تنقيح المقال - ج ١

الشيخ عبد الله المامقاني

تنقيح المقال - ج ١

المؤلف:

الشيخ عبد الله المامقاني


المحقق: الشيخ محمّد رضا المامقاني
الموضوع : رجال الحديث
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-382-9
ISBN الدورة:
978-964-319-380-5

الصفحات: ٥٢٨

كما صرّح به الشهيد الثاني رحمه اللّه (١) .. وغيره (٢).

ودعوى بعض المتأخّرين (٣) أنّ الثقة بمعنى العدل الضابط .. ممنوعة ،

__________________

(١) لاحظ : وسائل الشيعة ٢٥٩/٣٠ ـ ٢٦٠ [طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام ، وفي الطبعة الإسلامية ١٠١/٢٠].

(٢) قالوا بأنّ الوثاقة تجامع الفسق والكفر ؛ ولذا كان بين العدالة والوثاقة عموما من وجه ، وما يعتبر من النقل أن يؤمن من الكذب عادة ، وهو يتحقق في الكافر فضلا عن الفاسق ، ومن هنا أطلق الشيخ رحمه اللّه في العدّة العدالة بمعنى الوثاقة ، وحكم بأنّها تجامع فساد المذهب ، ثمّ صرّح بأنّ المراد بالعدالة ما قلناه ، ومعلوم أنّ العدل قد يكثر سهوه فلا يوثّق ، وقد يكون كذبه لم يظهر بحيث ينافي العدالة ، لكن لم يظهر أنّه يؤمن منه الكذب عادة ، فإنّ عدم الظهور أعم من ظهور العدم ، وهو واضح ، ومنهم من ذهب إلى أعميّة الوثاقة للعدالة مطلقا .. وله وجه.

ولاحظ ما ذكره الوحيد البهبهاني رحمه اللّه في تعليقته على منهج المقال : ٦ [وفي الطبعة المحقّقة ٩٦/١ ـ ٩٧ ، والمطبوعة ذيل رجال الخاقاني : ٢٧] ، الفوائد الطوسية للشيخ الحر العاملي : ١٣ ، وما أوردناه من مقباس الهداية ١٨٢/١ ـ ١٨٤ (الرابع).

[٣] وقد صرّح به الشيخ البهائي رحمه اللّه في مشرق الشمسين : ٢٧١ [انظر : مشرق الشمسين ، وإكسير السعادتين للعلاّمة بهاء الدين محمّد بن الحسين العاملي مع تعليقات للعلاّمة محمّد إسماعيل بن الحسين المازندراني الخواجوئي ، الطبعة الاولى ، مجمع البحوث الإسلامية ، مشهد ١٤١٤ ه‌ : ٣٩] .. وعنه في مقباس الهداية ٤٦/٢ [الطبعة المحقّقة الاولى].

أقول : وقد أطلقه البعض على العدل الإمامي ، أو العادل الثبت ، أو العدل الإمامي الضابط ، أو عادل ثبت .. وغير ذلك ، وبكل قائل. ـ

١٤١

وهو مطالب بدليلها (١) ، وإنّما المراد بها من يوثق بخبره ، ويؤمن منه الكذب عادة.

وقد صرّح بذلك جماعة من المتقدّمين ، وكذلك كون الراوي ضعيفا في الحديث لا يستلزم الفسق ، بل يجامع العدالة ؛ إذ العدل الكثير السهو ضعيف في الحديث (٢).

ومن هنا يظهر فساد ما قيل من أنّ آية النبأ مشعرة بصحّة هذا الاصطلاح ، مضافا إلى كون دلالتها بالمفهوم الضعيف المختلف في حجّيته ، فإن أجابوا بأصالة العدالة ، أجبنا بأنّه خلاف مذهبهم ، ولا يذهب إليه إلاّ قليل ، ومع ذلك يلزم الحكم بعدالة المجهولين والمهملين ، وهم لا يقولون به.

وثالثا : أنّ هذا الاصطلاح ، يستلزم تخطئة جميع الطائفة المحقّة في زمن الحضور والغيبة ، كما ذكره المحقّق رحمه اللّه في أصوله (٣) ، حيث قال :

__________________

انظر : مقباس الهداية وهوامشه ١٤٧/٢ و ١٤٩ و ١٥١ ـ ١٥٢ و ١٥٦ و ١٥٩ و ٢٩١ .. وغيرها [من الطبعة المحقّقة الاولى].

(١) وقد أورد هذا الكلام الشيخ الحر العاملي رحمه اللّه في وسائله ١٠١/٢٠ [الطبعة الإسلامية ، وفي طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام ٢٥٩/٣٠ ـ ٢٦٠] وقال هنا : وكيف؟!وهم مصرّحون بخلافها ، حيث يوثقون من يعتقدون فسقه وكفره وفساد مذهبه؟

(٢) تعرضنا للإشكال وجوابه في مستدركات المقباس ١٠٩/٦ ـ ١١٠ ، وفي أصل المتن ١٥٦/٢ ـ ١٥٨ [المحقّقة الاولى] ، وانظر : نهاية الدراية للصدر : ١٤٢ .. وغيرها.

(٣) بعد جهد مضن في كتب الاصول للمحقّق الحلي رحمه اللّه ـ مثل معارج الاصول وغيره ـ وجدت هذا النص في كتابه المعتبر ٢٩/١ بألفاظ مقاربة أشرنا لها.

١٤٢

أفرط قوم (١) في العمل بخبر الواحد ..إلى أن قال : واقتصر قوم عن هذا الإفراط ، فقال : كلّ سليم السند يعمل به ، وما علم أنّ الكاذب قد يصدق ، ولم يتفطّن (٢) أنّ ذلك طعن في علماء الشيعة ، وقدح في المذهب ؛ إذ لا مصنّف إلاّ وهو يعمل بخبر المجروح كما يعمل بخبر العدل (٣) .. ونحوه كلام الشيخ رحمه اللّه وغيره في عدّة مواضع.

ورابعا : أنّ طريقة المتقدّمين موافقة لطريقة الخاصّة ، والإصطلاح الجديد موافق لاعتقاد العامّة واصطلاحهم ، بل هو مأخوذ من كتبهم ، كما هو ظاهر للمتتبّع ، وكما يفهم من كلام الشيخ حسن (٤).

وخامسها : إنّ طريقة القدماء موجبة للعلم ، مأخوذة عن أهل العصمة عليهم السلام ؛ لأنّهم قد أمروا باتّباعها وقررّوا العمل بها ، فلم ينكروه ، وعمل بها الإماميّة في مدّة تقارب سبعمائة سنة ، والاصطلاح الجديد ليس كذلك قطعا ، فتعيّن العمل بطريقة القدماء. وقد نقل الشيخ رحمه اللّه ، والمحقّق رحمه اللّه .. وغيرهما على اصطلاح القدماء ..

فالاصطلاح الجديد استمرّوا على خلافه من زمن الأئمّة عليهم السلام

__________________

(١) في المعتبر : الحشوية بدلا من : قوم.

(٢) في المعتبر : إنّ الكاذب قد يلصق ، والفاسق قد يصدق ولم يتنبه.

(٣) المصدر : المعدل.

(٤) منتقى الجمان ١٤/١.

١٤٣

إلى زمان العلاّمة ، وقد علم دخول المعصوم في ذلك الإجماع.

هذا ؛ وأنت خبير بسقوط ما أطال به ؛ ضرورة أنّ كون أصل هذا الإصطلاح مستحدثا من زمن ابن طاوس والعلاّمة رحمهما اللّه وهم صرف ، واشتباه محض (١) ، بل الحادث في زمانهم تنقيحه وثبته في الكتب ، ومن لاحظ كلمات الشيخ رحمه اللّه في مصنّفاته وتصنيفه الفهرست ، وكلمات سائر القدماء ومصنّفاتهم في الرجال كرجال أحمد بن محمّد بن خالد البرقي (٢) ، ومحمّد بن يعقوب الكليني ، ومحمّد بن محمّد بن النعمان المفيد ، وحميد بن زياد ، وأبي عمرو محمّد بن عمر بن عبد العزيز الكشّي ، وأبي العبّاس أحمد بن محمّد بن سعيد المعروف ب‌ : ابن عقدة ، وأحمد بن عبد الواحد المعروف ب‌ : ابن عبدون ، وأحمد بن الحسين بن عبد اللّه (٣) الغضائري ، وأبي العبّاس أحمد بن علي النجاشي ، وأحمد ابن علي العلوي العقيقي .. وغيرهم ممّا سطرنا أسماءهم في مقباس الهداية (٤) ، ظهر له أنّ هذه الطريقة كانت دائرة بينهم ، سائرة في ألسنتهم ،

__________________

(١) تعرّض المصنف قدّس سرّه لذلك مفصّلا في مقباس الهداية ١٣٧/١ [الطبعة المحقّقة الاولى] وتابعناه تهميشا واستدراكا ، وعقدنا المستدرك رقم(٣١) في تاريخ تنويع الحديث.

(٢) ذكر الوالد دون الولد في خاتمة مقباس الهداية ٧٣/٤ برقم ٦٦ [المحقّقة الاولى].

(٣) كذا ، والصحيح : عبيد اللّه.

(٤) مقباس الهداية ١١/٤ ـ ٨٥ [الطبعة المحققة الأولى]. أقول : لم ترد بعض هذه الأسماء هناك ؛ كالكليني ، وحميد بن زياد ..

١٤٤

جارية على أقلامهم ، غايته أنّ جعل هذا الإصطلاح لمّا كان لتحصيل الاطمئنان وقوّة الظنّ بصدور الخبر ، وكانت أمارات الصحّة في أزمنتهم ـ لقربهم من أعصار الأئمّة عليهم السلام ـ كثيرة كانت حاجتهم إليه أقلّ من حاجتنا ، وأين ذلك من كونه مستحدثا صرفا حتّى يشمله قولهم عليهم السلام : «شرّ الامور محدثاتها»؟!

على أنّ الخبر أجنبي عن نحو المقام ، وإلاّ للزم المتأخّرين ترك بذل الوسع في تحصيل الاطمئنان بالأحكام الشرعيّة وتقليد المتقدّمين ، مع أنّ بذل الوسع في تحصيل الحكم الشرعيّ مندوب إليه ، محثوث عليه ، وهو النظر في الحلال والحرام الذي ورد في حقّه منصب الحكومة الشرعيّة ، والولاية الإلهية ، والنيابة عن الحجّة عجّل اللّه تعالى فرجه وجعلنا من كلّ مكروه فداه ، وأين ذلك ..؟!وكيف هو من استنباط الأحكام من الاستحسانات ، والمصالح المرسلة ، والأقيسة الذي زعم هذا القاصر انطباق أخباره على محلّ البحث ، واشتبه عليه الاستنباط المذكور بالنظر في الحلال والحرام ، وبذل الوسع في تحصيل الحكم الشرعي ، حتّى لم يميّز بين الأخبار الذامّة للإستنباط وبين المادحة للنظر ، الجاعلة لصاحبه كأنبياء بني إسرائيل ، ونائبا عن الحجّة عليه السلام ووزيرا له ، ووليّا من قبل اللّه تعالى على الشيعة؟!.

وليت شعري من لم يميّز بين اصول الدين واصول الفقه ، وزعم قيام الإجماع على عدم جواز العمل بالظنّ والاطمئنان في اصول الفقه ، والحال أنّه

١٤٥

كالفقه في حجّية الاطمئنان العادي فيه ، وإنّما مورد اتّفاقهم على عدم حجّية الظنّ إنّما هي اصول الدين ، كيف يحوم حول ميدان آية اللّه على الإطلاق ، ويروم نسبة البدعة في الدين ، ومخالفة إجماع الفقهاء والمجتهدين إليه؟!.إن هذا إلاّ من باب أنّ : «المرء عدوّ ما جهله» (١) ، أعاذنا اللّه تعالى منه ومن أمثاله.

وأمّا إيراده ـ ثانيا ـ : فيتّجه عليه منع لزوم ضعف أكثر الأحاديث ، وضعف جملة منها لا غائلة فيه ، وكون تدوينها عبثا غلط ؛ لإمكان انضمام قرائن إليها مورثة للوثوق بها ، من عمل الأصحاب .. ونحوه ، وشهادتهم بصحّتها غير مسلّمة حتّى تكون زورا ، مع أنّ الوثوق بورودها كاف في صحّة الشهادة ، إلاّ أنّ ذلك حيث لم يندرج في الشهادة المصطلحة ورجع إلى الاجتهاد لم نجعلها في حقّ غيرهم حجّة تعبّدا ، بل جعلناها من أسباب الوثوق لنا ، فيكون ثبتها وتدوينها إحسانا إلينا لا عبثا.

وأمّا الإجماع الذي ادّعاه ؛ فلم نفهم له أصلا.

ولقد أجاد بعض من عاصرناه (٢) ، حيث قال : إنّ تحقّق الإجماع غير ثابت ، خصوصا إن أريد بغير نقد (٣) وانتخاب ، أو قطعيّة الصدور ، ومحكيه

__________________

(١) كذا ، وفي الحديث : جهل ، كما في غرر الحكم : ٧٤ برقم ١١٤٢ ، وجاء في منية المريد : ٢٠١ ، وله مصادر اخر.

(٢) وهو الملا علي الكني رحمه اللّه في كتابه توضيح المقال : ٦٧ [الطبعة المحقّقة] نقلا بالمعنى.

(٣) في المصدر : فقد .. والمعنى غير تام.

١٤٦

غير نافع في إثبات هذا المرام ، مع وهنه بردّ أكثر الأصحاب أو جميعهم لكثير ممّا فيها.

وقد اعترف المعترض نفسه في بعض كلماته بترجيحهم كثيرا ما للحديث المروي في غير الكتاب المعروض على المعصوم عليه السلام على المروي فيه ، مضافا إلى أنّ لازم ما ذكره المعترض كون أرباب الاصول كلّهم ممّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم ، لا خصوص الرجال الذين ذكرناهم في مقباس الهداية (١). والتالي واضح الفساد ، فكذا المقدّم.

وإلى ما قيل من أنّ وجه الإجماع والعمل غير معلوم ؛ أنّه من جهة مطلق الظنّ ، أو كونه نبأ (٢) العدل ..أو غير ذلك ، ومثله ليس حجّة ، لا لاختلاف مستند الفتوى ، بل لاختلاف المفتى به ، ومن هنا سمّي : إجماعا تقييديا.

وأمّا ما اعترض به ـ بعد ذلك ـ من أنّ الثقة أعمّ من العدالة والضبط .. فهو ناش من قصوره عن الاطلاع على اصطلاح أهل الرجال ؛ من إرادتهم : عدل إمامي ضابط ، من قولهم : (ثقة) ، وأنّ الوجه في عدولهم عن قولهم : (فلان عدل)إلى قولهم : (فلان ثقة)إنّما هو الشهادة بضبطه ، كما أوضحناه في مقباس الهداية (٣) ، ومطالبة الدليل على إرادتهم من الثقة : العدل الضابط ناش من القصور عن أنّ أخبار صاحب الاصطلاح بمصطلحه لا يحتاج

__________________

(١) مقباس الهداية ١٧١/٢ [الطبعة المحقّقة الاولى].

(٢) في توضيح المقال : ٦٧ : بتاء العدل ، وهو سهو.

(٣) مقباس الهداية ١٤١/٢.

١٤٧

إلى الدليل ، مع أنّ العدول عن كلمة(عدل)إلى كلمة(ثقة)أعدل شاهد على ذلك.

وأمّا إيراده ـ ثالثا ـ : باستلزام هذا الاصطلاح تخطئة جميع الطائفة والقدح فيهم .. فناش أيضا من قصوره ؛ ضرورة أنّ عمل الأصحاب بخبر المجروح إنّما كان بعد احتفافه بقرائن مفيدة للوثوق والاطمئنان بالخبر. وحيث طال العهد واختفت جملة من القرائن ، أسسوا الأساس الجديد لتحصيل الوثوق بالخبر ، وإلاّ فليس داع لهم إلى تحمّل التعب الشديد في استقصاء أحوال الرجال غير ذلك.

والعجب من مباهاته بتصريح المحقّق رحمه اللّه بما يوافقه ، مع أنّه ليس مراد المحقّق من(القوم)الذين أشار إليهم أهل هذا الاصطلاح ، لوضوح طرحهم كثيرا من سليم السند ، وعملهم بكثير من ضعيفه (١).

وأمّا إيراده ـ رابعا ـ : فيرّده ما عرفت في ردّ الثالث ، من أنّ القدماء كانوا مدركين لقرائن خفيت بمرور الزمان ، فتداركوا الأمر بمراجعة أحوال الرجال التي هي من أسباب الوثوق بالخبر.

وأمّا أنّ ذلك موافق لطريقة العامّة ؛ فمغالطة بيّنة ؛ ضرورة أنّه ليس كلّما يوافق العامّة باطلا ، ولو كان البناء على مخالفتهم كلّية للزم ترك جملة ممّا لا شبهة في حقّيته.

وأمّا الإيراد الخامس : فقد بان الجواب عنه ممّا ذكرنا ؛ فإنّ استمرار

__________________

(١) مع تقدم زمن المحقق رحمه اللّه على أصحاب الاصطلاح.

١٤٨

طريقة الأصحاب دهورا على العمل بالخبر المحفوف بقرائن تورث الوثوق به ، لا يمنعنا ـ بعد اختفاء جملة من القرائن ـ من تطلّب قرائن اخر مفيدة للوثوق. فنحن على ما عليه القدماء من العمل بالخبر المطمئن به ، إلاّ أنّ أسباب الاطمئنان مختلفة ، على أنّ هذا الذي جعلناه من أسباب الاطمئنان قد كان متداولا عند القدماء أيضا كما يكشف عنه تصدّيهم لبيان أحوال الرجال ، ونقلهم تمام الأسانيد في كتبهم ، وإنّما تلقّوه المتأخّرون عنهم يدا بيد ، كما مرّت إليه الإشارة ، وأوضحناه في الفصل الرابع من مقباس الهداية في الدراية (١) ، فراجع.

والعجب كلّ العجب من أنّ هذا المحدّث المورد ـ الذي لا يسوي الإجماع المحقّق عنده في الفروع الفقهيّة بشيء ، ولا يقول بحجيته ـ كيف كرّر هنا دعوى الإجماع على خلاف طريقة المتأخّرين قاطعا بدخول المعصوم فيه؟!أعاذنا اللّه تعالى عن اتّباع الهوى.

خامسها : إنّهم اتّفقوا على أنّ مورد التّقسيم الخبر الواحد العاري عن القرينة .. وقد عرفت أنّ أخبار الكتب المشهورة محفوفة بالقرينة ، وقد اعترف بذلك بعض أصحاب الاصطلاح الجديد في عدّة مواضع ، فلا موضوع له فيها.

وأنت خبير بما فيه :

أوّلا : من منع اختصاص المقسم بغير المحفوف بالقرائن.

__________________

(١) مقباس الهداية ١٨٢/١ [الطبعة المحقّقة الاولى].

١٤٩

وثانيا : ما مرّ من منع احتفاف الكتب الأربعة بما يورث الاطمئنان بصدور جميع ما فيها ، لما مرّ من عدم وجدان ما نسب إلى عدّة الشيخ رحمه اللّه واعتراف محدّثهم البحراني بعدم التزام الصدوق رحمه اللّه بما وعده في أوّل الفقيه.

وبالجملة ؛ فدعوى قطعيّة أخبار الكتب الأربعة واضحة البطلان ، ونسبة شهادتهم بقطعيّتها إليهم خطأ صرف ؛ ضرورة خلوّ كلماتهم عن الدلالة على علميّة جميع ما جمعوه في كتبهم من الأخبار ، وإنّما فيها ما يفيد أنّها معمول بها عندهم أو عند غيرهم ، لوضوح أعمّية العمل من العلم ، وكذا أخذ ما فيها من الاصول المعتبرة ، فدعوى كونها قطعيّة بجميع ما فيها عند أربابها ممنوعة ، فضلا عن قطعيّتها عند غيرهم ممّن عاصرهم أو تأخّر عنهم ؛ فإنّ المرجعيّة والتعويل على شيء لا تقتضي إلاّ الحجّية والاعتبار ، وغايتهما إفادة الوثوق والإعتماد ، وأين ذلك من العلم؟!كما يكشف عن ذلك التزامهم بذكر أسانيد الأخبار تفصيلا ، معلّلين بالتحرّز عن وقوع الإرسال في أخبارهم ، ولو كانت علميّة لم يفتقر إلى ذلك أصلا ، ولبطل التعليل المذكور.

وأيضا تراهم غير متفقّين في الجمع لما جمعوه ، فالكليني رحمه اللّه ترك كثيرا ممّا نقله المتأخّر عنه ، وكذا المتأخّر عنه قد زاد على ما جمعه السابق عليه ، حتّى بالنسبة إلى الكليني والصدوق رحمهما اللّه ، مع تقارب العصر ، والمنقول من أحوالهم إنّهم كانوا يتعبون في جمع الأخبار ونقدها وتصحيحها ،

١٥٠

ومن هذا شأنه كيف يترك جملة من الأخبار التي وافقه غيره عليها ويأتي بغيرها؟!.

وأيضا ؛ فالصدوق رحمه اللّه ترى اعتمد كثيرا على تصحيح وتضعيف شيخه ابن الوليد ، حتّى قال (١) : إنّ كلّما صحّحه شيخي فهو عندي صحيح.

وذكر (٢)بعد استقصائه لرواية محمّد بن موسى الهمداني أنّ : كلّ ما لم يصحّحه ذلك الشيخ ، ولم يحكم بصحّته ، فهو عندنا متروك .. وأيّ مدخل لذلك في الأخبار العلمية؟!وكيف يستفاد من تصحيح الغير العلم بالصدور خصوصا؟!ومن الظاهر ـ بل المعلوم ـ أنّ تصحيح شيخه وتضعيفه (٣)كان بالاجتهاد في الرجال ، كما وقع التعليل في بعض ذلك. وقد نصّوا في أحوال شيخه أنّه كان عارفا بالرجال (٤). وكيف تردّ الأخبار العلميّة بدعواه أخذها من

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٩٠/٢ ، والعبارة نصها هو : وأما خبر صلاة يوم غدير خم والثواب المذكور فيه لمن صامه ؛ فإنّ شيخنا محمّد بن الحسن رضي اللّه عنه كان لا يصحّحه ويقول : إنّه من طريق محمّد بن موسى الهمداني ـ وكان كذّابا غير ثقة ـ .. ثمّ قال : وكل ما لم يصحّحه ذلك الشيخ قدّس اللّه روحه ، ولم يحكم بصحته من الأخبار ، فهو عندنا متروك غير صحيح.

(٢) الظاهر أنّ العبارة هي السالفة ، أفرزت منها ، فلاحظ.

(٣) في المتن : تصنيفه.

(٤) لاحظ : مقباس الهداية ٦٨/٤ ـ ٦٩ برقم(٦٠) [الطبعة المحقّقة الاولى] عن عدّة مصادر.

١٥١

الكتب المعوّل عليها بمجرّد تضعيف شيخه؟! ، ومن لاحظ أوّل الاستبصار المتأخّر عن جميع هذه الكتب مصنّفا وتصنيفا ـ وهو في الحقيقة لسان غيره ـ علم علما قطعيّا أنّ هذا الإسناد إليهم توهّم صرف ، أو صرف افتراء ؛ لأنّه بعد أن ذكر المتواتر وما أوجب العلم ، وجعل القسم الآخر كلّ خبر لا يكون متواترا ، ويتعرّى من واحدة من القرائن التي ذكرها.

قال (١) : إنّ ذلك خبر واحد ، ويجوز العمل به على شروط ، فإذا كان خبر لا يعارضه خبر آخر ؛ فإنّ ذلك يجب العمل به لأنّه من الباب الذي عليه الإجماع في النقل ، إلاّ أن يعرف (٢) فتاواهم بخلافه ، فيترك لأجلها العمل به ، وإن كان هناك ما يعارضه ، فينبغي أن ينظر في المتعارضين ، فيعمل على أعدل الرواة ..إلى أن قال : وأنت إذا فكّرت في هذه الجملة وجدت الأخبار كلّها لا تخلو من قسم من هذه الأقسام ، ووجدت ـ أيضا ـ ما عملنا عليه في هذا الكتاب وفي غيره من كتبنا في الفتاوى في الحلال والحرام لا يخلو من واحد من هذه الأقسام ، ولم نشر في أوّل [كل] باب إلى ذكر ما رجّحنا به الأخبار التي [قد] عملنا عليها ـ وإن كنّا قد أشرنا في أكثرها إلى ذكر ذلك ـ طلبا للإيجاز والاختصار. انتهى ما في الاستبصار (٣).

__________________

(١) أي الشيخ الطوسي رحمه اللّه في الاستبصار ٥/١.

(٢) في المصدر : تعرف.

(٣) الاستبصار ٤/١ ـ ٥ ، باختلاف يسير.

١٥٢

وهل يقدر عاقل أن يقول : الآحاد التي عمل بها الشيخ رحمه اللّه ، وادّعى عليه الإجماع المفيد ، لكون عمل من سبقه أيضا عليه ، ونظر فيه مع التعارض إلى ما لا يعلم أو يظنّ إلاّ بالرجال ، وكان بناؤه في كتبه جميعا على الترجيح بالأسباب التي يعلم ممّا ذكر منها أنّها ممّا يعرف بالرجال ، وغايتها إفادة الظنّ ..أنّى مع ذلك عالم بصدور هذه الأخبار عن المعصوم عليه السلام أو بمفادها من غير رجوع إلى الرجال؟بل التحقيق عدم حصول الظنّ أيضا بذلك إلاّ في جملة منها معيّنة أو مجملة.

ومنه يظهر أنّ ما مرّ من تنزيل بعضهم لدعوى القطعيّة على إرادة العلم العادي أو العرفي واضح الفساد ـ كما مرّ ـ ، خصوصا والأخير لا يغني عن الاجتهاد والرجوع إلى الرجال وغيره من أسباب الظنّ بالاعتبار أو الدلالة.

نعم ؛ إن أرادوا بذلك قطعيّة الحجّية ؛ فهو حقّ لا شكّ فيه حتّى عند العاملين بالظنّ المطلق ، إلاّ أنّ ذلك من مقدّمات الإفتقار إلى الرجال لا من الأدلة على خلافه.

وأمّا الاستدلال بأنّ أقوالهم في أوائلها شهادة منهم عليها ، وهي حجّة ، سيّما وهي متضمّنة لتعليل رواة ما في كتبهم من الأخبار ، وأنّها لا تقصر ـ إن لم تكن أولى ـ من شهادة واحد أو أكثر من علماء الرجال على وثاقة راو ،

١٥٣

فقد أسبقنا ما يردّه من منع كونه حجّة من وجوه سطرناها ، فلاحظ وتدبّر (١).

__________________

(١) أقول : إنّ البحث عن الأخبارية وأدلتهم وافتراقهم مع الاصوليين وردّهم ، ودحض أقوالهم و.. كان قديما ، بل كان لبرهة مورد اهتمام العلماء ومحطّ تحقيقاتهم ، خاصة من تلامذة العلاّمة الوحيد البهبهاني ، بل يعدّ هو رحمه اللّه رائدهم ، كما أنّ مؤسس الفكرة ومكملها هو الأسترآبادي رحمه اللّه في كتابه الفوائد المدنية ، وتابعه من تابعه ..

ومن هنا فقد كتبت كتب ورسائل مستقلة ومنضمة في هذا الميدان نذكر بعض من ذا وذي مجملا.

فعمدة من ردّ الفوائد هو السيّد نور الدين علي بن السيّد علي بن أبي الحسن العاملي المتوفّى سنة ١٠٦٨ ه‌(أخ صاحب المدارك)بكتاب سمّاه : الشواهد المكية في مداحض حجج الخيالات المدنية ، طبع على هامش الأصل ، ويقال له : الفوائد المكية في الرد على الفوائد المدنية.

وكتاب : أصل الاصول في الرد على الأخباريين ؛ لسلطان العلماء سيّد محمّد بن سيّد دلدار علي النقوي النصيرآبادي (١١٩٩ ـ ١٢٨٤ ه‌).

وكتاب : أساس الاصول في الرد على الفوائد المدنية ؛ للسيّد دلدار علي بن محمّد معين الرضوي النصيرآبادي (١١٦٦ ـ ١٢٣٥ ه‌) مطبوع.

وكتاب : الرد على الأخبارين ؛ للملا محمّد علي بن ملا كاظم الخراساني الشاهرودي (المتوفّى سنة ١٢٩٣ ه‌).

ورسالة في الرد على الأخبارية ؛ للشيخ دخيل بن محمّد بن قاسم الحچامي النجفي (المتوفّى في ٧ ذي الحجة الحرام سنة ١٣٠٥ ه‌)وعليها إجازة الاجتهاد من السيّد مهدي القزويني.

ورسالة رد الأخباريين ؛ للسيّد جواد العاملي (المتوفّى سنة ١٢٢٦)صاحب كتاب مفتاح الكرامة. ـ

١٥٤

__________________

ورسالة تنبيه الغافلين في حال الأخباريين ؛ للآقا أحمد بن آقا محمّد علي بن الوحيد البهبهاني الحائري (فرغ من تأليفها في سنة ١٢٢٢ ه‌) .. وغيرها كثير.

كما وقد تعرّض في كتاب حجّة الإسلام في شرح تهذيب الأحكام ؛ للمحدّث المولى محمّد طاهر الشيرازي المتوفّي لسنة ١٠٩٨ (مطبوع ذيل كتاب ترتيب التهذيب) : ٣٣٦ ـ ٣٤٦ إلى إبطال مقالة الفاضل الأسترآبادي في الفوائد المدنية.

كما وقد بحث في أعيان الشيعة ٢٢٢/٣ ، وكذا فيه ٣٧/٦ عن الفوائد المدنية وما فيه أيضا ..

١٥٥

[الأمر] الرابع :

إنّا لمّا أشرنا في طيّ المطلب الثالث إلى أنّ الرجوع إلى إخبارات علماء الرجال فيما يفيد تشخيص ذوات الرواتب ، ببيان الأسامي والكنّى والألقاب والأنساب .. وغيرها ، وصفاتهم ؛ ببيان المدح والذمّ .. وغيرهما ، إنّما هو لكونه نوع تثبّت وتبيّن مورثا للاطمئنان الذي هو المدار والمرجع في تحصيل الأحكام الشرعيّة ، من باب بناء العقلاء على الاعتماد عليه في امور معاشهم ومعادهم ، ظهر لك أنا قد استرحنا عن النزاع الواقع بين الأصحاب في أنّ إخباراتهم تلك هل هي من باب مطلق النّبأ والخبر ، أو من باب الشهادة ، أو من باب الفتوى المبتنية على الظنون الاجتهاديّة المعتبرة ـ بعد انسداد باب العلم وما هو بمنزلته ـ ، أو من باب قول أهل الخبرة؟ .. فإنّ بكلّ منها قائلا ، فالمشهور الأوّل. والشهيد الثاني (١) ونجلاه ـ صاحبا المدارك والمعالم ـ .. وغيرهم ـ ممّن قال بالصحيح الأعلى ـ على الثاني ، وصاحب الفصول رحمه اللّه وجمع على الثالث ، والأخير مذكور وجها أو قولا في المسألة ، ولم يعلم قائله صريحا ، وظنّي اتّحاده مع سابقه ، وإن كان ظاهر بعض الأساطين الافتراق ، فتدبّر جيّدا. والثمرة بينها أنّه :

__________________

(١) لا نعرف للشهيد طاب مضجعه هذا المبنى ، فراجع.

١٥٦

على الأوّل ؛ يعتبر الوثوق وغيره من شرائط الخبر.

وعلى الثاني ؛ يعتبر العدالة ، والتعدّد ، واللّفظ ، والحياة .. وغيرها من شروط الشهادة.

وعلى الثالث ؛ يعتبر فيمن يرجع إليه شروط المفتي ، وعدم قدرة من يرجع إليه عن الاجتهاد بنفسه في أحوال الرجال ؛ ضرورة أنّ المجتهد لا يجوز له التقليد إلاّ عند العجز عن الاجتهاد.

وعلى الرابع ؛ يعتبر فيه ما يعتبر في الخبر من الوثوق بقوله ، والاطمئنان به ، ويزداد هنا اعتبار إحراز كونه من أهل الخبرة ، ولا يعتبر في الخبر مثله ؛ إذ لا يبتني على الاطّلاع على ما يتوقّف عليه الوثوق بخبره كما هنا.

وأوضح شاهد على عدم كون الرجوع إلى إخبارات أهل الرجال من باب الشهادة والفتوى اعتمادهم في جملة من أحوال الرجال على من لا يعتمد على فتواه ولا شهادته ، ك‌ : بني فضّال الممنوع من قبول آرائهم ، لفقد بعض شروط المفتي ـ وهو كونه إماميّا ـ فيهم ، والمجوّز للأخذ بما رووا.

وحيث إنّه قد أخذ في الخبر الابتناء على الحسّ المحض ، وإخبارات أهل الرجال إخبار بأمر غير حسي ؛ ضرورة عدم تعقّل محسوسيّة العدالة ، تعيّن كون قبول إخباراتهم من باب الأخذ بقول أهل الخبرة المأخوذ في اعتباره الوثوق ، ولا يضرّ عدم تبيّن قائل به بعد قضاء الدليل به ، فتدبّر جيّدا.

١٥٧

[الأمر] الخامس :

إنّ كون مجموع ما بين دفّتي كلّ واحد من الكتب الأربعة من حيث المجموع متواترا ممّا لا يعتريه شكّ ولا شبهة ، بل هي عند التأمّل فوق حدّ التواتر ، ولكن هل هي متواترة بالنسبة إلى خصوص كلّ حديث؟

وبعبارة اخرى : هل كلّ حديث وكلمة ـ بجميع حركاتها وسكناتها الإعرابيّة والبنائيّة ، وبهذا الترتيب للكلمات والحروف ـ على القطع أم لا؟.

فالمعروف بين أصحابنا المجتهدين الثاني ، كما هو قضيّة عدّها أخبار آحاد ، واعتبارهم صحّة سندها أو ما يقوم مقام الصحّة. وجلّ الأخباريّة على الأوّل ، كما يقتضيه قولهم بوجوب العمل بالعلم ، وأنّها قطعيّة الصدور ، وهو من عجائب الأوهام ..!وكيف يمكن القطع بذلك؟!. وهل هو إلاّ رجما بالغيب ، وتجرّيا على اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم؟.

والوجدان أكبر شاهد وأعظم متمسّك لبطلانه ؛ فإنّا نجد اختلافا كثيرا في النسخ من حيث الزيادة والنقصان ، والتقديم والتأخير ، وإبدال كلمة باخرى ، مضافا إلى أنّها غير معربة من حين الأخذ من

١٥٨

المعصوم عليه السلام ، ولم نر أحدا من المتقدّمين ولا المتأخّرين نصّ على تقييد الأعاريب والحركات والسكنات في الأغلب ، بل أخذهم لذلك على مقتضى قواعد العربيّة كلّ بحسب فهمه ، مع الاحتمال في كثير من الكلمات لأعاريب مختلفة ، وباختلافها يختلف المعنى.

[الأمر] السادس :

إنّه زعم بعض من لا يعتنى بقوله : قصر الحجّية على الكتب الأربعة ، وأنّه لا يجوز العمل بالأخبار المرويّة في غيرها ممّا ليس فيها.

وهو كما ترى ممّا يضحك الثكلى!إذ أيّ دليل خصّ أدلّة حجّية الخبر بالكتب الأربعة وأخرج الأخبار المرويّة في غيرها عن تحت تلك الأدلة (١)؟! (٢).

__________________

(١) قد سلف منّا مناقشتها بثلاثة أوجه ، ونضيف هنا إلى منعها أنّ الحاجة إلى الرجال حينئذ بالنسبة إلى أخبار غير تلك الأربعة موجودة.

ثمّ إنّه لا حاجة لعدّ الأمر السادس بعد أن سلف مناقشة دعوى حجية كل خبر ، أو عدم حجية الخبر الواحد ، أو قطعية صدور جميع الأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة .. وغير ذلك ، فتدبّر.

(٢) تتميم :

توثيقات أرباب الرجال وقدحهم :

حري بنا البحث عن حجية توثيقات أرباب الرجال ، وهل هي عن علم أو عن ظن. ـ

١٥٩

__________________

وأيضا في أنّ حجيتها لنا بناء على اعتبار العلم في الخبر أو مطلقا ، وأنّها بناء على عدم الاعتبار من باب حجية الشهادة أو الخبر أو الظن الاجتهادي .. ولا نحسب من يقول بكون حجيتهما من باب حجية القطع ..إذ أنّ الظاهر أنّ مدار التوثيقات على الظنّ ..إذ لا ينبغي التأمل في ابتناء التوثيق الصادر من أمثال الأسترآبادي والتفرشي .. ومن تأخر عنهم على الظنّ. بل من المعلوم من حال المتأخّرين ـ كالعلاّمة ، وابن داود ، وابن طاوس ـ واستقراء كلماتهم ـ كما سيأتي بعضها في آخر الفوائد ـ أنّ بناءهم على الاعتماد على مجرد توثيقات السلف .. ويستحيل عادة أن يكون التوثيق دائر مدار إفادة العلم بالملكة ، بل ادعي استحالة العلم في أصل العدالة [كما قاله العلاّمة في المختلف ٥٠٠/٨ ، وقارن بما ذكره فيه ٤٣٥/٨ ، وكذا الشهيد في الذكرى ١٠١/٤ ، وقارن به ٣٩١/٤].

نعم ؛ يمكن أن يقال [كما قاله الكلباسي في رسائله الرجالية ٤٥٩/١ ـ ٤٦٠] : إنّ الظاهر أنّ التوثيق من قدماء أرباب الرجال ـ كابن شاذان ، وابن فضال ، وابن عقدة .. وغيرهم ممّن كان الظاهر ملاقاته مع الموثّق ، أو كان عصره مقاربا لعصره ، بحيث كان حصول العلم بالوثاقة لمن يرتكب التوثيق سهلا ـ مبني على العلم ، بناء على كون المقصود إفادة الوثاقة بالمعنى اللغوي ، وإلاّ فاستكشاف العدالة بالعلم محل الإشكال ، ولو كان من يرتكب التوثيق يلاقي الموثّق.

ومثله الكلام في توثيق المتوسطين والمتأخّرين بالنسبة إلى من كان بعصرهم أو قارب عصرهم وأن كان بعيدا عن عصرهم ، بل كانت وثاقته في غاية القوة من جهة الاشتهار أو غيره.

ولعلّ من هذا الباب الموثق بتكرار التوثيق .. حيث كلّما أزداد التأكيد يزداد ظهور استناد التوثيق إلى العلم ..

١٦٠