تنقيح المقال - ج ١

الشيخ عبد الله المامقاني

تنقيح المقال - ج ١

المؤلف:

الشيخ عبد الله المامقاني


المحقق: الشيخ محمّد رضا المامقاني
الموضوع : رجال الحديث
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-382-9
ISBN الدورة:
978-964-319-380-5

الصفحات: ٥٢٨

مبذولة على تأليف ما يعمل به الفرقة المحقّة ، وعرضه على الأئمّة عليهم السلام.

وقد صنّفوا الاصول الأربعمائة من أجوبتهم ، وما كانوا يستحلّون الرواية ما لم يجزموا بصحّتها ، وقد عرضوا على الصادق عليه السلام كتاب عبد اللّه بن علي الحلبي فاستحسنه ، وعلى العسكري عليه السلام كتاب يونس ابن عبد الرحمن ، والفضل بن شاذان فأثنى عليهما.

وكانوا يوقفون شيعتهم من أحوال الكذّابين ، ويأمرونهم بمجانبتهم ، وعرض ما يرد من جهتهم على الكتاب والسنة ، ويستبعد أنّ ثقاة أصحاب الأئمّة عليهم السلام إذا سمعوا من أئمّتهم مثل ذلك أن يستحلّوا بعد ذلك نقل ما لا يثقون بصحّته ، مع أنّ ما يظهر من بعض الأحاديث أنّ الأخبار التي يدسّونها إنّما كان من أحاديث الكفر والزندقة والإخبار بالغرائب .. ومن علم سيرة الأصحاب يعلم ما ذكر ، حتّى أنّهم شدّدوا الأمر في ذلك ، حتّى ربّما تجاوز الحدّ ، بل كانوا يجانبون الرجل بمجرّد التهمة بذلك ، كما وقع لأحمد بن محمّد بن عيسى مع البرقي وسهل بن زياد.

ومن الظاهر أنّه مع شهرة الأمر في معدودين لا يعتمد أحد ممّن اطّلع على أحوالهم على رواياتهم إلاّ بعد اقترانها بما يوجب صحّتها.

وقد نقل الصدوق رحمه اللّه في العيون (١) حديثا ، في سنده محمّد بن

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢١/٢ ـ ٢٢ ، والحديث صفحة : ٢٠ ـ ٢١ ، وقد أورده هنا نقلا بالمعنى.

١٢١

عبد اللّه المسمعي ، فقال : كان شيخنا أبو الوليد (١) يسيء (٢) الرأي فيه (٣) ، [راوي هذا الحديث] وإنّما أخرجنا (٤) هذا الخبر في هذا الكتاب ؛ لأنّه كان في كتاب الرحمة ، وقد قرأه عليهم فلم ينكروا (٥).

فانظر إلى شدّة احتياطهم في عدم نقل ما لا يثقون به ، وما كانوا يستحلّون الرواية بمجرّد الوجدان ، بل يروون ما روي لهم ، أما سمعت أنّ أيّوب بن نوح دفع دفترا إلى حمدويه فيه أحاديث محمّد بن سنان ، فقال [لنا] (٦) : إن شئتم أن تكتبوا ذلك فافعلوا ، فإنّي كتبت عن محمّد بن سنان ، ولكنّي لا أروي لكم عنه شيئا (٧) ، فإنّه قال قبل موته : كلّ ما حدّثتكم به لم يكن سماعا لي (٨) ..!

__________________

(١) كذا ، وفي المصدر : محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي اللّه عنه.

(٢) في العيون : سييء.

(٣) في المصدر : في محمّد بن عبد اللّه المسمعي.

(٤) في المصدر : وإنّما أخرجت.

(٥) في المصدر : وقد قرأته عليه فلم ينكره ورواه لي ..

(٦) ما بين المعقوفين مزيد من المصدر ، ولم يرد في بعض المصادر الناقلة عنه.

(٧) في الرجال : ولكن لا أروي لكم أنا عنه شيئا .. ولعلّ المصنف رحمه اللّه أخذه من نقد الرجال ٢٢٥/٤.

ولاحظ : رجال السيّد بحر العلوم ٢٥١/٣ و ٢٧٧ ، والتحرير الطاوسي : ٥٠٨ ..

(٥) كما جاء في رجال الكشي ـ اختيار معرفة الرجال ـ : ٥٠٦ [وفي طبعة ٧٩٥/٢] حديث ٩٧٧ ، نقلا بالمعنى.

١٢٢

مضافا إلى أنّ الثقة الضابط العالم إذا جمع كتابا في الأحاديث في زمان تكثر فيه القرائن ، بل يمكن تحصيل العلم غالبا ، سيّما مع وجود الاصول ـ المعتبرة المعروضة على المعصوم ـ المختلفة من أيدي الثقاة العدول ، ويريدون كونه مرجعا للناس ودستورا لهم ، ويقرب زمانهم من زمان الحجّة ، ويتمكّن من تمييز الصحيح عن الفاسد ، لا يجمع إلاّ ما ظهر له صحّته ، سيّما مع شدّة الكذّابين ، فوثاقة أرباب الكتب الأربعة .. وأضرابها وجلالتهم تقضي بعدم التقصير في ذلك. كيف ؛ والمؤرّخون الذين يؤلّفون كتابا في التاريخ ـ مع عدم ربطه بعمل أو حكم شرعي ، وعدم حظّ لهم من الوثاقة ـ لا يثبتون إلاّ بعد تثبّت وحصول ظنّ ، ولا ينقلون عن أيّ شخص أو كتاب كان!فما ظنّك بهؤلاء المشايخ العظام الذين هم أمناء الدين؟!ولو كانوا يأخذون الرواية من غير الكتب المعتبرة ، كيف يدلّسون ويشهدون بصحّة ما نقلوه وكونه حجّة بينهم وبين ربّهم؟!وإذا

__________________

وفي ذيله : لم يكن سماع ولا رواية إنّما وجدته .. وحكاه العلاّمة رحمه اللّه في رجاله : ٢٥١ في ترجمته برقم(١٧) [ومن طبعة : ٣٩٤] ، وزاد : ونقل عنه أشياء اخر ردية ذكرناها في كتابنا الكبير .. وعنه نقل الميرزا رحمه اللّه في خاتمة المستدرك ٨٤/٤.

وعلق العلاّمة المجلسي رحمه اللّه في بحار الأنوار ٧٦/١٠٧ عليه ـ بعد نقله ـ بقوله : .. ولذلك ضعفّوه وتركوا حديثه مع إيمانه واختصاصه بالأئمّة الثلاثة : أبي إبراهيم ، وأبي الحسن ، وأبي جعفر عليهم السلام ، وقبلوا أحاديث علي بن الحسن مع كفره.

١٢٣

انضمّ إلى ذلك شهادات جملة من الأساطين بصحّة تلك الأخبار ازداد الظنّ بالصحّة قوّة.

ألا ترى إلى قول الشهيد رحمه اللّه (١) أنّه : كتب من أجوبة مسائل أبي عبد اللّه عليه السلام أربعمائة مصنّف [لأربعمائة مصنّف] ، وأنّه دوّن من رجاله المعروفين أربعة آلاف رجل (٢). وكذلك مولانا الباقر عليه السلام .. ورجال باقي الأئمّة مشهورون.

وقول الشهيد الثاني رحمه اللّه في الدراية (٣) : قد كان استقرار الإماميّة (٤)على أربعمائة مصنّف [لأربعمائة مصنف] ، سمّوها : اصولا ، فكان عليها اعتمادهم ، فتداعت الحال إلى ذهاب معظمها ، ولخّصها جماعة في كتب خاصّة .. وأحسنها الأربعة المعروفة (٥) ..

__________________

(١) ذكرى الشيعة للشهيد الأوّل : ٦ [الطبعة الحجرية ، وفي المحقّقة ٥٩/١]. ونظيره في وصول الأخيار : ٤٠ ، والرواشح السماوية للسيد الداماد رحمه اللّه : ٩٨ ـ ٩٩ (الراشحة التاسعة والعشرون). انظر مستدرك رقم(٢٠٢)حول الاصول الأربعمائة في مستدركات المقباس ٢٢٣/٦ ـ ٢٢٦ ، وصفحة : ٢٣٢ ـ ٢٣٩ [المحقّقة].

(٢) ستأتي مصادره وما قبله مفصّلا.

(٣) الدراية : ١٧ [الرعاية : ٧٢ ـ ٧٣ باختلاف يسير ، ونقلا بالمعنى ، وعلق عليه صاحب الحدائق فيه ١٨/١ ـ ١٩]. وحكاه عنه السيّد الصدر في نهاية الدراية : ١٢١ ـ ١٢٢ من الطبعة المحقّقة.

(٤) في الرعاية : وكان قد استقرّ أمر المتقدّمين على ..

(٥) قال الشيخ المفيد رحمه اللّه في الإرشاد : ٢٨٩ (طبعة النجف : ٢٧١ ، وتحقيق مؤسسة ـ

١٢٤

__________________

ـ آل البيت ١٧٩/٢) : ..إنّ أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه عليه السلام من الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات فكانوا أربعة آلاف ..

وقال ابن شهراشوب في المناقب ٣٢٤/٢ ما نصه : .. ينقل عن الصادق عليه السلام من العلوم ما لم ينقل عن أحد ، وقد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة من الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات وكانوا أربعة آلاف رجل .. وحكاه في بحار الأنوار ٢٧/٤٧ عنه ، وجاء في سفينة البحار ٧١/٥.

وكذا الطبرسي في إعلام الورى : ٢٧٦ ـ ٢٧٧ [طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام ٥٣٥/١] ، قال : وإنّ أصحاب الحديث قد جمعوا أسامي الرواة عنه [أي الإمام الصادق عليه السلام] على اختلافهم في المقالات والديانات ، فكانوا أربعة آلاف رجل .. ثمّ زاد أنّه : صنّف من جواباته في المسائل أربعمائة كتاب معروفة وتسمّى : الاصول.

وقد تعرّضنا مسهبا في حواشي مقباس الهداية ٢٠٤/٢ .. وما بعدها [الطبعة المحقّقة الاولى] ، وأوائل الجزء الثالث منه لذلك.

هذا ؛ عدا الاصول المعتمدة والكتب المعوّل عليها وما حكموا بصحّته .. فكثيرة جدّا.

ومن هنا ذهب جمع من أعلامنا إلى ما ذكره المصنّف طاب ثراه ..ألا ترى إلى قول السيّد الصدر في نهاية الدراية : ١٣ : الحق أنّ التواتر اللفظي في أخبارنا غير عزيز ، لتدوين الاصول الأربعمائة وغيرها في أيامهم عليهم السلام .. وسبقه بتفصيل أكثر الشيخ ياسين في معين النبيه : ٧ (النسخة الخطية عندنا).

وانظر ما ذكره المحقّق قدّس سرّه في المعتبر : ٥ ـ الحجرية ـ : وما جاء به المولى الكني في توضيح المقال : ٤٧ ، والشهيد في الذكرى : ٦ ، والشيخ حسين العاملي في ـ

١٢٥

وقول صاحب المعالم (١) : إنّ أثر الإجازة بالنسبة إلى العمل إنّما يظهر حيث لا يكون متعلّقها معلوما بالتواتر ونحوه ككتب أخبارنا ؛ فإنّها متواترة إجمالا ، والعلم بصحّة مضامينها تفصيلا يستفاد من قرائن الأحوال ، ولا مدخل للإجازة فيها غالبا.

وقول البهائي رحمه اللّه في الوجيزة (٢) : إنّ جميع أحاديثنا ـ إلاّ ما ندر ـ ينتهي إلى أئمّتنا الأثني عشر عليهم السلام.

__________________

ـ وصول الأخيار : ٤٠ ، والمحقّق الداماد في الرواشح السماوية : ٩٨ ـ ٩٩ (الراشحة التاسعة والعشرين) ، وتعليقة الوحيد على منهج المقال : ٧ [الحجرية ، وفي ذيل رجال الخاقاني : ٣٤ ، ومدخل منهج المقال ١١٦/١ ـ ١٢٥ من الطبعة المحقّقة] ، والنراقي في شعب المقال : ٢٧ ، والدربندي في القواميس : ٧٣ ـ خطية ـ ، والشيخ ياسين في معين النبيه في بيان رجال من لا يحضره الفقيه ـ المقدمة الخامسة ـ : ١٥ ـ ١٦ [من النسخة الخطية عندنا] ، والسيد الأبطحي في تهذيب المقال ٨٩/١ .. وغيرهم في غيرها.

ولاحظ : مستدرك رقم(٢٠٢)و (٢٠٣)و (٢٠٥)حول الاصول الأربعمائة والأقوال فيها ، ومعنى الأصل ، واعتبار الاصول وأصحابها من مستدركات مقباس الهداية ٢٢١/٦ ـ ٢٢٧ ، وصفحة : ٢٣١ ـ ٢٣٢ [الطبعة المحقّقة الاولى].

(١) معالم الاصول : ٢١٢ ـ ٢١٣ (بحث الإجازة) [وفي الطبعة المحقّقة : ٤٣٧].

(٢) الوجيزة(في الدراية) : ١٥ (منشورات المكتبة الإسلامية الكبرى) ، وحكاه وما سبقه المحقّق البحراني في الحدائق الناضرة ١٩/١ ، وجاء في خاتمة وسائل الشيعة ٤٩/٢٠ [٢١٥/٣٠ من طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام].

١٢٦

وقول الفاضل التوني رحمه اللّه (١) : إنّ أحاديث الكتب الأربعة [أعني الكافي ، والفقيه ، والتهذيب ، والاستبصار] مأخوذة من اصول وكتب معتمدة معوّل عليها ، كان مدار العمل عليها عند الشيعة. وكان عدّة من الأئمّة عليهم السلام عالمين بأنّ شيعتهم يعملون بها في الأقطار والأمصار ، وكان مدار مقابلة (٢) الحديث وسماعه في زمان العسكريّين عليهما السلام ـ بل بعد زمان الصادقين عليهما السلام (٣) ـ على هذه الكتب.

..إلى غير ذلك من شهادات العلماء الثقاة.

وهل ترى من نفسك تجويز أن يكون الظنّ بصحّة تلك الأخبار ـ بعد هذه الشهادات مع شهادات مصنّفيها ـ أدون من الظنّ الحاصل من مراجعة علماء الرجال ..؟!

ثمّ لا تتوهّم عدم صحّة كتب المشايخ ، لمكان وجود المتعارضين ، ومخالف الإجماع ، بل الضرورة ، وكذا أنّ بعض المشايخ لم يعمل بما في كتاب بعض آخر ؛ وذلك لأنّ صحّة الأحاديث لا تنافي شيئا ممّا ذكر ؛ لأنّ المراد بالصحّة كونها مقطوع الصدور أو مظنونه ، ولا تنافي بين صدور المتعارضين في نظرنا ؛ لأنّ دواعي الاختلافات كانت كثيرة ، مع إمكان تأويلات لا تصل إليها عقولنا ، وعدم العمل قد يكون لظنّ عدم الدلالة أو

__________________

(١) الوافية : ٢٧٧.

(٢) هذا في المصدر ، وفي الأصل : معاملة ..

(٣) في المصدر المطبوع : الصادق عليه السلام.

١٢٧

وجود المعارض.

نعم ؛ القدماء الموجودون قبل زمان المحمّدين الثلاثة ربّما كانوا يحتاجون إلى معرفة حال الرواة ، لعدم انحصار الروايات حينئذ في المدوّنة ، ولم يكن الجميع منقّدا منسوبا إلى الثقاة ، بل كان متحمّلوا الروايات موجودين غالبا ، فكثيرا ما كانوا يحتاجون إليه.

والحاصل ؛ أنّ مقصودهم كان تحصيل القرينة والظنّ بصدق الخبر ، وكان حال الراوي أحد طرق الظنّ .. ثمّ لحق بهم قوم من القدماء وتكلّموا في شرائط العمل بالحديث من حيث هو حديث ، ولم يقصدوا أنّ ذلك لازم مطلقا حتّى في خبر يظنّ صدقه من قرينة اخرى.

ثمّ المتأخّرون عنهم الموجودون في زمان انقراض الرواة والكتب المجهولة أربابها رأوا طريقة القدماء في النظر إلى الرواة ، ولا حظوا كتب القوم وزبرهم ، ورأوا أنّهم ذكروا للخبر شرائط ، فزعموا أنّ ذلك في كلّ خبر وأيّ رواية ، ولم يتفطّنوا بأنّ مدارهم على الظنّ لا القطع ، وهو حاصل في الكتب المعتمدة ، كما عرفت.

هذا أحد الوجوه التي لفّقوها الجماعة المتقدّم ذكرهم لإثبات الغناء عن علم الرجال مع اختلافهم في التعبير.

فمنهم : من جعل ما ذكر برهانا لقطعيّة صدور أخبار الكتب الأربعة.

ومنهم : من جعله بعينه حجّة لظنّية صدورها.

١٢٨

وأنت خبير بأنّ ما ذكروه بطوله لا يوجب قطعيّة الصّدور بلا شبهة وإنّما تفيد ظنيّة صدورها ، ولا دليل على حجّية مثل هذا الظنّ ما لم يبلغ إلى حدّ الاطمئنان العقلائي ، ولا شبهة عند كلّ منصف متدبّر في كون علم الرجال من جملة الأسباب المفيدة للظنّ ، فما المانع من ضمّه إلى ما ذكروه ليورث الاطمئنان المبني عليه أساس العقلاء في أمور معاشهم ومعادهم؟

وأمّا التعلّق بشهادة من تقدّم نقل كلامه بصدور ما في الكتب الأربعة عن الأئمّة عليهم السلام ..

ففيه : ما أسبقناه من عدم اندراج ذلك في الشهادة الشرعيّة المصطلحة المأخوذ فيها حياة الشاهد ونطقه ، وكون شهادته عن حسّ ، وكون ما مرّ شهادة حدسيّة اجتهاديّة من غير حيّ ، فلا تكون حجّة من حيث هي شهادة.

نعم ؛ تفيد الظنّ ، ولا دليل على حجّية مطلق الظنّ ما لم يصل إلى حدّ الاطمئنان المعتمد للعقلاء ، وبعد كون المدار على الاطمئنان فلا مانع من كون علم الرجال من أسباب حصوله ، ككون كلّ من شهادة هؤلاء وشهادة أرباب الكتب أيضا من أسباب إيراث الاطمئنان ، بعد ما أسبقنا بيانه من عدم اندراج شهادة أرباب الكتب أيضا في الشهادة المصطلحة ، على أنّ نفس تصنيف الشيخ رحمه اللّه الذي له اثنان من الكتب الأربعة ـ الفهرست وغيره في الرجال ـ أقوى شاهد على الحاجة إلى علم الرجال ، وعدم إغناء كتابيه عنه.

١٢٩

مضافا إلى أنّ تضمّن تلك الكتب بعض الأخبار المتروكة بين جميع الأصحاب ـ حتّى مصنّف الكتاب ـ ممّا يوهن مدّعى هؤلاء ، وإلى أنّ صاحب الحدائق ـ الذي بالغ في مقدّمات الحدائق غاية المبالغة في حجّية شهادة أرباب الكتب الأربعة وأضرابها بصحّة ما رووه فيها ، وأنّهم لم يدرجوا إلاّ ما صحّ عندهم ، وهو حجّة عندهم ، وعليه عملهم ومذهبهم ـ قد صرّح فيما يزيد عن خمسين موضعا في طيّ أبواب الحدائق بأنّ الصدوق رحمه اللّه لم يف في طيّ الفقيه على ما وعد به في أوّل الكتاب ، فراجع تظفر (١).

وأشدّ غرابة ممّا في البيان المذكور ما في ذيله من نسبة الجهل والاشتباه إلى من تأخّر عن زمان انقراض الرواة ، حيث زعموا الحاجة إلى أحوال الرجال في كلّ خبر.

فإنّ فيه ؛ أنّ أهل كلّ طبقة من العلماء والمحدّثين من زمان الأئمّة عليهم السلام إلى زماننا هذا كانوا يحضرون عند المشايخ ، ويلقّن كلّ منهم حقيقة الحال لمن تلمّذ على يده ، فكيف يعقل ما نسب إليهم من الزّعم والاشتباه؟!إن هذا إلاّ سوء ظنّ بحملة الشرع ومشايخ المذهب (٢).

__________________

(١) وقد سلف منا قريبا ذكر بعض مواضعه في صفحة : ٦١.

(٢) وقد أورد عليه المولى ملا علي الكني في توضيح المقال : ٥٤ بوجوه خمسة ، فراجعها.

١٣٠

ثانيها : ما ذكره غير واحد منهم (١) ؛ من أنّ مقتضى الحكمة الربانيّة ، وشفقة الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم والأئمّة عليهم السلام أن لا يضيع من في أصلاب الرجال من الأمة ويتركوا حيارى يلتجؤون إلى التشبّث بظنون واهية وغيرها ، بل يمهّد لهم اصول معتبرة يعملون (٢) بها في الغيبة ، كما هو الواقع والمعلوم بالتتبّع في أحوالهم ، والتأمّل في الأحاديث الكثيرة الدالة على أنّهم أمروا أصحابهم بكتابة ما يسمعونه منهم وتأليفه ، والعمل به في الحضور والغيبة بالنصّ عليها ، بقولهم : سيأتي زمان لا يستأنسون إلاّ بكتبهم (٣) .. وفي الأحاديث الكثيرة الدالّة على اعتبار تلك الكتب ، والأمر بالعمل بها ، وعلى أنّها عرضت على الأئمّة عليهم السلام فمدحوها ومدحوا صاحبها.

__________________

(١) منهم الشيخ الحر العاملي في خاتمة وسائل الشيعة ٢٥١/٢٠ ـ ٢٥٢ وغيره ممّا مرّ أو سنوافيك بمصادره.

(٢) في الأصل : يعلمون.

(٣) روى السيّد ابن طاوس رحمه اللّه في كشف المحجة : ٣٥ ، بإسناده إلى أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : «أكتب!وبثّ علمك في إخوانك ، فإن متّ فورّث كتبك بنيك ، فإنّه يأتي على الناس زمان هرج ما يأنسون فيه إلاّ بكتبهم» ، ورواه عنه الشيخ النوري في مستدرك وسائل الشيعة ٢٩٢/١٧ حديث ٢١٣٨١ ، وجاء في مشكاة الأنوار : ١٤٢ ، ومنية المريد : ٣٤١ .. وغيرهما ، وما هنا نقلا بالمعنى ، كما لا يخفى.

وحكاه العلاّمة المجلسي في بحار الأنوار ١٥٠/٢ حديث ٢٧.

وانظر : اصول الكافي ٥٢/١ حديث ١١ باختلاف .. وعنه في وسائل الشيعة ٥٦/١٨ حديث ١٨ [طبعة مؤسسة آل البيت ٨١/٢٧ حديث(٣٣٢٦٣)].

١٣١

وقد نصّ المحقّق (١) بأنّ كتاب يونس بن عبد الرحمن وكتاب الفضل بن شاذان كانا عنده.

وذكر علماء الرجال أنّهما عرضا على الأئمّة عليهم السلام فما الظنّ بأرباب الأربعة (٢).

وقد صرّح الصدوق رحمه اللّه في مواضع (٣) بأنّ كتاب محمّد بن الحسن الصفار ـ المشتمل على مسائل وجوابات العسكري عليه السلام ـ كان عنده بخطّه الشريف ، وكذا كتاب عبد اللّه (٤) بن علي الحلبي المعروض على الصادق عليه السلام (٥).

ثمّ رأيناهم يرجّحون كثيرا ما حديثا مرويّا في غير الكتاب المعروض على الحديث الذي فيه. وهذا لا يتّجه إلاّ بأنّهم جازمون بكونه في الاعتبار وصحّة الصدور كالكتاب المعروض.

__________________

(١) وذلك في كتابه المعتبر : ٧ [الطبعة الحجرية ، وفي الطبعة المحقّقة ٢٣/١] ، وذكر هناك غير هذين من المتقدّمين وجمع من المتأخّرين من زمانه.

(٢) كذا ، ولعلّه : فما ظنك بأرباب الكتب الأربعة.

(٣) كما في من لا يحضره الفقيه ٦٦/٣ ذيل حديث ٣٣٤٨ ، حيث قال : وهذا التوقيع عندي بخطه عليه السلام ..أي بخط الإمام أبي محمّد الحسن بن علي عليهما السلام. ومثله فيه : ٢٠٣/٤ حديث ٥٤٧١ ، وحكاه عنه في وسائل الشيعة .. وغيرها.

(٤) كذا ، والصحيح : عبيد اللّه.

(٥) فاستحسنه ، وقال : «ليس لهؤلاء ـ يعني المخالفين ـ مثله» ، وحكاه عنه في بحار الأنوار ٣٢٨/ ٨٨. وأيضا في مستدرك وسائل الشيعة ١٤٨/٣ حديث ٣٢٣١ عن رسالة المواسعة والمضايقة لابن طاوس ، وكذا عنه فيه ٤٣١/٦ حديث ٧١٥٧.

١٣٢

ويقرب من ذلك ما ترى من الشيخ وغيره إلى زمان الاصطلاح والعمل بكثير ممّا هو ضعيف عليه ، وكثيرا ما يعتمدون على طرق ضعيفة مع تمكّنهم من طرق صحيحة ـ كما صرّح به صاحب المنتقى (١) .. وغيره ـ.

وهذا ظاهر في صحّة تلك الأخبار بوجوه اخر ، ودالّ على عدم العبرة بالاصطلاح الجديد.

وحصول العلم بقول الثقة ليس ببدع ولا منكر ، فقد نصّ صاحب المدارك (٢) وغيره على أنّه يتّفق كثيرا حصول العلم بالوقت من أذان الثقة الضابط العارف حيث لم يكن مانع من العلم ، وبمثله صرّح كثير من علمائنا في مواضع كثيرة.

هذا ؛ وأنت خبير بأنّ ما ذكره اعتبار صرف ؛ ضرورة أنّ الواجب على النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم والإمام عليه السلام بيان الأحكام على المتعارف ، فإذا عصت الأمّة وتسبّبت لغيبة الأئمّة عليهم السلام وقصور اليد عنهم ، لم يكن على الأئمّة عليهم السلام بحث ، بل كان وزر انقطاع اللّطف على السبب ، ولو كان ما ذكره من الاعتبار منتجا للزم الأئمّة عليهم السلام كتابة كتاب جامع لجميع الفروع الفقهيّة ، وأمر الشيعة بتدرّسه وتعلّمه ونسخه يدا بيد .. وحيث لم يفعلوا ذلك بآن عدم لزومه عليهم.

__________________

(١) منتقى الجمان ١٤/١ ، وصفحة : ٤١ .. وأشار لذلك في موارد اخر.

(٢) مدارك الأحكام ٢٩٩/٣ ، وانظر صفحة : ٩٨ في الاعتماد على أذان الثقة.

١٣٣

ومجرّد أمرهم بالكتابة والرواية لا يدلّ على القطع بصدور جميع ما في الكتب الأربعة عنهم عليهم السلام ، ومطلق الظنّ غير كاف مع إمكان بذل الوسع وايصاله إلى حدّ الاطمئنان المعتبر عند العقلاء ، ولا ريب في أنّ أحوال الرجال لها مدخل في إيصال الظنّ بالصدور في جملة من الأخبار إلى حدّ الاطمئنان.

مع أنّا لو تنزّلنا وسلّمنا الاطمئنان بصدور ما في الكتب الأربعة ، فمن الواضح عدم وفائها بجميع الأحكام ، فلا بدّ في سائر الأخبار ـ المحتاج إليها في الفقه ـ من مراجعة رجالها حتّى يحصل الاطمئنان بصدورها ليجوز الاعتماد عليها ، فإنكار الحاجة إلى علم الرجال وتخطئة جمّ غفير من الأساطين خطأ ظاهر عند أولي البصائر (١).

ثمّ إنّه لا يخفى عليك أنّي لم أعثر على من ذكر وجه عدم كتابة الأئمّة عليهم السلام كتابا جامعا للفروع جميعا يجعلونه مرجعا للشيعة في الأحكام في زمان الحضور وبعد الغيبة ..

والذي أظنّه ـ وإن كان ظنّي لا يغني من الحقّ شيئا ـ أنّ السر في ذلك هو أن يتداول بينهم الجدّ والجهد في تحصيل حكم اللّه تعالى بعد الغيبة الكبرى ، ليكون الجادّ في ذلك مأجورا في الآخرة ، ومرجعا للشيعة في الحوادث الواقعة ـ نظير الراعي للغنم ـ إذ لو كان الكتاب المذكور صادرا منهم

__________________

(١) هذا ؛ ولا ريب أنّ الرجوع إلى علماء الرجال من باب تحصيل الظن القائم مقام العلم الواجب عند التعذر .. لعلّه أمر واضح الرجحان.

١٣٤

عليهم السلام لما كان تحصيل الحكم الشرعي صعبا مستصعبا موجبا لعلوّ رتبة صاحبه ، ومورد ورد الشيعة ومئولهم (١) ، واللّه العالم بالأسرار وأولياؤه الأطهار عليهم صلوات اللّه الملك الجبار (٢).

ثالثها : إنّ شهادة مؤلّفي الكتب الأربعة بصحّة ما فيها من الأخبار ، وأنّهم أخذوها من الكتب المعتمدة والاصول المعتبرة التي إليها المرجع وعليها المعوّل يورثنا القطع العادي بصحّة تلك الأخبار ـ كعلمنا بأنّ الجبل لم ينقلب ذهبا ـ ولو لم يجز لنا قبول شهاداتهم في صحّة أحاديث كتبهم لما جاز لنا قبولها في مدح الرواة وتوثيقهم ، فلا يبقى حديث صحيح ولا حسن ولا موثّق ، بل تبقى جميع أخبارنا ضعيفة ، واللاّزم باطل ، فكذا الملزوم ، والملازمة ظاهرة ، بل الإخبار بالعدالة أشكل وأعظم وأولى بالاهتمام من الإخبار بنقل الحديث من الكتب المعتمدة ، فإنّ ذلك أمر محسوس ، والعدالة أمر خفي عقلي يعتبر الاطّلاع عليها (٣). ولا مفرّ لهم عن هذا الالتزام عند الإنصاف (٤).

__________________

(١) في الأصل : موئلهم.

(٢) ولعلّ السر هو وجود المحكم والمتشابه في الكتاب الكريم ، وهو كاف لدفع هذه الشبهة مع ما هناك من أسرار في خروج آدم من دار القرار ، وخلق الشيطان ، ونفس الأمّارة ، وهداية النجدين .. وغيرها ممّا يسوّغ خلق الجنّة والنار كي يظهر مصداقا لقوله عزّ من قائل : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) .. [سورة هود(١١) : ٧].

(٣) في الأصل : عليه ، والصحيح في العبارة : يعسر الاطلاع عليه.

(٤) كما أشار إليه في خاتمة وسائل الشيعة ٢٠ (٢)٢٥٧/ ـ ٢٦٢.

١٣٥

وأيضا ؛ فإنّ علماءنا الأجلاّء الثقات إذا جمعوا (١) أحاديث وشهدوا بثبوتها وصحتها ، لم يكن أدون من إخبارهم بأنّهم سمعوها من المعصومين عليهم السلام ، لظهور علمهم وصلاحهم وصدقهم وعدالتهم في أنّه مع إمكان العمل بالعلم لم يعملوا بغيره ، ففي الحقيقة هم ينقلونها عن المعصوم عليه السلام.

وقد وردت روايات كثيرة جدّا في الأمر بالرجوع إلى الرواة الثقات مطلقا إذا قالوا (٢) : إنّ الخبر من المعصوم .. وليس هذا من القياس ، بل عمل بالعموم.

وأيضا ؛ فإنّهم إن كانوا ثقاتا حين شهادتهم وجب قبولها ، لكونها عن محسوس ـ وهو النقل عن الكتب المعتمدة ـ وإلاّ كانت أحاديث كتبهم ضعيفة باصطلاحهم ، فكيف يعملون بها؟!.

هذا ؛ وأنت خبير بما فيه :

أوّلا : من منع شهادة مؤلّفي الكتب الأربعة بصحّة جميع ما فيها ، كما مرّ (٣) منّا وجهه في جواب العاشر من حجج المانعين للحاجة إلى علم الرجال ، وسنزيده وضوحا.

__________________

(١) كذا ؛ والظاهر : إذ جمعوا.

(٢) كذا ؛ والظاهر : إذ قالوا.

(٣) في صفحة : ١٠١ وما بعدها من هذا المجلّد في جواب الإشكال الحادي عشر ـ لا العاشر ـ.

١٣٦

وثانيا : من منع إفادة شهادتهم القطع ، وعدم اندراجها في الشهادة المصطلحة ـ كما مرّ غير مرّة ـ حتّى تندرج في أخبار اعتبار البيّنة تعبّدا. وإنّما غاية ما تفيده الشهادة المذكورة الظنّ ، وقد عرفت آنفا أنّ من تمكّن من ظنّ لا يجوز له العمل به مع تمكّنه من تحصيل ظنّ أقوى منه بالغ حدّ الاطمئنان ، ومن البيّن إيراث مراجعة علم الرجال قوّة الظنّ ، فالحاجة إليه واضحة.

وأمّا النقض ـ بقبول شهادتهم في حقّ الرجال وتوثيقهم لهم ـ فمردود ؛ بأنّ ذلك أيضا من باب الوثوق والاطمئنان ، ولذا لا يعتمد على ما لا يورث الاطمئنان منها أيضا.

وأمّا دعوى أنّ الناقل عن أصل من الاصول الأربعمائة ونحوها ناقل عن المعصوم عليه السلام نفسه ، فممنوعة ، وشتّان ما بين النقل عن المعصوم وبين النقل عمّن ينقل عن المعصوم عليه السلام ، ولذا تراهم يقدّمون عالي السند ـ وهو الذي وسائطه قليلة ـ على كثير الوسائط.

وأمّا التعلّق بأمرهم عليهم السلام بالرجوع إلى الرواة الثقاة .. فلا ينفع الخصم إن لم يضرّه ، من حيث إنّ مراجعة علم الرجال إنّما هي لإحراز الموضوع ـ وهو كون الخبر الذي يراد العمل به خبر ثقة ـ.

وأمّا ما في الذيل ؛ فيردّه ما مرّ من منع شهادتهم بصحّة كلّ ما نقلوه ، ولو سلم فلا مانع من مراجعة أحوال الرجال لتقوية الظنّ وإيصاله إلى حدّ الاطمئنان.

١٣٧

وبالجملة ؛ فعلى فرض تسليم شهادة الكليني رحمه اللّه بصحّة جميع ما في الكافي لا ينتج مطلب الخصم ، ولا يصحّح له قول : إنّ الظنّ الحاصل بواسطة الوثوق على أرباب الكتب يغنينا.

فإنّ فيه : أنّه في الجملة مقبول ، وأمّا بالنسبة إلى جميع الروايات المسطورة في الكتب المعتمدة ، وبالنسبة إلى جميع الأشخاص حتّى من جدّ واجتهد في الرجال وصار صاحب باع وسيعة ، وعثر على مطالب جديدة لم يسبقه فيها أحد ـ كالمحقّق الوحيد البهبهاني رحمه اللّه .. ونظرائه ممّن عثر على قرائن في الجرح والتعديل لم يتفطّن لها القدماء ، كما لا يخفى على من راجع فوائده الرجاليّة ـ .. فهل اقتصار مثله على قول الغير في التصحيح ، أو على مجرّد الاعتماد على المصنّف لكونه من أهل الثقة إلاّ تقليدا محرّما؟!.

بل الحقّ والإنصاف أنّ علم الرجال من العلوم الشريفة التي من لم يجتهد فيها كان مقلّدا ، يحرم على الغير أن يقلّده ؛ ضرورة أنّ المتبحّر فيه يحصل له من أسباب الاطمئنان بالخبر ما لا يحصل لغيره ، فغيره لا يكون مستفرغا للوسع حتّى يجوز للغير تقليده ، واللّه العالم.

رابعها : أنّ هذا الاصطلاح مستحدث من زمن العلاّمة وشيخه محمّد بن أحمد بن طاوس (١) ، كما هو معلوم لا ينكرونه ، وهو اجتهاد منهم وظنّ.

__________________

(١) كما ذكرناه ـ مع مصادره ـ في تعاليقنا على مقباس الهداية ١٣٧/١ ـ ١٤٢ [الطبعة المحقّقة الاولى].

١٣٨

فيرد عليه :

أوّلا : ما ورد في أحاديث الاستنباط والاجتهاد والظنّ المذكورة في كتاب القضاء وغيره من كتب الأخبار ، وهي مسألة اصوليّة ، فلا يجوز فيها التقليد ، ولا العمل بالظنّ اتّفاقا من الجميع ، وليس لهم دليل قطعي ، فلا يجوز العمل به.

وما يتخيّل من الإستدلال لهم ظنّي السند أو الدلالة أو كلاهما ، فكيف يجوز الإستدلال بظنّ على ظنّ؟!فإنّه دور ، مع قولهم عليهم السلام : «شرّ الأمور محدثاتها» (١).

__________________

(١) قد أورد هذا الحديث الشيخ المفيد رحمه اللّه في مجالسه : ١٢٣ ، وحكاه عنه في بحار الأنوار ٢٦٣/٢ حديث ١٢ ، وحديث ٣١ في صفحة : ٣٠١ منه ، وصفحة : ٣٠٩ حديث ٧٢ ، و ٢٥٦/١٦ حديث ٣٦ ، بإسناده عنهم عليهم السلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال : «فإن أصدق الحديث كتاب اللّه ، وأفضل الهدى هدى محمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة ..».

وجاء في تفسير القمي : ٢٦٦ ـ ٢٧٠ [الطبعة الحجرية ، وفي الطبعة الحروفية ٢٩٠/١] .. وبحار الأنوار ٢١١/٢١ ضمن حديث مفصّل ، وكذا ذيل حديث في الاختصاص : ٣٤٢ ، وفيه : ..«وخير الأمور عزائمها ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وأحسن الهدي هدي الأنبياء ..».

وأورده العلاّمة المجلسي في بحار الأنوار ١٣٣/٧٧ حديث ٤٣ ، والحر العاملي في وسائل الشيعة ٤٣٨/١١ حديث ١١ [تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام ١٧٥/١٦ ـ

١٣٩

وثانيا : أنّه مستلزم لضعف أكثر الأحاديث التي قد علم نقلها من الاصول المجمع عليها ؛ لأجل ضعف بعض رواتها أو جهالتهم أو عدم توثيقهم ، فيكون تدوينها عبثا ، بل محرّما ، وشهادتهم بصحّتها زورا وكذبا.

ويلزم بطلان الإجماع الذي علم دخول المعصوم عليه السلام فيه.

واللّوازم باطلة ، فكذا الملزوم ، بل مستلزم لضعف الأحاديث كلّها ؛ لأنّ الصحيح عندهم هو ما رواه العدل الضابط الإمامي في جميع الطبقات ، ولم ينصّوا على عدالة واحد من الرواة إلاّ نادرا ، وإنّما نصّوا على التوثيق ، وهو لا يستلزم العدالة قطعا ، بل بينهما عموم من وجه ،

__________________

ـ حديث ١١] .. وغيرها.

ولاحظ : بحار الأنوار ١٢٤/٧٧ ، و ١٧٦ ، و ٢٩٣ ، و ١٥٣/١٠٣ ، وشرح اصول الكافي ١٩٣/١١.

وفي بحار الأنوار ٢٦٤/٢ حديث ١٥ : عنه عليه السلام ، قال : «ما أحدثت بدعة إلاّ تركت بها سنة فاتقوا البدع ، وألزموا المهيع ، إنّ عوازم الأمور أفضلها ، وإنّ محدثاتها شرارها ..». وجاءت في وسائل الشيعة ٤٢٨/١١ حديث ١٦ [الطبعة الإسلامية ، وفي طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام ١٧٥/١٦ ـ ١٧٦ حديث ٢١٢٨٠] ، ووردت في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣٨/٢.

وفي حديث عن أبي الصباح ـ أسنده شيخنا الكليني في روضة الكافي ٨٠/٨ حديث ٣٩ ـ أنّه قال : سمعت كلاما يروى عن النبي صلّى اللّه عليه وآله ، وعن علي عليه السلام ، وعن ابن مسعود ؛ فعرضته على أبي عبد اللّه عليه السلام ، فقال : «هذا قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أعرفه ..» ، ومنها هذا الحديث : «شرّ الأمور محدثاتها».

١٤٠