زبدة الأصول مع حواشي المصنّف عليه - المقدمة

زبدة الأصول مع حواشي المصنّف عليه - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٦

١
٢

٣
٤

الاهداء

الى رياحين الجنّة :

سيّدة نساء العالمين ،

عقيلة بني هاشم ،

كريمة اهل البيت [ع].

٥
٦

مقدّمة التحقيق

٧
٨

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على «فاطمة» وابيها ، وبعلها وبنيها ، والسرّ المستودع فيها.

امّا بعد ؛ فقد وضعت هذه المقدّمة ، شطرين : شطر مع المصنّف ، وشطر مع الكتاب ؛ كما يلي :

٩
١٠

مع المصنّف

العصر والبيئة.

الف) البيئة السياسيّة.

ولد «اسماعيل بن حيدر» سنة ٨٩٢ ه‍ ق ، وبدأ حكمه سنة ٩٠٧ ه‍ ق. احتلّ «آذربيجان» عام ٩٠٧ ه‍ ق ؛ ودخل «تبريز» ، واعلنها عاصمة له ؛ واسّس الدولة الصفويّة في «ايران» سنة ٩٠٨ ه‍ ق ؛ واعلن المذهب الشيعىّ ، مذهبا رسميّا.

انّ الصفويّين اعتبروا نفوسهم حامية المذهب الشيعيّ ، وكانوا يريدون ان يضفوا على شهرتهم ومحبّة اتباعهم لهم شيئا من التقديس. ادّعوا انّهم سادة ؛ يعودون بنسبهم الى اهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ لذلك كان «اسماعيل الصفويّ» حثيثا للوصول الى العتبات المقدّسة في «العراق» ؛ ولذلك وجّه جيشا الى بلاده ، وبعد سيطرته على «بغداد» ، اصبحت «كربلا» و «النجف» تحت سلطته وامتدّت الدولة الصفويّة ـ في عهده ـ من نهر «فرات» الى «افغانستان».

انّ اهمّ ما يميّز تأريخ «ايران» قبل تأسيس الدولة الصفويّة ، وجود دويلات متعدّدة ، وحكومات محلّيّة مستقلّة ، وبسط نفوذ الدولة المجاورة ل : «ايران» على هذه الارض ، واضطرابات الداخليّة والنزعات الدامية. هنا تكمن اهمّيّة الدور الّذي اضطلع «اسماعيل

١١

الصفويّ» بان يقوم به ، من الارتفاع ببلاد «ايران» من شعوب عرقيّة متصارعة الى دولة واحدة على اساس المذهب. هذا التوحيد في المذهب ، اوجد رابطا مشتركا بين الاقوام الايرانيّين ، ووحّد البلاد عاطفيّا ، وسياسيّا ، واجتماعيّا ، وعسكريّا ـ بخاصّة في حروبها ـ سواء في عهده ، او في عهد خلفائه ؛ كما استطاع ان يوجد دولة ذات نظام ومؤسّسات في «ايران» ؛ استمرّت بعده مائتي سنة ، وتعدّ من اهمّ الادوار في تأريخ «ايران» بعد الاسلام.

في مجاورة «ايران» يرى «سليم العثمانيّ» ـ وهو اقلّ وعيا ، اقلّ تديّنا ، واكثر تعصّبا وبأسا وطموحا وحبّا للجاه والسيطرة ـ بنفسه انّ انتصارات «اسماعيل الصفويّ» على اوزبك والاعداء الآخرين ، قد اوجدت سدّا منيعا امام توسّع الدولة العثمانيّة ، وامام طموحه الى ان يكون خليفة المسلمين ؛ لذلك صمّم «سليم العثمانيّ» على حرب «اسماعيل الصفويّ» وجاءته الخصومة المذهبيّة ، ذريعة تلائم ميله الى الحرب ، وحبّ التوسّع ، وتلائم اخلاقه العدوانيّة. واستغلّ ما نقله الفارّون من «ايران» ، والمهاجرون من اهل السنّة الى اراضي الدولة العثمانيّة ، وذكرهم لتعدّيات «اسماعيل الصفويّ» والقزلباش ؛ فاستحصل على فتوى من بعض فقهائه تعدّ الشيعة خارجين على الدين الاسلاميّ ، وتقرّ وجوب محاربتهم وقتلهم ؛ لذلك امر بقتل كلّ من كان معروفا بالتشيع داخل بلاده ، وهيّأ جيشا قويّا لمحاربة «اسماعيل الصفويّ» ؛ فاوقع الهزيمة ب : «اسماعيل الصفويّ» عند وادي «چالدران» في رجب سنة ٩٢٠ ه‍ ق ؛ ثمّ ، تقدّم الى عاصمة «تبريز» واستولى على خزائن «اسماعيل الصفويّ» وارسلها الى «القسطنطينيّة» ؛ ثمّ ، قرّر القضاء على دولة المماليك ، فاحرز في معركة «مرج دابق» ٢٥ رجب المرجب سنة ٩٢٢ ه‍ ق ، نصرا حاسما على قانصوه الغوريّ. وبعد موقعة «مرج دابق» دخلت «سوريّة» تحت حكمه. و «جبل عامل» ـ الّذي هو جزء من بلاد «الشام» ـ وقع عليه هذا الحدث بثقله ؛ فاصابه من الشرّ ، اكثر ممّا اصاب بلاد «الشام» الاخرى ؛ لانّ اهله كانوا ـ بنظر العثمانيّين ـ متّهمين بميولهم الى الدولة الصفويّة ؛ عدوة العثمانيّين.

توفّي «اسماعيل الاوّل» سنة ٩٣١ ه‍ ق ؛ فانتقل الحكم الى ابنه «طهماسب» الّذي كان

١٢

في العاشرة من عمره. تميّز عهد «طهماسب» ـ الّذي طال ٥٢ عاما ـ بالحروب المتواصلة ضد العثمانيّين في الغرب ، والاوزبك المتعصّبين في الشرق. وقد شنّ هؤلاء على «ايران» اكثر من سبع حملات متواصلة. كان من نصيب «هرات» و «مشهد» المقدّسة ـ ان تعانيا منها ـ اكثر من ايّ مدينة اخرى.

نقل «طهماسب الصفويّ» العاصمة الى داخل البلاد ، بعيدا من قبضة العثمانيّين ، متّخذا مدينة «قزوين» عاصمة جديدة له. كان يجلّ العلماء ويحترمهم ؛ ولذلك كان لا يألو جهدا في تشجيع العلماء الاعلام وترغيبهم في الذهاب الى «ايران» والعيش فيها. وفي عهده ، هاجر عدد من علماء «النجف» و «كرك نوح» و «جبل عامل» الى «ايران» ؛ وكان من بينهم «الشيخ حسين بن عبد الصمد» ؛ والد «الشيخ البهائيّ».

ولمّا توفّي «طهماسب» ـ الّذي كان محتالا وسواسا ـ تولّى ابنه «حيدر» الّذي قتل بعد بضع ساعات قبل دفن ابيه ودفنا معا ؛ ثمّ ، تولّى «اسماعيل الثاني» ـ الّذي كان ابوه قد سجنه في قلعة «قهقهة» ـ بمساندة بعض طوائف القزلباش ؛ ثمّ ، اقدم على الفتك بكلّ من نازعه السلطة من اخوته ، وابناء اخوته ، ومن ساعدهم من زعماء القزلباش ؛ عدا اخيه الضرير «محمّد خدابنده» وابنه «عبّاس» الّذي نجا من الموت باعجوبة.

منذ ان تسلم «اسماعيل الثاني» ، الحكم ، تحوّلت العلاقة بين ابناء البيت الصفويّ ، الى علاقة عداء ، وتوجّس ، وخفية ؛ كما اصبح «اسماعيل الثاني» لعبة في ايدي القزلباش ، يوجّهونه وفق اهوائهم. تميّز «اسماعيل الثاني» باختلال في العقل ، والحمق ، ومعاقرة الخمر والظلم ؛ وكانت مدّة حكمه مليئة بالمآسي.

بعد اغتيال «اسماعيل الثاني» سنة ٩٨٥ ه‍ ق ، لم يكن من أبناء بيت الحاكم الصفويّ على قيد الحياة ، الّا اخوه الضرير «محمّد خدابنده» ؛ وكان ضعيف الرأي وسفّاكا. كثرت الفتن والشرور في عهده ، واخذت «ايران» انحدرت في الوهن. وقد اغتنم اعداء الدولة الصفويّة ضعف «محمّد خدابنده» ، وهاجموا البلاد من الشرق والغرب ؛ فوقع قسم مهمّ من «آذربايجان» بيد «مراد ثالث العثمانيّ» ، وظلّلت «خراسان» زمنا طويلا مسرحا لهجمات

١٣

الاوزبك وتعدّياتهم. وامام ضعف شخصيّة «محمّد خدابنده» بدأ دور أميرات البيت الصفويّ في الظهور على مسرح الاحداث. فقد حاولت «پري خان خانم» ـ الّتي شاركت القزلباشيّة في اغتيال اخيها «اسماعيل الثاني» ـ ان تجعل من اخيها «محمّد خدابنده» واجهة تختفي وراءها ممّا أثار غيرة زوجته «مهد عليا» والدة «عبّاس الصفويّ» الّتي تآمرت عليها. وبعد قتل «پري خان خانم» بدأت «مهد عليا» تفرض سلطتها وجبروتها على كلّ رجال الدولة ، وعلى طوائف القزلباش الّذين ضاقوا ذرعا بتدخّلها في شئون الحكم ؛ فسارعوا الى اغتيالها ، واغتيال ابنها وليّ العهد «حمزة ميرزا» في ٢٢ ذي الحجة ٩٩٤ ه‍ ق ؛ كما اغتالوا والدتها وعائلتها جميعا.

عند ما مات «اسماعيل الثاني» وانتقل الحكم الى والد «عبّاس» ـ «محمّد خدابنده» ـ اقدم «عليّ خان» احد زعماء القزلباش على تنصيب «عبّاس» ملكا على «خراسان» كلّها ، واطلق عليه اسم «الشاه عبّاس» ، وقرأ الخطبة باسمه ؛ فاضطربت الاحوال في البلاد ، وكان هنالك تخوّف من اندلاع القتال بين القزلباشيّة من انصار «محمّد خدابنده» ، والقزلباشيّة من انصار ابنه «عبّاس» ومرشده. وقد اتاح هذا الصراع لاعداء الدولة في الداخل والخارج ، ان يتطاولوا على سيادتها ، ممّا اضطرّ «محمّد خدابنده» ان يعقد صلحا ذليلا مع العثمانيّين ، ليتفرّغ لمحاربة انصار ابنه «عبّاس».

وبعد مقتل «حمزة ميرزا» الاخ الاكبر ل : «عبّاس» سنة ٩٩٦ ه‍ ق ، وازدياد الاضطرابات والفتن في العاصمة «قزوين» ، استغلّ «مرشد قلي خان» ـ الوصيّ الثالث على «عبّاس» ـ الفرصة للتقدّم نحو «قزوين» والاطاحة ب : «محمّد خدابنده» الّذي كان موجودا في «اصفهان» ، بينما كان الاوزبك بشئون الغارات على المناطق الشرقيّة من «خراسان». وصل «عبّاس» ووصيّه الى «قزوين» العاصمة قبل ابيه واعلن حاكما جائرا جديدا للدولة الصفويّة المنحوسة. اسقط بيده «محمّد خدابنده» وبيد امراء القزلباش المحيطين به. فعاد «محمّد خدابنده» الى قزوين ، وتنازل لابنه العرش ؛ وكان عمر «عبّاس» ـ حينئذ ـ ١٨ سنة. كان اوّل امر فعله بعد دخول «قزوين» ، ان امر بالقاء القبض

١٤

على ابيه ، واخويه ، و «اسماعيل» ابن اخيه «حمزة ميرزا» ، وتشديد الحراسة عليهم. وسمل عيون اخويه. ولمّا طلب العثمانيّون رهينة ـ العام ٩٩٨ ه‍ ق ـ ارسل «اسماعيل» ابن اخيه «حمزة ميرزا» ؛ الّذي اصيب بالطاعون ، ومات في القسطنطينيّة العام ١٠٠٥ ه‍ ق.

كان «عبّاس الاوّل» ، بالنسبة لاولاده وافراد اسرته ، قاسيا ، غليظا وشديد الفظاظة معهم. وكان الشعار المألوف : «قتل كلّ امرئ من العائلة المالكة تسوّل له نفسه ، المطالبة بالعرش». لذلك بطش على اولاده ؛ امّا كبير اولاده وليّ عهده «صفيّ ميرزا» ، فقد اغتاله احد الجراكسة بأمر ابيه عام ١٠٢٤ ه‍ ق. ولعلّ «عبّاس» خاف ان يقوم ابنه بالدور الّذي قام هو به نحو والده. وبعده ، امر «عبّاس» ان تسمل عينا ابنه الآخر «خدابنده ميرزا» ؛ ممّا اصاب الابن ، بما يشبه الجنون ؛ فاقدم على الانتحار بتناول السمّ. امّا ابنه الثالث ، فقد امر ان تسمل عيناه سنة ١٠٣٦ ه‍ ق.

وكان «عبّاس الاوّل» يودّ ان يجعل «طوس» المزار الاوّل والاقدس ؛ للثقة من الموالين للائمّة الاثنى عشر ـ عليهم‌السلام ـ ولعلّه وفق ما يعتقد يكتسب الفضائل والنصر ، ويزداد ثقة ورفعة عند الشعب ، ويحقّق اهدافا اقتصاديّة وسياسيّة.

اهمّ ما فعله «عبّاس» هو التخلّص من نفوذ زعماء القزلباش بالتدرّج ؛ بان جرّدهم من مناصبهم المهمّة واسندها الى قيادات شابّة جديدة.

في عهد «عبّاس الاوّل» بلغت الدولة الصفويّة ذروة مجدها ، واعاد «عبّاس» الى البلاد ، الامن الّذي كان مفقودا قبله. لقد تولّى الدولة ، ضعيفة ، اسيرة التطاحن والانقسام ؛ فاذا به ينجح في القضاء على جميع الفتن الداخليّة الّتي أثارها حكّام الاقاليم في وجهة بعد ان افقدهم سلطانهم ، واضعف رجال القزلباش التابعين لهم ، وجعل «ايران» مرهوبة الجانب من جميع جيرانها بعد ان حرّر الاراضي الّتي كان قد تناول عنها في بداية حكمه ، وتركها بابهى مظاهر العمران ؛ ولكن ما ان يتوفّى حتّى تعود الى سابق عهدها من الاضطراب ، والضعف ، والتخاذل.

١٥

ب) البيئة الاجتماعيّة.

عاش «بهاء الدين العامليّ» في الزمن الّذي انقسم فيه العالم الاسلاميّ بشكل حادّ الى فريقين : فريق سنّيّ ؛ وفريق شيعيّ. رأى كلّ واحد منهما مصالحه بعيدة من مصالح الآخر. وعاش في «ايران» في محيط كلّ ما فيه يشير الى التطرّف. ويعيش في كلّ مدينة منه الى جانب الحكماء والفقهاء ، والمحدّثين ، والدراويش ، والزهاد ، والعبّاد والمتصوّفة ، آلاف المحتالين والمستهترين. وبين الجميع ، تشنّج وتبرّم وقطيعة كاملة ؛ حتّى داخل الفرقة ـ نفسها ـ التفرقة والتعصّب.

انقسم الفقهاء الى المجتهدين والاخباريّين. والاخباريّون يشبّهون المجتهدين ، بالشياطين ، ويتّهمونهم بانّهم اصحاب الظنّ والتخمين. وانقسم المتصوّفة الى قزلباش ، ونعمةاللهيّين ، وحيدريّين ومشعوذين. وكلّ فرقة حاربت الاخرى ؛ قولا وفعلا. وكلّ فرقة اتّهمت الاخرى ، بالفسق ، او الكفر والنفاق.

اشتغل العامّة بالمستحبّات الدينيّة ، ونسوا الواجبات. آلاف المتديّنين ، يبالغون فى التمسّك بفروع الدين ؛ وآلاف آخرون يرتادون اماكن اللهو ، ويجاهرون بمخالفة تعاليم الدين الّذي لا يعرفون منه سوى لفظة التشيّع.

هذا ، بالاضافة الى الايمان بالتنجيم ، والخرافات ، والاوهام ، والسحر.

كثرت في هذا العصر ، البدع والمذاهب الباطلة ؛ وكلّها لها اتباع من العامّة ، ومن اخطر البدع الّتي ظهرت في هذا العصر بدعة «الجلاليّين» الّذين ظهروا اوّلا في «الأناضول» حيث ادّعى رجل من اتباع «اسماعيل الصفويّ» ، المهدويّة. وقد فرّ اتباعه الى «ايران» في عصر «عبّاس الاوّل» ؛ وكان عددهم كبير. ومن البدع الّتي ظهرت ـ ايضا ـ بدعة النقطويّين ، والفتنة الّتي ترأسها شخص يسمّى «سيّد محمّد» ادّعى انّه نائب الامام ؛ ولمّا كثر اتباعه ، ادّعى انّه «المهديّ المنتظر».

على انّ ارفع درجات التناقض في ذلك المجتمع ـ الّذي غلب عليه الافراط والتفريط في كلّ الامور ، والتناقض في الممارسات والمواقف ـ التعصّب المذهبيّ ، وادّعاء حماية

١٦

الدين عند الملوك الصفويّين ، يقابله بعد عن الدين في ممارسات الملوك ، الشخصيّة والعامّة ، وافراغ للدين من مضمونه وجوهره.

والقزلباش ـ الّذين كانوا بادي الامر متصوّفة ـ اصبحوا بالتدريج ـ منذ عهد «طهماسب» ـ لا همّ لهم سوى منافعهم ، والاهتمام بمصالحهم. وحكم زعماؤهم ، الولايات ـ الّتي كان الحاكم الجائر الصفويّ يهبهم ايّاها ـ باستبداد ، وطغيان ، وسوء تقدير. واوجدوا في «ايران» حكومات شبيهة بحكومات ملوك الطوائف. واستبدّوا بالامور ، حتّى اصبحت «ايران» تسمّى مملكة القزلباش. وقد وصل التناقض بينهم الى حدّ جعل بعضهم يتآمر والعثمانيّين على الدولة.

حتّى ، لحاهم استبدلوا بها الشوارب ، وقبعة القزلباش ـ الّتي كانت تدلّ على الاخلاص ، والفناء ، والاطاعة العمياء للمرشد الكامل ـ استبدلوا بها عمامة حريريّة مقصّبة مزيّنة بالجواهر المتنوّعة. وصارت العمامة تعني القوّة ، والنفوذ ، والسيطرة وعلوّ المقام.

كلّ الملوك الصفويّين ـ عدا «طهماسب» المحتال الوسواس ـ كانوا مدمنين على الشراب وعلى المخدّر ؛ وبعضهم كان مفرطا ، و «عبّاس الاوّل الصفويّ» كان مولعا بالشراب الى درجة انّه امر طبيبه الخاصّ ، ان يؤلّف كتابا في منافع الشراب ، وقواعد الشرب وصفات الندامى. وقد ذكر المورّخون منه ومن اسلافه امورا وحوادث كثيرة مؤلمة كان فيها بعيدا من روح الاسلام الحقيقيّ واخلاقيّته.

في هذا العصر المضطرب القلق ـ الّذي خرج فيه الناس عن حدّ الاعتدال ، وذلك الطوفان من آراء والمعتقدات والممارسات المتناحرة المتباينة ـ عاش «الشيخ البهائيّ» بثقة وهدوء لم يتحزّب لايّ فريق على الآخر ، ولم يدخل ضمن الصراعات الآنيّة ، ولم ينحرف قيد انملة عن طريق الصواب ، وانتقد أخطاء الجميع ؛ دون استثناء. وهو بحقّ من اهمّ الّذين دعوا الى الاعتدال ـ قولا وعملا ـ في ضوء التعاليم الاسلاميّة.

١٧

سيرته.

اسمه ، كنيته ولقبه.

اسمه «محمّد» ، وكنيته «ابو الفضائل» ، ولقبه «البهائيّ» نسبة الى «بهاء الدين» ؛ وهو تخلّص للشاعر على اصطلاح الشعراء الفارسيّة. وفي الفاتحة والخاتمة من مؤلّفاته النثريّة : الادبيّة والفقهيّة والعلميّة : العربيّة والفارسيّة يعرف نفسه ب : «محمّد المشتهر ب : بهاء الدين العامليّ». و «العامليّ» نسبة الى «جبل عامل» في جنوبيّ «لبنان». وهو من قرية «جبع» تقع الى الجنوب الشرقيّ من مدينة «الصيداء». وكانت هي و «جزّين» و «مشغرة» مجمع علماء «جبل عامل» وطلابها.

نسبه.

اسرته تنتسب الى «الحارث بن عبد الله الأعور الهمدانيّ» التابعيّ ، المتوفّى سنة ٦٥ ه‍ ق. وكان من اولياء «الامام عليّ بن ابي طالب» ـ عليه‌السلام ـ ومن اصحابه المخلصين. حضر معه حربي «صفّين» و «الجمل». قد صرّح «الشيخ البهائيّ» ـ غير مرّة ـ في كتبه بنسبته الى «الحارث الهمدانيّ». ف «الشيخ البهائيّ» قد تحدّر من اسرة علميّة ، عريقة في الولاء والمحبّة لاهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ كما هي عريقة في العلم والفضيلة. كان والده ، وجدّه وابو جدّه كلّهم من الفضلاء.

مولده.

لقد ذكر المورّخون في مولد «الشيخ البهائيّ» ـ مكانا وزمانا ـ اقوالا مختلفة يكفينا للاختيار الصحيح الثابت منها ما وجد بخطّ «الشيخ البهائيّ» نفسه على نسخة من كتاب «ارشاد الاذهان» تأليف «العلّامة الحلّيّ» ، وقد حكاه عن خطّ والده «الشيخ حسين بن عبد الصمد» قال فيه انّ ابنه «أبا الفضائل محمّد» ولد عقب غروب الشمس يوم الاربعاء

١٨

سابع عشر ذي الحجة سنة ٩٥٣ ه‍ ق ؛ دون تحديد مكان الولادة.

نرجح انطلاقا من هذا النصّ ، انّ «الشيخ البهائيّ» قد ولد قبل هجرة ابيه الى «ايران». ولو كانت ولادته في غير موطنه الاوّل ، لأشار «الشيخ حسين بن عبد الصمد» الى ذلك. ويؤيّد ذلك ما ذكره «الشيخ البهائيّ» فى سانحة من سوانحه في «الكشكول» حيث قال : «لو لم يأت والدي ـ قدّس الله روحه ـ من بلاد العرب الى بلاد العجم ، ولم يختلط بالملوك ، لكنت من اتقى الناس واعبدهم وازهدهم ؛ لكنّه ـ طاب ثراه ـ اخرجني من تلك البلاد ، واقام في هذه البلاد».

والده وهجرته الى «ايران».

والد «الشيخ البهائيّ» ، «الشيخ حسين بن عبد الصمد» كان من مشايخ «جبل عامل» ، العظام. ويعدّ «الشيخ حسين بن عبد الصمد» من اوائل الّذين قرءوا على «الشهيد الثاني» في اوائل امره وتصدّيه للتدريس. وقد صرف خلاصة ايّام شبابه في صحبته. وقد اجازه اجازة عامّة مطوّلة مفصّلة.

بعد ان احكم العثمانيّون قبضتهم على اهل «جبل عامل» وعلى غيرهم من الشيعة الواقعين تحت حكمهم ، في حماة الصراع المذهبيّ المحتدم بين العثمانيّين والصفويّين ، وبسبب مباشر من تلك المواقف المتشنّجة من الفريقين ، اصبح الشيعة خارج «ايران» ومن جملتهم شيعة «جبل عامل» ضحيّة ذلك الصراع. واصبح كلّ شيعيّ في نظر العثمانيّين واعوانهم متّهما بميولهم نحو الدولة الصفويّة ، عدوة العثمانيّين ؛ لذلك عاش العلماء حالة من الترقّب والخوف والتستّر. واضطرّ عدد منهم الى ان يغادروا «لبنان» ؛ دون رجعة. ويهاجروا منها الى «ايران» ، و «العراق» ، و «الحجاز» و «الهند» ، تقديرا منهم انّهم يستطيعون ابلاغ دعوتهم الى الحرّيّة الفكريّة ، وتحقيق نشاطهم العلميّ في ظلّ دولة تؤمن لهم الطمأنينة ، وفي موطن اقلّ مظالم ومغارم. وقد اشتدّت تلك الهجرة قبيل مقتل «الشهيد الثاني» وبعد مقتله.

١٩

واذ كان «الشيخ حسين بن عبد الصمد» في «العراق» ، ارسل اليه «الشيخ عليّ بن هلال المنشار» ـ شيخ الاسلام (*) في «اصفهان» ـ كتابا يطلبه. وهذه الهجرة تمّت في حياة «الشيخ الشهيد الثاني» ؛ لانّ «الشيخ حسين بن عبد الصمد» كتب من بلاد العجم الى شيخه

__________________

(*) كان ترتيب مقامات رجال الدين في الدولة الصفويّة على الشكل التالي :

١ ـ ملّا باشيّ.

كان الملّاباشيّ رئيس جميع الروحانيّين في «ايران». وكان وظيفته تأمين عمل ، او طلب وظيفة ، او هبة لطلّاب العلم ، وللفقراء ، ورفع الظلم عن المظلومين ، والشفاعة للخاطئين ، والتحقيق في المسائل الشرعيّة ، وتعليم الادعية ؛ ولا يتدخّل في الاعمال الاخرى.

٢ ـ الصدر.

هذا المقام مختصّ بشخصين : احدهما : صدر خاصّة ، والآخر : صدر عامّة ، او صدر الممالك. وهو الّذى يعيّن حكّام الشرع ، ومسئولي الاوقاف ، والاشراف على اعمال السادات ، والعلماء ، والمدرّسين ، وشيوخ الاسلام ، وائمّة الصلاة ، والقضاة ، وخدّام الاضرحة المقدّسة ، والمقابر ، والمزارات ، والمساجد ، والمدارس ، ووزراء الاوقاف والنّظار. كذلك النظر فى الدعاوي المتعلّقة بالقتل وغيرها من الاحداث ، يتمّ بحضور الصدر العامّ والصدر الخاصّ ، ورئيس الديوان ؛ ولا حقّ لحكّام الشرع الآخرين في مخالفة ما يصدر عن هؤلاء.

٣ ـ قاضي العاصمة.

يحكم في الدعاوي العاديّة الّتي ليست من اختصاص الصدر.

٤ ـ شيخ الاسلام.

شيخ الاسلام ، او آخوند ، يتفرّغ في منزله للنظر في الدعاوي الشرعيّة ، والامر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، واجراء معاملات الزواج ، والطلاق ، وضبط اموال الغائب واليتيم.

يعيّنوا هؤلاء بامر الحكّام الصفويّ. وكان الحاكم الصفويّ يجلس الروحانيّين ورجال الدين ، الكبّار ، عن يسار عرشه ؛ ليثبت انّ رجال السياسة اعلى من الرؤساء الروحيّين ؛ امّا جهة اليمنى ، فكان يجلس كبّار القوّاد ، ورجال الدولة والوزراء.

٢٠