نهاية الإحكام في معرفة الأحكام - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الإحكام في معرفة الأحكام - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٨
الجزء ١ الجزء ٢

ولو أوصي له بعبد ومات الموصي قبل الغروب ولم يقبل الموصى له إلا بعد الغروب ، فالفطرة في تركة الميت ، أو على الوارث ، أو لا فطرة إن جعلنا القبول سببا أو جزءا. وإن جعلناه كاشفا فالفطرة على الموصى له.

ولو مات الموصى له قبل القبول والرد فقبل ورثته ، فالوجهان.

ولو مات المولى بعد غروب الشمس ، فالزكاة عليه في تركته وقبله على الوارث.

ويستحب إخراجها بعد طلوع الفجر يوم العيد قبل صلاة العيد. وهل يجوز تقديمها؟ قال الشيخ : نعم بيوم أو يومين ، أو من أول الشهر (١). والوجه أن ذلك على سبيل القرض ، لعدم الإجزاء قبل وجود السبب ، كالمكفر قبل الحنث.

ويحرم تأخيرها عن الزوال ، لأنها عبادة موقتة ، فيحرم تأخيرها عن وقتها كغيرها من الموقتات.

ثم إن كان قد عزلها قبل الزوال ، وجب عليه إخراجها بنية الأداء. وإن لم يكن قد عزلها ، قيل : سقطت ، لفوات الوقت. وقيل : يجب أن يأتي بها قضاء ، لعدم سقوط الفريضة بفوات وقتها. وقيل : أداء. والأجود الأوسط.

ولو أخر دفعها بعد العزل مع الإمكان ، فعل حراما وكان ضامنا. ولو لم يتمكن فلا إثم ولا ضمان.

ولا يجوز حملها إلى بلد آخر مع وجود المستحق فيضمن. ولو فقد المستحق جاز الحمل ولا ضمان.

ولو أخر العزل مع عدم المستحق ، فلا إثم ولا يقضي (٢).

الفصل الرابع

( في الواجب ) (٣)

__________________

(١) المبسوط ١ ـ ٢٤٢.

(٢) في « ر » ويقضي.

(٣) كذا في النسخ الموجودة عندي.

٤٤١
٤٤٢

كتاب البيع‌

وفيه مقاصد :

٤٤٣
٤٤٤

المقصد الأول

في ماهيته وأركانه‌

وفيه فصول :

٤٤٥
٤٤٦

الفصل الأول

( في ماهيته وصيغته )

وفيه بحثان :

البحث الأول

( الماهية )

البيع انتقال عين مملوكة من شخص إلى غيره بعوض معين على جهة التراضي. ويدخل فيه بيع المعاطاة عند من يسوغه ، ويخرج عنه عند من يمنعه بالانتقال.

وهو جائز بالنص والإجماع ، قال الله تعالى ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (١) ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ ) (٢) قيل : كانت عكاظ وجحفة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية ، فلما كان الإسلام تأثموا فيه ، فأنزلت ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ ) في مراسم الحاج ، وقوله تعالى ( إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) (٣).

وقال عليه‌السلام : البيعان بالخيار ما لم يفترقا (٤). وخرج عليه‌السلام

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٧٥.

(٢) سورة البقرة : ١٩٨.

(٣) سورة النساء : ٢٩.

(٤) سنن ابن ماجة ٢ ـ ٧٣٦ الرقم ٢١٨٢.

٤٤٧

إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون ، فقال : يا معشر التجار ، فاستجابوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه ، فقال : إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من بر وصدق (١).

وأجمع المسلمون كافة على جوازه في الجملة. والحكمة تقتضيه ، لأن الحاجة قد تدعو الإنسان إلى التعلق بما في يد صاحبه ، وصاحبه لا يبذل بغير عوض ، وفي شرعيته إيصال كل واحد منهما إلى غرضه ودفع حاجته.

البحث الثاني

( في صيغته )

وهي الإيجاب والقبول ، فالإيجاب من جهة البائع ، بأن يقول : بعت ، أو شريت ، أو ملكت. والقبول من جهة المشتري ، بأن يقول : قبلت ، ويقوم مقامه ابتعت واشتريت وتملكت ، وإنما جعلناها قائمة مقام القبول لا قبولا ، لأن القبول على الحقيقة ما لا يمكن الابتداء به ، فإذا أتي بما يمكن الابتداء به فقد أتي بأحد شقي العقد.

ولا فرق بين أن يتقدم قول البائع « بعت » على قول المشتري « اشتريت » ومن أن يتقدم قول المشتري « اشتريت » ويصح البيع في الحالتين على الأقوى ، بخلاف ما لو قدم « قبلت » فإنه لا يعد قبولا ولا جزءا من العقد ، فكان لغوا.

ولا بد من الصيغة الدالة على الإيجاب والقبول ، للنهي عن الأكل بالباطل ، بل المأمور به التجارة عن التراضي ، والرضا من الأمور الباطنة التي يعسر الوقوف عليها ، فناط الشارع الحكم باللفظ الظاهر توصلا على علم الباطن غالبا ، ولم يعتد بالنادر.

ولا يشترط اتفاق اللفظين ، فلو قال البائع : شريت ، فقال المشتري : تملكت أو ابتعت ، أو قال البائع : ملكت ، فقال المشتري : اشتريت ، صح لاتحاد المعنى.

__________________

(١) سنن ابن ماجة ٢ ـ ٧٢٦ الرقم ٢١٤٦.

٤٤٨

والمعاطاة ليست بيعا ، وهو أن يقول : أعطني بهذا الدينار جزءا ، فيعطيه ما يرضيه. أو يقول : خذ هذا الثوب بدينار فيأخذه ، لأن الأفعال لا دلالة لها بالوضع ، وقصود الناس فيها تختلف. ولا فرق بين المحقرات وغيرها ، لأصالة بقاء الملك فيهما.

وهل هو إباحة؟ أو يكون حكمه حكم المقبوض بسائر العقود الفاسدة؟ الأقرب الثاني ، فلكل منهما مطالبة الآخر بما سلمه إليه ما دام باقيا ، ويضمنانه إن كان تالفا. فلو كان الثمن الذي قبضه البائع مثل القيمة ، فهو مستحق ظفر بمثل حقه والمالك راض فله تملكه. ويحتمل العدم.

ولو قال : بعني ، فقال البائع : بعتك ، فإن قال بعد ذلك : اشتريت أو قبلت ، انعقد لا محالة وإلا فلا ، لاحتمال أن يكون غرضه استبانة رغبة البائع في البيع. وهذا بخلاف النكاح لو قلنا بصحة زوجني فيقول : زوجتك ، لأن النكاح لا يجري معاوضة في الغالب ، فتكون الرغبة معلومة من قبل ويتعين قوله « زوجني » استدعاء جزما ، والبيع كثيرا ما يقع معاوضة.

وكذا لا ينعقد لو قال البائع : اشتر مني كذا ، فيقول المشتري : اشتريت. بل هذا أولى بالعدم ، لأن قول المشتري « بعني » موضوع للطلب ، ويعتبر من جهة الطلب مبتدئا أو القبول مجيبا. وقول البائع « اشتر كذا » لم يوضع للبدل ولا للإيجاب ، ولا بد من جهته من بدل أو إيجاب.

فلو قال المشتري : أتبيعني عبدك بكذا [ أو قال : بعتني بكذا ] (١) فقال : بعت ، لم ينعقد ، إلا أن يقول بعده : اشتريت. وكذا لو قال البائع : اشترى داري بكذا ، أو اشتريت مني داري ، فقال : اشتريت ، لا ينعقد حتى يقول بعده : بعت ، إذ الاستفهام لا يقتضي الجزم بالإيجاب والقبول.

ولا ينعقد بالكنايات ، مثل خذه مني ، أو تسلم مني بألف ، أو أدخلته في ملكك ، أو جعلته لك بكذا ، أو سلطتك عليه بألف ، أو أبحته لك بألف.

__________________

(١) الزيادة من « ق ».

٤٤٩

لأن المخاطب لا يدري بما خوطب.

ولا ينعقد بالكتابة على قرطاس ولوح وأرض وحجر وخشب وغير ذلك. ولا برسم الأحرف على الماء والهواء ، سواء كان المشتري حاضرا عند البائع أو غائبا. نعم لو عجز عن النطق وكتبا أو أحدهما ، وانضم إليه قرينة إشارة دالة على الرضا ، صح.

ولا بد من إيقاع القبول في مجلس الإيجاب ، فلو قال : بعت داري من فلان وهو غائب ، فلما بلغه الخبر قال : قبلت ، لم ينعقد ، لأنه لا يعد قبولا عرفا. ولو قال : بعت من فلان وأرسل إليه رسولا فأخبره بذلك ، فقبل ، لم ينعقد أيضا.

ولا بد من الصيغة إيجابا وقبولا ، وإن تولى طرفي العقد ، كبائع مال ولده من نفسه أو بالعكس.

ويشترط أن لا يطول الفصل بين الإيجاب والقبول ، ولا يتخللهما كلام أجنبي غير العقد ، إذا خرج بذلك عن القبول عرفا ، سواء تفرقا عن المجلس أو لا.

ولو مات المشتري بعد الإيجاب ووارثه حاضر فقبل ، لم ينعقد.

ويشترط المطابقة بين الإيجاب والقبول ، فلو قال : بعتك بألف صحيحة ، فقال : قبلت بألف قراضة ، أو بالعكس. أو قال : بعتك جميع كذا بألف ، فقال : قبلت نصفه بخمسمائة. أو قال لاثنين : بعتكما بألف ، فقال أحدهما : قبلت نصفه بخمسمائة ، لم يصح.

ولو قال : بعتك هذا بألف ، فقال : قبلت نصفه بخمسمائة ونصفه بخمسمائة ، احتمل الصحة لأنه تصريح بمقتضى الإطلاق ولا مخالفة ، وترتبه على أن تفصيل الثمن هل هو من موجبات تعدد الصفقة ، والبائع هنا أوجب بيعة واحدة ، والفاعل قبل بيعين لم يوجبهما البائع ، ففيه مخالفة.

ولو قال : بعتك بألف ، فقال : اشتريت بألف وخمسمائة ، لم يصح أيضا.

٤٥٠

ولو قال الواسطة للبائع : بعت بكذا ، فقال : نعم أو بعت ، وقال للمشتري : اشتريت بكذا ، فقال : نعم أو اشتريت ، احتمل عدم الانعقاد ، لأن كلا منهما لم يخاطب صاحبه ، وثبوته لوجود الصيغة والتراضي.

ويكفي في القبول أن يقول : قبلت عقيب بعتك كذا بألف ، ولا يشترط قبلت البيع. وكذا في النكاح ، لوجود القبول الدال على الرضا.

ولا بد وأن يقع الإيجاب والقبول منجزا ، فلو علقه على شرط لم يقع ، كما لو قال : إن دخلت ، لأصالة بقاء الملك.

ولو علقه على مشية المشتري ، بأن قال : بعت هذا بألف إن شئت ، فقال : اشتريت ، لم ينعقد أيضا ، لما فيه من التعليق ، كما لو قال : إن دخلت الدار. ويحتمل هنا الصحة ، لأن هذه صفة تقتضيها إطلاق العقد ، فإنه لو لم يشأ لم يشتر والحق الأول ، فإنه حالة الإيجاب غير عالم بحاله ، فلم يوقع الإيجاب منجزا.

ويصح بيع الأخرس وشراؤه بالإشارة والكتابة ، مع انضمام القرينة.

والصيغة إنما تعتبر في البيع المستقل ، أما الضمني كقوله : أعتق عبدك عني على ألف ، فلا يعتبر فيه الصيغ المذكورة. ويكفي فيه الالتماس والجواب.

٤٥١
٤٥٢

الفصل الثاني

( في العاقد )

وشروطه أربعة : البلوغ ، والعقل ، والاختيار ، والقصد ، فهنا مباحث :

البحث الأول

( في البلوغ )

لا عبرة بعقد الصبي لا لنفسه ولا لغيره ، سواء كان الصبي مميزا أو لا ، وسواء باشر بإذن الولي أو لا ، لأنه غير مكلف فأشبه غير المميز ، ولأن العقل لا يمكن الوقوف فيه على الحد الذي يصح به التصرف لخفائه وتزايده بتزايد أخفى (١) التدريج ، فجعل الشارع له ضابطا وهو البلوغ ، فلا يثبت له أحكام العقلاء قبل وجود المظنة.

وهل يصح بيع الاختبار؟ إشكال ، ينشأ : من الأمر به في قوله تعالى ( وَابْتَلُوا الْيَتامى ) (١) والمنع لما تقدم ، فيفوض الولي الاستيام وتدبير العقد إليه ، فإذا انتهى الأمر إلى اللفظ أتى به الولي.

__________________

(١) في « ق » تزايدا خفي.

(٢) سورة النساء : ٦.

٤٥٣

وعلى ما اخترناه لو اشترى وقبض المبيع ، فتلف في يده أو أتلفه ، فلا ضمان عليه في الحال ولا بعد البلوغ. وكذا لو استقرض مالا ، لأن المالك هو المضيع لماله بالتسليم إليه ، وما دامت العين باقية في الموضعين فللمالك الاسترجاع.

ولو سلمه ثمن ما اشتراه ، فعلى الولي استرجاعه ، والبائع يرده على الولي ، فإن رده على الصبي ، لم يبرأ من ضمانه.

وكذا لو عرض الصبي دينارا على ناقد لينقده ، أو متاعا على مقوم ليقومه ، فأخذه لم يجز رده على الصبي ، بل على وليه إن كان للصبي ، وعلى مالكه إن كان لكامل.

فلو أمره ولي الصبي بالدفع إليه فدفعه إليه ، برئ من ضمانه إن كان المال للولي ، وإن كان للصبي فلا ، كما لو أمره بإلقاء مال الصبي في البحر يلزمه الضمان.

فلو تبايع صبيان وتقابضا وأتلف كل منهما ما قبضه ، فإن جرى بإذن الوليين فالضمان عليهما ، وإلا فلا ضمان عليهما ، بل على الصبيين ، لأن تسليمهما لا يعد تسليطا وتضييعا.

وكما لا ينفذ بيع الصبي وشراؤه ، فكذا نكاحه وجميع تصرفاته ، وفي تدبيره وعتقه وصدقته ووصيته بالمعروف خلاف يأتي.

فإذا فتح الباب وأخبر عن إذن أهل الدار في الدخول ، أو أوصل هدية إلى إنسان وأخبر عن إهداء مهديها ، فإن انضمت قرينة تؤذن العلم أو الظن بحقيقة الحال ، جاز الدخول والقبول ، وهو في الحقيقة عمل بما علم أو ظن لا بالقول. وإن لم ينضم ، فإن كان غير مأمون القول لم يعتمد عليه ، وإلا فالأقوى القبول جريا على العادات.

وكما لا يصح تصرفاته اللفظية ، لا يصح قبضه في تلك التصرفات ، فإن للقبض من التأثير ما ليس للعقد. فلو قبض الموهوب ، لم يفد له الملك وإن‌

٤٥٤

اتهب له الولي ولا لغيره إذا أمره الموهوب منه بالقبض له.

ولو قال صاحب الدين للمديون : سلم حقي إلى هذا الصبي ، فسلمه قدر حقه لم يبرأ عن الدين ، وكان ما سلمه باقيا على ملكه ، حتى لو ضاع ضاع منه ، ولا ضمان على الصبي ، لأن المالك ضيعه حيث سلمه إليه ، وبقاء الدين لأن الدين مرسل في الذمة ، لا يتعين إلا بقبض صحيح ، فإذا لم يصح القبض لم يزل الحق المطلق عن الذمة ، كما لو قال : ارم حقي في البحر ، فألقى قدر حقه. بخلاف ما لو قال للمستودع : سلم مالي إلى الصبي أو ألقه في البحر ، فسلم أو ألقى ، لأنه امتثل المأمور في حقه المعين ، فخرج عن العهدة.

ولو كانت الوديعة للصبي فسلمها إليه ، ضمن وإن كان بإذن الولي ، إذ ليس له تضييعها بأمر الولي.

البحث الثاني

( العقل )

لا عبرة بعبارة المجنون في العقد إيجابا وقبولا لنفسه ولغيره ، سواء أذن له الولي أو لا. وكذا المغمى عليه والسكران والغافل والنائم ، سواء رضي كل منهم بما فعله بعد زوال عذره أو لا ، لارتفاع العقل الذي هو مناط صحة التصرفات فأشبه غير المميز ، ولقوله عليه‌السلام : رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتى يبلغ ، وعن المجنون حتى يفيق (١).

ولو كان الجنون يعتوره ، فعقد حال إفاقته ، صح لوجود المقتضي للملك ، وهو العقد السالم عن المانع وهو الجنون.

البحث الثالث

( في بقية الشرائط )

ويشترط الاختيار والقصد ، فلا ينعقد بيع المكره ولا شراؤه ، ولا فاقد

__________________

(١) الخصال ص ٩٤‌

٤٥٥

القصد لغفلة أو نوم أو هزل ، لعموم قوله تعالى ( إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) (١) فالمناط وهو التراضي إنما يتحقق بالاختيار والقصد.

فلو باع المكره ورضي بعد زوال عذره ، انعقد ، للوثوق بعبارته.

ولو أكره على دفع مال ظلما وهو عاجز عنه ، فباع ليأخذ الثمن ويدفعه صح البيع ، حيث لم يكره عليه.

وبيع التلجئة باطل ، وهو أن يخاف أن يأخذ الظالم ملكه ، فيواطي رجلا على أن يظهر أنه اشتراه منه ليحفظه من الظالم ، ولا يريد بيعا حقيقيا ، لأنهما لم يقصدا البيع فكانا كالهازلين.

البحث الرابع

( الإسلام )

لا يشترط إسلام العاقد ، فيصح بيع الكافر وشراؤه ، لأنه عقد صادف ملكا فاقتضى أثره ، إلا أن يشتري مسلما أو مصحفا ، فيشترط إسلام المشتري ، لأن الرق ذل فلا يجوز إثباته للكافر على المسلم ، كما لا ينكح الكافر المسلمة ، ولقوله تعالى ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (٢) والتملك أعظم السبيل.

فعلى هذا لو عقد كان باطلا ولم يثمر الملك. ويحتمل الصحة ، لأنه طريق من طرق التملك ، فيملك به الكافر رقبة المسلم كالإرث. وكذا البحث فيما لو وهب منه عبد مسلم فقبل ، أو أوصي له به.

أما المصحف فيحتمل البطلان قطعا ، تعظيما للكتاب العزيز وصيانة له عن ملاقاة النجاسة. والفرق بينه وبين العبد تملك (١) العبد من الاستعانة ودفع‌

__________________

(١) سورة النساء ٢٩.

(٢) سورة النساء ١٤١.

(٣) كذا في النسختان والظاهر : تمكن.

٤٥٦

الذل عن نفسه. ويحتمل الصحة ، فيقهر على بيعه.

وهل تجري الأحاديث عن الرسول وأهل بيته عليهم‌السلام مجرى المصحف في المنع من البيع؟ إشكال ، فإن قلنا به منعنا من الكتب المشتملة على الأخبار والآثار من كتب الفقه دون غيرها.

فروع :

الأول : لو اشترى الكافر العبد المسلم وقلنا بالمنع ، كان العقد باطلا على ما تقدم ، فلو كان قريبه الذي يعتق عليه كابنه وأبيه ، احتمل البطلان أيضا ، لما فيه من ثبوت الملك للكافر على المسلم. والصحة ، إذ الملك المستعقب بالعتق بغير اختيار المشتري ليس بإذلال ، وإلا لم يجز للمسلم شراء أبيه ، إذ لا يجوز له إذلاله.

الثاني : كل ملك يستعقب عتقا ، حكمه حكم شراء القريب ، كما لو قال الكافر لمسلم : أعتق عبدك المسلم عني بعوض أو بغير عوض ، فأجابه إليه. وكما لو أقر بحرية عبد مسلم في يد غيره ثم اشتراه ، فالأولى من هاتين أولى بالصحة من الأخرى ، لأن الملك فيها ضمني ، والعتق في الثانية ـ وإن حكم به ـ فهو ظاهر غير محقق.

الثالث : لو اشترى عبدا مسلما بشرط الإعتاق ، فهو كما لو اشتراه مطلقا ، فإن العتق لا يحصل عقيب الشراء ، وإنما يزول بإزالته. ويحتمل مساواته لشراء القريب.

الرابع : يجوز أن يستأجر الكافر المسلم على عمل في الذمة ، لأنه كدين في ذمته ، وهو سبيل من تحصيله بغيره فينتفي السبيل ، وإن وقعت على العين فالأقرب الجواز ، حرا كان الأجير أو عبدا ، لأنها لا تفيد ملك الرقبة ، ولا تسلطا تاما بل نفسه في يده أو يد مولاه ، وإنما يستوفى منفعته بعوض. ويحتمل البطلان ، لأن صحتها تستلزم استحقاق استعماله وفيه إذلال له ، فأشبه الشراء.

٤٥٧

وعلى الصحة هل يؤثر بإزالة ملكه عن المنافع بأن يؤاجره من مسلم؟ الأقرب عدم الوجوب.

الخامس : يصح للكافر أن يرتهن العبد المسلم ، إذ لا تسلط فيه عليه. ويجوز أيضا إعادته وإيداعه ، إذ ليس فيهما رقبة ولا منفعة ولا حق لازم.

السادس : لو باع الكافر عبده المسلم الذي ورثه ، أو كان قد أسلم في يده بعين ثم وجد بها عيبا ، كان له رد العين ، فحينئذ يحتمل أن يسترجع العبد ، لأن الاختيار في الرد. أما عود العوض إليه ، فهو قهري كالإرث. ويشكل بأن الملك القهري الذي لا يتعلق سببه بالاختيار. والاختياري هو الذي يتعلق سببه به ، أما نفس الملك بعد تمام السبب ، فهو قهري أبدا ، ومعلوم أن عود الملك بهذا اختياري.

نعم الفسخ بالعيب يقطع العقد ويجعل الأمر كما كان ، وليس هو كإنشاء العقود. ولهذا لا تثبت به شفعة ، وحينئذ ينزل منزلة استدامة الملك ، ويحتمل أن يسترد القيمة ويجعل العبد كالهالك.

أما لو وجد مشتري العبد به عيبا وأراد رده واسترداد عينه ، [ فإنه كما لا يجوز للكافر تملك المسلم يجوز للمسلم تمليك الكافر لا أباه ، ويحتمل الجواز إذ لا اختيار للكافر لها ] (١) احتمل المنع ، ولو تقايلا فالوجهان ، لأن الإقالة فسخ.

السابع : لو وكل الكافر مسلما في شراء مسلم لم يجز ، لأن العقد يقع للموكل أولا ولا ينتقل إليه أخيرا. ولو وكل مسلم كافرا ليشتري له عبدا مسلما صح ، سواء سمى الموكل في الشراء أو لا ، لأن الملك يقع عندنا للموكل لا للوكيل.

الثامن : الأقرب أنه لا يجوز للكافر أن يشتري العبد المرتد ، لبقاء علقة الإسلام.

__________________

(١) الزيادة من « ر » ولا محصل لها.

٤٥٨

التاسع : لو اشترى الكافر عبدا كافرا ، فأسلم قبل القبض ، احتمل البطلان ، كما لو اشترى عصيرا فتخمر قبل القبض. والصحة ، كما لو أبق قبل القبض. فإن قلنا بالصحة ، فالأقوى أن المشتري لا يقبضه ، بل ينصب الحاكم من يقبض عنه ، ثم يأمره بإزالة الملك. وكذا لو قلنا بصحة شراء الكافر للمسلم.

العاشر : إذا كان في ملك الكافر عبد كافر فأسلم لم يقر في يده ، سواء الذكر والأنثى ، وسواء كان الكافر ذميا أو حربيا ، دفعا للذل عن المسلم ، وقطعا لسلطنة الكافر عنه ، قال الله تعالى ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (١) ولا يحكم بزوال ملكه.

بخلاف ما لو أسلمت الزوجة تحت الكافر ، لأن ملك النكاح لا يقبل النقل ، فيتعين البطلان. وملك اليمين يقبل النقل ، وبه يحصل رفع الذل فيصار إليه ويؤمر بإزالة ملكه.

الحادي عشر : كيف حصل إزالة الملك أجزأ ، إما ببيع ، أو عتق ، أو هبة أو غيرها. ولا يكفي الرهن والتزويج والإجارة والحيلولة. والأقرب ولا الكتابة ، لاستمرار الملك على رقبة المكاتب. ويحتمل الاكتفاء بالمطلقة (١) ، لأنها تفيد الاستقلال وتقطع حكم السيد. ويحتمل المشروطة أيضا.

فإن قلنا بالاكتفاء ، فالكتابة صحيحة. وإن قلنا بعدمه ، احتمل فسادها ويباع العبد ، وهو الأقوى. ويحتمل الصحة. ثم إن جوزنا بيع المكاتب بيع مكاتبا ، وإلا فسخت الكتابة وبيع.

الثاني عشر : لو امتنع الكافر من إزالة الملك عنه ، باعه الحاكم عليه بثمن المثل ، كما يبيع مال الممتنع من أداء الحق ، فإن لم يتفق الظفر بمن يشتريه بثمن المثل ، وجب الصبر ويحال بينه وبين الكافر إلى الظفر ، ويستكسب له وتؤخذ نفقته منه.

__________________

(١) سورة النساء ١٤١.

(٢) في « ق » بالمطلق.

٤٥٩

الثالث عشر : لو أسلمت مستولدة الكافر ، فالأقرب عدم وجوب إجباره على عتقها ، لأنه تخسير فيحتمل حينئذ بيعها لإزالة السلطنة عنها ، وأن يحال بينها وبين المالك وينفق عليها وتستكسب له في يد غيره ، فإذا مات مولاه انعتقت من نصيب ولدها.

الرابع عشر : لو مات الكافر الذي أسلم العبد في يده ، صار العبد لوارثه ، ويؤمر بما كان يؤمر به المورث إن كان كافرا ، وإن امتثل وإلا بيع عليه كالمورث.

٤٦٠