شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

الفور والتراخي

٤٠١
٤٠٢

الفور والتراخي

ثمّ إنّ الأمر لا يدلّ على الفور ، ولا على التراخي ، أي أنّه لا يستفاد منه لزوم الإسراع بالإتيان بمتعلّقه ، ولا لزوم التباطؤ ؛ لأنّ الأمر لا يقتضي إلا الإتيان بمتعلّقه ، ومتعلّقه هو مدلول المادّة ، ومدلول المادّة طبيعي الفعل الجامع بين الفرد الآني والفرد المتباطأ فيه.

المقصود من الفور : هو لزوم الإسراع في الامتثال والإتيان بالمأمور به الذي هو متعلّق الأمر. والمقصود من التراخي : التأخير والتباطؤ في الامتثال.

وحينئذ نقول :

الأمر بمادّته وهيئته لا يدلّ على الفور ولا يدلّ على التراخي بحسب المدلول التصوّري الوضعي ؛ لأنّه لا يدلّ إلا على الطلب أو النسبة الإرساليّة فقط. وأمّا لزوم الإسراع أو التباطؤ فهو خارج عن مدلول اللفظ.

فمثلا ( أكرم العالم ) تدلّ صيغة الأمر على النسبة الإرساليّة بنحو الطلب الوجوبي لإكرام العالم ، فهناك نسبة بين الفعل أي المادّة والفاعل وهو المأمور أي المكلّف ، وهذه النسبة يراد تحقيقها وإيجادها ، فمتعلّق الأمر هو الإكرام أي المادّة ، والمادّة عبارة عن المفهوم الاسمي أي المطلق وكلّي الإكرام ، وهذا الإكرام المطلق كما يتناسب مع الفور كذلك يتناسب مع التراخي ، ولا معيّن لأحدهما على الآخر ولا ترجيح له ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح ، فيثبت جواز الأمرين وأنّ المكلّف مخيّر بينهما.

٤٠٣
٤٠٤

المرّة والتكرار

٤٠٥
٤٠٦

المرّة والتكرار

كما أنّ الأمر لا يدلّ على المرّة ولا على التكرار ، أي أنّه لا يستفاد منه لزوم الإتيان بفرد واحد أو بأفراد كثيرة ، وإنّما تلزم به الطبيعة ، والطبيعة بعد إجراء قرينة الحكمة فيها يثبت إطلاقها البدلي فتصدق على ما يأتي به المكلّف من وجود لها ، سواء كان في ضمن فرد واحد أو أكثر.

المقصود من المرة هو لزوم الإتيان بالواجب المأمور به مرّة واحدة فقط ، بينما المقصود من التكرار لزوم الإتيان بالفعل أكثر من مرّة ، بل مرّات عديدة.

وهنا نقول : إنّ الأمر لا يدلّ بحسب المدلول الوضعي التصوّري لا على المرّة ولا على التكرار ؛ لأنّه يدلّ على الطلب والإرسال فقط بنحو المعنى الاسمي في المادّة وبنحو المعنى الحرفي في الهيئة.

وهذا يعني أنّ الأمر لا يقتضي إلا تحقّق النسبة بين الفعل والفاعل ، أي يتعلّق بالمادّة التي هي متعلّق الأمر ، كما إذا قيل : ( أكرم العالم ) فإنّ الوجوب متعلّق بالإكرام الذي هو المادّة ، وهذه المادّة بعد إجراء الإطلاق ومقدّمات الحكمة يثبت كونها مطلقة ، أي يراد إيجاد وتحقيق طبيعي الإكرام.

ومن المعلوم أنّ الطبيعي يتحقّق ويوجد بفرد واحد من أفراده ، وهذا يعني أنّ الإطلاق هنا بدلي ؛ لأنّه مخيّر في هذا الفرد الواحد من بين الأفراد جميعا ، وهذا الفرد الواحد كما يصدق في ضمن المرّة كذلك يصدق في ضمن المرّات الكثيرة ؛ لأنّ الطبيعة كما تصدق في الفرد الواحد تصدق أيضا في الأكثر ، ولذلك يكون الإتيان بالإكرام مرّة واحدة امتثالا وإطاعة ؛ لأنّه يحقّق المأمور به ، وكذلك لو أتي بالإكرام مرّات عديدة في عرض واحد إلا أنّه لا يتعيّن هذا دون ذلك ؛ إذ لا معيّن لأحدهما دون الآخر.

٤٠٧

فلو قال الآمر : ( تصدّق ) تحقّق الامتثال بإعطاء فقير واحد درهما كما يتحقّق بإعطاء فقيرين درهمين في وقت واحد ، وأمّا إذا تصدّق المكلّف بصدقتين مترتّبتين زمانا فالامتثال يتحقّق بالفرد الأوّل خاصّة.

فمثلا لو قال المولى : ( تصدّق على الفقير ) فهنا متعلّق الأمر هو التصدّق ، وبعد إجراء الإطلاق ومقدّمات الحكمة يثبت الإطلاق البدلي ، أي يجب التصدّق بفرد واحد من أفراد التصدّق على سبيل البدل والتخيير بين أفراده جميعا.

وعندئذ فإذا تصدّق المكلّف على فقير فأعطاه درهما فهو ممتثل مطيع للأمر ؛ لأنّه حقّق الطبيعة بفرد من أفرادها.

وإذا تصدّق على فقيرين معا في عرض واحد بأن أعطى لكلّ منهما درهما في زمان واحد فهو ممتثل بهما معا ؛ لأنّ الطبيعة تتحقّق بالأكثر ولا ترجيح لأحدهما على الآخر.

وأما إذا تصدّق على زيد الفقير فأعطاه درهما ثمّ بعد ذلك وبعد فاصل زماني تصدّق على عمرو فأعطاه درهما ، فهو يكون ممتثلا بالتصدّق الأوّل ؛ لأنّه يحقّق الطبيعة فإذا تحقّق متعلّق الأمر الذي هو التصدّق سقط الأمر عن الفاعليّة ، فلا موجب ولا مبرّر لامتثاله مرّة أخرى بنحو الوجوب ، فيكون التصدّق على الثاني ليس امتثالا للأمر والوجوب ؛ لأنّه سقط بتحقق متعلّقه ، ومع سقوط الأمر به لا يكون مأمورا ولا يكون فعله امتثالا لأمر المولى ؛ إذ لا أمر للمولى ليمتثل فهو من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، أي أنّ الامتثال موضوعه الأمر وحيث إنّه لا أمر فلا امتثال أيضا.

٤٠٨

الإطلاق واسم الجنس

٤٠٩
٤١٠

الإطلاق واسم الجنس

الإطلاق يقابل التقييد ، فإن تصوّرت معنى وأخذت فيه وصفا زائدا أو حالة خاصّة ـ كالإنسان والعالم ـ كان ذلك تقييدا. وإذا تصوّرت مفهوم الإنسان ولم تضف إليه شيئا من ذلك فهذا هو الإطلاق.

الإطلاق والتقييد مفهومان متقابلان ولذلك توجد بينهما إحدى نسب التقابل كما سيأتي بيانه.

وأمّا تعريفهما : فالتقييد : هو لحاظ الطبيعة مع خصوصيّة زائدة عليها ، كما إذا تصوّرت معنى معيّن وأخذت فيه وصفا زائدا ، كأن تتصوّر الإنسان وتأخذ معه صفة العلم أي الإنسان العالم ، أو تتصوّر معنى معيّن وتأخذ فيه حالة من حالاته ، كأن تتصوّر الإنسان والقعود مثلا.

وأمّا الإطلاق : فهو لحاظ الطبيعة من دون أن يلحظ معها أي خصوصيّة زائدة لا وصفا ولا حالة ، كما إذا تصوّرت معنى معيّن ولم تضف إليه شيء آخر زائد عليه ، كأن تتصوّر الإنسان فقط من دون أن تأخذ معه العلم أو الجلوس أو أي شيء آخر.

فالتقييد إذا لحاظ الخصوصيّة بينما الإطلاق عدم لحاظ الخصوصيّة.

وقد وقع الكلام في أنّ اسم الجنس هل هو موضوع للمعنى الملحوظ بنحو الإطلاق فيكون الإطلاق قيدا في المعنى الموضوع له ، أو لذات المعنى الذي يطرأ عليه الإطلاق تارة والتقييد أخرى؟

اسم الجنس يدلّ على الماهيّة والطبيعة كالإنسان ، فإنّه يدلّ على الماهيّة المؤلّفة من الحيوان الناطق ، إلا أنّ اسم الجنس هل يدلّ على الماهيّة والطبيعة بما هي مجرّدة أو بما هي مطلقة؟

وقع الخلاف بينهم في ذلك : فذهب مشهور القدماء إلى أنّ اسم الجنس موضوع

٤١١

للماهيّة الملحوظة بنحو الإطلاق أي الماهيّة المطلقة ، فيكون الإطلاق مستفادا من لفظ اسم الجنس بحيث يكون موضوعا للإطلاق ، فالإطلاق جزء وقيد دخيل في المعنى الذي وضع له اسم الجنس ، بحيث يكون اسم الجنس موضوعا للماهيّة بشرط إطلاقها. وهذا معناه أنّ استعمال اسم الجنس في الإطلاق لا يحتاج إلى دليل أو قرينة ؛ لأنّه استعمال للفظ فيما وضع له ، بينما يكون استعمال اسم الجنس في التقييد مجازا ؛ لأنّه استعمال للّفظ في غير ما وضع له فيحتاج إلى قرينة ودليل زائد عن اللفظ.

وذهب مشهور المتأخّرين عن سلطان العلماء إلى أنّ اسم الجنس موضوع للماهيّة بذاتها مجرّدة عن أي قيد آخر ، بمعنى أنّ اسم الجنس يدلّ على ذات الماهيّة بما هي هي ، فالإطلاق والتقييد خارجان عن مدلول اللفظ ، وهذه الماهيّة بذاتها صالحة للانطباق على الإطلاق وصالحة أيضا للانطباق على التقييد ، فيكون استعمالها في التقييد او الإطلاق استعمالا حقيقيّا ؛ لأنّها تتضمّنهما.

فالإطلاق يحافظ ويتضمّن الماهيّة ، والتقييد كذلك فكان استعمال للّفظ فيما وضع له. ولكن يحتاج كلّ من التقييد والإطلاق إلى دالّ وقرينة زائدة له على اللفظ ؛ لأنّ اللفظ لا يتكفّل الدلالة على أحدهما.

ولتوضيح الحال تقدّم عادة مقدّمة لتوضيح أنحاء لحاظ المعنى واعتبار الماهيّة في الذهن ، لكي تحدّد نحو المعنى الموضوع له اللفظ على أساس ذلك.

وقبل البدء ببيان القول الصحيح والاستدلال عليه تذكر عادة في الغالب مقدّمة لأجل بيان الأنحاء والاعتبارات التي تلاحظ في الذهن للماهيّة. فإنّ للماهيّة لحاظات وأنحاء ذهنيّة يمكننا على أساسها أن نحدّد المعنى الموضوع له اسم الجنس فنقول :

اعتبارات الماهيّة :

وحاصلها ـ مع أخذ ماهيّة الإنسان وصفة العلم كمثال ـ أنّ ماهيّة الإنسان إذا تتبّعنا أنحاء وجودها في الخارج نجد أنّ هناك حصّتين ممكنتين لها من ناحية صفة العلم ، وهما : الإنسان الواجد للصفة خارجا والإنسان الفاقد لها خارجا.

حاصل هذه المقدّمة ـ بعد أن نأخذ الإنسان كماهيّة وصفة العلم كمثال للتطبيق ـ يتركّب من أمور :

٤١٢

الأمر الأوّل : في أنحاء وجود الماهيّة في الخارج إنّ ماهيّة الإنسان بوجودها الخارجي : إمّا أن تكون واجدة لصفة العلم وإمّا أن تكون فاقدة لها. ففي الخارج إمّا أن يكون الإنسان عالما ، وإمّا أن لا يكون عالما. وهذا يعني أنّ هناك حصّتين من الوجود الخارجي لماهيّة الإنسان تتّصفان بالإمكان الوجودي بحيث يكون اتّصافهما بالوجود في الخارج وهما :

١ ـ الإنسان الواجد لصفة العلم في الخارج وهو الإنسان العالم.

٢ ـ الإنسان الفاقد لصفة العلم في الخارج وهو الإنسان غير العالم.

ولا يتصوّر لها حصّة ثالثة ينتفي فيها الوجدان والفقدان معا ؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين. ومن هنا نعرف أنّ مفهوم الإنسان الجامع بين الواجد والفاقد ليس حصّة ثابتة في الخارج في عرض الحصّتين السابقتين.

ولا يمكن أن يوجد في الخارج حصّة ثالثة للماهيّة ينتفي عنها وجدان وفقدان صفة العلم ، بأن يكون في الخارج إنسان ليس واجدا لصفة العلم وليس فاقدا لصفة العلم. فإنّ مثل هذه الحصّة يستحيل وجودها في الخارج ؛ لأنّ العلم وعدم العلم نقيضان يستحيل ارتفاعهما ويستحيل اجتماعهما على موضوع واحد من جهة واحدة ، ولذلك يستحيل وجود إنسان في الخارج ينتفي عنه العلم وعدم العلم ؛ لأنّ ذلك معناه ارتفاع النقيضين عن موضوع واحد وهو مستحيل.

ومن هنا نعرف أنّ مفهوم الإنسان أي ماهيّة الإنسان بما هي هي الجامعة بين الإنسان الواجد لصفة العلم والفاقد لصفة العلم يستحيل أن يكون موجودا في الخارج ، كحصّة ثالثة في عرض الحصّتين السابقتين. فلا يوجد في الخارج إلا حصّتان فقط الواجدة والفاقدة.

وأمّا الجامع بين الواجد والفاقد فيستحيل وجوده في الخارج ؛ لأنّ الجامع لا يتحقّق إلا ضمن الفرد في الخارج ويستحيل وجود الجامع مستقلاّ عن وجود الفرد ؛ إذ لو أمكن وجود الجامع مستقلاّ عن وجود الفرد وفي عرضه لكان جزئيّا ، وهو خلف المفروض.

مضافا إلى أنّ عالم الخارج عالم الاتّصاف المادي ومن المستحيل وجود المجرّدات في الخارج بما هي كذلك ، بل لا بدّ أن توجد في الخارج بما هي متّصفة بآثار الخارج الماديّة.

ولكن إذا تجاوزنا الخارج إلى الذهن وتتبّعنا عالم الذهن في معقولاته الأوّليّة

٤١٣

التي ينتزعها من الخارج مباشرة نجد ثلاث حصص أو ثلاثة أنحاء من لحاظ الماهيّة ، كلّ واحد يشكّل صورة للماهيّة في الذهن تختلف عن الصورتين الأخريين.

الأمر الثاني : في أنحاء وجود الماهيّة في الذهن.

عالم الذهن ينقسم إلى قسمين هما المعقولات الأوّليّة والمعقولات الثانويّة.

أمّا المعقولات الأوّليّة : فهي اللحاظات الذهنيّة التي ينتزعها العقل من الخارج ، بمعنى أنّ الانتزاع من الخارج والاتّصاف في الذهن.

وأمّا المعقولات الثانويّة : فهي اللحاظات الذهنيّة التي ينتزعها العقل من معقولاته الأوّليّة ، بمعنى أنّ الانتزاع من الذهن والاتّصاف في الذهن.

وكلامنا في هذا الأمر الثاني عن المعقولات الذهنيّة الأوّليّة ، فنقول : إنّنا إذا نظرنا إلى عالم الذهن في معقولاته المنتزعة من الخارج مباشرة نجد أنّ ماهيّة الإنسان ووصف العلم لها ثلاثة أنحاء أو ثلاثة اعتبارات ولحاظات ذهنيّة. بمعنى أنّه يوجد في الذهن حصص ثلاث لماهيّة الإنسان مع صفة العلم.

وكلّ واحد من هذه الحصص أو اللحاظات الثلاثة تختلف عن الحصّتين الأخريين ، فكلّها موجودة في عرض واحد بنحو مستقلّ.

وتوضيح ذلك :

لأنّ لحاظ ماهيّة الإنسان في الذهن :

تارة يقترن مع لحاظ صفة العلم ، وهذا ما يسمّى بالمقيّد أو لحاظ الماهيّة بشرط بشيء.

وأخرى يقترن مع لحاظ عدم صفة العلم ، وهذا نحو آخر من المقيّد ويسمّى لحاظ الماهيّة بشرط لا.

وثالثة لا يقترن بأيّ واحد من هذين اللحاظين ، وهذا ما يسمّى بالمطلق أو لحاظ الماهيّة لا بشرط.

وهذه حصص ثلاث عرضيّة في اللحاظ في وعاء الذهن.

إنّ الذهن عند ما يلاحظ ماهيّة الإنسان وصفة العلم يجد أنّ هناك ثلاثة أنحاء ولحاظات وحصص وهي :

١ ـ أن يلحظ ماهيّة الإنسان بما هي مقترنة مع لحاظ صفة العلم ، بأن يلحظ

٤١٤

الإنسان المتّصف بالعلم أي الإنسان العالم ، وهذا ما يسمّى بالمقيّد أي لحاظ الماهيّة مقيّدة بلحاظ صفة العلم ، أو يسمّى بلحاظ الماهيّة بشرط شيء ؛ لأنّه أضاف إلى لحاظ الماهيّة شرطا ووصفا وهو العلم.

٢ ـ أن يلحظ ماهيّة الإنسان بما هي مقترنة مع لحاظ عدم صفة العلم ، بأن يلحظ الإنسان المتّصف بعدم العلم أي الإنسان غير العالم ، وهذا نحو آخر من أنحاء المقيّد ؛ لأنّه لاحظ الماهيّة مقيّدة بلحاظ عدم صفة العلم. ويسمّى بلحاظ الماهيّة بشرط لا ؛ لأنّه أضاف إلى الماهيّة شرطا ووصفا وهو عدم العلم.

٣ ـ أن يلحظ ماهيّة الإنسان بما هي هي مجرّدة عن اللحاظين السابقين ، أي يلحظ الإنسان غير المتّصف بالعلم وغير المتّصف بعدم العلم ، فلا يقترن الإنسان بأي واحد من هذين الوصفين. وهذا ما يسمّى بلحاظ الماهيّة لا بشرط ، أي أنّه لاحظ الماهيّة بما هي هي من دون أن يضيف إليها شرطا آخر ومن دون أن يقرنها بصفة أخرى لا العلم ولا عدم العلم. وهذا هو المطلق ، أو اللابشرط القسمي الذي هو قسم ثالث في مقابل القسمين الآخرين.

وهذه الحصص الثلاث موجودة في عرض واحد ، وكلّ واحد منها مستقلّ في وجوده عن الآخر ووعاء وجودها هو عالم الذهن بمعقولاته الأوّليّة.

وإذا دقّقنا النظر وجدنا أنّ هذه الحصص الثلاث من لحاظ الماهيّة تتميّز بخصوصيّات ذهنيّة وجودا وعدما ، وهي لحاظ الوصف ولحاظ عدمه وعدم اللحاظين.

الأمر الثالث : في الفرق بين الوجود الخارجي والوجود الذهني للماهيّة.

إذا نظرنا إلى اللحاظات الذهنيّة الثلاث الموجودة في وعاء المعقولات الأوّليّة وجدنا أنّها تتميّز بخصوصيّات ذهنيّة وجودا وعدما وهي :

١ ـ لحاظ الوصف ، أي لحاظ الماهيّة مع الوصف فيها ، وهو ما يسمّى بشرط شيء.

٢ ـ لحاظ عدم الوصف ، أي لحاظ الماهيّة مع عدم الوصف فيها ، وهو ما يسمّى بشرط لا.

٣ ـ عدم لحاظ الوصف وعدم لحاظ عدمه ، أي لحاظ الماهيّة مع عدم اللحاظين ، لا لحاظ الوصف ولا لحاظ عدم الوصف ، وهو ما يسمّى اللابشرط القسمي.

٤١٥

وهذه اللحاظات الذهنيّة تتميّز بخصوصيّات ذهنيّة هي : لحاظ الوصف ، ولحاظ عدم الوصف ، وعدم اللحاظين المذكورين.

ومن الواضح أنّ اللحاظ من شئون الذهن لا الخارج.

وأما الحصّتان الممكنتان للماهيّة في الخارج فتتميّز كلّ واحدة منهما بخصوصيّة خارجيّة وجودا وعدما ، وهي الوصف خارجا وعدمه كذلك.

الوجود الخارجي للماهيّة له حصّتان ممكنتان في الخارج كما تقدّم ، فإذا دقّقنا النظر في هاتين الحصّتين وجدنا أنّ إحداهما تتميّز بخصوصيّة وجوديّة في الخارج ، والأخرى تتميّز بخصوصيّة عدميّة في الخارج أيضا ، وهما :

١ ـ الماهيّة الواجدة لصفة العلم ، فإنّها تتميّز بوجود صفة العلم في الخارج.

٢ ـ الماهيّة الفاقدة لصفة العلم ، فإنّها تتميّز بعدم صفة العلم فيها في الخارج.

فهاتان الحصّتان تتميّزان بخصوصيّتين خارجيّتين.

وتسمّى الخصوصيّات التي تتميّز بها الحصص الثلاث للحاظ الماهيّة في الذهن بعضها عن بعض بالقيود الثانويّة ، وتسمّى الخصوصيّات التي تتميّز بها الحصّتان في الخارج إحداهما عن الأخرى بالقيود الأوّليّة.

أي أنّ الخصوصيّات التي تتميّز بها الحصص الثلاث ( بشرط شيء ، بشرط لا ، لا بشرط ) تسمّى بالقيود الثانويّة ؛ لأنّ اللحاظات موجودة في الذهن لأنّه وعاؤها. وأمّا الخارج فهو المنشأ للانتزاع.

بينما تسمّى الخصوصيّات التي تتميّز بها الحصّتان الممكنتان في الخارج ( الماهيّة الواجدة للصفة والماهيّة الفاقدة لها ) بالقيود الأوّليّة ؛ لأنّ صفة العلم وعدمها منتزعان من الخارج وموجودتان في الخارج أيضا ، فهما من القيود الخارجيّة موطنا ومنشأ وعروضا واتّصافا.

ونلاحظ أنّ القيد الثانوي المميّز للحاظ الماهيّة بشرط شيء ـ وهو لحاظ صفة العلم ـ مرآة لقيد أوّلي ، وهو نفس صفة العلم المميّز لإحدى الحصّتين الخارجيّتين.

ومن هنا كان لحاظ الماهيّة بشرط شيء مطابقا للحصّة الخارجيّة الأولى.

الأمر الرابع : في العلاقة بين القيود الأوّليّة والقيود الثانويّة.

أما القيد الثانوي المميّز للحاظ الماهيّة بشرط شيء ، أي لحاظ صفة العلم فهو مرآة

٤١٦

كاشفة وحاكية عن القيد الأوّلي الذي هو نفس وجود صفة العلم في الخارج ، والذي كان مميّزا لإحدى الحصّتين الممكنتين في الخارج ، وهي الماهيّة الواجدة للوصف.

فالعلاقة بين لحاظ الماهيّة بشرط شيء وبين الماهيّة الواجدة للوصف علاقة المرآتية والحكاية والكاشفيّة ؛ وذلك لأنّ لحاظ صفة العلم يكشف عن وجود صفة العلم في الخارج ويحكي عنها.

ومن هنا يمكننا القول بأنّ لحاظ الماهيّة بشرط شيء مطابق للحصّة الخارجيّة الأولى ، فإنّ لحاظ صفة العلم مطابق لوجود صفة العلم في الخارج ، فكان القيد الثانوي مطابقا للقيد الأوّلي ، بمعنى أنّ القيد الثانوي مرآة يري ويحكي عن القيد الأوّلي ، فصفة العلم كانت ملحوظة في الذهن وفي نفس الوقت كانت موجودة في الخارج فحصل التطابق بينهما.

كما نلاحظ أنّ القيد الثانوي المميّز للحاظ الماهيّة بشرط لا ـ وهو لحاظ عدم صفة العلم ـ مرآة لقيد أوّلي ، وهو عدم صفة العلم المميّز للحصّة الخارجيّة الأخرى ، ومن هنا كان لحاظ الماهيّة بشرط لا مطابقا للحصّة الخارجيّة الثانية.

وأمّا القيد الثانوي المميّز للحاظ الماهيّة بشرط لا أي لحاظ عدم صفة العلم فهو أيضا مرآة كاشفة وحاكية عن القيد الأوّلي الذي يميّز الحصّة الأخرى الممكنة في الخارج أي عدم صفة العلم في الخارج أو الماهيّة الفاقدة لصفة العلم.

فالعلاقة بين هذا القيد الثانوي وبين القيد الأوّلي الآخر هي علاقة المرآتيّة والكاشفيّة والحكاية ؛ لأنّ لحاظ عدم صفة العلم يكشف عن عدم وجود صفة العلم في الخارج ويحكي عنها.

ومن هنا يمكننا القول أيضا بأنّ لحاظ الماهيّة بشرط لا مطابق للحصّة الخارجيّة الثانية ، بمعنى أنّ هذا القيد الثانوي يري ويحكي عن القيد الأوّلي. فعدم صفة العلم كان ملحوظا في الذهن وفي نفس الوقت أيضا كان هذا العدم وصفا خارجيّا للماهيّة فحصل التطابق بينهما.

وأمّا القيد الثانوي المميّز للحاظ الماهيّة لا بشرط ـ وهو عدم كلا اللحاظين ـ فليس مرآة لقيد أوّلي ؛ لأنّه عدم اللحاظ ، وعدم اللحاظ ليس مرآة لشيء ، ومن هنا كان المرئي بلحاظ الماهيّة لا بشرط ذات الماهيّة المحفوظة في ضمن المطلق والمقيّد.

٤١٧

وأمّا القيد الثانوي المميّز للحاظ الماهيّة لا بشرط أي عدم اللحاظين فهو ليس مرآة ولا حاكيا أو كاشفا عن القيد الأوّلي.

وذلك لسببين :

الأوّل : أنّ عدم اللحاظين عبارة عن أمر عدمي والأمر العدمي لا يحكي ولا يكشف عن شيء ولا يكون ملحوظا به أي شيء في الخارج ؛ لأنّ العدم غير المضاف إلى صفة وجوديّة لا يحكي عن الخارج ولا يلحظ به شيئا خارجيّا ، ولذلك لا يكون حاكيا عن قيد أوّلي ؛ لأنّ القيد الأوّلي ما كان موجودا في الخارج. والعدم المطلق لا يحكي عن الوجود ؛ لأنّهما نقيضان لا يجتمعان مطلقا.

الثاني : أنّ عدم اللحاظين كما قلنا : إنّ معناه عدم لحاظ صفة العلم وعدم لحاظ صفة اللاّعلم ، ومن الواضح كما تقدّم سابقا أنّ الماهيّة في الخارج لها حصّتان فقط هما الماهيّة بقيد العلم أي الواجدة للعلم ، والماهيّة بقيد عدم العلم أي الماهيّة الفاقدة للعلم. وأمّا الماهيّة بما هي هي مجرّدة عن العلم واللاّعلم فهي غير موجودة في الخارج بنحو مستقلّ ؛ لأنّ العلم واللاّعلم لا يرتفعان عن الماهيّة ؛ لأنّهما نقيضان. وهذا يعني أنّه لا يوجد شيء مقابل لهذا القيد الثانوي لكي يحكي ويكشف عنه ويكون مرآة له.

ومن هنا نعرف أنّ الملحوظ والمرئي والمحكي بلحاظ الماهيّة لا بشرط هو ذات الماهيّة ، أي الماهيّة بما هي مجرّدة عن قيد الاتّصاف بالعلم الذي هو المقيّد ، ومجرّدة عن قيد الاتّصاف بعدم العلم الذي هو المطلق ، وهذه الماهيّة محفوظة ضمنهما ؛ لأنّ الماهيّة تتحقّق ضمن الفرد المقيّد الواجد للعلم وضمن الفرد المطلق الفاقد للعلم. ولا توجد بنحو مستقلّ عنهما.

وعلى هذا الأساس صحّ القول بأنّ المرئي والملحوظ باللحاظ الثالث اللابشرطي جامع بين المرئيّين والملحوظين باللحاظين السابقين لانحفاظه فيهما ، وإن كانت نفس الرؤية واللحاظ متباينة في اللحاظات الثلاثة.

الأمر الخامس : في بيان حقيقة اللاّبشرط.

تقدّم أنّ اللحاظ الثالث من اللحاظات الذهنيّة للماهيّة هو عدم اللحاظين ، أي الماهيّة لا بشرط. وتقدّم أنّ هذا اللحاظ الذهني موجود بنحو مستقلّ عن اللحاظين

٤١٨

الآخرين فهو قسم ثالث مباين لهما ، ولذلك فإنّه يوجد بين هذه اللحاظات تباين وتناف ؛ لأنّ كلّ قسم يباين ويغاير القسم الآخر وإلا للزم التداخل وهو على خلاف حقيقة القسمة.

إلا أنّ الملحوظ والمرئي بهذا اللحاظ الثالث أي لا بشرط قلنا : إنّه لا يحكي عن قيد أوّلي ؛ لأنّه عدم اللحاظ والعدم لا وجود له في الخارج. فالملحوظ والمرئي هو ذات الماهيّة بما هي هي قابلة للانطباق على المطلق وقابلة للانطباق على المقيّد ؛ لأنّ الماهيّة بما هي هي محفوظة في الماهيّة المقيّدة وفي الماهيّة المطلقة ، ولهذا يصحّ لنا القول بأنّ هذا المرئي والملحوظ جامع بين المرئي والملحوظ في اللحاظين الآخرين ؛ لأنّ الملحوظ باللّحاظ ( بشرط شيء ) هو الماهيّة المقيّدة والواجدة للوصف ، والملحوظ باللّحاظ ( بشرط لا ) هو الماهيّة الفاقدة للوصف. والجامع بين الماهيّة الواجدة والماهيّة المقيّدة هو ذات الماهيّة الموجودة في الذهن والملحوظة باللّحاظ ( لا بشرط ).

والحاصل : أنّ نفس اللحاظ اللابشرطي قسم مباين للّحاظين الآخرين أي لحاظ الوصف ولحاظ عدم الوصف.

وأمّا الملحوظ والمرئي باللحاظ اللابشرطي ( أي الماهيّة بما هي هي ) فهو جامع بين الملحوظين باللّحاظين الآخرين أي ( الماهيّة الواجدة للوصف والماهيّة الفاقدة للوصف ) ؛ لأنّ الماهيّة بما هي هي موجودة ومحفوظة في هاتين الحصّتين والملحوظتين ، ولذلك نقول :

فاللحاظ اللابشرطي بما هو لحاظ يقابل اللحاظين الآخرين وقسم ثالث لهما ، ولهذا يسمّى باللابشرط القسمي ، ولكن إذا التفت إلى ملحوظه مع الملحوظ في اللحاظين الآخرين كان جامعا بينهما ، لا قسما في مقابلهما ، بدليل انحفاظه فيهما معا ، والقسم لا يحفظ في القسم المقابل له.

وحاصل الكلام في هذا اللحاظ الثالث هو : أنّ اللحاظ اللابشرطي بما هو لحاظ من اللحاظات الذهنيّة الثلاثة فهو قسم مقابل ومباين ومغاير للّحاظين الآخرين ، أي لحاظ الماهيّة بشرط شيء ولحاظ الماهيّة بشرط لا ؛ لأنّ اللحاظات الذهنيّة متباينة فيما بينها ولأنّها موجودة كلّها في الذهن في عرض واحد. فكان كلّ واحد منهما قسيما مباينا للآخر ، فهو مفهوم مباين للمفهومين الآخرين ؛ لأنّ المفاهيم متباينة فيما بينها.

٤١٩

وأمّا إذا نظرنا إلى اللحاظ اللابشرطي بما هو ملحوظ ومحكي ، فقد قلنا : إنّ الملحوظ فيه ( هو الماهيّة بما هي هي ) ، فاذا قارنّا بين هذا الملحوظ اللابشرطي وبين الملحوظ باللّحاظين الآخرين أي ( الماهيّة الواجدة للوصف والماهيّة الفاقدة ) وجدنا أنّه يكون جامعا بين الملحوظين بشرط شيء وبشرط لا ، وليس قسما مقابلا ومباينا لهما. والدليل على ذلك هو أنّ هذا الملحوظ فيه وهو الماهيّة بما هي هي محفوظة وموجودة ضمن الماهيّة الواجدة وضمن الماهيّة الفاقدة ؛ لأنّهما يتركّبان من الماهيّة وزيادة ( وجود الوصف وعدم وجود الوصف ). ومن المعلوم أنّ ما يكون محفوظا في غيره هو الجامع لا القسم ؛ لأنّ ما يكون قسما لغيره يشترط فيه أن يكون مباينا ومغايرا له ؛ لأنّ الأقسام لا تتداخل فيما بينها. فالتداخل يدلّ على أنّه ليس قسما ، وانحفاظه فيهما يدلّ على أنّه جامع بينهما ؛ لأنّ الجامع ينحفظ ضمن أفراده (١).

ثمّ إذا تجاوزنا وعاء المعقولات الأوّليّة للذهن إلى وعاء المعقولات الثانويّة التي ينتزعها الذهن من لحاظاته وتعقّلاته الأوّليّة وجدنا أنّ الذهن ينتزع جامعا بين اللحاظات الثلاثة للماهيّة المتقدّمة ، وهو عنوان لحاظ الماهيّة من دون أن يقيّد هذا اللحاظ بلحاظ الوصف ولا بلحاظ عدمه ولا بعدم اللحاظين.

الأمر السادس : ذكرنا أنّ عالم الذهن ينقسم إلى المعقولات الأوّليّة وإلى المعقولات الثانويّة ، وقد تقدّم الكلام عن المعقولات الأوّليّة وقلنا : إنّها ثلاثة وهي : لحاظ الوصف ولحاظ عدم الوصف وعدم اللحاظين.

وأمّا المعقولات الثانويّة ، وهي اللحاظات التي ينتزعها العقل من اللحاظات

__________________

(١) وهذا يعني أنّ اللابشرط بالحمل الأوّلي أي كمفهوم ذهني فهو مباين للمفهومين الآخرين ؛ لأنّ المفاهيم الذهنيّة متباينة. وأمّا اللابشرط بالحمل الشائع أي كمصداق ومحكي ومرئي فإنّ النسبة بينه وبين المصداقين المحكيّين الآخرين هو العموم والخصوص مطلقا ؛ لأنّهما أخصّ منه وهو أعمّ منهما يشملهما فهو جامع لهما. ونظير ذلك الإنسان والعالم فإنّهما كمفهومين متباينين ؛ لأنّ ذات الإنسان وحقيقته تختلف عن ذات العالم وحقيقته ، إلا أنّهما من ناحية الصدق الخارجي بينهما عموم من جهة. فبالحمل الأوّل كمفهوم متباينين ؛ لأنّ ذات الإنسان وحقيقته تختلف عن ذات العالم وحقيقته ، إلا أنّهما من ناحية الصدق الخارجي بينهما عموم من جهة. فبالحمل الأوّل كمفهوم فهما متباينان ، لكنّها بالحمل الشائع كمصداق فهما يصدقان معا في بعض الموارد. ومقامنا من هذا القبيل.

٤٢٠