ الإباحة الواقعيّة المختلطة ضمن دائرة المحتملات.

وإن كان ملاك الحرمة الواقعيّة أهمّ وأقوى فهو يصدر منعا ظاهريا عن ارتكاب دائرة المحتملات للحرام ، والتي يوجد ضمنها المباح الواقعي أيضا ، والمصلحة في

٩٠

إصدار هذا المنع هو الحفاظ على ضمان اجتنابها والتحفّظ من الوقوع في المفسدة الواقعيّة.

وهكذا يتّضح أنّ الأحكام الظاهريّة خطابات تعيّن الأهمّ من الملاكات والمبادئ الواقعيّة حين يتطلب كلّ نوع منها الحفاظ عليه بنحو ينافي ما يضمن به الحفاظ على النوع الآخر.

وهكذا يتّضح لنا جوهر وحقيقة الأحكام الظاهريّة وهي كونها خطابات (١) لأجل تعيين الأهمّ من الملاكات الواقعيّة المشتبهة على المكلّف ، حينما يكون كلّ نوع من هذه المبادئ الواقعيّة يتطلّب نحوا من الحفاظ عليه يتنافى مع الحفاظ على الآخر ، كما هو الحال في الوجوب والحرمة أو الإباحة معهما. وليست أحكاما حقيقة ؛ لأنّ الحكم ما كان فيه مبادئ في متعلّقة وهي ليست كذلك. فالمولى يلاحظ ما هو الأهمّ من هذه المبادئ الواقعيّة ويصدر حكما ظاهريّا على طبقها بأن يرخّص أو يمنع.

ولا بأس أن نذكر مثلا لذلك : لو فرضنا أنّ المولى تعلّق غرضه بإكرام زيد ، فأنشأ حكما بوجوب إكرام زيد وجعله في عهدة المكلّف ، إلا أنّ المكلّف قد اشتبه عنده زيد ضمن عشرة أفراد لهم نفس الاسم. فهنا نقول : المولى إذا كان اهتمامه بإكرام زيد بدرجة قوية جدّا بحيث لا يسمح بتفويته ، فهو لن يجد ما يحول دون إصدار حكم آخر بإكرام العشرة لكي يتحقّق غرضه من إكرام زيد المشتبه ضمنها. وهذا الحكم الثاني حكم ظاهري لم ينشأ من ملاك ومبادئ في نفس متعلّقه وهو العشرة ، وإنّما ينشأ من مبادئ الحكم الواقعي ومتعلّقه وهو إكرام زيد ، فيكون هذا الحكم الثاني مبرزا لاهتمام المولى ليس إلا ، من دون أن يكون فيه مبادئ في نفس متعلّقه ، بل مبادئه نفس مبادئ الحكم الواقعي المذكور.

وبهذا اتّضح الجواب على الاعتراض الثاني ، وهو أنّ الحكم الظاهري يؤدّي إلى تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة فإنّ الحكم الظاهري وإن كان قد يسبّب ذلك ، ولكنّه إنّما يسبّبه من أجل الحفاظ على غرض أهمّ.

وبهذا التحليل لحقيقة الحكم الظاهري اتّضح الجواب عن الشبهتين الأولى والثانية :

__________________

(١) وتعبيره بكونها خطابات فيه مسامحة واضحة ؛ لأنّ الأحكام الظاهريّة في الحقيقة تعيّن الأهمّ. وليست خطابات ؛ لأنّ الخطابات هي الحاكية للحكم والتشريع الواقعي.

٩١

أمّا الأولى فلأنّه لا يوجد مبادئ في متعلّق الحكم الظاهري ، وإنّما مبادئه نفس مبادئ متعلّق الحكم الواقعي ولذلك لا تضادّ.

وأمّا الثانية فلأنّ الحكم الظاهري وإن كان يفوّت المصلحة الواقعيّة ويسبّب الإلقاء في المفسدة في حالة عدم مطابقته للواقع ، إلا أنّه إنّما يسبّب ذلك لأجل الحفاظ على مصلحة أقوى وأهمّ. ففي الحقيقة ليس هناك تفويت أو إيقاع في المفسدة ، وإنّما هناك تفويت لمصلحة مهمّة لأجل الحصول على مصلحة أهمّ. وهذا الأمر مقبول عقلا وعقلائيّا ، ومثاله في باب التزاحم الامتثالي : إذا دار الأمر بين إنقاذ غريق وبين إيقاع الصلاة بحيث لا يمكن الجمع بينهما ، أو دار الأمر بين إنقاذ أحد غريقين وكان لأحدهما بعض المرجّحات ككونه عالما تقيّا مثلا ، فهنا يحكم بإنقاذ الغريق في فرض تزاحمه مع الصلاة ، ويحكم بإنقاذ الغريق العالم التقي في الفرض الثاني ، وهذا يعني فوات الصلاة وموت الغريق الثاني ، وهو تفويت للمصلحة وإيقاع في المفسدة إلا أنّه كان ذلك لأجل الحفاظ على مصلحة أهمّ وأقوى من تلك المصلحة.

وهذا مصداق لباب التزاحم الذي ملاكه ترجيح الأهمّ على المهمّ (١).

__________________

(١) يمكن إرجاع ما ذكره السيّد الخوئي إلى هذا البيان وذلك بأن يقال :

إنّ المثال الذي ضربه السيّد الخوئي للتمثيل على كيفيّة كون الحكم الظاهري ملاكه ليس في المتعلّق ، بل بنفس جعله يلقي ضوءا على أنّ مراده من تعبيره بنفس الجعل شيئا آخر غير ما ذكره السيّد الشهيد وأشكل عليه ـ وإن كان تعبيره المذكور غير صحيح ـ فذكر أنّ الاحتياط مثلا مجعول لمصلحة في نفس الاحتياط وهي التحفّظ على مصلحة الواقع على تقدير وجودها والتحذّر من الوقوع في المفسدة كذلك. وهذا يفهم منه أنّه يوجد ملاك لجعل الاحتياط لا أنّ ملاكه نفس جعله وإن صرّح بذلك ؛ لأنّ المصلحة المذكورة معناها الحفاظ على المصالح والملاكات الواقعيّة على تقدير وجودها ، فكان تشريع الاحتياط لأجل التحفّظ والتحذّر على الملاكات الواقعيّة لا لملاك في نفس الاحتياط بما هو هو ، بل بما هو مشتمل على التحفّظ والتحذّر. وهذا موافق لما ذكره السيّد الشهيد من أنّ إصدار المنع الظاهري إنّما هو بملاك الحفاظ على الأهمّ من الملاكات الواقعيّة كالحرمة مثلا ، فيصدر المنع عن دائرة ما يحتمل حرمته لأجل ضمان اجتنابها والحرص والحفاظ عليها. غاية الأمر أنّ السيّد الخوئي عبّر عن هذا المطلب بأنّ الملاك في نفس جعل الحكم الظاهري بينما السيّد الشهيد عبّر عنه بأنّ الملاك هو إبراز الأهمّ والحفاظ عليه وضمانه ، فلاحظ وتأمّل.

٩٢

شبهة تنجّز

الواقع المشكوك

٩٣
٩٤

شبهة تنجّز الواقع المشكوك

وأمّا الاعتراض الثالث فقد أجيب (١) بأنّ تصحيح العقاب على التكليف الواقعي الذي أخبر عنه الثقة بلحاظ حجيّة خبره لا ينافي قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ لأنّ المولى حينما يجعل خبر الثقة حجّة يعطيه صفة العلم والكاشفيّة اعتبارا على مسلك الطريقية المتقدّم ، وبذلك يخرج التكليف الواقعي عن دائرة قبح العقاب بلا بيان ؛ لأنّه يصبح معلوما بالتعبّد الشرعي وإن كان مشكوكا وجدانا.

ذكر المحقّق النائيني بأنّ الجواب على إشكال تنجّز الواقع المشكوك واستحقاق العقوبة على المخالفة في صورة قيام الحكم الظاهري على حكم إلزامي كالوجوب أو الحرمة لا يتنافى مع الحكم العقلي بالتأمين في صورة الشكّ على أساس قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ وذلك أنّ موضوع القاعدة العقليّة عدم البيان والعلم فإذا لم يكن هناك علم بالتكليف فلا يكون منجّزا على المكلّف وبالتالي لا يعاقب على مخالفته. وأمّا إذا تحقّق البيان والعلم فيصبح التكليف منجّزا ويستحقّ العقاب على المخالفة للزوم الإطاعة والامتثال عقلا. وهنا الحكم الظاهري كخبر الثقة الدالّ على الإلزام كالوجوب والحرمة عند ما تجعل له الحجيّة شرعا معناه أنّ الشارع قد جعل خبر الثقة طريقا وكاشفا تامّا عن الواقع ، فيكون الشارع قد اعتبر خبر الثقة علما ؛ لأنّ المجعول في الأحكام الظاهريّة هو العلميّة والطريقيّة والكاشفيّة. وحينئذ نقول : إنّه لا منافاة بين الحكم الظاهري الدالّ على الإلزام وبين حكم العقل المذكور ؛ لأنّ الحكم الظاهري يثبت به العلم والبيان تعبّدا ، ومع تحقّق البيان والعلم يرتفع موضوع حكم العقل بالتأمين ؛ لأنّ موضوعه عدم البيان والعلم. والمفروض أنّهما متحقّقان وثابتان في الفرض المذكور ، فلا تنافي ؛ لأنّ حكم العقل مرتفع تبعا لارتفاع موضوعه ، حيث إنّ

__________________

(١) يمكن استفادة ذلك ممّا جاء في أجود التقريرات ٢ : ١١.

٩٥

الموضوع بمثابة العلّة للحكم إذا انتفى ينتفي الحكم معه ، وإلا لزم التفكيك بين العلّة والمعلول وهو محال.

والحاصل : أنّ موضوع الحكم العقلي هو عدم العلم والبيان الأعمّ من العلم الحقيقي كالقطع الوجداني ، ومن العلم التعبّدي كخبر الثقة الذي جعله الشارع علما بالتعبّد والاعتبار. وبهذا يتنجّز الواقع على المكلّف ، ويصبح ملزما بالامتثال والإطاعة وإلا لكان مدانا بحكم العقل. وبهذا ظهر أنّ الأحكام الظاهريّة واردة على القاعدة العقليّة ؛ لأنّها ترفع موضوعها حقيقة ؛ لأنّ موضوعها العلم والبيان الأعمّ من الوجداني أو التعبّدي الاعتباري.

ونلاحظ على ذلك : أنّ هذه المحاولة إذا تمّت فلا تجدي في الأحكام الظاهريّة المجعولة في الأصول العمليّة غير المحرزة كأصالة الاحتياط ، على أنّ المحاولة غير تامّة كما يأتي (١) إن شاء الله تعالى.

أورد السيّد الشهيد على كلام المحقّق النائيني إشكالين :

الأوّل : أنّ ما ذكره من جعل العلميّة للحكم الظاهري إنّما يتمّ على فرض التسليم بأصل المبنى في الأحكام الظاهريّة التي فيها كشف ظنّي ناقص من الواقع ، حيث إنّ جعل الحجيّة لها يكون متمّما لهذا الكشف فيعتبرها علما تعبّدا كما هو الحال في الأمارات كخبر الثقة مثلا. وأمّا في الأصول العمليّة غير المحرزة كأصالة البراءة والاحتياط فلا يتمّ هذا الكلام ؛ لأنّه لا يوجد أي كشف عن الواقع في البراءة أو الاحتياط ؛ لأنّها مجرّد وظائف لتحديد الموقف العملي اتّجاه الواقع المشكوك ، من دون أن تكون كاشفا ولو كشفا ظنيّا ناقصا عن الواقع. فجعل الحجيّة فيها معناه جعلها منجّزة ومعذّرة فقط دون أن يكون هناك أي علم وبيان فيها ، نعم في الأصول العمليّة المحرزة كالاستصحاب مثلا يوجد كشف ظنّي عن الواقع فهي كالأمارات.

الثاني : أنّ أصل المبنى غير صحيح ؛ لأنّنا لا نقبل أن يكون المجعول في الحكم الظاهري حتّى الأمارات منه الكاشفيّة والطريقيّة والعلميّة كما سيأتي في توضيحه عند البحث عن الأمارات والأصول. فهذه المحاولة غير صحيحة أصلا. وبهذا يظهر أنّ

__________________

(١) ضمن المبادئ العامّة من مباحث الأدلّة المحرزة ، تحت عنوان : وفاء الدليل بدور القطع الطريقي والموضوعي.

٩٦

شبهة التنجّز لا تزال مستحكمة بناء على مسلك المشهور القائل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان. مضافا إلى أنّ حكومة الأمارات على القاعدة المذكورة متوقّفة على قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الذي التزم به المحقّق النائيني ، ولكن مع ذلك فإنّ دليل حجيّة الأمارات والذي هو السيرة العقلائيّة قائم على العمل بالأمارات مقام القطع الطريقي ، إذ لا وجود للقطع الموضوعي في حياتهم ، ولو فرض وجوده فهو فرد نادر يحتاج إلى النظر إليه في الدليل الحاكم ، والنظر هنا غير محرز إذ لا يوجد ما يدلّ عليه في لسان دليل الحجيّة. فحتّى لو قبلنا الحكومة فهي لا تجدي ؛ لأنّها بلسان التخصيص ولكن على أساس التوسعة أو التضييق وقد قلنا : إنّ الأحكام العقليّة غير قابلة للتخصيص مطلقا. نعم يتمّ ذلك بناء على الورود إلا أنّه لا قائل به منهم.

والصحيح أنّه لا موضوع لهذا الاعتراض على مسلك حقّ الطاعة ؛ لما تقدّم من أنّ هذا المسلك المختار يقتضي إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان رأسا. وقد تلخّص مما تقدّم أنّ جعل الأحكام الظاهريّة ممكن.

والجواب الصحيح على شبهة التنجّز : هو إنكار مسلك المشهور القائل بقبح العقاب بلا بيان ، إذ على أساس هذا المبنى لا يمكن دفع هذه الشبهة. وأمّا على المسلك المختار عندنا وهو مسلك حقّ الطاعة فلا موضوع لهذه الشبهة ، وذلك لأنّه بناء على هذا المسلك يكون الشكّ والظنّ بل أدنى احتمال للتكليف منجّزا ، فضلا عن العلم به على أساس حقّ الطاعة الثابت بحكم العقل. وهذا يعني أنّ الحكم الظاهري كخبر الثقة مثلا الدالّ على الوجوب أو الحرمة لا يتنافى مع حكم العقل ، بل يكون موافقا له (١). وبهذا يتلخّص أنّ جعل الأحكام ممكن لأنّ الإشكالات المذكورة مندفعة بما تقدّم.

__________________

(١) إلا أنّه على مسلك حقّ الطاعة يكون الحكم الظاهري النافي للتكليف متنافيا مع حكم العقل بالمنجزية ؛ لأنّ هذا الحكم يثبت به التأمين والمعذّريّة بينما مسلك حقّ الطاعة يثبت به المنجّزيّة.

٩٧
٩٨

الأمارات والأصول

٩٩
١٠٠