الشيخ بهاء الدين محمّد بن حسين العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار البشير
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-8373-07-8
الصفحات: ٤٨٦
فصل
[في التفصّي عن التناقض المتبادر من الاستثناء]
قيل (١) : المراد ب : «عشرة» ، في : «له عشرة ، الّا ثلاثة» ، معناها.
وقيل (٢) : سبعة ؛ والّا ، قرينة التجوّز.
وقيل (٣) : لها اسمان : مفرد ومركب.
للاوّل : لزوم الاستغراق ، او التسلسل في : «شريت الجارية ، الّا نصفها». والقطع بارادة نصف كلّها ؛ فبطل الثاني. ولزوم الخروج عن قانون اللغة. وعود الضمير الى جزء الاسم ؛ فبطل الثالث ؛ فلا رابع ؛ فتعيّن الاوّل.
وللثاني : لزوم كذب ما هو صدق ؛ قطعا. ولا مناص عن ارادة احدهما ؛ لكنّ
__________________
(١) منتهى الوصول والامل / ١٢٢ ، نهاية الوصول الى علم الاصول / الورقة ٩٢ / ب ، تهذيب الوصول الى علم الاصول / ٤١.
(٢) البحر المحيط ٣ / ٢٩٤.
(٣) البحر المحيط ٣ / ٢٩٥.
الاقرار بسبعة.
وللثالث : بطلان الاوّلين (١) ـ بما مرّ ـ فتعيّن.
ويدفع بسبق (٢) الاخراج ، الاسناد. وفي المقام (٣) كلام طويل الذيل (٤).
______________________________________________________
قيل : اي : في التفصّي عن التناقض الّذي يتبادر من الاستثناء ؛ فانّه اثبات لشيء ضمنا ؛ ثمّ ، نفي له صريحا. (٥)
المراد بـ : «عشرة» : لمّا كان في هذا الكلام وامثاله تناقض ـ لتضمّنه اثبات الثلاثة في ضمن العشرة ؛ ثمّ ، نفيها ـ ارادوا رفع التناقض ؛ فاختلفوا على ثلاثة اقوال.
معناها : اي : مجموع الآحاد العشرة ؛ وحرف الاستثناء دلّ على اخراج الثلاثة عنها. والاسناد ، بعد الاخراج ؛ فلا تناقض ؛ لانّه انّما يعتبر اسناد الحكم الى المستثنى منه بعد اخراج المستثنى ، فلم يقع الاسناد الّا الى السبعة ؛ وليس في الكلام حكمان : احدهما : اثبات العشرة ؛ والآخر : نفي الثلاثة ؛ لتعارض الاثبات والنفي ؛ بل ، هو حكم بالاثبات ؛ لا غير ؛ وهو المختار عند المتأخّرين ك :
__________________
(١) و : الأوليّين.
(٢) ل : لسبق.
(٣) م ١ ، م ٢ ، و : فيه.
(٤) و ، د ، م ٢ : ـ طويل الذيل.
(٥) د ، م ١ : في التفصّي الّذي يتبادر الى الذهن من نحو قولنا : «له عندي عشرة ، الّا ثلاثة» ـ مثلا ـ اثبت الثلاثة ضمنا ؛ ثمّ ، نفيتها تصريحا.
«العلّامة» (١) قدسسره و «الحاجبيّ» (٢) ، و «العضديّ» (٣) وغيرهم (٤). وفيه بحث ستسمعه في آخر هذا البحث.
قيل : سبعة : هذا مذهب (٥) اكثر الاصوليّين (٦).
والّا ، قرينة التجوّز : من اطلاق الكلّ على جزء.
وقيل : لها : اي : للسبعة. هذا مذهب (٧) «القاضي ابو بكر» (٨).
مفرد : وهو : «سبعة».
ومركب : وهو : «عشرة ، الّا ثلاثة».
للاوّل : اي : للقول الاوّل ؛ لا للقائل الاوّل ؛ فلا سماجة في قوله : «فبطل الثاني» ، ولا في قوله : «فتعيّن الاوّل».
لزم الاستغراق او التسلسل : امّا الاستغراق : فاذا اريد بالجارية نصف كلّها ، فيلزم استثناء النصف من نفسه ؛ وامّا التسلسل : اذا اريد نصف ما وقع عليه الشراء. (٩)
__________________
(١) نهاية الوصول الى علم الاصول / الورقة ٩٢ / ب ، ٩٣ / الف ، تهذيب الوصول الى علم الاصول / ٤١.
(٢) منتهى الوصول والامل / ١٢٢.
(٣) شرح مختصر المنتهى ١ / ٢٥٥.
(٤) البحر المحيط ٣ / ٢٩٦.
(٥) ل ، م ١ : مذهب.
(٦) د : + وتبعهم صاحب المفتاح.
(٧) د : قول.
(٨) منتهى الوصول والامل / ١٢٢ ، شرح مختصر المنتهى ١ / ٢٥٥.
(٩) د ، م ١ : لانّه ان اراد بالجارية نصفها ، لزم الاستغراق ، ان اراد الّا نصف الجارية ؛ وان اراد ـ الّا نصف ما وقع عليه الشراء ، لزم التسلسل.
في : «شريت الجارية ، الّا نصفها» : والضمير في : «نصفها» يعود الى كلّ الجارية.
والقطع بارادة نصف كلّها : لا نصف نصفها.
فبطل الثاني : وهو : انّ المراد متعيّن بعد الثاني.
ولزوم الخروج عن قانون اللغة : اذ ليس في كلام العرب اسم مركّب من ثلاث كلمات من غير اضافة والجزء الاوّل منه معرب بحسب العوامل. نعم ؛ يوجد ذلك في الاضافة ؛ نحو التسمية ب : «ابي عبد الله» ؛ فيعرب الاوّل ؛ وفي غيرها ـ ك : «بعلبك» ـ فلا يتغيّر الاوّل ؛ وكذا : «تأبّط شرّا».
عبارة «الحاجبيّ» هكذا : «اذ لا تركيب (١) من ثلاثة ، ولا يعرب (٢) ، وهو غير مضاف» (٣). ولم يغيّرها «العضديّ» (٤). وفي كلامه اشارة الى تضمّن عبارة دليلين ؛ كما فهّمه «الابهريّ» (٥). وهو غير بعيد بان يراد : «لا تركيب من ثلاثة» تركيبا مزجيّا. وكلام «التفتازانيّ» (٦) يعطي وحدة الدليل. وظاهره يقتضي اسقاط لفظه ؛ لا من قول الماتن. ولا يعرب الّا بتكلّف تامّ.
وقد يقال : انّ الخروج عن قانون اللغة وعود الضمير الى جزء الاسم ، انّما
__________________
(١) م ١ : مركّب.
(٢) م ١ : معرب.
(٣) هذا ما نقله «العضديّ» في شرحه عن الحاجبيّ ؛ ولكن ، عبارته في منتهى الوصول والامل هكذا : «اذ ليس في كلامهم مركّب من ثلاثة ، ولا مركّب غير مضاف معرب». منتهى الوصول والامل / ١٢٢.
(٤) شرح مختصر المنتهى ١ / ٢٥٦ ـ ٢٥٥.
(٥) حاشية الابهريّ على شرح مختصر المنتهى / الورقة ٢٠٦ / ب.
(٦) حاشية سعد الدين التفتازانيّ على شرح مختصر المنتهى ٢ / ١٣٦ ـ ١٣٥.
يلزمان اذا جعلنا «عشرة ، الّا ثلاثة» علما للسبعة ، و «الجارية ، الّا نصفها» علما لنصف الجارية. وامّا اذا أردنا التعبير عن السبعة والنصف بعبارة اخرى مفيدة للمراد من غير تسمية ، فلا يلزم ذلك ؛ مثلا : اذا كان لزيد ولد ذو رأسين ، قلنا : ان تقول : «جاء زيد» ، وان تقول : «جاء الّذي لولده رأسان». فان كان مراد «القاضي» ما ذكرناه ، فالمحذوران مندفعان.
وفيه ما لا يخفى : فانّ المحذور الاصليّ ـ اعني : لزوم التناقض ـ يبقى بحاله ؛ والغرض دفعه.
وعود الضمير الى جزء الاسم : في : «شريت الجارية ، الّا نصفها» ؛ اذ المجموع اسم واحد ، والضمير فيه راجع الى بعضه ؛ اعني الجارية ؛ كذا قيل (١).
والحقّ : انّه ليس هنا مرجع ولا ضمير ؛ اذ كلّ منهما على تقدير التسمية ، لا يدلّ على شيء ؛ بل ، هو كاحد حروف «زيد». وبهذا يظهر بطلان ما قاله «العلّامة الشيرازيّ» (٢) من : انّا اذا سمّينا شخصا «زيد ابوه قائم» ، فانّ الضمير في «ابوه» يرجع الى «زيد» (٣). والممتنع : عود الضمير الّذي ليس جزأ من العلم ، الى جزئه ؛ امّا عود الجزء الى الجزء ، فجائز.
وبما تلوناه ، يظهر (٤) : انّه لا يرد على «القاضي» ارجاع الضمير الى بعض الاسم ؛ اذ ليس في ذلك المركّب ، الّا صورة الضمير ؛ لا غير.
__________________
(١) منتهى الوصول والامل / ١٢٢.
(٢) قطب الدين محمود بن مسعود الشيرازيّ. ولد سنة ٦٣٤ وتوفّي سنة ٧١٠ من الهجرة. له تصانيف ؛ منها : شرح منتهى السئول والامل ، فتح المنان في تفسير القرآن ، غرّة التاج ، شرح حكمة الاشراق.
(٣) شرح منتهى السئول والامل ٢ / الورقة ٤٣ / الف.
(٤) م ١ : + لك.
وللثاني : وهو القول ب : انّ المراد ، السبعة.
لزوم كذب ما هو صدق ؛ قطعا : كقوله ـ تعالى ـ : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ ، إِلَّا خَمْسِينَ عاماً)(١). فلا بدّ ان يراد بالالف : تسعمائة وخمسون ؛ اذ هو الواقع.
ولا مناص عن ارادة احدهما : دليل آخر للقول الثاني. حاصله : انّه امّا ان يراد كلّ العشرة ، او السبعة. والاوّل باطل للقطع بالاقرار بالسبعة ؛ فتعيّن الباقي.
لكنّ الاقرار بسبعة : فهي المراد ؛ لا غير.
ويدفع : اي : يدفع كلّ من دليلي القول الثاني والثالث.
في المقام كلام : هو انّ هذا يقتضي عدم لزوم شيء ، على من قال : «له عليّ شيء ، الّا خمسة». وهو ينافي ما هو الحقّ من انّ الاستثناء من النفي ، اثبات. ويلزم عدم افادة كلمة التوحيد ، [التوحيد] ؛ لتضمّنها اخراجه ـ سبحانه ـ من الالهيّة ؛ اوّلا ؛ ثمّ ، اسناد النفي الى الباقي. فلا يستفاد منها الّا نفي ما سواه ـ تعالى ـ من الالهيّة ؛ لا ثبوت الالهيّة له ـ جلّ شأنه ـ ؛ اذ ليس في الكلام حكمان ؛ كما مرّ في الحاشية. وقد اوردناه مع ما له وعليه في حواشينا على شرح «العضديّ» (٢). وقال «العلّامة» ـ طاب ثراه ـ في «النهاية» ـ وفاقا ل : «الحاجبيّ» (٣) ـ : «انّ الاستثناء على قول القاضي ، ليس تخصيصا [.....] وعلى ما قلنا محتمل» (٤) ؛ هذا كلامه ـ قدّس الله روحه ـ فتدبّر!
__________________
(١) العنكبوت / ١٤.
(٢) مع بذل جهدي ـ الى الآن ـ لم نعثر على نسخة منها.
(٣) منتهى الوصول والامل / ١٢٣.
(٤) نهاية الوصول الى علم الاصول / الورقة ٩٣ / الف.
فصل
[في الاستثناء بعد جمل بالواو]
الاستثناء بعد جمل بالواو ، «الشيخ» (١) والشافعيّة (٢) : للكلّ. الحنفيّة (٣) : للاخيرة.
«المرتضى» (٤) : بالاشتراك. «الغزّاليّ» (٥) : بالوقف ؛ واليه مرجع «الحاجبيّ» (٦).
للاوّل : صيرورتها كالمفرد. واستهجان التكرير.
ودفع بالمنع ، والهجنة للتطويل ؛ مع امكان : «الّا كذا» في الجميع.
وللثاني : لم يرجع الى الجلد في آية القذف (٧). والثانية كالسكوت.
ودفع بصرف الدليل. والكلّ كالواحدة.
__________________
(١) العدّة في اصول الفقه ١ / ٣٢١.
(٢) الاحكام في اصول الاحكام ٢ / ٣٢١ ، المنخول / ٢٣٥ ، المحصول ١ / ٤١٣.
(٣) الفصول في الاصول ١ / ١٤٠ ، اصول السرخسيّ ٢ / ٤٥ ـ ٤٤.
(٤) الذريعة الى اصول الشريعة ١ / ٢٤٩.
(٥) المستصفى ٢ / ١٧٨ ـ ١٧٧ ، المنخول / ٢٣٦.
(٦) منتهى الوصول والامل / ١٢٦.
(٧) النور / ٤.
وللثالث : حسن الاستفهام. واصالة الحقيقة.
ودفع برفع الاحتمال ومرجوحيّة الاشتراك.
______________________________________________________
الاستثناء بعد جمل بالواو : الخلاف غير مختصّ بالاستثناء ، ولا بالجمل ؛ بل ، واقع في الشرط والصفة والغاية وفي المفردات.
و (١) يتفرّع على ذلك فروع كثيرة ؛ كما لو قال : «وقفت على اولادي واولاد اولادي ، الّا الشعراء» ، وقال : «[وقفت] على اولادي واولاد اولادي المحتاجين» ، او «الى ان يستغنوا».
ولمّا كان الخلاف في الاستثناء بعد الجمل ، اشهر ، عقد الفصل له ؛ فقاس الشرط ، والصفة ، والغاية عليه في الفصل الآتي.
«الشيخ» والشافعيّة : للكلّ ؛ اي : لكلّ واحد من الجمل.
لا خلاف لاحد في جواز الرجوع الى الكلّ والى الاخيرة ؛ لكن ، اختلف الشافعيّة والحنفيّة في انّ : ايّ الامرين اظهر ، ليحمل الكلام عند عدم القرينة عليه؟ فهما قائلان باظهريّة احدهما (٢). و «المرتضى» (٣) و «الغزّاليّ» (٤) قائلان بتساويهما. فهما يوافقان الحنفيّة (٥) في الثبوت للاخيرة ؛ لكن ، بعدم (٦) ظهور شمول غيرها ؛ وهم
__________________
(١) د : ـ و.
(٢) المحصول ١ / ٤١٣ ، اصول السرخسيّ ٢ / ٤٤ ، المنخول / ٢٣٦ ـ ٢٣٥.
(٣) الذريعة الى اصول الشريعة ١ / ٢٥٠ ـ ٢٤٩.
(٤) المستصفى ٢ / ١٧٨ ـ ١٧٧ ، المنخول / ٢٣٦.
(٥) الفصول في الاصول ١ / ١٤٠ ، اصول السرخسيّ ٢ / ٤٤.
(٦) م ١ : لعدم.
بظهور (١) عدمه.
«المرتضى» : بالاشتراك : [و] هو حقيقة في كلّ من الامرين ؛ فلا يتميّز المراد ، الّا بالقرينة (٢).
بعض المحقّقين من (٣) شرّاح «التهذيب» (٤) ، اعترض في هذا المقام ب : انّا اذا جعلنا النزاع في الاظهريّة ـ كما قاله «العضديّ» (٥) ـ فلا وجه لدعوى الاشتراك.
وفيه نظر ؛ فانّ النزاع في الاظهريّة ، انّما هو بين الشافعيّة والحنفيّة (٦) ؛ و «المرتضى» (٧) يمنع الاظهريّة (٨).
و «الغزّاليّ» : بالوقف : بمعنى : انّا لا ندري انّه حقيقة في الكلّ ، او في الاخيرة فقط؟ فهو حقيقة في العود الى الكلّ والى الاخيرة ؛ فيتوقّف على القرينة. وهذا ليس مذهب «الغزّاليّ» ـ كما ظنّ ـ وان اشبهه (٩).
واليه مرجع «الحاجبيّ» : لانّ مذهبه : ان ظهر انقطاع الاخيرة عمّا قلبها
__________________
(١) م ١ : لظهور.
(٢) الذريعة الى اصول الشريعة ١ / ٢٥٠.
(٣) د : في.
(٤) شرح تهذيب الاصول / الورقة ٢٣٤ / الف.
(٥) شرح مختصر المنتهى ١ / ٢٦٠.
(٦) المحصول ١ / ٤١٣ ، اصول السرخسيّ ٢ / ٤٤ ، المنخول / ٢٣٦ ـ ٢٣٥.
(٧) الذريعة الى اصول الشريعة ١ / ٢٥١ ـ ٢٥٠.
(٨) م ١ : + فتدبّر!
(٩) انّ مذهب «الغزّاليّ» ، الوقف عند عدم القرينة. المستصفى ٢ / ١٧٨ ـ ١٧٧ ، المنخول / ٢٣٦.
بامارة (١) ، فللأخيرة ؛ وان ظهر الاتّصال ، فلكلّ ؛ وان لم يظهر احدهما ، فالوقف (٢). وهذا يرجع الى مذهب «الغزّاليّ» ؛ لانّه انّما يقول بالوقف عند عدم القرينة (٣).
اقتصر في نقل المذاهب على هذه الاربعة ولم يذكر مذهب «ابي الحسين» ؛ وهو التفصيل بانّه : ان ظهر الاضراب عن الاوّل ، فللأخيرة ؛ والّا ، فلكلّ ؛ لوقوع الاطناب في وجوه الاضراب (٤).
للاوّل صيرورتها كالمفرد : اي : صيرورة الجمل المتعاطفة في حكم المفرد.
واستهجان التكرير : اي : انّ العرب لمّا استهجنوا التكرير بنحو قولهم : «اكرم العلماء ، الّا الفسّاق! وجالس الشعراء ، الّا الفسّاق! وصاحب الاغنياء ، الّا الفسّاق!» ، اختصروا ذلك بقولهم : «اكرم العلماء ، وجالس الشعراء ، وصاحب الاغنياء ، الّا الفسّاق!».
وبيان ذلك : انّه : لو لم يكن هذا مختصر ذلك ، ولم يعدّ الاستثناء فيه الى الكلّ ، لم يكن مغنيا عن التكرار ؛ فلم يستهجن ذلك ؛ اذ لا طريق الى اداء ذلك المضمون ـ حينئذ ـ سواه ؛ فلا هجنة فيه ؛ اذ لا مندوحة عنه (٥) ؛ لكنّهم استهجنوه ، فعلم : انّ عنه مندوحة بهذا.
ودفع بالمنع : اي : المنع من صيرورتها كالمفرد ، ومن انّ العرب فرّوا من هجنة التكرار الى الاختصار. فيجوز ان لا يكون قولهم ـ ذلك ـ للاختصار ؛ بل ، لقصد العود الى الاخيرة ؛ وللاختصار طريق آخر.
__________________
(١) د : ـ بامارة.
(٢) منتهى الوصول والامل / ١٢٦.
(٣) المستصفى ٢ / ١٧٨ ـ ١٧٧ ، المنخول / ٢٣٦.
(٤) المعتمد ١ / ٢٤٦.
(٥) م ١ : فيه.
والهجنة : اي : الهجنة لمجموع هذين الامرين.
للتطويل : اي : ليست للتطويل مع وجود ما زعمهم انّه مندوحة ؛ بل ، مع وجود هذه المندوحة.
وبعبارة اخرى (١) : اي : مع انّه لنا عنه مندوحة اخرى سوى تلك ؛ بان يقول بعد الجمل : «الّا الفسّاق في الجميع».
في آية القذف : وهي قوله ـ تعالى ـ : «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ، ثُمَّ ، لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ، فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً! وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً! وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ، إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ، وَأَصْلَحُوا ؛ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢).
فالاستثناء واقع بعد ثلاث جمل : الامر بجلدهم ؛ والنهي عن قبول شهادتهم ؛ والاخبار بفسقهم. وهو لا يرجع الى جميع ؛ لانّ الجلد لا يسقط بالتوبة ؛ اتّفاقا. وقول «الشعبيّ» (٣) بسقوطه بها ، شاذّ لا يلتفت اليه.
والثانية كالسكوت : اي : الجملة الثانية في حكم السكوت عن الاوّل.
ودفع بصرف الدليل : جواب عن اوّل دليلي الحنفيّة. وتقريره : انّ الدليل صرف عن عود الاستثناء الى الجملة الاولى ؛ لانّ الجلد حقّ النّاس ، فلا يسقط بالتوبة (٤) ؛ فليس محلّ النزاع.
__________________
(١) ل : ـ وبعبارة اخرى.
(٢) النور / ٥ ـ ٤.
(٣) عامر بن شراحيل الشعبيّ. ولد سنة ١٩ وتوفّي سنة ١٠٣ من الهجرة.
(٤) اصول السرخسيّ ٢ / ٤٥.
فصل
[في الاستثناء من الاثبات والنفي]
الاستثناء من الاثبات ، نفي ؛ وبالعكس. الحنفيّة : المستثنى مسكوت عن نفيه واثباته (١).
لنا : النقل (٢). وكلمة التوحيد.
ودعوى (٣) : انّ افادتها له شرعيّة لا لغويّة ، باطلة. واخراج الطهور ليس من الصلاة. وللتقدير وجهان. وكذا في المنفيّ الاعمّ.
والتخصيص بالشرط ، والصفة ، والغاية ، كالاستثناء في كثير من الاحكام. وبالعقل شايع. وحجّة المانع واهية.
______________________________________________________
الاستثناء من الاثبات نفي ؛ وبالعكس : ممّا يتفرّع على ذلك : ما لو كان لزيد عبيد ، بعضهم عرب وبعضهم أتراك ، فقال لعمرو : «بعتك عبدي هكذا» فعلّمهم لسان العرب ، فهل هذا موجب التخصيص ، العبيد الّذي وقع عند البيع عليهم ،
__________________
(١) اصول السرخسيّ ٢ / ٣٨ ـ ٣٦ ، فواتح الرحموت ١ / ٣٢٧.
(٢) مغني اللبيب ١ / ٩٨ ، نهاية الوصول الى علم الاصول / الورقة ٩٣ / الف.
(٣) فواتح الرحموت ١ / ٣٢٧.
بالاتراك ، ام لا؟
[و] ممّا يتفرّع على هذا الاصل : ما لو حلف : ان لا يأكل الّا هذا الرغيف ـ مثلا ـ فهل عليه اكله ، ام لا؟
الحنفيّة : و (١) المشهور : انّ الحنفيّة يوافقون (٢) في الشقّ الاوّل. وانّما يخالفون (٣) في العكس فقط (٤). ويفهم من كلام بعضهم : انّهم مخالفون في الشقّين ـ مقابل عباراتهم في كتبهم الاصوليّة تنادي بذلك ـ حيث قالوا : انّ قول النحاة : الاستثناء من النفي ، اثبات ؛ وبالعكس مجاز (٥). والمراد : انّه لم يحكم على المستثنى بحكم الصدر ؛ لا انّه يحكم عليه بنقيضه. ولعلّ المذهب الاوّل ، مذهب قدمائهم ، والثاني مذهب متأخّريهم (٦). وعبارتنا (٧) في هذا الكتاب يمكن تنزيلها على (٨) كلّ من المذهبين ؛ كما لا يخفى.
المستثنى مسكوت عن نفيه واثباته : احتجّ في «التنقيح» (٩) على ذلك بقوله ـ تعالى ـ : (ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً ، إِلَّا خَطَأً). (١٠) اذ لو كان المراد من
__________________
(١) م ١ : ـ و.
(٢) م ١ : موافقون.
(٣) م ١ : مخالفون.
(٤) اصول السرخسيّ ٢ / ٣٦ ، فواتح الرحموت ١ / ٣٢٧ ، المحصول ١ / ٤١١.
(٥) اصول السرخسيّ ٢ / ٤١.
(٦) فواتح الرحموت ١ / ٣٢٧.
(٧) م ١ : عبارتي.
(٨) م ١ : في.
(٩) التنقيح ٢ / ٥٣.
(١٠) النساء / ٩٢.
النفي ، اثباتا ، لكان المعنى : «له ان يقتله خطأ» ؛ وكيف يأذن الشارع في قتل الخطأ؟!
والجواب : تارة ، نمنع (١) اتّصال الاستثناء ؛ واخرى ، بانّ معنى «له ان يقتله خطأ» رفع (٢) الحرج ـ وهو اعمّ من الاذن ـ كما في المكره ؛ مثلا.
سلّمنا ؛ لكنّ عدم جواز الاذن في الصورة المحمولة عليها الآية ، ممنوع ؛ لانّ التقدير ـ كما ذكرناه «العلّامة» (طاب ثراه) في «النهاية» (٣) ـ : ما كان لمؤمن ان يقتل مؤمنا ؛ الّا ، اذا اخطأ وظنّ انّه ليس مؤمنا ؛ امّا باختلاطه بالكفار ، فيظنّه منهم ، او برؤيته من بعد ، فيظنّه صيدا.
وهنا جواب آخر ؛ وهو : انّ «ما كان لمؤمن» ليس معناه : ما جاز له ـ كما ظننتم ـ [و] لم لا يجوز ان يكون المعنى : ما وجد ، او ما ثبت ، او ما تحقّق لمؤمن؟ ولا يلزم ـ حينئذ ـ ما ذكرتم.
لنا : النقل : عن اهل اللغة والنحاة (٤).
وكلمة التوحيد : فانّها انّما تفيد التوحيد ، اذا اثبت الالهيّة له ـ تعالى ـ بعد نفيها عن غيره.
وبالعقل شايع : ومنه : قوله ـ تعالى ـ : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)(٥). فالعقل يخصّصه عند المعتزلة : بغير افعالنا ؛ وعند الكلّ : بغير القديم ؛ تعالى (٦).
__________________
(١) م ١ : بمنع.
(٢) م ١ : لرفع.
(٣) نهاية الوصول الى علم الاصول / الورقة ٩٣ / الف.
(٤) مغني اللبيب ١ / ٩٨.
(٥) الرعد / ١٦.
(٦) كشف المراد / ٣٣٣.
فصل
[في عامّ يرجع ضميره الى بعض ما يناوله]
قيل : الضمير في مثل قوله ـ تعالى ـ : (وَبُعُولَتُهُنَّ)(١) مخصّص. ومنعه «الشيخ» (٢) ، و «الحاجبيّ» (٣). ول : «العلّامة» (٤) قولان. و «المرتضى» (٥) ، و «المحقّق» (٦) بالوقف ؛ وهو اسلم.
للاوّل : مخالفة الضمير مرجعه.
وللثاني : مجازيّة لفظ ، لا تستلزم مجازيّة آخر.
لنا : تعارض المجازين بلا مرجّح. والاستخدام شايع.
__________________
(١) البقرة / ٢٢٨.
(٢) العدّة في اصول الفقه ١ / ٣٨٥.
(٣) منتهى الوصول والامل / ١٣٣.
(٤) ذهب في نهاية الوصول الى علم الاصول / الورقة ١٠٧ / الف ، الى وجوب التخصيص ؛ وفي تهذيب الوصول الى علم الاصول / ٤٧ ، الى الوقف.
(٥) الذريعة الى اصول الشريعة ١ / ٣٠٣.
(٦) معارج الاصول / ١٠٠.
قيل : الضمير في مثل قوله ـ تعالى ـ : (وَبُعُولَتُهُنَّ) : والمراد : كلّ عامّ يرجع ضميره الى بعض ما يناوله.
والآية الكريمة هكذا : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ. وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ ؛ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ)(١).
مخصّص : صرّح «الحاجبيّ» (٢) بـ : انّ القائل بذلك «امام الحرمين» (٣) و «ابو الحسين البصريّ» (٤). ووافقهما «العلّامة» في «النهاية» (٥) ، وخالفهما في «التهذيب» ، (٦) فقال فيه بالوقف ؛ وفاقا ل : «الفخريّ» في «المحصول» (٧). وذكر «الآمديّ» (٨) : انّ «امام الحرمين» و «أبا الحسين» قائلان بالوقف. ونسب «العلّامة» في «النهاية» (٩) القول بالوقف اليهما ـ ايضا ـ فالظاهر : انّ «الحاجبيّ» وافقه (١٠).
ولـ : «العلّامة» قولان : اي : في الاستدلال على مطلبين : اوّلهما : انّ الحمل بيان ؛
__________________
(١) البقرة / ٢٢٨.
(٢) منتهى الوصول والامل / ١٣٣.
(٣) التلخيص ٢ / ٩٦.
(٤) وقد سها «الحاجبيّ» في نسبة التخصيص الى «ابو الحسين البصريّ» ؛ لانّه قد مال الى التوقّف ؛ لا التخصيص. المعتمد ١ / ٢٨٤.
(٥) نهاية الوصول الى علم الاصول / الورقة ١٠٧ / الف.
(٦) تهذيب الوصول الى علم الاصول / ٤٧.
(٧) المحصول ١ / ٤٥٦.
(٨) الاحكام في اصول الاحكام ٢ / ٣٦٠.
(٩) نهاية الوصول الى علم الاصول / الورقة ١٠٧ / الف.
(١٠) منتهى الوصول والامل / ١٣٣.
لا نسخ. وثانيهما : انّ الواجب حمل المطلق على المقيّد ؛ لا العكس.
للاوّل : مخالفة الضمير مرجعه : اي : انّ عدم التخصيص يوجب المخالفة المذكورة ، ومع التخصيص لا مخالفة ؛ لانّ المراد بالمطلّقات ، الرجعيّات [و] لا تشتمل البائنات ؛ فوجب تخصيص التربّص بالرجعيّات.
بالوقف : فيما يراد به ، غير ظاهرة. وهنا مذاهب [اخرى] ؛ تركنا التعرّض لها.
المطلب الثالث :
في المطلق والمقيّد.
المطلق : ما دلّ على شايع في جنسه ؛ والمقيّد : بخلافه.
فان اختلف حكمهما ، فلا حمل مطلقا ، اجماعا ؛ الّا ، مع التوقّف ؛ والّا ، فان اتّحد موجبهما مثبتين ، حمل مطلقا ، اجماعا ؛ بيانا ، لا نسخا.
وقيل (١) : به ؛ إن تأخّر المقيّد.
لنا : الجمع اولى. ويقين البراءة. ويرجع الى التخصيص.
ومنفيّين يعمل بهما اجماعا.
وان اختلف ، فهم مختلفون في الحمل ؛ ونحن متّفقون على منعه.
______________________________________________________
في المطلق والمقيّد : قد فرّعوا على حمل المطلق على المقيّد ، عدم الاكتفاء في التيمّم بوضع اليدين على الصعيد ؛ بل ، لا بد من الضرب ؛ لوروده في بعض
__________________
(١) فواتح الرحموت ١ / ٣٦٢.
الاخبار (١) ؛ فيحمل اخبار الوضع ، عليه (٢).
وهكذا عدم الاكتفاء في الاستنجاء بمطلق المسحات ؛ ولو بماسح ذي جهات ؛ لورود ثلاثة احجار (٣) ؛ فيحمل المسحات عليها.
وقد فرّعوا على ذلك ـ ايضا ـ : ما لو اوصى لزيد بمائة درهم ، ثمّ ، اوصى بهذه المائة ؛ فيحمل المطلق على المقيّد.
المطلق : ما دل على شايع في جنسه : قال «الفخريّ» في «المحصول» (٤) : «اللفظ الدالّ على الحقيقة من حيث هي هي ـ من غير ان يكون فيها دلالة على شيء من قيود تلك الحقيقة سلبا ، او ايجابا ـ هو المطلق». و «البيضاويّ» في «المنهاج» (٥) موافق له ؛ لكنّ الاظهر : انّ المطلق حصّة محتملة لحصص كثيرة ممّا يندرج تحت امر مشترك ؛ كما صرّح به «العضديّ» (٦) وبيّنته في الحواشي الّتي علّقتها على شرحه (٧).
والمقيّد : اي : ما دلّ على غير شايع في جنسه ؛ سواء كانت دلالته عليه بأصل الوضع ـ ك : الاعلام ونحوها ـ او بضمّ ضميمة ؛ نحو : (رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ)(٨).
__________________
(١) وسائل الشيعة ٢ / ٩٧٦ ب ١١ ح ١ ، ٣ ، ٩٧٧ ح ٦ ، ٧ ، ٩ ، ٩٧٨ ب ١٢ ح ٢ ، ٣ ، ٤ ، ٩٧٩ ح ٥.
(٢) وسائل الشيعة ٢ / ٩٧٦ ب ١١ ح ٢ ، ٤ ، ٩٧٧ ح ٥ ، ٨.
(٣) وسائل الشيعة ١ / ٢٤٦ ب ٣٠ ح ١ ، ٣ ، ٤.
(٤) المحصول ١ / ٤٥٨.
(٥) منهاج الوصول / ٤٣٢.
(٦) شرح مختصر المنتهى ٢ / ٢٨٤.
(٧) مع بذل جهدي ـ الى الآن ـ لم نعثر على نسخة منها.
(٨) النساء / ٩٢.
وقال «العلّامة» في «النهاية» (١) : «انّ (٢) المقيّد يقال (٣) لمعنيين :
الاوّل : ما كان دالّا على معيّن ؛ ك : زيد ، وهذا الرجل.
والثاني : ما كان [من الالفاظ] دالّا على وصف مدلوله المطلق ، بوصف زائد (٤) ؛ كقولنا : ثوب مصريّ ؛ [وهذا ، وإن كان مطلقا في جنسه من حيث هو ثوب مصريّ ، الّا ، انّه مقيّد بالنسبة الى مطلق الثوب]».
فان اختلف حكمهما : نحو : «اكرم تقيّا» ، «جالس تقيّا عالما».
فلا حمل مطلقا ، اجماعا : سواء كان الحكمان أمرين ، او نهيين ، او مختلفين. سواء اتّحد الموجب ، او اختلف. وهذا التعميم والاجماع مذكوران في اكثر [كتب] الاصول (٥) ؛ لكن في بعضها (٦) : انّ اكثر الشافعيّة قائلون بالحمل ؛ إن اتّحد الموجب. فحملوا اليد في التيمّم على ما آخرها المرفق ، لتقييدها به في الوضوء ، واتّحاد الموجب ؛ وهو الحدث (٧).
الّا مع التوقّف : نحو : «اعتق في الظهار رقبة» ، [و] «لا تملك رقبة كافرة» ؛ فتحمل رقبة الظهار على المؤمنة ، لتوقّف العتق على الملك ؛ وان كان الحكمان
__________________
(١) نهاية الوصول الى علم الاصول / الورقة ١٠٨ / ب ، ١٠٩ / الف.
(٢) في المصدر : امّا.
(٣) في المصدر : فيقال.
(٤) في المصدر : تصفه زائدة.
(٥) العدّة في اصول الفقه ١ / ٣٣٠ ، الذريعة الى اصول الشريعة ١ / ٢٧٥ ، معارج الاصول / ٩١ ، تهذيب الوصول الى علم الاصول / ٤٨ ، المحصول ١ / ٤٥٧ ، الاحكام في اصول الاحكام ٣ / ٦ ، روضة الناظر ٢ / ١٠٨ ، منتهى الوصول والامل / ١٣٥ ، البحر المحيط ٣ / ٤١٦.
(٦) فواتح الرحموت ١ / ٣٦١ ، البحر المحيط ٣ / ٤٢٠ ، ٤٢٥.
(٧) الامّ ١ / ٤٩.