شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

ما هو ثابت للموضوع الخارجي من خصوصيّات كالإحراق بالنسبة إلى النار.

قبل الدخول في هذا التحليل العقلي لا بدّ من الإشارة إلى أمرين :

الأوّل : لدينا ثلاثة وجودات للنار وهي :

١ ـ النار بما هي مفهوم كلّي مجرّد من أي قيد وخصوصيّة ، أي ماهيّة النار بما هي هي.

٢ ـ النار بما هي صورة ذهنيّة أي بما هي موجودة في الذهن بحيث أخذ الوجود الذهني قيدا لها.

٣ ـ النار بما هي موجود خارجي أي بما هي موجودة في عالم الخارج والواقع التكويني بحيث أخذ الوجود الخارجي قيدا لها.

الثاني : أنّ النظر التصوّري والحمل الأوّلي المقابل للنظر التصديقي والحمل الشائع له عدّة معان هي :

١ ـ النظرة الساذجة البدويّة ، وفي مقابلها النظرة الفاحصة التدقيقيّة.

٢ ـ حمل الشيء على نفسه أوّلا وبالذات ، وفي مقابله حمل الشيء على غيره ثانيا وبالعرض.

٣ ـ الاختلاف بالاعتبار والاتّحاد بالمفهوم ، وفي مقابله الاختلاف بالمفهوم والاتّحاد بالمصداق.

٤ ـ تجريد الشيء من الوجود مطلقا سواء الذهني أو الخارجي ، وفي مقابله تقييد الشيء بالوجود الخارجي أو الذهني.

وحينئذ نقول : إنّ الصورة الذهنيّة للنار مباينة للموضوع الخارجي للنار بالحمل الشائع والنظر التصديقي ؛ وذلك لأنّ النار الذهنيّة ليس فيها شيء من الآثار والخصوصيّات الثابتة للنار الموجودة في الخارج من الحرارة والإحراق.

ولكن هذه الصورة الذهنيّة للنار عين النار بما هي هي المجرّدة عن أي قيد وخصوصيّة أي بالحمل الأوّلي والنظر التصوّري ؛ وذلك لأنّ الصورة الذهنيّة للنار ليس فيها شيء من الآثار والخصوصيّات ، والنار التي هي مفهوم كلّي أي الماهيّة المجرّدة ليس فيها شيء من الآثار والخصوصيّات أيضا ، فكانت هذه عين ذلك.

وبتعبير آخر : إنّنا إذا تصوّرنا النار نرى أنّه يوجد في تصوّرنا نار ، ولكن هذه النار

١٤١

التي تصوّرناها ليست إلا صورة ذهنيّة للنار لا نفس النار الموجودة في الخارج بسبب المغايرة بينهما من حيث الآثار والخصوصيّات ، فإنّ الصورة الذهنيّة ليس فيها الآثار والخصوصيّات ، بينما النار الموجودة في الخارج فيها الآثار والخصوصيّات.

إلا أنّ هذه الصورة الذهنيّة للنار هي عين النار الموجودة في الخارج بالنظر التصوّري وبالحمل الأوّلي ، أي أنّنا إذا أخذنا هذه النار الموجودة في الخارج بالحمل الأوّلي الذي معناه المفهوم الكلّي والماهيّة بما هي هي مجرّدة من القيود والخصوصيّات وجدنا أنّ ما في الذهن هو عين ما في الخارج بهذا الحمل والتصوّر. وإن كانت تغاير الوجود الخارجي للنار بالحمل الشائع والنظر التصديقي الذي معناه ملاحظة النار مقيّدة بالوجود فإنّها كذلك تتّصف بالخصوصيّات والآثار المفقودة في الصورة الذهنيّة.

ولكن لمّا كانت الصورة الذهنيّة عين النار الخارجيّة بالحمل الأوّلي والنظر التصوّري صحّ أن يحكم على النار بأنّها محرقة أو أنّها في الموقد ، ولا يصحّ ذلك لو لوحظت النار الخارجيّة بالحمل الشائع والنظر التصديقي ؛ للمغايرة بينهما في الآثار والخصوصيّات عندئذ. ومن هنا نخلص بنتيجة وهي :

وهذا يعني أنّه يكفي في إصدار الحكم على الخارج إحضار صورة ذهنيّة تكون بالنظر التصوّري عين الخارج وربط الحكم بها ، وإن كانت بنظرة ثانية فاحصة تصديقيّة ـ أي بالحمل الشائع ـ مغايرة للخارج.

المراد من إحضار الصورة الذهنيّة في الذهن أن تكون رابطة وحاكية عن الخارج حكاية تامّة بأن تكون عين الخارج ؛ لأنّ الحكم لا ينصبّ على الصورة الذهنيّة بما هي كذلك ، وإلا لصار الحكم ذهنيّا أيضا وموطنه الذهن فلا يكون باعثا ومحرّكا للمكلّف نحو الفعل والامتثال في الخارج.

وعلى هذا فهذه الصورة الذهنيّة الرابطة بين الموضوع الخارجي وبين الحكم يتعلّق بها الحكم بالعرض وبالذات ، أي بما هي مطابقة للخارج وعين الخارج لا بما هي هي ، وكون الصورة الذهنيّة عين الخارج إنّما يكون فيما إذا لوحظ الخارج بالحمل الأوّلي والنظر التصوّري الذي معناه ملاحظة الماهيّة والمفهوم بما هو هو مجرّد عن القيود والخصوصيّات.

١٤٢

وأمّا إذا لوحظ الخارج بالحمل الشائع وبالنظر التصديقي فإنّ الصورة الذهنيّة لا تكون مطابقة للخارج ولا تكون عينه ؛ لأنّ الحمل الشائع معناه ملاحظة الماهيّة بما هي متّصفة ومقيّدة بالوجود الخارجي الذي فيه آثار وخصوصيّات الخارج ، وهي مفقودة في الصورة الذهنيّة.

١٤٣
١٤٤

تنسيق البحوث المقبلة

وسوف نتحدّث فيما يلي ـ وفقا لما تقدّم في الحلقتين السابقتين ـ عن حجيّة القطع أوّلا باعتباره عنصرا مشتركا عامّا ، ثمّ عن العناصر المشتركة التي تتمثّل في أدلّة محرزة ، وبعد ذلك عن العناصر المشتركة التي تتمثّل في أصول عمليّة ، وفي الخاتمة نعالج حالات التعارض إن شاء الله تعالى.

١٤٥
١٤٦

العناصر المشتركة

في

عملية الاستنباط

١ ـ حجّيّة القطع :

٢ ـ الأدلة المحرزة :

٣ ـ الأصول العملية :

٤ ـ حالات التعارض :

١٤٧
١٤٨

حجّيّة القطع

تقدّم في الحلقة السابقة (١) أنّ للمولى الحقيقي ـ سبحانه وتعالى ـ حقّ الطاعة بحكم مولويّته.

تقدّم سابقا في الحلقة الثانية أنّ المولى الحقيقي وهو الله ـ عزّ وجلّ ـ له حقّ الطاعة على عباده بحكم كونه مولى وخالقا وبحكم كونهم عبيدا له ، فإنّ من حقّ السيّد على عبده الطاعة بحكم العقل في السيّد الحقيقي ، بخلاف المولى الجعلي أي الذي جعلت له الولاية كالنبي والإمام وأولياء الأمر ، فإنّهم وإن كان لهم حقّ الطاعة على الناس ، إلا أنّ حقّهم هذا مجعول من الله وليس ذاتيّا لهم.

فالمولى الحقيقي يحكم العقل بوجوب إطاعته وامتثال أوامره والانزجار عن نواهيه.

وأمّا دائرة حقّ الطاعة فهي :

والمتيقّن من ذلك هو حقّ الطاعة في التكاليف المقطوعة ، وهذا هو معنى منجّزيّة القطع ، كما أنّ حقّ الطاعة هذا لا يمتدّ إلى ما يقطع المكلّف بعدمه من التكاليف جزما ، وهذا هو معنى معذّريّة القطع. والمجموع من المنجّزيّة والمعذّريّة هو ما نقصده بالحجّيّة.

هنا أمران : الأوّل : معنى المنجّزيّة والمعذّريّة ، والثاني : ما هو المقصود من الحجّيّة.

أمّا الأوّل ، فنقول : إنّ القطع معناه الانكشاف التامّ عن الواقع بنحو لا شكّ ولا ريب ولا احتمال في قباله ممّا يوجب الإذعان والجزم والتصديق والاستقرار في النفس وعدم الحيرة. وهذا القطع تارة يكون منجّزا وأخرى يكون معذّرا ، فالمنجّزيّة والمعذّريّة من خصائص القطع وليستا نفس القطع.

فالمنجّزيّة للقطع معناها أنّ القطع بالتكليف يكون متعلّقا لحقّ الطاعة ومدخلا

__________________

(١) الحلقة الثانية ، ضمن بحوث التمهيد تحت عنوان : حجّيّة القطع.

١٤٩

للتكليف في عهدة المكلّف ، بمعنى أنّ المكلّف مسئول عن هذا التكليف المقطوع لكونه داخلا في دائرة حقّ الطاعة. فإذا قطع المكلّف بالوجوب أو الحرمة فإنّ الوجوب والحرمة يتنجّزان عليه بحكم العقل ؛ لشمول مولويّة المولى لهما ودخولهما في دائرة حقّ الطاعة ، فيكون مطالبا بالامتثال ويستحقّ العقاب على المخالفة.

والمعذّريّة للقطع معناها أنّ القطع بعدم التكليف كالقطع بالترخيص والإباحة والحليّة يكون مبرّئا لذمّة المكلّف من الاشتغال ؛ لأنّ القاطع بعدم التكليف يستحيل أن يتحرّك نحوه ولا يمكن أن يكون منجّزا عليه ؛ لأنّه يعتقد بعدم وجوده فيقطع بأنّ المولى ليس له حقّ الطاعة في هذا الفرض ؛ لأنّه لا يوجد تكليف له فلا يحكم العقل بلزوم الإطاعة والامتثال.

والحاصل : أنّ المعذّريّة والمنجّزيّة من الخصائص الثابتة للقطع بالتكليف وجودا وعدما.

وأمّا الثاني : فالحجّيّة لها ثلاثة معان :

١ ـ الحجيّة المنطقيّة : بمعنى وقوع القطع كبرى في القياس المنطقي.

٢ ـ الحجّيّة التكوينيّة : وهي الإراءة والانكشاف والمحرّكيّة نحو استيفاء الغرض من الشيء المنكشف.

٣ ـ الحجيّة الأصوليّة : وهي تعني المنجّزيّة والمعذّريّة وهذا هو المقصود هنا ، فحجّيّة القطع معناها المعذّريّة والمنجّزيّة.

كما عرفنا سابقا (١) أنّ الصحيح في حقّ الطاعة شموله للتكاليف المظنونة والمحتملة أيضا ، فيكون الظنّ والاحتمال منجّزا أيضا ، ومن ذلك يستنتج أن المنجّزيّة موضوعها مطلق انكشاف التكليف ولو كان انكشافا احتماليّا ؛ لسعة دائرة حقّ الطاعة.

تقدّم في الحلقة الثانية أيضا أنّ حقّ الطاعة لا يختصّ بالتكاليف المقطوعة ، بل يشمل كلّ تكليف منكشف ولو بدرجة ضعيفة ، بمعنى أنّ مطلق الانكشاف للتكليف يكون داخلا في دائرة حقّ الطاعة ويكون موضوعا للمنجّزيّة ، فيشمل القطع والاطمئنان والظنّ والشكّ والاحتمال. فكلّ هذه الانكشافات تكون منجّزة للتكليف

__________________

(١) الحلقة الثانية ، ضمن بحوث التمهيد تحت عنوان : حجّيّة القطع.

١٥٠

وتدخله في حقّ الطاعة وعهدة المكلّف والامتثال ، خلافا لما هو المشهور من عدم شمول المنجّزيّة إلا للقطع بالتكليف دون الظنّ والاحتمال وهو المسمّى بقبح العقاب بلا بيان.

غير أنّ هذا الحقّ وهذا التنجيز يتوقّف على عدم حصول مؤمّن من قبل المولى نفسه في مخالفته ذلك التكليف ، وذلك بصدور ترخيص جادّ منه في مخالفة التكليف المنكشف ؛ إذ من الواضح أنّه ليس لشخص حقّ الطاعة لتكليفه والإدانة بمخالفته إذا كان هو نفسه قد رخّص بصورة جادّة في مخالفته.

قلنا : إنّ حقّ الطاعة والمنجّزيّة تشمل كلّ انكشاف للتكليف سواء في ذلك القطع والظنّ والاحتمال ، إلا أنّ هذه المنجّزيّة يشترط فيها ألاّ يرد مؤمّن وترخيص من قبل المولى نفسه في جواز المخالفة لهذا التكليف المنكشف ، وهذا يعني أنّ حقّ الطاعة ثابت والمنجّزيّة متحقّقة ما دام المولى نفسه لم يرخّص فيه ، فإنّه مع عدم الترخيص منه يحكم العقل بلزوم الطاعة والامتثال واستحقاق العقوبة على المخالفة.

وأمّا إذا حصل هذا المؤمّن وصدر ترخيص من المولى نفسه في جواز المخالفة لهذا التكليف ، فهنا لا يحكم العقل بلزوم الإطاعة واستحقاق العقوبة على المخالفة ؛ وذلك لأنّ المولى نفسه قد رفع يده عن هذا التكليف وأخرجه عن دائرة حقّ الطاعة. وهذا يعني أنّه يرفع موضوع المنجّزيّة ويلغي حقّ الطاعة في هذا المورد ، ولذلك لا مجال للإدانة على المخالفة ؛ لأنّه هو الذي سمح بها والعقاب مع ذلك قبيح عقلا ؛ لأنّ العاقل إذا سمح وجوّز المخالفة فهو لا يعاقب عليها وإلا لكان أمر بالشيء وعاقب عليه ، وهو قبيح جدّا يستحيل صدوره من المولى الحكيم.

نعم ، قد يصدر ترخيص غير جادّ بمعنى ورود ما ظاهره الترخيص إلا أنّه ليس مرادا جدّا للمولى كما في موارد التقيّة مثلا ، فإنّه إذا ورد ترخيص في هذه الحالة فإنّه لا يحمل على الجدّيّة ، ولذلك يبقى التكليف داخلا في دائرة حقّ الطاعة وموضوع المنجّزيّة. ولذلك اشترط السيّد الشهيد رحمه‌الله أن يكون هذا الترخيص جادّا أي مرادا جدّا له.

أمّا متى يتأتّى للمولى أن يرخّص في مخالفة التكليف المنكشف بصورة جادّة؟ والسؤال الذي يطرح الآن : أنّ هذا الترخيص الجادّ متى يمكن صدوره من المولى؟

١٥١

فهل يمكن صدوره في جميع حالات الانكشاف الشاملة للقطع والظنّ والاحتمال ، أو أنّه يختصّ في حالات الانكشاف بالظنّ والاحتمال فقط دون القطع؟ إذا فالبحث الآن في هذين الموردين فنقول :

فالجواب على ذلك : أنّ هذا يتأتّى للمولى بالنسبة إلى التكاليف المنكشفة بالاحتمال أو الظنّ ، وذلك بجعل حكم ظاهري ترخيصي في موردها كأصالة الإباحة والبراءة.

إنّ الترخيص في مخالفة التكليف إنّما يمكن فيما إذا كان الانكشاف بنحو الظنّ أو الاحتمال أي الانكشاف الناقص ، فإنّه في هذه الموارد يمكن للشارع أن يصدر ترخيصا ظاهريّا عن هذا التكليف المظنون أو المحتمل ، وعلى أساسه يرتفع موضوع المنجّزيّة وحقّ الطاعة ؛ لأنّ هذا الترخيص يرفع القيد المذكور ومع ارتفاع القيد يرتفع الموضوع فينتفي الحكم بالمنجّزيّة والإطاعة لانتفاء موضوعهما بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

وهذا الترخيص الظاهري يجعله الشارع بنحو جادّ ، فيجعل حكما بالإباحة أو بالبراءة ؛ ليرفع موضوع المنجّزيّة وحقّ الطاعة عن هذا التكليف المظنون والمحتمل.

ولا تنافي بين هذا الترخيص الظاهري والتكليف المحتمل أو المظنون ؛ لما سبق (١) من التوفيق بين الأحكام الظاهريّة والواقعيّة ، وليس الترخيص الظاهري هنا هزليّا ، بل المولى جادّ فيه ضمانا لما هو الأهمّ من الأغراض والمبادئ الواقعيّة.

قد يشكل على هذا الترخيص الظاهري المجعول في موارد الانكشاف بنحو الظنّ والاحتمال للتكليف بأحد أمرين :

الأوّل : أنّ جعل ترخيص ظاهري يتنافى مع الظنّ والاحتمال للتكليف ؛ لأنّ الترخيص ينفي وجود التكليف بينما الظنّ والاحتمال يكشفان عن وجود التكليف واقعا بدرجة ما من الكشف ، فكيف يمكن اجتماعهما معا على مورد واحد؟!

وجوابه : أنّ الترخيص الظاهري يمكن اجتماعه مع الإلزام الواقعي المجهول عند المكلّف ولا تنافي بينهما لا في عالم الجعل والاعتبار ؛ لأنّه سهل المئونة ، ولا في عالم المبادئ ؛ لأنّ الحكم الظاهري ليس فيه مبادئ مستقلّة عن الحكم الواقعي ، ولا في عالم الامتثال ؛ لأنّ أحدهما فقط هو الواصل.

__________________

(١) في هذه الحلقة ضمن بحوث التمهيد ، تحت عنوان : الحكم الواقعي والظاهري.

١٥٢

وقد تقدّم ذلك مفصّلا عند التوفيق بين الأحكام الظاهريّة والواقعيّة.

الثاني : أنّ مثل هذا الترخيص الظاهري لا يكون جادّا ، بل هو ترخيص هزلي ليس مرادا للمولى بنظر المكلّف ؛ وذلك لأنّ المكلّف يرى انكشاف الواقع وأنّه يوجد تكليف بدرجة ما ، فكيف يمكنه أن يصدّق بهذا الترخيص الذي مفاده عدم وجود تكليف أصلا؟!

وجوابه : أنّ الترخيص الظاهري يصدره الشارع لأجل إبراز الأهمّ من الملاكات الواقعيّة عند اختلاطها على المكلّف وعدم تمييزه لها ، فلذلك يكون مفاد الترخيص : أنّ ملاكات الإباحة هي الأهمّ من ملاكات الإلزام المظنونة والمحتملة ، فهو جاد في إبراز هذا المعنى وليس هزليّا. وهنا الواقع مجهول عند المكلّف ولا يدري ما هو ثابت واقعا للاشتباه والشكّ ، وهذا الترخيص يرفع له هذا الشكّ والحيرة ويبرز له الملاك الأهمّ بنظر الشارع ، ولذلك يكون جادّا في مؤدّاه ومفاده.

وبهذا ظهر أنّ جعل الترخيص الظاهري لا مانع منه عقلا ولا منافاة بينه وبين التكليف الواقعي المحتمل أو المظنون ، وهو ترخيص جادّ أيضا وليس هزليّا.

وعليه ، فيمكن جعله من قبل الشارع ، وهذا ما وقع فعلا حيث دلّت الروايات على التأمين والترخيص والإباحة والبراءة في موارد الشكّ والجهل وعدم العلم ، ولذلك نخرج عن القاعدة الأوّليّة العقليّة القائلة بالتنجيز إلى القاعدة الثانويّة الشرعيّة القائلة بالبراءة والترخيص.

وأمّا التكليف المنكشف بالقطع فلا يمكن ورود المؤمّن من المولى بالترخيص الجادّ في مخالفته ؛ لأنّ هذا الترخيص إمّا حكم واقعي حقيقي وإمّا حكم ظاهري طريقي ، وكلاهما مستحيل.

وأمّا إذا كان التكليف منكشفا بالقطع وهو الانكشاف التامّ كالقطع بوجوب أو حرمة هذا الفعل ، فهنا لا يمكن ورود ترخيص جادّ من المولى بحيث يسمح للمكلّف بالمخالفة لما قطع به ؛ لأنّ ورود الترخيص مستحيل في هذا المورد ؛ إذ لا يخرج هذا الترخيص إمّا أن يكون حكما واقعيّا حقيقيّا بالإباحة والبراءة والمؤمّنيّة ؛ بحيث يكون هناك حكم واقعي بالترخيص ويكون فيه ملاكات ومبادئ الترخيص ، وإمّا أن يكون حكما ظاهريّا طريقيّا لإحراز ما هو الأهمّ من الملاكات الواقعيّة في حالة الشكّ

١٥٣

والاشتباه ، بحيث يضمن المحافظة على ملاكات الواقع الترخيصيّة ويبرز أهمّيتها ورجحانها بنظر المولى. وكلا هذين الحكمين يستحيل صدورهما من الشارع والوجه في هذه الاستحالة :

والوجه في استحالة الأوّل : أنّه يلزم اجتماع حكمين واقعيّين حقيقيّين متنافيين في حالة كون التكليف المقطوع ثابتا في الواقع ، ويلزم اجتماعهما على أيّ حال في نظر القاطع ؛ لأنّه يرى مقطوعه ثابتا دائما ، فكيف يصدّق بذلك؟!

إذا كان الترخيص في المخالفة واقعيّا فلا يخلو الأمر إمّا أن يكون ما قطع به من تكليف ثابتا واقعا بأن كان قطعه مصيبا ، وإمّا ألاّ يكون ثابتا واقعا بأن كان قطعه جهلا مركّبا ومخطئا.

فإن كان قطعه مصيبا فهذا يعني أنّ التكليف ثابت في الواقع فيلزم من الترخيص أن يجتمع حكمان تكليفيّان واقعيّان على مورد واحد وهو محال ؛ لأنّ الأحكام التكليفيّة متضادّة فيما بينها يستحيل اجتماعها واقعا على مورد واحد. وعليه فلا يمكنه التصديق بهذا الترخيص الواقعي ، لأنّ التصديق به يلزم منه اجتماع حكمين حقيقيّين متنافيين. وإن كان قطعه مخطئا فهذا يعني أنّه لا يوجد تكليف في الواقع ولكن المكلّف يعتقد بأنّ قطعه ليس مخطئا وإلا لما كان قاطعا ، فإنّ من يعتقد أو يحتمل بأنّ قطعه مخطئ لا يوجد عنده قطع ، بل يزول هذا القطع ويبدّل إلى الظنّ أو الاحتمال أو إلى القطع بالخلاف. وعليه فهو بنظره واعتقاده يرى أنّ قطعه مصيب ، وحينئذ يكون تصديقه بهذا الترخيص الظاهري معناه اجتماع حكمين تكليفيّين متنافيين بنظره واعتقاده بقطع النظر عن الواقع. والمكلّف في هذه الحالة لا يمكنه أن يصدّق بهذا الترخيص ؛ لأنّه باعتقاده مخالف لقطعه ولما قطع به ولو بنظره واعتقاده.

والحاصل : أنّ المكلّف لا يمكنه أن يصدّق بأنّ هذا الترخيص ـ سواء كان واقعيّا أم ظاهريّا ـ جدّي ؛ لأنّه يرى أنّ قطعه بالتكليف مصيب ويرى مقطوعه ثابتا إمّا واقعا أو على الأقلّ بنظره واعتقاده وإلا لم يكن قاطعا. وعليه ، فالتصديق وحمل هذا الترخيص على الجدّيّة محال إمّا واقعا إذا كان مقطوعه ثابتا وكان قطعه مصيبا ، وإمّا بنظره واعتقاده بأن كان مقطوعه غير ثابت وكان قطعه مخطئا وجهلا مركّبا.

١٥٤

فهناك ترديد بين الأقلّ والأكثر ، أي إمّا المنافاة في نظره وفي الواقع في حالة الإصابة أو في نظره فقط في حالة الخطأ ، فالحال لا يخلو من أحدهما.

والوجه في استحالة الثاني : أنّ الحكم الظاهري ما يؤخذ في موضوعه الشكّ ولا شكّ مع القطع ، فلا مجال لجعل الحكم الظاهري.

وإذا كان الترخيص ظاهريّا فجعله في مورد القطع بالتكليف محال ؛ وذلك لأنّ القاطع بالتكليف يرى أنّ الواقع هو هذا ؛ لأنّ القطع معناه الإراءة والكشف التامّ عن الواقع فهو يعتقد ويصدّق بأنّ التكليف ثابت واقعا. وهذا معناه أنّه لا شكّ ولا حيرة عنده ، وحينئذ لا يكون هناك معنى بنظره واعتقاده لهذا الترخيص الظاهري ؛ وذلك لأنّ الحكم الظاهري قد جعل في مورد الشكّ والحيرة في الواقع ، ثمّ عدم الشكّ والحيرة لا مجال للحكم الظاهري لارتفاع موضوعه ، وهنا الأمر كذلك.

وعليه ، فالمكلّف لا يرى أنّ هذا الترخيص الظاهري شامل له بنحو جدّي ؛ لأنّه قاطع لا شكّ عنده. وهذا الحكم الظاهري متوجّه للشاكّ وهو ليس شاكّا ، فهو يرى أنّ هذا الترخيص مختصّ بالشاكّ وهو غيره ، فالترخيص وإن كان بظاهره مطلقا وعامّا إلا أنّ المراد الجدّي هو خصوص الشاكّ ولذلك لا يرى هذا القاطع أنّ هذا الترخيص جدّيّا بالنسبة له ، وإنّما شمله من باب ضيق الخناق وقصور اللفظ.

وقد يناقش في هذه الاستحالة بأنّ الحكم الظاهري كمصطلح متقوّم بالشكّ لا يمكن أن يوجد في حالة القطع بالتكليف ، ولكن لما ذا لا يمكن أن نفترض ترخيصا يحمل روح الحكم الظاهري ولو لم يسمّ بهذا الاسم اصطلاحا؟ لأنّنا عرفنا سابقا أنّ روح الحكم الظاهري هي أنّه خطاب يجعل في موارد اختلاط المبادئ الواقعيّة وعدم تمييز المكلّف لها لضمان الحفاظ على ما هو أهمّ منها.

قد يقال : إنّ جعل الترخيص الظاهري في موارد القطع بالتكليف ممكن ؛ وذلك لأنّ الاستحالة المذكورة كانت لأجل أنّ الحكم الظاهري كما هو المصطلح المعروف مورده الشكّ ومتقوّم في ظرف الشاكّ وفي الواقع ، والشكّ يرتفع عند القطع بالتكليف ، ولكنّنا نفترض أنّ هذا الترخيص الظاهري يحمل نفس روح وحقيقة الحكم الظاهري ولكنّه ليس حكما ظاهريّا بالمصطلح المعروف المتقوّم بالشكّ ، بل نقول : إنّ هذا الترخيص الظاهري يجعله المولى عند اختلاط الملاكات والمبادئ وعدم

١٥٥

تمييزه لها ضمانا للحفاظ على ما الأهمّ من هذه الملاكات واقعا ، فيكون هذا الترخيص الظاهري المفترض يحمل نفس روح وحقيقة الحكم الظاهري ولكنّنا لا نسمّيه حكما ظاهريّا ؛ لئلاّ يرد المحذور من أنّه مأخوذ فيه الشكّ ولا شكّ مع القطع. وهذا الترخيص الظاهري المفترض هو :

فإذا افترضنا أنّ المولى لاحظ كثرة وقوع القاطعين بالتكليف في الخطأ وعدم التمييز بين موارد التكليف وموارد الترخيص ، وكانت ملاكات الإباحة الاقتضائيّة تستدعي الترخيص في مخالفة ما يقطع به من تكاليف ضمانا للحفاظ على تلك الملاكات ، فلما ذا لا يمكن صدور الترخيص حينئذ؟!

عرفنا أنّ الحكم الظاهري الاصطلاحي هو الخطاب الذي يبرز ما هو الأهمّ من الملاكات الواقعيّة في موارد الشكّ والحيرة والاختلاط وعدم التمييز. وهنا لدينا حكم ظاهري باصطلاح جديد وهو الخطاب الذي يجعل في موارد القطع ضمانا لعدم وقوع المكلّف في القطع بالخطإ ، حيث إنّ الشارع قد لاحظ كثرة وقوع القاطعين في الخطأ والاشتباه لأجل عدم تمييزهم لموارد الترخيص عن موارد التكليف ، فيجعل المولى حكما ظاهريّا لا بالمصطلح المعروف المأخوذ فيه الشكّ ، بل بروح الحكم الظاهري وحقيقته في موارد القطع ، وهذا فيما إذا كان ملاكات الإباحة الاقتضائيّة هي الأهمّ ، بأن يكون المكلّف مطلق العنان بنظر الشارع وتستدعي لأجل الحفاظ عليها وضمان عدم وقوع المكلّف في العسر والمشقّة والحرج أن يصدر الشارع مثل هذا الترخيص الظاهري في موارد القطع ضمانا للحفاظ عليها. فلما ذا لا يمكن جعل مثل هذا الترخيص الظاهري الذي ليس حكما ظاهريّا بالاصطلاح ، والاسم وإنّما هو حكم ظاهري من حيث الروح والجوهر والحقيقة؟!

والجواب على هذه المناقشة : أنّ هذا الترخيص لمّا كان من أجل رعاية الإباحة الواقعيّة في موارد خطأ القاطعين ، فكلّ قاطع يعتبر نفسه غير مقصود جدّا بهذا الترخيص ؛ لأنّه يرى قطعه بالتكليف مصيبا ، فهو بالنسبة إليه ترخيص غير جادّ ، وقد قلنا فيما سبق : إنّ حقّ الطاعة والتنجيز متوقّف على عدم الترخيص الجادّ في المخالفة.

الجواب : أنّ مثل هذا الترخيص الظاهري المفترض وإن كان ممكنا ثبوتا وتصوّرا إلا أنّه

١٥٦

لا يمكن وقوعه وصدوره من الشارع ؛ لأنّه لن يكون له أثر وفائدة فيكون جعله لغوا.

وبيان ذلك : أنّ هذا الترخيص افترض صدوره في موارد كثرة وقوع القاطعين في الخطأ وعدم تمييزهم لموارد التكليف من موارد الترخيص ، وهذا يعني أنّه متوجّه نحو القاطعين بالتكليف خطأ ، وهنا كلّ قاطع بالتكليف يرى أنّه مصيب في قطعه وأنّ مقطوعه ثابت واقعا ولا يراه مخطئا ، بل ولا يحتمل ذلك وإلا لما كان قاطعا ؛ لأنّ القطع كما تقدّم معناه الانكشاف التامّ وسكون النفس وعدم الحيرة والشكّ ، وحينئذ فكلّ قاطع لا يرى نفسه مشمولا لهذا الترخيص الظاهري ؛ لأنّه يعتقد بأنّ هذا الترخيص متوجّه للقاطع بالخطإ وهو ليس قاطعا خطأ ، بل هو يرى نفسه قاطعا مصيبا ولو باعتقاده ونظره. فهو يرى نفسه خارجا عن هذا الترخيص ، ولو فرض كون هذا الترخيص عامّا ومطلقا ويشمله بإطلاقه وعمومه إلا أنّه يرى أنّ هذا الشمول له ليس جدّيّا ، بل هو من باب قصور الألفاظ وضيق الخناق ، فهو بالنسبة إليه ليس ترخيصا جدّيّا.

وقد قلنا سابقا : إنّ الترخيص من المولى في موارد التنجيز وحقّ الطاعة لا بدّ أن يكون جدّيّا حتّى يرتفع موضوع التنجيز ودائرة حقّ الطاعة ، وهنا لا يوجد ترخيص جدّي. فالمنجّزيّة وحقّ الطاعة على حالهما لبقاء موضوعهما.

ويتلخّص من ذلك :

أوّلا : أنّ كلّ انكشاف للتكليف منجّز ولا تختصّ المنجّزيّة بالقطع لسعة دائرة حقّ الطاعة.

أي أنّ كلّ انكشاف سواء كان قطعا أو ظنّا أو احتمالا فهو منجّز ويدخل ضمن دائرة حقّ الطاعة وحكم العقل بلزوم الامتثال والإطاعة وحرمة المخالفة واستحقاق العقوبة عليها.

وثانيا : أنّ هذه المنجّزيّة مشروطة بعدم صدور ترخيص جادّ من قبل المولى في المخالفة.

أي أنّ هذه المنجّزيّة لمّا كانت لأجل مولويّة المولى واحترام حقّ الطاعة فهي منجّزيّة متوقّفة على عدم صدور ترخيص مولوي جادّ وإلا فترتفع هذه المنجّزيّة ؛ لأنّ المولى نفسه هو أذن وسمح بالمخالفة.

١٥٧

وثالثا : أنّ صدور مثل هذا الترخيص معقول في موارد الانكشاف غير القطعي ، ومستحيل في موارد الانكشاف القطعي ، ومن هنا يقال : إنّ القطع لا يعقل سلب المنجّزيّة عنه ، بخلاف غيره من المنجّزات.

أي أنّ الترخيص الظاهري بالمخالفة يعقل صدوره في موارد الانكشاف غير القطعي كالظنّ والاحتمال ولا محذور في ذلك ؛ لما تقدّم من أنّه لا تنافي من اجتماع حكمين متغايرين أحدهما ظاهري والآخر واقعي.

وأمّا في موارد الانكشاف القطعي فلا يعقل صدور الترخيص الظاهري لا واقعا ولا ظاهرا ؛ لما تقدّم سابقا من استحالة ذلك.

وعليه ، فمنجّزيّة القطع لا يمكن سلبها عنه بخلاف منجّزيّة الظنّ والاحتمال فإنّه يمكن سلبها عنهما. ولهذا يقال : إنّ القطع لا يعقل سلب المنجّزيّة عنه فهي من لوازمه التي لا تنفكّ عنه بينما غيره من المنجّزات للتكليف كالظنّ والاحتمال يمكن سلبها عنهما ولا محذور في ذلك كما تقدّم.

هذا هو التصوّر الصحيح لحجّيّة القطع ومنجّزيّته ، ولعدم إمكان سلب هذه المنجّزيّة عنه.

فحجّيّة القطع معناها المنجّزيّة والمعذّريّة. والمنجزيّة تشمل كلّ انكشاف ، والمعذّريّة تشمل القطع بعدم التكليف.

والمنجّزيّة متوقّفة على عدم الترخيص في موارد الظنّ والاحتمال ، وليست متوقّفة على شيء في موارد القطع ، بل هي مطلقة وفعليّة.

والمنجّزيّة يعقل سلبها عن الظنّ والاحتمال دون القطع ، بل هي لازمة له.

غير أنّ المشهور لهم تصوّر مختلف ، فبالنسبة إلى أصل المنجّزيّة ادّعوا أنّها من لوازم القطع بما هو قطع ، ومن هنا آمنوا بانتفائها عند انتفائه ، وبما أسموه بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ذهب المشهور إلى أنّ المنجّزيّة من اللوازم الذاتيّة للقطع بحيث إنّه إذا ثبت القطع في مورد ثبتت المنجّزيّة ولا يتوقّف ثبوتها على شيء آخر ، فالقطع بذاته وبما هو هو لازمه المنجّزيّة كما يقال : إنّ النار لازمها الذاتي الحرارة.

وعلى هذا فالمنجّزيّة لا يمكن أن تجعل للقطع بجعل جاعل ، ولا يمكن أن تنفكّ عنه

١٥٨

أيضا ؛ لأنّ الذاتي والذاتيّات يوجدان معا وينتفيان معا ولا يوجد أحدهما دون الآخر.

وعلى هذا آمنوا بأنّ هذه المنجّزيّة تنتفي إذا انتفى القطع دون الظنّ أو الشكّ ؛ لأنّ المنجّزيّة تتبع القطع وهنا لا يوجد قطع ، ولذلك آمنوا بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

فما دام لا يوجد علم وبيان فلا منجّزيّة وإذ لا منجّزيّة فلا يحكم العقل بلزوم الإطاعة والامتثال وحرمة المخالفة واستحقاق العقوبة عليها. فالبراءة العقليّة متفرّعة إذا من القول بأنّ المنجّزيّة من اللوازم الذاتيّة للقطع بما هو قطع.

هذا التصوّر الأوّل.

وبالنسبة إلى عدم إمكان سلب المنجّزيّة وردع المولى عن العلم بالقطع برهنوا (١) على استحالة ذلك بأنّ المكلّف إذا قطع بالتكليف حكم العقل بقبح معصيته ، فلو رخّص المولى فيه لكان ترخيصا في المعصية القبيحة عقلا ، والترخيص في القبيح محال ومناف لحكم العقل.

وذهب المشهور أيضا إلى أنّ سلب المنجّزيّة عن القطع وردعه عن العمل به مستحيل غير ممكن بدليل مركّب من أمور :

١ ـ أنّ المكلّف إذا قطع بالتكليف يحكم العقل بلزوم إطاعته وقبح معصيته.

٢ ـ أنّ المولى لو رخّص بترك هذا التكليف المقطوع لكان ذلك ترخيصا في فعل المعصية القبيحة بحكم العقل.

٣ ـ أنّ الترخيص يستحيل صدوره من المولى ؛ لأنّه ترخيص قبيح عقلا فهو محال ؛ لأنّه مناف لحكم العقل بقبح المعصية.

فيؤلّف قياس من هذه الأمور الثلاثة ومفاده :

أنّ الترخيص بمخالفة القطع قبيح عقلا ؛ لأنّه ترخيص في فعل المعصية القبيحة عقلا ، والترخيص في فعل القبيح والمعصية يستحيل صدوره من الشارع الحكيم العادل العاقل.

__________________

(١) ورد هذا البرهان في تقرير بحث المحقّق العراقي في نهاية الأفكار ١ ( ق ٣ ) : ٧ ـ ٨ ، مع التفاته إلى ما أورده عليه السيّد الشهيد ، كما تمسّك بعضهم بمثل هذا البرهان في دعوى استحالة ورود الترخيص في المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي. انظر أجود التقريرات ٢ :

٢٤١ ، ومصباح الأصول ٢ : ٣٤٥ ـ ٣٤٦.

١٥٩

أمّا تصوّرهم بالنسبة إلى المنجّزيّة فجوابه : أنّ هذه المنجّزيّة إنّما تثبت في موارد القطع بتكليف المولى لا القطع بالتكليف من أي أحد ، وهذا يفترض مولى في الرتبة السابقة ، والمولويّة معناها : حقّ الطاعة وتنجّزها على المكلّف ، فلا بدّ من تحديد دائرة حقّ الطاعة المقوّم لمولويّة المولى في الرتبة السابقة ، وهل يختصّ بالتكاليف المعلومة أو يعمّ غيرها؟

هذا الجواب تقدّم مفصّلا في الحلقة الثانية وحاصله هنا : أنّنا ننكر كون المنجّزيّة من اللوازم الذاتيّة للقطع بما هو هو ، بل هي من لوازم القطع بتكاليف المولى فقط ؛ لوضوح أنّ القطع بتكليف الآخرين وأوامرهم ليس له هذه المنجّزيّة كما لو فرض القطع بأمر العدوّ أو العبد ، ولذلك فلا بدّ أن نفترض وجود المولى أوّلا والقطع بتكليفه ثانيا. والمولى المفترض القطع بتكليفه هو من له حقّ الطاعة على العباد والمكلّفين ، بحيث يحكم العقل بلزوم امتثال أوامره واستحقاق العقاب على المخالفة. فالمولويّة إذا معناها حقّ الطاعة ، والمنجّزيّة هي نفس حقّ الطاعة والمولوية ، وليست شيئا آخر.

ولذلك فالبحث في الحقيقة ينبغي أن ينصبّ حول دائرة حقّ الطاعة وموضوع المنجّزيّة ، وهل هو مختصّ بموارد القطع بالتكليف أو يشمل كلّ موارد الانكشاف بالظنّ والاحتمال؟

ونحن آمنّا بأنّ حقّ الطاعة شامل لكلّ انكشاف ، فالمنجّزيّة عقلا ثابتة لا للقطع فقط بل للظنّ والاحتمال أيضا.

وما ذكره المشهور من الاختصاص بموارد القطع إنّما هو تحديد وتقييد لدائرة حقّ الطاعة ولموضوع المنجّزيّة وهو غير صحيح عندنا. فأصل المبنى الذي يرتكز عليه تصوّر المشهور ليس صحيحا.

وأمّا تصوّرهم بالنسبة إلى عدم إمكان الردع فجوابه : أنّ مناقضة الترخيص لحكم العقل وكونه ترخيصا في القبيح فرع أن يكون حقّ الطاعة غير متوقّف على عدم ورود الترخيص من قبل المولى ، وهو متوقّف حتما لوضوح أنّ من يرخّص بصورة جادّة في مخالفة تكليف لا يمكن أن يطالب بحقّ الطاعة فيه ، فجوهر البحث يجب أن ينصبّ على أنّه هل يمكن صدور هذا الترخيص بنحو يكون جادّا ومنسجما مع التكاليف الواقعيّة أو لا؟ وقد عرفت أنّه غير ممكن.

١٦٠