شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

٣ ـ لما ذا كان العامّ متقدّما على الإطلاق؟

والجواب : أنّ العموم مدلول لفظي لأدوات العموم ، بينما الإطلاق ليس مدلولا لفظيّا لاسم الجنس. بمعنى أنّ العامّ يذكر صريحا العموم ، بينما اسم الجنس لا يذكر الإطلاق. وهذا معناه أنّ الدلالة على الإطلاق سكوتيّة.

٤ ـ لما ذا يفرّق بين اسم الجنس الخالي من القيد في حالات عدم البيان وحالات البيان إذا كان الحاكم بالإطلاق هو العقل؟

والنتيجة : هي أنّه لا يصلح للإجابة عن هذه التساؤلات إلا القول أنّ الإطلاق مدلول لاسم الجنس على أساس قرينة الحكمة التي من مقدّماتها عدم ذكر القيد ، وكون المتكلّم في مقام البيان والتفهيم.

الحالة الثالثة أن يكون المعنى متبادرا ولكن يواجه ذلك شبهة تعيق الأصولي عن الأخذ بتبادره ما لم يجد حلاّ فنيّا لتلك الشبهة.

الحالة الثالثة من البحوث اللغويّة هي البحوث اللغويّة التفسيريّة أيضا ، وذلك بأن يكون المعنى واضحا ومفهوما لكونه متبادرا إلى الذهن العرفي ، إلا أنّه يوجد في مقابل هذا التبادر العرفي شبهة لا يمكن مع بقائها الأخذ بهذا التبادر ؛ لأنّها تشكّل نقضا عمليّا له ، ولذلك كان لا بدّ من حلّ هذه الشبهة والتوفيق بينها وبين ذاك التبادر ليمكن الأخذ به.

ومثال ذلك : أنّ الجملة الشرطيّة تدلّ بالتبادر العرفي على المفهوم ، ولكن في مقابل ذلك نحسّ أيضا أنّ الشرط فيها وإذا لم يكن علّة وحيدة ومنحصرة للجزاء لا يكون استعمال أداة الشرط مجازا ، كاستعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع.

مثال ذلك : أنّ الجملة الشرطيّة تدلّ بالتبادر العرفي على المفهوم كقولنا مثلا : ( إذا جاء زيد فأكرمه ) فتدلّ بالمفهوم على أنّه إذا لم يأت زيد فلا يجب الإكرام ، وهذه الدلالة على المفهوم نحسّ بها بالتبادر العرفي أي بوصفنا من أهل العرف واللغة والمحاورة ، إلا أنّنا نجد أنّ هذه الجملة الشرطيّة إنّما تدلّ على المفهوم فيما إذا كان الشرط علّة تامّة منحصرة للجزاء.

وإذا لم يكن الشرط علّة تامّة للجزاء فلا مفهوم لها كما في قوله : ( إذا خفي الأذان

٢٨١

فقصّر ) فإنّه لا مفهوم لهذه الجملة ؛ لأنّ الشرط ليس العلّة الوحيدة المنحصرة ؛ لأنّ التقصير ثابت مع خفاء الجدران بقوله : ( إذا خفيت الجدران فقصّر ).

مع أنّ استعمال الجملة الشرطيّة في موارد عدم المفهوم ليس مجازا ، كالمجازيّة في استعمال الأسد في الرجل الشجاع ، فإنّه إذا قيل. ( زيد أسد ) ؛ لكونه شجاعا كان استعمالا مجازيّا ؛ لأنّه استعمال اللفظ في غير المعنى الموضوع له لمناسبة وهي الشجاعة. وفي مقامنا لا يوجد مجازيّة في استعمال الجملة الشرطيّة في موارد عدم المفهوم ، مع أنّ التبادر الأوّل الذي يدلّنا على ثبوت المفهوم للجملة الشرطيّة في موارد كون الشرط علّة تامّة منحصرة معناه أنّ أدوات الشرط موضوعة لغة لذلك.

فكيف يتمّ التوفيق بين هذين المفهومين المتبادرين المتنافيين ، وهما :

التبادر على أنّ الشرطيّة تدلّ على المفهوم ، والذي معناه كونها موضوعة لذلك لغة.

والتبادر على عدم المجاز في موارد عدم المفهوم ، فإنّه لو كانت موضوعة للمفهوم كيف لم يكن هناك مجاز؟!

ومن هنا يتحيّر الإنسان في كيفيّة التوفيق بين هذين الوجدانين ، ويؤدّي ذلك إلى الشكّ في الدلالة على المفهوم ما لم يتوصّل إلى تفسير يوفّق فيه بين الوجدانين.

والنتيجة هي الوقوع في الحيرة أمام هذين الوجدانين المتنافيين ، فهل يأخذ بالوجدان الأوّل ويحكم بالمجازيّة في موارد عدم المفهوم ، أو يأخذ بالوجدان الثاني ويحكم بعدم المفهوم في موارد العلّة التامّة المنحصرة؟ وكلا الأمرين لا دليل عليه وجدانا ، والأخذ بأحدهما وطرح الآخر ترجيح بلا مرجّح. ولذلك يؤدّي الأمر إلى الشكّ في دلالة الجملة على المفهوم أو إلى إنكار المفهوم ما لم يتوصّل إلى حلّ فنّي يوفّق بين الوجدانين.

وهذا الحلّ الفنّي يتولاّه علم الأصول وهو بحث تفسيري توفيقي بعد أن كان المعنى موجودا ، وهذا الحلّ يختلف باختلاف المباني والتصوّرات وعلى أساسه تختلف النتائج والتي تؤثّر في عمليّة الاستنباط ؛ لأنّ الجملة الشرطيّة من العناصر المشتركة في الاستنباط.

وهناك أيضا بعض الحالات الأخرى التي يجدي فيها البحث التحقيقي.

٢٨٢

كما في موارد الاستثناء والحصر والعموم وأقسامه والإطلاق وأقسامه ، فإنّ البحث التحليلي أو التفسيري ينفع فيها ؛ لأنّها عناصر مشتركة في الاستنباط.

وعلى هذا الأساس وبما ذكرنا من المنهجة والأسلوب يتناول علم الأصول دراسة الدلالات المشتركة الآتية ويبحثها لغويّا أو تحليليّا.

٢٨٣
٢٨٤

المعاني الحرفيّة

٢٨٥
٢٨٦

المعاني الحرفيّة

المعنى الحرفي مصطلح أصولي تقدّم توضيحه في الحلقة السابقة (١) ، وقد وقع البحث في تحديد المعاني الحرفيّة ، إذ لوحظ منذ البدء أنّ الحرف يختلف عن الاسم المناظر له كما مرّ بنا سابقا ، ففي تخريج ذلك وتحديد المعنى الحرفي وجد اتّجاهان :

المعنى الحرفي مصطلح أصولي يقابل المعنى الاسمي : وهو عبارة عن المعنى الرابط بين شيئين ، بحيث لو فصل عنهما لم يفهم له معنى محدّد. فحقيقته الربط ، ولذا لا يمكن تصوّره مستقلاّ بخلاف المعنى الاسمي. ولذلك كان المعنى الحرفي إيجاديّا ، بمعنى أنّه يوجد معنى في الكلام لم يكن موجودا بخلاف المعنى الاسمي فإنّه إخطاريّ ، أي يعبّر عن المعنى الموجود ويكشف ويحكي عنه فالمعنى موجود قبله.

وهنا يقع البحث في تحديد المعاني الحرفيّة وكيفيّة اختلافها عن المعاني الاسميّة ، وهل أنّ الفارق بينهما جوهري أو عرضي؟

والوجه في نشوء هذا البحث أنّه لوحظ أنّ المعنى الحرفي يختلف عن المعنى الاسمي الموازي له ، فكلمة ( من ) وكلمة ( الابتداء ) الدالاّن على مفهوم الابتداء يختلفان عن بعضهما ، بحيث لا يصحّ استعمال أحدهما مكان الآخر ، إذ لا يمكن وضع كلمة ( الابتداء ) بين طرفين كما توضع كلمة ( من ). وهذا البحث بحث تحليلي تولاّه علم الأصول لارتباطه بعمليّة الاستنباط ؛ لأنّ هذه المعاني تشكّل عناصر مشتركة في عمليّة الاستنباط ويتأثّر الاستنباط بها تأثّرا ملحوظا.

ومن هنا وجدت عدّة تخريجات لبيان وتحديد المعاني الحرفيّة وإبراز الفارق

__________________

(١) ضمن التمهيد لبحث الدليل الشرعي اللفظي ، تحت عنوان : تصنيف اللغة.

٢٨٧

بينها وبين المعاني الاسميّة. ومهمّ هذه الأقوال قولان : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) ، وما ذكره المشهور (١).

الاتّجاه الأوّل : ما ذهب إليه صاحب ( الكفاية ) (٢) رحمه‌الله من أنّ معنى الحرف هو نفس معنى الاسم الموازي له ذاتا. وإنّما يختلف عنه اختلافا طارئا وعرضيّا ، فـ ( من ) و ( الابتداء ) يدلاّن على مفهوم واحد.

ذكر صاحب ( الكفاية ) أنّ حقيقة الحرف لا تختلف اختلافا جوهريّا عن حقيقة الاسم ، فالمعنى الذي يدلّ عليه الحرف هو نفس المعنى الذي يدلّ عليه الاسم الموازي له ، لكن لا بنحو الترادف كما سيأتي توضيحه. نعم ، هناك اختلاف عرضي طارئ عليهما وهو كيفيّة الاستعمال. وأمّا الوضع والموضوع له والمستعمل فيه فهو واحد فيهما ولا يختلفان إلا بنوعيّة الاستعمال.

فكلمة ( من ) وكلمة ( الابتداء ) يدلاّن على مفهوم واحد وهو كلّي الابتداء ، وإنّما يختلفان في نوعيّة الاستعمال. وتوضيح ذلك :

وهذا المفهوم إذا لوحظ وجوده في الخارج فهو دائما مرتبط بالمبتدئ والمبتدأ منه ، إذ لا يمكن وقوع ابتداء في الخارج إلا وهو قائم ومرتبط بهذين الطرفين.

مفهوم الابتداء إذا لوحظ وجوده في الخارج أي بالحمل الشائع فهذا دائما مرتبط بطرفين هما المبتدئ والمبتدأ منه ، أي المكان الذي حصل منه الابتداء والفاعل الذي فعل الابتداء ، إذ لا يمكن أن يوجد الابتداء في الخارج إلا إذا كان هناك طرفان ؛ لأنّ مصداق الابتداء في الخارج لا يتعقّل إلا بالطرفين. وليس هناك مصداق آخر للابتداء في الخارج يمكن وقوعه من دون الطرفين ، وهذا يعني أنّه لا يمكن أن يلحظ مفهوم

__________________

(١) نعم ، هناك اتّجاه آخر لكنّه واضح الفساد ، ولذلك أعرض السيّد الشهيد عن ذكره وملخّصه : أنّ المعاني الحرفيّة علاميّة كهيئات الإعراب وعلاماته ، وهذا يعني أنّه ليس لها معنى أصلا وإنّما هي علامة تدلّ وتنبّه على أنّ مدخولها مظروف أو مبتدأ منه ونحو ذلك.

ووجه بطلانه أنّه حينئذ يجوز الاستغناء عن الحرف في الجملة ؛ لأنّها ليست متقوّمة به ، ويلزم كون الجملة تامّة بدونه كالحركات الإعرابيّة وعلامات الإعراب. وهذا مخالف للوجدان اللغوي والعرفي ، إذ لا ريب بأنّ الجملة متغيّرة كلّيّا عند وجود الحرف وعند عدم وجوده.

(٢) كفاية الأصول : ٢٦.

٢٨٨

الابتداء في الخارج بالحمل الشائع إلا ضمن الطرفين ، فمعناه متقوّم بالطرفين في الخارج.

وإذا لوحظ وجوده في الذهن فله نحوان من الوجود : فتارة يلحظ بما هو ويسمّى باللحاظ الاستقلالي ، وأخرى يلحظ بما هو حالة قائمة بالطرفين مطابقا لواقعة الخارجي ويسمّى باللحاظ الآلي. وكلمة ( ابتداء ) تدلّ عليه ملحوظا بالنحو الأوّل و ( من ) تدلّ عليه ملحوظا باللحاظ الثاني.

وأمّا إذا لوحظ مفهوم الابتداء الكلّي بما هو موجود في الذهن ، فهذا الوجود الذهني لكلّي الابتداء له نحوان من اللحاظ :

فتارة يلحظ مفهوم الابتداء بما هو هو ، أي مفهوم الابتداء بالحمل الأوّلي والنظر التصوّري مجرّدا عن كلّ القيود والخصوصيّات ، فهذا يسمّى باللحاظ النفسي والاستقلالي.

وأخرى يلحظ مفهوم الابتداء بما هو قائم بالطرفين ، أي مفهوم الابتداء بالحمل الشائع والنظر التصديقي المقيّد بالوجود الخارجي. فهنا يكون لحاظ هذا المفهوم الذهني بما هو حالة قائمة في الطرفين هو عين مفهوم الابتداء الموجود في الخارج ؛ لأنّه قائم بالطرفين غير مستقلّ عنهما. وهذا يسمّى باللحاظ الآلي والربطي.

وحينئذ نقول : إنّ كلمة ( الابتداء ) تدلّ على مفهوم الابتداء الكلّي الذهني بما هو هو ، أي لحاظه مستقلاّ بالحمل الأوّلي.

وكلمة ( من ) تدلّ على مفهوم الابتداء الكلّي بما هو موجود وحالة في الطرفين ، أي لحاظه آلة ورابطا بالحمل الشائع.

فالفارق بين مدلولي الكلمتين في نوع اللحاظ مع وحدة ذات المعنى الملحوظ فيهما معا.

إذا اتّضح أنّ كلمتي ( من ) و ( الابتداء ) تدلاّن على معنى واحد وهو مفهوم الابتداء الكلّي الموجود في الذهن لا في الخارج. والفارق بينهما إنّما هو في نوعيّة اللحاظ فقط ، فإذا لوحظ هذا المفهوم بما هو هو فتستعمل كلمة ( ابتداء ) للدلالة على ذلك ، وإذا لوحظ هذا المفهوم بما هو حالة قائمة في الطرفين فتستعمل كلمة ( من ) للدلالة عليه. وهذا معناه أنّ الوضع والموضوع له والمستعمل فيه واحد وليس

٢٨٩

هناك فارق جوهري بينهما وإنّما الفارق عرضي ، وهو نوعيّة اللحاظ وكيفيّته.

إلا أنّ هذا لا يعني أنّ اللحاظ الاستقلالي أو الآلي مقوّم للمعنى الموضوع له أو المستعمل فيه وقيد فيه ؛ لأنّ ذلك يجعل المعنى أمرا ذهنيّا غير قابل للانطباق على الخارج.

إشكال ودفعه :

أمّا الإشكال فهو : أنّ اللحاظ الاستقلالي أو الآلي في كلمتي ( الابتداء ) و ( من ) معناه أنّ كلمة ( الابتداء ) قد وضعت للدلالة على مفهوم الابتداء واستعملت فيه بما هي مقيّدة باللحاظ الاستقلالي ، فصار هذا اللحاظ الاستقلالي مقوّما للمعنى الذي وضعت له واستعملت فيه ؛ لأنّه دخيل وقيد فيها. ومن الواضح أنّ اللحاظ أمر ذهني من شئون الذهن ، فإذا كان قيدا دخيلا ومقوّما للمعنى صار المعنى أمرا ذهنيّا ؛ لأنّه مقيّد بما هو أمر ذهني وهذا يجعله غير قابل للانطباق على الخارج ، وهذا واضح الفساد ؛ لأنّ المراد من وضع الكلمات لمعانيها أن تكون حاكية عن المعاني المتحقّقة في الخارج بتوسّط تصوّرها ذهنا ، وإلا لم يكن هناك فائدة وأثر لوضع الألفاظ للمعاني الذهنيّة بما هي مقيّدة بالذهن من دون أن تكون حاكية عن الخارج. فيكون هذا اللحاظ الاستقلالي المقوّم لغوا ومستحيلا ؛ لأنّه يلغي الفائدة من الوضع. وكذلك الحال بالنسبة للّحاظ الآلي في كلمة ( من ).

وإنّما يؤخذ نحو اللحاظ قيدا لنفس العلقة الوضعيّة المجعولة للواضع.

والجواب عن الإشكال : أنّ نوعيّة اللحاظ من الاستقلالي أو الآلي ليست دخيلة في المعنى الموضوع له أو المستعمل فيه ، وإنّما نحو اللحاظ المذكور دخيل في العلاقة الوضعيّة فقط ، وأمّا المعنى الموضوع له أو المستعمل فيه فهو غير متقوّم وليس مقيّدا بنوع اللحاظ ليلزم المحذور المذكور.

والمقصود من العلاقة الوضعيّة التي يكون اللحاظ دخيلا فيها هي العلاقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى التي يجعلها الواضع ، فالواضع الذي جعل كلمة ( الابتداء ) موضوعة أو مستعملة بمفهوم الابتداء الكلّي الاستقلالي ، أو الذي جعل كلمة ( من ) الموضوعة والمستعملة في الابتداء بما هي حالة في الطرفين ، إنّما جعل هذا اللحاظ قيدا في نفس العلاقة بين اللفظ والمعنى بحيث يكون اللفظ دالاّ على المعنى المقصود ، إذا كانت

٢٩٠

العلاقة الوضعيّة بين اللفظ وهذا المعنى ملحوظة باللحاظ الاستقلالي أو الآلي.

فالاستقلاليّة أو الآليّة ولحاظهما دخيل في نفس العلاقة أي نفس وضع اللفظ لهذا المعنى ، فهذه العلاقة التي جعلها الواضع والجاعل أخذ فيها اللحاظ وقيديّته ، بحيث إنّه إذا لم يكن هذا اللحاظ موجودا لم يكن هناك علاقة وضعيّة أصلا فيكون اللفظ مهملا من دون وضع أصلا. وبهذا يتّضح أنّ المعنى الموضوع له أو المستعمل فيه اللفظ لم يكن مقيّدا باللحاظ ليكون أمرا ذهنيّا ، بل هو مطلق من هذه الناحية ، ولذلك يكون حاكيا ومنطبقا على الخارج. نعم ، العلاقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى كانت مقيّدة باللحاظ فإذا وجد اللحاظ كان اللفظ موضوعا أو مستعملا في المعنى ، وإذا انتفى اللحاظ لم يكن للّفظ أيّ معنى أصلا ولم يكن موضوعا أو مستعملا لشيء من المعاني فيكون مهملا. ويترتّب على ذلك عدم المجازيّة ، وتوضيحه :

فاستعمال الحرف في الابتداء حالة اللحاظ الاستقلالي استعمال في معنى بلا وضع ؛ لأنّ وضعه له مقيّد بغير هذه الحالة ، لا استعمال في غير ما وضع له.

وقد يشكل بأنّ كلمة ( من ) وكلمة ( الابتداء ) ما دامتا موضوعتين ومستعملتين في معنى واحد مفهوم وارد وهو مفهوم الابتداء الكلّي ، والفارق بينهما إنّما هو بنوعيّة اللحاظ وكيفيّته والتي هي خارجة عن المعنى ، فهذا لازمه أنّه يصحّ استعمال أحدهما مكان الآخر كالمترادفين مثلا من دون مجازيّة أصلا كأسد وليث ، أو يقال : إنّه يصحّ استعمال أحدهما مكان الآخر ، ولكن بنحو المجاز ؛ لأنّه يكون استعمالا للّفظ في غير ما وضع له.

ومن الواضح أنّ كلا الأمرين فاسد ؛ لوضوح أنّه لا يقال : ( سار زيد ابتداء البصرة ) لا بنحو الترادف ولا بنحو المجاز.

وجوابه : أنّ كلمتي ( من ) و ( الابتداء ) موضوعتين لمعنى واحد والاختلاف بينهما في نوعيّة اللحاظ ، ومع ذلك فلا يصحّ استعمال أحدهما مكان الآخر ، لا بنحو الترادف ولا بنحو المجازيّة ، ولا منافاة بين الأمرين ؛ وذلك لأنّ نوعيّة اللحاظ تمنع من ذلك.

وتوضيحه : أنّنا ذكرنا أنّ الواضع عند ما يريد أن يجعل العلاقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى يأخذ في هذه العلاقة الوضعيّة قيدا ، وهو أنّه عند ما يريد أن يضع كلمة ( من )

٢٩١

للابتداء ويستعملها فيه إنّما تكون دالّة عليه وموضوعة له ومستعملة فيه فيما إذا كان اللحاظ الآلي لهذا المفهوم هو المقصود. وهذا يعني أنّ كلمة ( من ) إنّما تكون موضوعة فيما إذا كان اللحاظ الآلي هو المقصود منها ، وأمّا إذا لم يكن اللحاظ الآلي هو المقصود منها فهي كلمة ولفظة مهملة بلا وضع. فالعلاقة الوضعيّة بين ( من ) والابتداء كمفهوم آلي مقيّدة ومتقوّمة باللحاظ الآلي ، فإذا انتفى اللحاظ الآلي انتفت العلاقة الوضعيّة ، وانتفاؤها معناه أنّ كلمة ( من ) لا وضع لها فهي مهملة ككلمة ( ديز ) مثلا.

وحينئذ لا يمكننا استعمال كلمة ( من ) مكان كلمة ( الابتداء ) لا بنحو الترادف ولا بنحو المجاز ؛ لأنّه يكون استعمالا لكلمة من دون أن تكون موضوعة لمعنى أصلا ، ومن المعلوم أنّ الكلمة التي لم توضع لمعنى أصلا لا يجوز استعمالها لا حقيقة ولا مجازا.

فكما لا يصحّ استعمال كلمة ( ديز ) مكان كلمة ( زيد ) في قولنا : ( جاء زيد ) ؛ لأنّها كلمة مهملة لا وضع لها ، فكذلك لا يصحّ استعمال كلمة ( الابتداء ) مكان كلمة ( من ) في قولنا : ( سار زيد من البصرة ) ؛ لأنّ كلمة الابتداء عند عدم اللحاظ الاستقلالي لا وضع لها أصلا.

ففرق بين استعمال الكلمة التي لا وضع لها وبين استعمال الكلمة في غير ما وضعت له.

فالاستعمال الأوّل غير صحيح ؛ لأنّ الكلمة التي لا وضع لها تكون مهملة وهي لا تستعمل في الكلام لا حقيقة ولا مجازا.

بينما الاستعمال الثاني يصحّ مجازا فيما إذا كان هناك علاقة بين المعنيين الحقيقي والمجازي كقولنا : ( العالم بحر ، والرجل الشجاع أسد ). وبهذا ظهر أنّ المعنى في الكلمتين واحد ولكن نوع اللحاظ فيهما مختلف ، فالفارق بينهما عرضي وطارئ وليس جوهريّا.

والاتّجاه الثاني : ما ذهب إليه مشهور المحقّقين (١) بعد صاحب ( الكفاية ) من أنّ المعنى الحرفي والمعنى الاسمي متباينان ذاتا ، وليس الفرق بينهما باختلاف كيفيّة

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٤ ـ ١٦ ، مقالات الأصول ١ : ٨٩ ـ ٩١ ، المحاضرات ١ : ٥٩ ـ ٦٧.

٢٩٢

اللحاظ فقط ، بل إنّ الاختلاف في كيفيّة اللحاظ ناتج عن الاختلاف الذاتي بين المعنيين ، على ما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

ذهب مشهور المحقّقين بعد صاحب ( الكفاية ) إلى أنّ المعنى الحرفي يختلف اختلافا جوهريّا عن المعنى الاسمي ، بحيث إنّ المعنى الموضوع له أو المستعمل فيه الحرف يختلف ذاتا عن المعنى الموضوع له أو المستعمل فيه الاسم. وليس الاختلاف بينهما عرضيّا في كيفيّة اللحاظ من الآلية والاستقلالية ، بل هذا الاختلاف في كيفيّة اللحاظ مسبّب وناتج عن ذاك الاختلاف الذاتي الجوهري بين المعنيين ؛ لأن الاختلاف في مرحلة الاثبات والدلالة يكشف ويحكي عن وجود فارق أعمق وجوهري في مرحلة الثبوت والواقع.

وعلى هذا الأساس لم يكن استعمال أحدهما مكان الآخر صحيحا لا حقيقة ولا مجازا ؛ للتباين بين المعنيين. فإن التباين بينهما يحول دون صحّة استعمال أحدهما مكان الآخر ، إذ لا علاقة ولا مناسبة بينها أبدا. والاستعمال المجازي يفترض وجود مناسبة ونحو علاقة بين المعنيين وهنا لا يوجد ذلك.

وأمّا تصوير هذا الفارق الجوهري بين المعنيين الحرفي والاسمي بعد الاتّفاق على وجوده فقد اختلفت كلمات المشهور في بيانه على أقوال متعدّدة كما سيأتي.

أمّا الاتّجاه الأوّل فيرد عليه : أنّ البرهان قام على التغاير السنخي والذاتي بين معاني الحروف ومعاني الأسماء. وملخّصه :

يرد على ما ذكره صاحب ( الكفاية ) ـ من أنّ التغاير بين الحروف والأسماء إنّما هو عرضي وطارئ ؛ لأنّه في كيفيّة اللحاظ فقط ـ أنّ البرهان دلّ على أنّ التغاير سنخي وذاتي. فالمعاني الحرفيّة سنخ معان تختلف بذاتها وحقيقتها عن المعاني الاسميّة ، فالمعنى الموضوع له أو المستعمل فيه الحرف بذاته مغاير للاسم. وهذا الاختلاف الذي ذكره الآخوند يكشف عن وجود فارق جوهري ، وليس هو وحده الفارق بينهما ، بل هو يعبّر عن الاختلاف الذاتي والسنخي بين الحرف والاسم. والبرهان على ذلك هو :

أنّه لا إشكال في أنّ الصورة الذهنيّة التي تدلّ عليها جملة ( سار زيد من البصرة إلى الكوفة ) مترابطة ، بمعنى أنّها تشتمل على معان مرتبطة بعضها ببعض ،

٢٩٣

فلا بدّ من افتراض معان رابطة فيها لإيجاد الربط بين ( السير ) و ( زيد ) ، و ( البصرة ) و ( الكوفة ).

البرهان يتألّف من عدّة مقدّمات :

المقدّمة الأولى : إذا أخذنا الجملة التالية : ( سار زيد من البصرة إلى الكوفة ) نجد أنّ الصورة الذهنيّة التي تحصل عندنا من خلال هذه الجملة مترابطة فيما بينها وليست مفكّكة ومبعثرة. وهذا يعني أنّ الجملة تحتوي وتشتمل على معان مترابطة بعضها ببعض ، فالسير والبصرة والكوفة وزيد وهي المعاني الموجودة في الجملة قد انتقلت إلى ذهننا بصورة واحدة مرتبطة فيما بينها. وهذا يعني أنّه يوجد في الجملة معان رابطة هي التي ربطت بين هذه المعاني المفكّكة ورتّبتها بشكل منتظم أدّى إلى حصول صورة ذهنيّة واحدة ، فإذا يوجد في الجملة معان رابطة هي التي سبّبت وأوجدت الربط بين المعاني المفكّكة ، إذ لو لا هذه المعاني الرابطة لم يكن هناك صورة واحدة ، بل كان لدينا صور متعدّدة مفكّكة وهي : السير وزيد والبصرة والكوفة لا ربط فيما بينها. فإنّ هذه المعاني وحدها لا تفيد صورة واحدة مرتبطة ، وإنّما الذي أفاد ذلك هو وجود كلمتي ( من ) و ( إلى ) في الجملة.

وهذه المعاني الرابطة إن كانت صفة الربط عرضيّة لها وطارئة ، فلا بدّ أن تكون هذه الصفة مستمدّة من غيرها ؛ لأنّ كلّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات ، وبهذا ننتهي إلى معان يكون الربط ذاتيّا لها.

المقدّمة الثانية : أنّ هذه المعاني الرابطة إمّا أن تكون صفة الربط فيها عرضيّة وإمّا أن تكون ذاتيّة.

فإن كانت صفة الربط فيها ذاتيّة فتبيّن أنّه يوجد معان رابطة بذاتها ، أي أنّ حقيقتها وذاتها هي الربط.

وإن كانت صفة الربط فيها عرضيّة فهذا يعني أنّ هذه المعاني الرابطة اكتسبت صفة الربط من غيرها ، بحيث إنّ صفة الربط هذه كانت موجودة وثابتة لذات غيرها هي التي أعطتها هذه الصفة.

وحينئذ نقول : إنّ هذه الذات الأخرى التي ثبت لها صفة الربط هل هذه الصفة ذاتيّة لها أو عرضيّة فإن كانت ذاتيّة ثبت المطلوب ، وإن كانت عرضيّة عاد السؤال

٢٩٤

إلى تلك الذات الأخرى ، وهكذا إلى أن يلزم التسلسل وهو ممتنع باطل. فلا بدّ أن ننتهي إذا إلى معان يكون الربط ذاتيّا لها ؛ لأنّ كلّ ما بالعرض لا بدّ أن ينتهي إلى ما بالذات ، كما هو مسلّم عندهم في الحكمة وإلا لزم التسلسل الممتنع. وهكذا نصل إلى أنّ هذه المعاني الرابطة الربط فيها عين حقيقتها وذاتي لها لا ينفكّ عنها أبدا ؛ لأنّه يستحيل التفكيك بين الذات والذاتي.

وليس شيء من المعاني الاسميّة يكون الربط ذاتيّا له ؛ لأنّ ما كان الربط ذاتيّا ومقوّما له ـ وبعبارة أخرى عين حقيقته ـ يستحيل تصوّره مجرّد عن طرفيه ؛ لأنّه مساوق لتجرّده عن الربط ، وهو خلف ذاتيّته له ، وكلّ مفهوم اسمي قابل لأن يتصوّر بنفسه مجرّدا عن أي ضميمة.

المقدّمة الثالثة : أنّ هذه المعاني الرابطة والتي صفة الربط فيها ذاتيّة لا تنفكّ عنها ، إمّا أن تكون معاني اسميّة أو معاني حرفيّة ، ولا يمكن أن تكون معاني اسميّة إذا فيتعيّن كونها معاني حرفيّة.

أمّا أنّها ليست معاني اسميّة فلأنّ المعاني الاسميّة ليس شيء منها يكون الربط فيها ذاتيّا ؛ وذلك لأنّ الربط الذاتي هو ما يكون مقوّما للمعنى ؛ لأنّه إمّا أن يكون جنسا أو فصلا وكلاهما من المقوّمات الذاتيّة للشيء لا يمكن انفكاكها عنه ، فهنا الربط ذاتي ومقوّم فهو عين حقيقة الشيء ، بحيث إنّه يستحيل تصوّر الشيء منفكّا ومجرّدا عن الطرفين. وهذا يعني أنّ هذه المعاني يمكن أن تتجرّد وتنفكّ عن الربط ، وهذا خلف كون الربط ذاتيّا ، فما دام الربط ذاتيّا لهذه المعاني الرابطة فمعناه أنّه يستحيل انفكاكه عنها ويستحيل تصوّرها بدونه. وحينئذ نقول : إنّ المعاني الاسميّة لا يمكن أن تكون معاني رابطة ؛ لأنّها قابلة لأن تتصوّر بنفسها وقابلة لأن تتصوّر ضمن الجملة ، أي يمكن تصوّرها مستقلّة عن أي ضميمة أخرى ، ويمكن تصوّرها منضمّة إلى غيرها. وهذا يعني أنّها تتجرّد عن الربط فالربط ليس ذاتيّا لها ، نعم قد يعرض الربط عليها بضميمة شيء آخر.

وهذا يثبت أنّ المفاهيم الاسميّة غير تلك المعاني التي يكون الربط ذاتيّا لها ، وهذه المعاني هي مداليل الحروف ؛ إذ لا يوجد ما يدلّ على تلك المعاني بعد استثناء الأسماء إلا الحروف.

٢٩٥

النتيجة : بعد أن ثبت وجود معاني رابطة والربط ذاتي لها ، وثبت أنّ الأسماء ليست هي المعاني الرابطة نصل إلى النتيجة القائلة بأنّ المعاني الرابطة هي مداليل الحروف ومعانيها ؛ لأنّه لا يوجد لدينا إلا الأسماء والحروف. ولمّا ثبت بالبرهان في المقدّمة الثالثة أنّ الأسماء ليست هي تلك المعاني الرابطة تعيّن أن تكون الحروف هي تلك المعاني الرابطة ، ويكون الربط ذاتيّا لها وعين حقيقتها ولا ينفكّ عنها أبدا.

وبهذا ظهر الفارق الجوهري والحقيقي بين الأسماء والحروف ، فالأسماء تدلّ على معان استقلاليّة بينما الحروف تدلّ على معان رابطيّة ، فالموضوع له والمستعمل فيه الحرف يختلف بذاته وجوهره وحقيقته عن الاسم ، خلافا لصاحب ( الكفاية ).

وحتّى نفس مفهوم النسبة ومفهوم الربط المدلول عليهما بكلمتي النسبة والربط ليسا من المعاني الحرفيّة ، بل من المعاني الاسميّة ، لإمكان تصوّرهما بدون أطراف.

مفهوم النسبة والربط مفهومان ذهنيّان مدلولان لكلمتي النسبة والربط ، وليسا من المعاني الحرفيّة ؛ لأنّنا قلنا : إنّ المعاني الحرفيّة هي المعاني الرابطة التي يكون الربط فيها ذاتيّا ، ولا يمكن انفكاكه عنها ولا يمكن أن تتصوّر مجرّدة عنه.

وهنا النسبة والربط بما هما مفهومان ذهنيّان من المعاني الاسميّة ؛ لأنّنا يمكن أن نتصوّرهما من دون الطرفين في الخارج ، بل نتصوّر النسبة والربط ونحكم عليهما في الذهن بما نشاء من أحكام ، فنقول مثلا : النسبة موجودة أو الربط ليس موجودا. وهذا يعني تصوّرهما مستقلّين عن الأطراف ، فهما ليسا من المعاني الحرفيّة وإلا لاستحال تصوّرهما من دون الطرفين.

وهذا يعني أنّهما ليسا نسبة وربطا بالحمل الشائع وإن كانا كذلك بالحمل الأوّلي.

مفهوم النسبة والربط بالحمل الشائع ليسا نسبة وربطا ، بينما النسبة والربط بالحمل الأوّلي نسبة وربط.

وتوضيح ذلك : أنّ الحمل الشائع هو المصداق الخارجي للشيء ، أي ملاحظة الشيء بما هو مقيّد بالوجود الخارجي ، وهنا مفهوم النسبة ومفهوم الربط بما هما مفهومان ذهنيّان قلنا : إنّه يمكن تصوّرهما مستقلّين عن الطرفين. وهذا يعني أنّهما ليسا مصداقين للنسبة والربط ؛ لأنّ النسبة والربط بالحمل الشائع ، أي بقيد الوجود الخارجي

٢٩٦

يستحيل انفكاكهما عن الطرفين ، إذ لا يمكن وجود نسبة وربط في الخارج إلا ضمن الطرفين ، فهما ليسا مصداقين للنسبة والربط بالحمل الشائع ؛ لأنّهما يتصوّران بدون طرفين.

وأمّا الحمل الأوّلي وهو حمل الشيء على نفسه أوّلا وبالذات فالنسبة نسبة والربط ربط ، أي أنّ مفهوم النسبة نسبة بالحمل الأوّلي ومفهوم الربط ربط بالحمل الأوّلي ، أي من باب حمل الشيء على نفسه ، فإنّ الشيء مصداق أوّلي لنفسه فيحمل عليه ، كما يقال : الإنسان إنسان بالحمل الأوّلي ، ويقال : زيد إنسان بالحمل الشائع.

وقد مرّ عليك في المنطق أنّ الشيء يصدق على نفسه بالحمل الأوّلي ، ولكن قد لا يصدق على نفسه بالحمل الشائع كالجزئي ، فإنّه جزئي بالحمل الأوّلي ولكنّه كلّي بالحمل الشائع.

وهذا نظير ما تقدّم في المنطق من أنّ الشيء يحمل على نفسه بالحمل الأوّلي ؛ لأنّه يصدق على نفسه ، ولكن قد لا يصدق على نفسه بالحمل الشائع ، أي قد لا يكون مصداقا خارجيّا لنفسه ، فمثلا الجزئي وهو ما لا ينطبق على كثيرين أو ما يمتنع انطباقه على كثيرين ، فيمكن أن يقال : الجزئي جزئي بالحمل الأوّلي ، أي أنّ الجزئي كمفهوم يصدق على نفسه أوّلا وبالذات ؛ لأنّ الشيء يحمل حملا أوّليا على نفسه كالإنسان إنسان.

ولكن لا يمكن أن يقال : إنّ الجزئي جزئي بالحمل الشائع ؛ لأنّ مفهوم الجزئي وهو عنوان ما يمتنع صدقه على كثيرين ليس مصداقا حقيقيّا للجزئي الموجود في الخارج ؛ لأنّ الجزئي الموجود في الخارج جزئي حقيقي يمتنع صدقه على كثيرين. بينما مفهوم الجزئي في الذهن ليس جزئيّا ، بل كلّيّا ؛ لأنّه يصدق على كثيرين بما هو مفهوم.

فالجزئي كلّي بالحمل الشائع أي مصداق من مصاديق الكلّي ؛ لأنّ الجزئي كمفهوم ذهني لديه مصاديق عديدة ينطبق عليها ، فزيد جزئي وعمرو جزئي وهكذا.

وأمّا بالنسبة لمفهوم الكلّي فهو يصدق على نفسه بالحمل الأوّلي ، ويصدق على نفسه أيضا بالحمل الشائع ؛ لأنّ الكلّي كلّي بالحمل الأوّلي أي من باب حمل الشيء على نفسه أوّلا وبالذات. والكلّي كلّي بالحمل الشائع ؛ لأنّ الكلّي مصداق حقيقي في الخارج للكلّي كالإنسان ، فإنّه مفهوم كلّي وله مصاديق عديدة أيضا.

٢٩٧

وهذا البيان كما يبطل الاتّجاه الأوّل يبرهن على صحّة الاتّجاه الثاني إجمالا ، وتوضيح الكلام في تفصيلات الاتّجاه الثاني يقع في عدّة مراحل :

فهذا البرهان يبرهن على عدم صحّة ما ذكره صاحب ( الكفاية ) من أنّ التغاير بين الحروف والأسماء عارض وطارئ وليس جوهريّا ؛ لأنّنا أثبتنا أنّ التغاير ذاتي بينهما. وهذا يعني أنّ الاتّجاه الثاني الذي ذهب إليه المشهور هو الصحيح ولكن بالجملة. والمقصود من قيد ( بالجملة ) أنّ التغاير الذاتي الذي ذكره المشهور صحيح ، إلا أنّ بيان هذا التغاير الذاتي وما هي حقيقة الحروف واختلافها جوهريّا عن الأسماء؟ فقد ذكر المشهور عدّة بيانات لذلك كلّها غير صحيحة (١).

والصحيح يحتاج إلى بيان عدّة مراحل فنقول :

المرحلة الأولى : أنّا حين نواجه نارا في الموقد مثلا ننتزع في الذهن عدّة مفاهيم :

الأوّل : مفهوم بإزاء النار.

والثاني : مفهوم بإزاء الموقد.

__________________

(١) ولا بأس بالإشارة إليها مختصرا قبل البدء في بيان الوجه الصحيح فنقول :

ذهب المحقّق النّائينيّ إلى أنّ المعاني الحرفيّة إيجاديّة بينما المعاني الاسميّة إخطاريّة. وفسّر ذلك بعض مقرّري بحثه بأنّ الحرف يوجد معناه في مرحلة تقرّره ووجوده ، بينما الاسم لا يوجد معناه ، بل معناه موجود وإنّما يخطره في الذهن فقط.

وذهب : المحقّق العراقي إلى أنّ المعاني الاسميّة تدلّ على الجواهر وبعض الأعراض ، بينما المعاني الحرفيّة تدلّ على الأعراض الإضافيّة التي تحتاج إلى موضوعين وطرفين ، حيث قسّم الوجود إلى جوهر وعرض ، والعرض إلى ما يحتاج إلى موضوع واحد وما يحتاج إلى موضوعين ، وأنّ العرض مع موضوعه لا بدّ من رابط بينهما ، وهذا الرابط هو المعاني الحرفيّة.

وذهب السيّد الخوئي إلى أنّ المعاني الحرفيّة معان تحصّصيّة بخلاف المعاني الاسميّة ، فالمعاني الحرفيّة تحصّص المفهوم القابل للتحصيص وتضيّقه بحصّة معيّنة كقولنا : ( زيد في الدار ) فإنّه يدلّ على حصّة خاصّة من الظرفيّة لا على مفهوم الظرفيّة بما هو هو ، بخلاف المعاني الاسميّة فإنّها تدلّ على المفهوم بما هو هو من دون تحصيص ، فنقول مثلا : الظرفيّة واسعة.

وذهب المحقّق الأصفهاني إلى أنّ المعاني الحرفيّة موضوعة لوجود الرابط الخارجي ، بينما المعاني الاسميّة موضوعة لوجود الرابط الذهني. ومقصوده من ذلك : أنّ المعاني الحرفيّة موضوعة للنسبة الاستهلاكيّة سواء وجدت في الذهن أو في الخارج بخلاف المعاني الاسميّة.

٢٩٨

والثالث : مفهوم بإزاء العلاقة والنسبة الخاصّة القائمة بين النار والموقد.

المرحلة الأوّل تتألّف من عدّة أمور :

الأمر الأوّل : أنّنا إذا شاهدنا حادثة تكوينيّة معيّنة كالنار الموجودة في الموقد في الخارج فيمكننا أن نحلّل هذه الواقعة إلى عدّة صور ومفاهيم ترتسم في الذهن من خلال مواجهتنا لها رغم أنّه في الخارج يوجد ارتباط واتّحاد بين هذه المفاهيم والصور ، ممّا يعني أنّه يوجد مفهوم واحد وصورة واحدة إلا أنّها بالتحليل الذهني تنتج عدّة صور ومفاهيم ، وهي :

١ ـ مفهوم بإزاء النار الموجودة في الخارج ، أي صورة ذهنيّة للنار الخارجيّة مجرّدة عن الوجود الخارجي وقيوده وخصوصيّاته.

٢ ـ مفهوم بإزاء الموقد الموجود فعلا في الخارج ، وهي الصورة الذهنيّة للموقد لا الموقد نفسه.

٣ ـ مفهوم بإزاء العلاقة والنسبة القائمة بين النار والموقد ، وهي الصورة الذهنيّة الناشئة من كون النار في الموقد ، وهي تنشأ من خلال ارتباط هذين المفهومين معا واتّحادهما في محلّ واحد. بمعنى أنّ الموقد كان ظرفا ووعاء لحلول النار فيه ، فهناك نسبة ارتباطيّة بين النار والموقد ، وعلاقة خاصّة حدثت وهي الظرفيّة.

غير أنّ الغرض من إحضار مفهومي النار والموقد في الذهن التمكّن بتوسّط هذه المفاهيم من الحكم على النار والموقد الخارجيّين ، وليس الغرض إيجاد خصائص حقيقة النار في الذهن.

الأمر الثاني : أنّ الغرض من إحضار مفهومي النار والموقد في الذهن هو التمكّن بواسطتهما من الحكم على النار والموقد الموجودين في الخارج ؛ لأنّ الحاكم عند ما يريد أن يحكم على الخارج يأتي بالصورة الذهنيّة التي تكون حاكية عن الخارج ، وبتوسّط هذه الصورة يتمّ الحكم على الخارج ؛ لأنّ الحكم من شئون الذهن وهو لا يتعلّق إلا بالصورة الذهنيّة لا الخارج مباشرة ؛ لأنّه لا سنخيّة بين الحكم وموضوعه عندئذ.

فلكي تتحقّق السنخيّة بين الحكم وموضوعه يجب أن يكون الموضوع ذهنيّا وليس هو إلا الصورة الذهنيّة للخارج لا الخارج نفسه ، وليس الغرض من إحضار مفهوم النار

٢٩٩

والموقد إحضار الخصائص والصفات التي تتقيّد بها النار والموقد في الخارج ، إذ يستحيل الإتيان بهذه الخصائص في الذهن.

وواضح أنّه يكفي لتوفير الغرض الذي ذكرناه أن يكون الحاصل في الذهن نارا بالنظر التصوّري وبالحمل الأوّلي لما تقدّم (١) منّا سابقا في البحث عن القضايا الحقيقيّة والخارجيّة من كفاية ذلك في إصدار الحكم على الخارج.

إذا الغرض المذكور من إحضار مفهومي النار والموقد إلى الذهن ، وهو إصدار الحكم على الخارج بتوسّطهما ، وهذا يكفي فيه أن يكون الحاضر في الذهن صورة ذهنيّة للنار لا النار نفسها ، أي النار بالحمل الأوّلي والنظر التصوّري مجرّدة عن الوجود الخارجي وخصوصيّاته لا النار بالحمل الشائع والنظر التصديقي ؛ لأنّها مخالفة للصورة الذهنيّة وغير مطابقة لها بينما تلك عينها ومطابقة لها.

كما تقدّم سابقا حيث ذكرنا في البحث عن القضايا الحقيقيّة والخارجيّة أنّه يكفي في إصدار الحكم على الخارج أن يكون الحاضر في الذهن هو المفهوم بالحمل الأوّلي لا الحمل الشائع.

وأمّا الغرض من إحضار المفهوم الثالث الذي هو بإزاء النسبة الخارجيّة والربط المخصوص بين النار والموقد فهو الحصول على حقيقة النسبة والربط ؛ لكي يحصل الارتباط حقيقة بين المفاهيم في الذهن.

الأمر الثالث : أنّ الغرض من إحضار المفهوم الثالث وهو النسبة والعلاقة الخاصّة بين النار والموقد الخارجيّين هو أن يكون هناك نسبة حقيقيّة في الذهن وربطا حقيقيّا كذلك ؛ وذلك لأنّ المفاهيم الذهنيّة الموجودة في الذهن لا يحصل الارتباط بينها إلا إذا كان هناك نسبة وربط حقيقي.

فمفهوم النار والموقد الذهنيّين لا يمكن أن يكونا مرتبطين في الذهن إلا إذا كان هناك معنى رابط في الذهن ، وهو عين النسبة والربط. فكان الغرض من إحضار مفهوم النسبة والربط في الذهن الحصول على الربط الحقيقي بين هذين المفهومين الذهنيّين.

فكما أنّ الطرفين في الخارج يحتاجان إلى نسبة وربط فكذلك الطرفان الموجودان في الذهن يحتاجان إلى مفهوم رابط.

__________________

(١) ضمن بحث الحكم الشرعي وتقسيماته من بحوث التمهيد.

٣٠٠