تنقيح المقال - ج ١

الشيخ عبد الله المامقاني

تنقيح المقال - ج ١

المؤلف:

الشيخ عبد الله المامقاني


المحقق: الشيخ محمّد رضا المامقاني
الموضوع : رجال الحديث
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-382-9
ISBN الدورة:
978-964-319-380-5

الصفحات: ٥٢٨

وأنت خبير بأنّ شيئا ممّا ذكر ـ بل ولا جميعها ـ لا يقتضي كون أحاديثنا كلّها قطعيّة الصدور ، وغاية ما يمكن أن يسلّم هو إفادتها الظنّ القوي في جملة من الأخبار ، وهو لا يغني عن ملاحظة أحوال الرجال ؛ ضرورة أنّ احتمال إيراث مراجعة أحوالهم زيادة الاطمئنان أو زواله بالمرّة يكفي في وجوب الرجوع بعد ما علم من لزوم بذل تمام الجهد في تحصيل الحكم الشرعي ، وعدم جواز المسامحة فيه بوجه ، وعدم حجّية مطلق الظنّ إلاّ عند العجز عن تحصيل العلم أو الاطمئنان (١) ، كما لا يخفى (٢).

والعجب كلّ العجب من صاحب المستند ـ حيث إنّه بعد جعل أحد احتمالات الحاجة إلى علم الرجال ؛ توقف تحصيل الظنّ القوي الواجب تحصيله في مقام الاستنباط على علم الرجال ، ثمّ ردّه بمنع وجوب تحصيل

__________________

ـ ونقوض كثيرة ، ذكر منها صاحب الوسائل اثنين وعشرين وجها كما في وسائله ٩٦/٢٠. وانظر خاتمة وسائل الشيعة ٢٢٠/٢٠ وما بعدها من الفائدة السابعة(التوثيقات العامة) ، وكذا صفحة : ٢٥١ ، وصفحة : ٢٥٢.

وقد فصّلنا الحديث عنه في تعليقاتنا واستدراكاتنا على مقباس الهداية ، وسيأتي هنا مجملا قريبا.

(١) كذا ، والظاهر عدم وجود خبر لقوله : ويكفي في وجوب الرجوع ..

(٢) هذا مع مفروغية كون الدليل استحسانا صرفا ، وعدم حجية أخبار الآحاد محكم إلاّ ما قام عليه الدليل ، ومع القطع بوجود المراسيل والضعاف كيف يقال بحجية الكل؟!بل كلمات الأعلام منصبّة إلى خبر الثقة أو ما قام عليه الاطمئنان ، فلاحظ.

١٠١

الظنّ بالأقوى ـ قال (١) : وما الدليل الذي يدلّ على أنّ الخبر الذي هو حجّة هو ما يكون ظنّه أقوى ، مع أنّه لو أخذ بغير الأقوى أيضا ـ مع عدم التعارض ـ ينتفي فائدة علم الرجال أيضا ، وإن تركته فيلزم الاقتصار على نادر من الأخبار ؛ إذ لا يوجد خبر إلاّ ويوجد أقوى منه؟!. انتهى المهمّ من كلامه زيد في إكرامه (٢).

وهو من غرائب الكلام ، وسخائف الأوهام ؛ ضرورة انحصار طريق حجّية الخبر ـ عند التحقيق في بناء العقلاء ـ على اعتبار الخبر المطمئنّ به ، ولا ريب عند كلّ ذي مسكة في كون مراجعة الرجال من أسباب حصول الاطمئنان ، وحينئذ فنطالبه بالدليل على حجّية مطلق الخبر المظنون الصدور عند إمكان تقوية الظنّ بصدوره ، بل الأصل عدم حجّيته إلاّ عند العجز عن تحصيل الظنّ الأقوى ، لقاعدة الانسداد الغير [كذا] الجارية ، مادامه [كذا] قادرا على تحصيل الظنّ الأقوى.

__________________

(١) المستند ؛ ولم نجد نص ما نسبه له ، وإن بحثنا فيه أكثر من مرة ، نعم هناك موارد قد يستفاد منها ذلك ، فراجع.

(٢) أقول : لا شبهة في عدم حجية الظنّ بما هو ، بل المنع منه كذلك ، وأنّ ما ثبت حجيته هو ظنّ المجتهد بعد بذل جهده واستفراغ وسعه في كل ما له دخل في الوثوق وعدمه .. ولا شبهة في دخول الرجال فيه ، ولو سلمت القطعية فلا شبهة في ظنيتها متنا .. فتأمل جيدا.

١٠٢

ثاني عشرها :

إنّ أخبار الكتب الأربعة قطعيّة الاعتبار وإن لم تكن قطعيّة الصدور عن الأئمّة الأطهار عليهم السلام ، وذلك لمكان شهادة المحمّدين الثلاثة على صحّة ما في كتبهم ؛ فإنّ الصدوق رحمه اللّه قال في أوّل الفقيه : إنّي لا أورد في هذا الكتاب إلاّ ما أفتي به وأحكم بصحّته ، وهو حجّة بيني وبين ربّي (١).

وقال الكليني في أوّل الكافي (٢) ـ مخاطبا لمن سأله تصنيفه ـ : وقلت : [إنّك] تحبّ أن يكون عندك كتاب كاف يجمع [فيه] من جميع فنون علوم (٣) الدين ، ما يكتفي به المتعلّم ، ويرجع إليه المسترشد ، ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السلام ، والسنن القائمة التي عليها العمل ، وما يؤدّي (٤) فرض اللّه عزّ وجلّ وسنّة نبيّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم .. إلى أن قال : ولقد (٥) يسّر اللّه تعالى ـ وله الحمد ـ تأليف ما سألت ،

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٣/١ ـ المقدمة ـ ، وهو نقل لحاصل كلامه ، وانظر : روضة المتقين ١٣/١ ـ ١٤.

(٢) الاصول من الكافي ٧/١ ـ المقدمة ـ (المكتبة الإسلامية).

(٣) في الشروح للكافي : علم.

(٤) في الكافي وشروحه : وبها يؤدي.

(٥) في المصدر : وقد ..

١٠٣

وأرجو أن يكون بحيث توخّيت (١). انتهى (٢).

والشيخ رحمه اللّه قال في العدّة (٣) : إنّ ما عملت به من الأخبار فهو صحيح. انتهى.

والجواب عنه من وجهين :

أحدهما : أنّ ما نسب إلى العدّة لم يوجد منه فيها عين ولا أثر ، ولو كان فلا دلالة فيه على كون جميع ما في التهذيبين معمولا به له حتّى يكون قد شهد بصحّة الجميع ، وأمّا ما في أوّل الفقيه ، فقد نصّ جمع ـ منهم شريك المحدّثين في المسلك ، المحدّث البحراني قدّس سرّه فيما يزود على أربعين موردا من كتابه (٤) ـ بأنّ الصدوق رحمه اللّه لم يلتزم في

__________________

(١) وانظر : مرآة العقول ٢٢/١ ـ ٢٤ ، وكذا شرح ملا صالح المازندراني على الكافي ٥٤/١ ـ ٦٠ ، وصفحة : ٦١ ـ ٦٦.

(٢) ثمّ إنّ محل الشاهد من عبارة الشيخ الطوسي رحمه اللّه في التهذيب قوله : .. ثمّ اذكر بعد ذلك ما ورد في أحاديث أصحابنا المشهورة من ذلك .. إلى آخره.

انظر : تهذيب الأحكام ٣/١.

وفيه ما في قبله من عدم دلالة على علمه بصدور تلك الأخبار ، ولو سلّم فلا يوجب العلم بالنسبة إلينا ، وأيضا نصّ في خلال كلامه بعد ذاك بقوله : .. وانظر فيما ورد بعد ذلك ممّا ينافيها ويضادّها وأبيّن الوجه فيها ؛ إما بتأويل أجمع بينها وبينها .. إلى آخره.

إذ قوله هذا صريح في عدم قطعية جميع ما في كتابه.

(٣) لا يوجد للشيخ في العدّة مثل هذه العبارة ، كما سيصرّح به المصنف طاب ثراه.

(٤) الحدائق الناظرة ٢٦٧/١ ، و ٢٦٨ ، ٢٩٤ ، ٢٩٨ ، ٤٩٧ ، ٥٠٥ .. وهذا بعض ما في المجلّد الأوّل ، وفي غيره أكثر ، وهو يزيد عمّا ذكره المصنف رحمه اللّه.

١٠٤

أثناء الكتاب بما وعد به في أوّله ، وذلك ظاهر عند كلّ من لاحظ الفقيه ، فإنّه كثيرا ما يورد خبرا ويفتي بخلافه ، والعدول عن القول في كتب العلماء أمر شائع ذائع (١) ؛ مع أنّ كلامه غير صريح ـ بل ولا ظاهر ـ فيما حاول المحدّثون إثباته ، بل هو ظاهر أو صريح في الإخبار عن الفتوى (٢) ، لأنّ معرفة صحة الحديث كمعرفة الحكم الشرعي من المسائل الاجتهاديّة ، فكما أنّ فتوى الفقيه ليس حجّة إلاّ في إثبات أنّ رأيه ذلك ، فيثمر ذلك بالنسبة إلى مقلّديه في العمل به ، وبالنظر إلى غيره في تحصيل الشهرة ونحوه ، فكذا الإخبار عن صحّة الحديث ظاهر في بيان اعتقاده الاجتهادي فيما بينه وبين ربّه.

وأيضا ؛ كون ما فيها مأخوذا من الكتب المشهورة التي عليها المعوّل في الرجوع إليها عند الاحتياج إلى خبر لا يقضي بأنّ جميع ما فيه متّفق على جواز العمل به ، بل المراد أنّ تلك الكتب يعوّل عليها من حيث صدق ما ذكروه من الأسانيد وإن كان ضعيفا ، فمعناه التعويل على النسبة ؛ ضرورة أن التعويل على كلّ كتاب ليس إلاّ تصديقه فيما أنشأ به ، ولم ينشىء إلاّ أنّ هذا الخبر رواه

__________________

(١) ويمكن توجيه هذا بأنّه مدفوع بكونه من قبيل التخصيص ، فلا ينافي قطعية صدور غير هاتين الطائفتين لهما.

(٢) يمكن أن يقال هنا : إنّ كلام الفقيه صريح في أنّ مراده حجية جميع ما يورده فيه.

وفيه : أنّ الصحة غير العلم بالصدور أوّلا ، ولو سلّمنا فهو لا يفيد القطع لنا ، بل غاية دعواه حصوله له فيكون شخصيا كما لا يخفى.

١٠٥

فلان .. عن فلان ..

وأيضا ؛ لو كان مثل هذا القول كافيا للمجتهد في الحكم بصحّة الدليل لكان جميع ما تضمّنته كتب الأصحاب من أدلّة الفتاوى حجّة ؛ للعلم بأنّه لا يستند في إثبات الحكم إلى ما لا يعتقد حجّيته.

وأمّا ما في الكافي .. فلا دلالة فيه على مدّعاهم ؛ لأنّك إذا تأمّلته تجده دالاّ على أنّ الكتاب مشتمل على الآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السلام .. ونحن لا ننكر ذلك ، لا أنّ جميع ما فيه صحيح ..

وكون الكتاب جامعا لجميع فنون علوم الدين .. غير أنّ جميع ما فيه صحيح يجوز الأخذ به من غير ملاحظة سنده من حيث الصحّة والفساد ، مع أنّ جواز أخذ السائل منه بعض الأخبار يحتمل أن يكون على جهة التقليد ، وهو لا يثبت صحّة جميع الأخبار التي فيها (١) بالنظر إلى المجتهدين ، فيكون ذكره لجميع رجال الأسانيد ، وبيانه مراده من بعض الألفاظ ـ كقوله : عدّة من أصحابنا ـ ضابطا واضحا وقرينة قويّة لإرادته تهيئة مقدّمة تمييز الصحيح من غيره بالنسبة إلى غير مقلّديه ، وكاشفا عن فتواه بمضمون ما صحّ سنده عنده لهم.

ولو تنزّلنا عن ذلك كلّه نقول : إنّ ما في الكافي لا يثبت مدّعى الخصم ، لعدم وفائه لجميع الفروع ، وعلى فرض كون أخباره بحكم الصحيح ، فما حال أخبار باقي الكتب المحتاج إليها إلاّ حال مطلق الخبر المحتاج فيه إلى

__________________

(١) كذا ، ولعله : فيه.

١٠٦

التثبّت .. والرجوع إلى علم الرجال نوع تثبّت (١).

ثانيهما : ـ بعد الإغماض عن الأوّل ـ أنّ أخبارهم بصحّة ما في كتبهم شهادة يعتبر فيها التعدّد ، وتعيين المشهود به من الروايات والرواة ، وكون الشهادة لفظيّة ، وعن حسّ وحياة الشاهدين .. وكلّ ذلك منتف في المقام ؛ ضرورة عدم تعيين الرواية والرواة في كلام اثنين بحيث تتوارد الشهادتان على أمر واحد ، وعدم كون شهادتهم لفظيّة بل كتبيّة ، وكون شهادتهم عن حدس واجتهاد لا [عن] حسّ ، وعدم حياتهم (٢).

فإن قلت : إنّ المراد منه ليس الشهادة المتعارفة المصطلحة ، بل مجرّد الخبر.

قلنا : إنّه لم يقم دليل معتبر على حجّية خبر العادل على سبيل الإطلاق على وجه يشمل الأخبار لا عن حسّ.

__________________

(١) ويرد على شهادة الكليني في كتابه .. وأمثالهم أنّه هو رحمه اللّه لم يكن يقبل بذلك ، ولو كان جازما بالحديث لما حكم بالأخذ بالمشهور بين الروايتين عند التعارض ـ كما هو صريح الحديث ـ وذلك لتمييز الصادر عن غيره .. وقد تصدّى بعض المتأخرين رحمه اللّه لذكر جملة من المؤيدات لتصحيح قصور عبارة الكافي وردّ سائر الإشكالات ، وسرد جملة من المؤيدات كلّها ترجع إلى إثبات الموجبة الجزئية .. ولا كلام فيها ظاهرا.

(٢) وأيضا على فرض تسليم ظهور كلام الكليني رحمه اللّه في ذلك فهو غير مفيد للعلم بأنّه مراده ، كما لا يفيد القطع لنا ، بل غايته حصوله له كما سلف وهو شخصي ، هذا ، ولا يخفى أنّ الصحة غير العلم بالصدور.

١٠٧

سلّمنا ؛ لكنّهم يخبرون بصحّتها عندهم ، وهو لا يجدي بالنسبة إلى غيرهم من المجتهدين ، سيّما بعد وضوح كون صحّتها عندهم ناشئة من الترجيح والرجوع إلى أحوال الرجال .. أو غير ذلك ، فهي بالفتوى أقرب من الشهادة والخبر ، بل هي منها ؛ لكونها إخبارا عمّا اجتهد فيه في المسألة الأصولية ، وهي مسألة حجّية أخبار الآحاد.

فإن قلت : إنّ مورد خبرهم الواقع.

قلنا : لكنّا نعلم أنّ طريقه إنّما هو فهمهم وحدسهم ، ولا دليل على تصديق مثل هذا الخبر تصديقا خبريّا ، بل هو إنّما يصدّق تصديقا مخبريّا ، بمعنى عدم حمله على الكذب بحسب اعتقاده.

فسقط بما ذكرنا كلّه ما صدر عن جمع من المحدّثين ـ منهم قاشانيّهم في الوافي (١) ـ من قول : إنّ مدار الأحكام الشرعيّة [اليوم] على هذه الاصول الأربعة ، وهي المشهود عليها من مصنّفيها بالصحّة ، [ولا مدخل لما ذكر في ذلك] فإن كانوا لا يعتمدون على شهادتهم بصحّة كتبهم ، فلا يعتمدوا على شهادتهم وشهادة أمثالهم في الجرح والتعديل أيضا. انتهى.

فإنّ فيه : ما عرفت من المنع صغرى وكبرى.

وأوهن منه قوله (٢) بعد ذلك : وأيّ فرق بين الأمرين. انتهى.

__________________

(١) الوافي ٢٤/١ ، ولاحظ ما قبله.

(٢) المصدر السالف ، نفس المجلّد والصفحة.

١٠٨

فإنّ فيه : وضوح الفرق بين المقامين ، فإنّ مقامات الإخبارات تختلف في الظهور :

ففي ما صنّف في الجرح والتعديل كتاب يرجع إليه من احتاج إلى الجرح والتعديل في تصحيح الأخبار يظهر من المخبر إرادة التزكية.

وفي مقام بيان الفتوى والاستدلال عليه يظهر منه إرادة الإخبار عن الفتوى ، وعن أنّ الدليل لذلك حجّة على زعمه.

وفي مثل الكتب الأربعة المذكورة فيها سند الأدلّة يظهر من المخبر إرادة بيان فتواه وإراءة مستندة ، حتّى يستند إليه من بعده من المجتهدين إن اطمأن بصحّة الدليل.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا وضوح حاجة المجتهد في اجتهاده إلى علم الرجال ، لتوقّف استفراغ الوسع في تحصيل الحكم الشرعي الواجب عليه على مراجعته (١).

__________________

(١) هذا ، والقول بالتخير هنا ـ كما حكاه المشكيني في الوجيزة في علم الرجال : ٢٣ عن استاذه صاحب الكفاية ـ من أنّ المدار في الأخبار على الموثوق الصدور منها ، وعليه فكل ما كان محصل لذلك المناط فهو كاف .. ومن جملة مصاديقه علم الرجال ..

وفيه : أنّه موقوف على كون الحجة منحصرة في ذلك أوّلا ، وعلى أنّ كل خبر يحصل الوثوق بصدوره من المراجعة إلى علم الرجال يحصل الوثوق بصدوره من سائر الأسباب .. وكلاهما ممنوعان.

١٠٩

ومن هنا ينبغي القول بعدم جواز اعتماد المجتهد في المخبر (١) على تصحيح الغير مع إمكان مباشرته للتصحيح ؛ ضرورة عدم حصول استفراغ الوسع منه حينئذ ، كما لا يحصل استفراغ تمام الوسع بالاعتماد على قول علماء الرجال من دون اجتهاد في علم الرجال. وقد قضى الوجدان بأنّ جمعا ممّن لم ينصّ علماء الرجال بتوثيقهم في كتبهم الموضوعة لذلك قد حصل لنا ببذل الجهد العلم بوثاقتهم ، كإبراهيم بن هاشم ، حيث وجدنا من ابن طاوس في كتابه البشرى (٢) دعوى الاتّفاق على أنّه ثقة عدل (٣).

__________________

أمّا أوّلا ؛ فإنّ الحجة أعمّ منه ومن قول الثقة الذي يثق بعدم صدوره ، وإحراز الأخير لا يتأتّى إلاّ بعلم الرجال غالبا.

وأما ثانيا ؛ فلعدم العلم المذكور ، وحينئذ يتعين المراجعة لهذا العلم تعيينا ، لعدم جريان الاصول قبل اليأس من الدليل ، وهو قبل المراجعة إليها مفقود.

وعليه ؛ فيظهر من هذا وجود الحاجة إلى هذا العلم تعينا لو قلنا بأنّ المناط هو عدالة المخبر ، أو كونه ثقة ، أو أحدهما مع الظن بالصدور أو الوثوق به .. نعم ؛ لو كان الملاك منحصرا في الظن بالصدور أو الوثوق به مع ضميمة العلم المتقدم لاتّجه القول بالتخيير .. ولا وجه له.

(١) كذا ، والظاهر : الخبر.

(٢) البشرى لابن طاوس ، ويعرف ب‌ : بشرى المحقّقين(المخبتين) في الفقه ، قيل هو في ستة مجلّدات ولا نعلم بطبعه. انظر : ترجمته وما فيها من الأقوال في تنقيح المقال ٧٢/٥ ـ ١٠١ برقم ٢٣٢ [الطبعة المحقّقة].

(٣) وسيرجع المصنف قدّس سرّه إلى الإسهاب في الحديث عن هذا الموضوع في الفائدة الثالثة عشرة من الكتاب ، فانتظر.

١١٠

تذييل وتنقيح :

يتضمّن أمورا :

[الأمر] الأوّل :

إنّه ربّما زعم بعض أواخر الأخباريّين لفظيّة النزاع بين الأصوليّين والأخباريّين ، حيث قال (١) : إنّ الاطمئنان حاصل بصحّة الاصول فلا يحتاج إلى علم الرجال. وهذا هو العلم العادي ، وهو يحصل بخبر الثقة الضابط المتحرّز عن الكذب ، بل وغير الثقة إذا علم من حاله أنّه لا يكذب ، أو دلّت القرينة على صدقه ، وهذا هو الذي اعتبره الشارع في ثبوت الأحكام عند

__________________

(١) وقبله : قال بعض المحقّقين من أصحابنا المتأخّرين : اعلم أنّ لفظ العلم يطلق في اللّه على الاعتقاد الجازم الثابت المطابق للواقع .. وهذا يسمّى : العلم العادي ويحصل .. إلى آخر ما هنا.

وقريب من هذا العبارة من قوله : وهذا هو العلم العادي .. جاء في رياض السالكين للسيد علي خان المدني ٣٧٢/٢ ، وبعض ما هنا نقله عن الذريعة إلى اصول الشريعة للسيد المرتضى ٢٠/١ ـ ٢٢ مع اختلاف في بعض ألفاظه.

١١١

الرعية ، وقد عمل الصحابة وأصحاب الأئمّة عليهم السلام بخبر العدل الواحد ، وبالمكاتبة على يد الشخص الواحد ، ولا ينافي هذا الجزم تجويز العقل خلافه ، نظرا إلى إمكانه ، كما لا ينافي العلم بحياة زيد الذي غاب عنّا لحظة تجويز موته فجأة ، و [من] تتبّع كلمات العرب ظهر له أنّ إطلاق العلم على ذلك حقيقة عندهم.

والحاصل ؛ أنّ الاطمئنان يجوز العمل به ، فإن شئت فسمّه : علما ، وإن شئت فسمّه : ظنّا ، فالنزاع بين الأخباريّين وبين المجتهدين لفظي. انتهى.

وأقول : في جعله النزاع لفظيّا من النظر ما لا يخفى ؛ فإنّه خلاف صريح كلماتهم ، كالنظر في تسمّية ما ذكره علما عاديا ، فإنّ العلم العادي ما لا يحتمل النقيض أصلا مادام الشخص عالما بواسطتها ، ككون الجبل حجرا ؛ فإنّه لا يحتمل النقيض حال العلم بأنّه حجر ، سواء كان في شيء من الأوقات أو دائما.

والحاصل ؛ أنّه مادامت العادة تقتضي انتفاء النقيض فلا احتمال للنقيض ، وذلك لا ينافي إمكان تبدّل الحجر ذهبا بالذات من حيث القابليّة ، وعموم قدرة اللّه تعالى ، وأمّا مجرّد الاطمئنان وعدم الدغدغة الحاصل للشخص من جهة عدم الالتفات إلى ما يوجب زوال العلم فليس بعلم حقيقة وفي نفس الأمر ، بل هو جزم حصل للشخص ، ويتفاوت بتفاوت الأشخاص من حيث التنبّه للاحتمالات وعدمه. فالأولى أن يسمّي ما يدّعيه من الجزم أو الاطمئنان ب‌ : العلم العرفي لا العادي الذي هو مثل العلم العقلي في عدم احتمال النقيض مادام العلم والعادة.

١١٢

ثمّ مع ذلك ؛ فدعواه بالنسبة إلى جميع أخبار الكتب الأربعة ، أو الكتب المعتمدة .. كما ترى ، سيّما بعد تمادي الأيّام المتطاولة ، وسنوح السوانح ، ووقوع ما وقع من الغفلات والزلاّت والاشتباهات ، واحتمال تداخل الاصول المعتمدة بغيرها ، فإنّ من الاصول ما قد وقع القدح في أربابها ، ك‌ : علي بن [أبي] حمزة ، والسكوني ، والحسن بن صالح بن حي ، ووهب بن وهب القرشي ، ومحمّد بن موسى الهمداني ، وعبد اللّه بن محمّد العلوي ، ومحمّد ابن علي الصيرفي ، ويونس بن ظبيان ، ومحمّد بن سنان .. ونظائرهم ، ونسبوا كثيرا منهم إلى الإضطراب والتشويش ، ورداءة الأصل ، والضعف .. وورد في حقّ كثير منهم ذموم ، كما لا يخفى على الخبير المتفحّص.

[الأمر] الثاني :

إنّه قد ظهر لك ممّا حرّرناه أنّ اللاّزم على الفقيه هو بذل تمام الجهد والوسع في تحصيل الاطمئنان بالحكم الشرعي ، فيلزمه مراجعة كلّ ما يحتمل مدخليّته في زيادة الوثوق والاطمئنان ، ومن ذلك علم الرجال ، فإنّ اعتبارنا لمراجعته إنّما هو من باب توقّف استفراغ الوسع وبذل تمام الجهد على ذلك ، وقد مرّ أنّا لم نعتبر توثيقهم من باب الشهادة المصطلحة ، لفقد ما يعتبر فيها من الحسّ والحياة واللّفظ في ذلك وإنّما اعتبرناه من باب إيراث الوثوق والاطمئنان بصدور الخبر ، ولذا نقول بحجية كلّ خبر حصل الاطمئنان بصدوره ، صحيحا كان أو موثّقا ، أو حسنا ، أو قويّا ، أو ضعيفا منجبرا بالشهرة.

١١٣

ولا نقول بحجّية الخبر الصحيح الأعلى إذا كان معرضا عنه بين الأصحاب ؛ ضرورة كشف إعراضهم عنه ـ مع كونه بين أظهرهم ـ عن سمّية فيه ، وسلبه الوثوق بصدوره ، ولذا تداولوا أنّ الخبر كلّما ازداد صحّة واعتبارا ازداد بسبب إعراض الأصحاب عنه ضعفا وانكسارا.

نعم ؛ لا يخفى أنّ الإعراض مانع من العمل بالخبر لسلبه الاطمئنان به ، لا أنّ عمل الأصحاب شرط في حجّية الخبر المطمئنّ به ، وتظهر الثمرة في الخبر الموثوق به الذي لم يحرز عمل الأصحاب به ولا إعراضهم عنه ، فإنّه حجّة على ما اخترناه دون بناء على شرطيّة العمل .. ولكن لا دليل على الشرطية المذكورة ، والأصل يدفعها.

وأمّا مانعيّة الإعراض ؛ فمنشأها ما لوّحنا إليه من سلبه الوثوق بالخبر ، ولذا لا يقدح احتمال الإعراض ما لم يتحقّق ويحرز ، فتدبّر.

[الأمر] الثالث :

إنّه قد صدر من الأصحاب الإفراط والتفريط في هذا الباب :

فمن الأوّل ؛ ما عليه جماعة ـ منهم ثاني الشهيدين رحمهما اللّه (١) ـ من

__________________

(١) كذا نسب إلى الشهيد الثاني ـ وحكاه غير واحد كصاحب الأعيان ٩٤/٥ فيه وغيره ـ وأنكره آخرون ، والظاهر : أنّ المراد منه ولد الشهيد الثاني رحمهما اللّه ، كما هو سيره ـ

١١٤

قصر الحجّية على الصحيح الأعلى المعدّل كلّ من رجاله بعدلين ، نظرا إلى إدراج ذلك في البيّنة الشرعيّة ، التي لا تختصّ حجّيتها بالمرافعات على الأقوى ، لما نطق بذلك من الأخبار الصحيحة ، مثل قوله عليه السلام في خبر مسعدة بن صدقة : «والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البيّنة» (١) حيث جعل عليه السلام قيام البيّنة رديفا للاستبانة والعلم.

ووجه كون هذا المسلك إفراطا أنّ طريق الإطاعة موكول إلى العقل والعقلاء ، ونراهم يعتمدون في أمور معاشهم ومعادهم على كلّ خبر يثقون به من أيّ طريق حصل لهم الوثوق والاطمئنان ، فلا معنى لقصر الحجّية على الصحيح الأعلى ـ كما عليه جمع ـ ، ولا مطلق الصحيح ـ كما عليه آخرون ـ ، ولا هو والموثّق والحسن ـ كما عليه ثالثة ـ بل المدار على حصول الوثوق

__________________

(١) ـ وسيرته في كتاب المنتقى ، فلاحظ ؛ حيث لا يصحّ عنده إلاّ ما يرويه العدل المنصوص عليه بالتوثيق بشهادة ثقتين عدلين ، أو يراد منه صاحب المدارك ، وقد سلفت مبانيهم في المقباس.

(٢) كما في الكافي ٣١٣/٥ حديث ٤٥ ، وفيه قبل ذلك : «.. والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك ..».

وأورده في بحار الأنوار ٢٧٣/٢ حديث ١٢ ، وجاء في الاستبصار ٤١٥/٢ حديث ١٤ ، وصفحة : ٢١٧ حديث ٢ ، ووسائل الشيعة ٨٩/١٧ رواية ٢٢٠٥٣ [طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام] ، والتهذيب ٢٢٦/٧ حديث ٩ ، وقريب منه في التهذيب ١٢١/١٠ حديث ١٠٣.

١١٥

والاطمئنان من أيّ سبب كان ، بعد عدم تقصير المجتهد في بذل وسعه وصرف جهده ، مع أنّ إدراج توثيق علماء الرجال في عنوان الشهادة المصطلحة ـ ليشمله قوله عليه السلام : «أو تقوم به البيّنة ..» ـ اشتباه عظيم ، بعد فقده لجميع شروط الشهادة من الحسّ والحياة واللّفظ ؛ ضرورة كون توثيقاتهم حدسيّة اجتهادّية ، وهم ميّتون وليسوا بأحياء ، وشهاداتهم كتبيّة لا لفظيّة (١).

ومن الثاني ؛ ما صدر من جماعة (٢) ـ منهم : الشيخ الأمين

__________________

(١) وحاصله ؛ أنّها أوّلا : ليست بشهادة إذ لا علم فيها ، بل عمله كلّه من باب الترجيح والرجوع إلى أحوال الرجال .. وغير ذلك ممّا غايته الظن غالبا ، وأيضا فهي غالبا ما تكون بالفتوى أقرب ، إذ هي أخبار عمّا وصل إليه اجتهاد المجتهد في المسألة الاصولية ، وهي مسألة حجية أخبار الآحاد ، وأيضا فهي شهادة علمية في اعتبارها خلاف وإشكال.

هذا ؛ ولا شك بعدم تعيين المشهود به في الروايات والرواة ، مع قولها إنّها كتبية ، مع أنّ مشايخنا قدس اللّه أسرارهم مختلفون مع بعض ولم يكتفوا بشهادة من سبقهم لو قلنا بها.

(٢) ذهب لهذا جمع من المحدّثين ، وطائفة من الأخباريين ، وثّلة من الأصوليين ـ كما سلف أن قلناه في هوامش مقباس الهداية ٥٤/٢ ، ومستدركاته ٦١/٥ ، وصفحة : ٦٨ و ٨٤ ـ ٨٥ [من الطبعة المحقّقة الاولى] ـ بل ادّعي قطعيّة صدور هذه الأحاديث ، فضلا عن قيام الإجماع عليها. وذكرنا بعض ما وجّهوا به كلامهم ورددناه بالوجدان وغيره وتبعنا بذلك مشهور الطائفة.

١١٦

الأسترآبادي رحمه اللّه (١) ، والشيخ الحرّ العاملي رحمه اللّه في خاتمة وسائل الشيعة (٢) ، والمحدّث البحراني في مقدّمات الحدائق (٣) ..

__________________

وقد أجمل السيّد الخوئي قدّس سرّه ـ في معجم رجال الحديث ٣٦/١ ـ بعض ما ذكرناه هنا ، وكذا السيّد حسن الصدر في نهاية الدراية : ١٧ ردا على صاحب الحدائق .. وغيرهما.

ولاحظ : توضيح المقال : ٤ ـ ٨ حيث تعرض لشبهات الأخبارية وردها ، وكذا الخاقاني في رجاله : ٢١٨ ـ ٢٢٣ ، حيث ناقش صاحب الوسائل وغيره وفرق بين قطعية الأخبار وعدمها ، تبعا للوحيد البهبهاني في فوائده المطبوع ذيل رجال الخاقاني : ٢ [منهج المقال ٧١/١ ـ ٩٥ من الطبعة المحقّقة] ، وحصر في قواعد التحديث : ١٧ الوجوه بوجهين ، ثمّ ردّهما .. كما تابع الوحيد رحمه اللّه في شرح فوائد تعليقته من رجاله : ٢٠٩ ومناقشة قطعية صدور الأحاديث .. إلى أن قال [صفحة : ٢١٠] : فدعوى القطعية ممّا لا ينبغي التفوّه به ، وكيف تدّعى القطعية مع نسخ الأخبار ونقلها من كل عصر وزمان مع ما نرى من الخلل بالزيادة والنقصان والتغيير والتبديل اللازمين عادة وغالبا للنسخ والنقل كما تقضي وتشهد له الملاحظة ..؟!وذكر لذلك أمثلة في المتن والسند.

(١) الفوائد المدنية : ٥٣ ، وصفحة : ٦١ و ١٣٢ حيث تعرض لكلام الشيخ البهائي رحمه اللّه في مشرق الشمسين وناقشه.

(٢) وسائل الشيعة ٣٦/٢٠ ، وصفحة : ٧٩ (الفائدة الرابعة والسابعة) ، وصفحة : ٩٦ (الفائدة التاسعة من الخاتمة) ، وحكى عن الشيخ الطوسي في العدّة [صفحة : ٥١ ، وفي المحقّقة ٣٢٤/١] إجماع الإمامية على العمل بجميع الأخبار التي رووها من تصانيفهم ودوّنوها في أصولهم لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعون ..

(٣) الحدائق الناضرة ١٥/١ ـ ٢٤ حيث ذكر وجوه ستة ، وقال : ..إلى غير ذلك من

١١٧

وغيرهم من المحدّثين (١) ، وصاحب المستند (٢) من الأصوليّين ـ من القول بحجّية جميع أخبار الكتب الأربعة وأضرابها من الخصال ، والعيون ، والعلل .. ونحوها ، [الوجوه الملفقة لإثبات حجية أخبار الكتب الأربعة خاصة .. وجوابها] نظرا إلى وجوه لفّقوها ، زعموا وفائها بالدّلالة على حجّية أخبار الكتب الأربعة ، وغناء المجتهد في العمل بها عن مراجعة أحوال الرجال ، وأصرّوا على ذلك غاية

__________________

الوجوه التي انهيناها في كتاب المسائل إلى اثنى عشر وجها ، ومثله في الدرة النجفية : ١٦٧ [الطبعة الحجرية].

(١) نظير الفيض الكاشاني رحمه اللّه في الوافي ١١/١ ، والمقدّمة السادسة في كتاب معين النبيه في بيان رجال من لا يحضره الفقيه : ٢٠ ـ ٢٢ (خطي). والشيخ الخاقاني في رجاله : ٨١ .. وغيرهم.

قال المحقّق الأعرجي رحمه اللّه في عدّة الرجال ٤٤/١ ـ ٤٥ : فلا وجه لإعراض الأخبارية عنه [كما في الحدائق الناظرة ٤/١ المقدّمة الأولى ، وكذا في هداية الأبرار للشيخ حسين العاملي : ١٦٩] بناء على القطع بصدور جميع هذه الأخبار ؛ إذ بعد تسليم دعوى القطع ـ وإن كانت ظاهرة الفساد ـ فلا بدّ من الترجيح ، لوقوع التعارض في أكثر الأبواب ، واعتمادهم في التخلص على التخيير ـ جمودا على ما جاء فيه ، مع ورود ما ينافيه ، معضودا بالكثرة والشهرة في الرواية والعمل [من] قديم الدهر إلى يومنا هذا خطأ وإخلادا إلى الدعة ، خصوصا وقد جاء في غير واحد من الأخبار ما يدلّ على أنّ التخيير إنّما هو بعد انسداد طرق الترجيح .. دع ما يترتب على ذلك من المفاسد ، ولا سيما في أبواب المعاملات ، فإن كان ولا بدّ فحيث لا مفسدة ، لا كما يزعمون على الإطلاق ..

(٢) مستند الشيعة ٣٠٢/٧ ، و ١١٦/٩ .. وموارد اخرى ، وكلّها ليست صريحة في المدعى ، بل أنّه ينكر ذلك في كتابه الآخر عوائد الأيام : ٢٥٤ .. فراجع.

١١٨

الإصرار ، وينبغي نقل شطر منها ، والإشارة إلى قصورها عن إثبات مقصدهم.

ما ذكروه بتقريرات متقاربة (١) ، وهو : إنّ المعلوم بالتواتر

__________________

(١) ومثله ـ فائدة واستدراكا ـ ما صرّح به شيخنا العلاّمة المجلسي رحمه اللّه في بحار الأنوار ٣٩٩/٣٠ ـ ٤٠٠ ذيل قوله(تذنيب وتتميم) نذكره بنصه لمساسه بما هنا وكثرة فائدته.

قال طاب رمسه : إعلم ؛ أنّ طائفة من أهل الخلاف لمّا رأوا أنّ إنكار أهل البيت عليهم السلام على أئمتهم ومشايخهم حجّة قاطعة على بطلانهم ، ولم يقدروا على القدح في أهل البيت صلوات اللّه عليهم وردّ أخبارهم ـ لما تواتر بينهم من فضائلهم ، وما نزل في الكتاب الكريم من تفضيلهم ومدحهم ، حتّى صار وجوب مودّتهم وفرض ولايتهم من الضروريّات في دين الإسلام ـ اضطرّوا إلى القول بأنّهم عليهم السلام لم يقدحوا في الخلفاء ، ولم يذكروهم إلاّ بحسن الثناء ؛ كما ذكره التفتازاني في شرح المقاصد [٣٠٣/٥].

وربّما تمسّكوا بأخبار شاذّة موضوعة رووها عن النواصب ، ولا يخفى ـ على من له أدنى مسكة من العقل ـ أنّه لا يصلح أمثال تلك الروايات المعدودة الشاذّة ـ مع ظهور التقية فيها ـ لمعارضة ما تواتر عنهم عليهم السلام وروتها خواصّ أصحابهم وبطانتهم ، ولا يمكن صدور مثلها إلاّ عن صميم القلب بدون الخوف والتقية ، وأي ضرورة في أن ينسبوا إلى أئمتهم في زمان الخوف والتقية ما يصير سببا لتضرّرهم من المخالفين ، ولتضاعف خوفهم ، ووقوع الجرائم والقتل والنهب عليهم؟!ولم لم يمنعهم أئمتهم من تدوين أمثال ذلك في كتبهم في مدّة مديدة تزيد على ثلاثمائة سنة ، وأكثر تلك الكتب قد دوّنت في زمانهم؟ولم يتبرّؤوا منهم كما تبرّؤوا من الغلاة ؛ ك‌ : أبي الخطّاب وأضرابه؟

١١٩

والأخبار المحفوفة بالقرائن القطعيّة أنّه كان دأب قدماء أصحابنا المعاصرين للأئمّة عليهم السلام إلى زمان المحمّدين الثلاثة ، في مدّة تزيد على ثلاثمائة سنة ، ضبط الأحاديث وتدوينها في مجالس الأئمّة عليهم السلام .. وغيرها والمسارعة إلى إثبات ما يسمعونه ، خوفا من تطرّق السهو والنسيان ، وعرض ذلك عليهم ، وكانت هممهم

__________________

وهل هذا مثل أن يقال لم ير أحد من أصحاب الأئمّة الذين دوّنوا أسماءهم في رجال الشيعة أحدا من الأئمّة عليهم السلام ولم يسمعوا منه شيئا ، بل كانوا يفترون عليهم؟

أو يقال : لم يكن جماعة موسومون بتلك الأسامي ، بل وضعت الشيعة تلك الأسامي من غير أصل؟وتقول اليهود والنصارى لم يبعث رجل مسمّى ب‌ : محمّد! .. بأمثال تلك الخرافات؟

وبالجملة ؛ لا ريب في أنّ مذاهب الناس وعقائدهم إنّما يؤخذ من خواصهم وأحبّائهم دون المنحرفين عنهم والمنخرطين في سلك أعدائهم ، وهذا من أجلى الواضحات.

ولعمري!كيف لا يكذّبون أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك .. وأضرابهم فيما ينسبون إليهم ويكذّبون أصحاب أئمتنا عليهم السلام في ذلك؟!

وأعجب من ذلك أنّهم يعتمدون على اصولهم المشحونة بالأباطيل والأكاذيب المرويّة عن جماعة من المنافقين ظهر على الناس فسقهم وكذبهم ولا يلتفتون إلى ما يرويه أفاضل الشيعة في اصولهم مع كونهم معروفين بين الفريقين بالورع والزهد والصدق والديانة؟!

وهل هذا إلاّ لمحض العصبية والعناد؟! ..

إلى آخر ما أفاده طاب رمسه وخلّد الباري ذكره.

١٢٠