الشيخ بهاء الدين محمّد بن حسين العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار البشير
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-8373-07-8
الصفحات: ٤٨٦
و ـ ايضا ـ فلعلّ الذمّ لعمله ـ سبحانه ـ بعدم عزمه على السجود في المستقبل ؛ كما قال ـ سبحانه ـ : (أَبى ، وَاسْتَكْبَرَ)(١).
والتأخير : جواب عن استدلال اهل الفور ب : انّه لو كان التأخير مشروعا ، لكان الى غاية غير مبيّنة ؛ وهو تكليف بالمحال.
غير متعيّن : اي : غير لازم ؛ بل ، يجوز المبادرة وعدمها.
فلا تكليف بالمحال : لانّه ، اذا لم يكن التأخير لازما ، فالمكلّف مخيّر بين المبادرة والتأخير.
والمسارعة : في قوله ـ تعالى ـ : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ!)(٢) ؛ اي : الى ما يوجبها ؛ وهو : امتثال المأمور به.
والاستباق : في قوله ـ جلّ شأنه (٣) ـ : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ!)(٤).
للفضل : اي : للندب ؛ لا للوجوب ؛ والّا ، لم يتحقّق المسارعة والاستباق ؛ كما لا يقال لمن نذر صوم غد ، فصامه ، او صلاة الصبح في اوّل الوقت ، فصلّاها فيه : انّه سارع (٥) واستبق الى الصوم والصلاة. هذا جواب عن دليل آخر لاصحاب الفور.
__________________
(١) البقرة / ٣٤.
(٢) آل عمران / ١٣٣.
(٣) د ، م ١ : تعالى.
(٤) البقرة / ١٤٨.
(٥) م ١ : مسارع.
فصل
[في اقتضاء الامر بالشيء ، النهي عن ضدّه]
اقتضاء الامر بالشيء ، النهي عن ضدّه العامّ ـ اعني : تركه ـ ممّا لا ينبغي الريب فيه.
امّا الخاصّ ، فللمثبتين : (١) توقّف الواجب على تركه ؛ فيجب. واستلزام فعله ، ترك الواجب ؛ فيحرم ؛ وفيهما كلام.
وللنافين : تحقّق الذهول حال الامر عن الاضداد الوجوديّة ؛ فأين النهي عنها؟
وفيه : انّه مستنبط منه ـ ك : دليل الاشارة ـ فلا يضرّ الذهول مع انتفائه فيما أصّل هذا الاصل له.
وللبحث من الجانبين مجال واسع. ولو أبدل : «النهي عن الضدّ الخاصّ» ب : «عدم الامر به ، فيبطل» ، لكان اقرب.
__________________
(١) م ٢ : + ثمّ.
واقتضاء الامر بالشيء ، النهي عن ضدّه العامّ : المراد : استفادة النهي عن الضدّ ، عن نفس الامر الصادر عن الشارع ؛ اذ الفرض عدم ورود نهي آخر ؛ كان يقول : «نهيتك عن ضدّه».
واذا قال الشارع : «صلّ» ـ مثلا ـ فيفهم منه شيئان منافيان للصلاة :
احدهما : مناف لها بذاته ؛ وهو عدم الاتيان بها ؛ وهذا نقيض المأمور به ؛ وهو المراد بالضدّ العامّ.
والآخر : مناف لها بالاستلزام ؛ ـ ك : النوم ، مثلا ـ وهو الضدّ الخاصّ.
فان قلنا : الامر بالشيء يستلزم النهي عن ضدّه الخاصّ ، يكون النهي عن جميع اضداده الخاصّة ؛ بخلاف النهي عن الشيء ؛ فانّه امر بأحد اضداده لا على التعيين ؛ كذا قيل ؛ وفيه ما فيه.
ممّا لا ينبغي الريب فيه : وقد يستدلّ على ذلك ب : انّ الوجوب ، ماهيّة مركّبة من قيدين : احدهما : طلب الفعل ، والثاني : المنع من الترك ؛ ولا يتحقّق المركّب بدون تحقّق اجزائه ؛ فيلزم من ثبوت الامر بالشيء النهي عن تركه.
و ـ ايضا ـ امّا ان يمكن اجتماع الطلب الجازم مع الاذن بالاخلال ، أو لا. والاوّل محال ؛ لاستحالة الجمع بين النقيضين ؛ والثاني هو المطلوب.
وهذان الدليلان ممّا استدلّ به «العلّامة» في «النهاية» (١) ، و «الفخريّ» في «المحصول» (٢).
وذهب بعضهم (٣) الى عدم افادة الامر بالشيء ، النهي عن ضدّه العامّ ـ اعني : تركه ـ محتجّا ب : انّه كما يحصل الذهول عن الاضداد الخاصّة حال الامر ، يحصل عن
__________________
(١) نهاية الوصول الى علم الاصول / الورقة ٦٠ / ب.
(٢) المحصول ١ / ٢٩٤.
(٣) المنخول / ١٨١ ، المستصفى ١ / ٨٣.
العامّ ـ ايضا ـ كما يشهد به الوجدان.
وفيه ما لا يخفى ؛ فانّ البحث ، على تقدير كون الامر للوجوب ؛ فالسيّد اذا قال لعبده : «اضرب» ، فكانّه قال : «اوجبت عليك الضرب» ؛ ولا معنى لإيجاب الفعل الّا طلبه مع المنع من تركه ؛ وكيف يذهل العاقل؟! كما هو صريح كلامه.
امّا الخاصّ : وهو الافعال المضادّة له.
توقّف الواجب : الّذي تعلّق به الامر.
على تركه : اي : ترك الضدّ الخاصّ.
فيجب : اي : تركه ؛ لانّ تركه مقدّمة للواجب.
واستلزام فعله : اي : فعل الضدّ الخاصّ.
ترك الواجب ؛ فيحرم : اي : يحرم الفعل. وحاصل هذا الدليل : انّ فعل الضدّ يستلزم ترك الواجب ، وكلّما يستلزم فعله ، ترك الواجب ، ففعله حرام ؛ ففعل الضدّ حرام ؛ ولا معنى للحرام الّا ما ينهى عنه.
وفيهما كلام : كما يقال : المراد بمقدّمة (١) الواجب ، ما تكون وسيلة ووصلة (٢) الى فعله ـ ك : قطع المسافة في الحجّ مثلا ـ ولا نسلّم انّ ترك احد الضدّين وسيلة الى فعل الآخر ؛ بل ، هو لازم ومقارن له ؛ كما يذكر في دفع شبهة «الكعبيّ». ولا يلزم من وجوب الملزوم وجوب لازم ؛ ك : تبريد الوجه حال غسله (٣) في الوضوء.
و ـ ايضا ـ (٤) : فلا نسلّم انّ كلّما يستلزم فعله ترك واجب ، يكون حراما ؛ بل ، ذلك ، اذا لم يكونا معا واجبين مضيّقين ؛ فالكبرى غير كلّيّة. هذا ؛ والحقّ : انّا متى كنّا
__________________
(١) د : على الاوّل : ان مقدّمة.
(٢) د : ـ ووصلة.
(٣) د : ـ حال غسله.
(٤) د ، م ١ : كما يقال على الثاني.
مكلّفين بواجبين مضيّقين ، فانّ التكليف بهما ، امّا اذا كانا كذلك ، فكونهما على هذه الصفة قرينة التخيير في فعل ايّهما شئنا ؛ لانّ غرض الشارع من التكليف بهما امّا (١) ايقاعهما معا في آن واحد ؛ او ايقاع احدهما. والاوّل تكليف بما لا يطاق. فتعيّن الثاني (٢) ؛ مثلا : فاذا امر السيّد الحكيم عبده في وقت واحد بالكتابة والنساجة ، فتضادّهما قرينة تخييره العبد فيهما ؛ اذ هو لا يريد فعلهما في وقت واحد ؛ لاستحالته ؛ لانّه حكيم عادل (٣). ومعلوم : انّ العبد لو تركهما معا ، لذمّه العقلاء ب : «انّك اذا (٤) لم تتمكّن من فعلهما معا ، فهلا فعلت احدهما؟!» ؛ اذ ليس امر السيّد (٥) الحكيم بهما عبثا ؛ فلا بدّ من التلبّس باحدهما ؛ وهو الّذي يختاره منهما ؛ فتأمّل!
والحاصل ، انّا ، ان سلّمنا انّ الامر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه ، فانّما نسلّمه ؛ اذا (٦) كان الضدّ الخاصّ غير واجب ؛ كما ذكره الاصحاب في صلاة الجمعة بالنسبة الى السفر بعد الزوال. امّا مع وجوبه وتضييقهما ، فيرجع الى التخيير ؛ الّا ، اذا كان احدهما اهمّ في نظر الشارع ، فيقدّم ؛ ك : الصلاة وتخليص المتروّي ؛ فتدبّر!
وللنّافين : تحقّق الذهول حال الامر عن الاضداد الوجوديّة : وقد يقال (٧) في تأييد هذا الدليل : انّ الامر لا يدلّ على النهي عن الضدّ الخاصّ بشيء من
__________________
(١) د : ليس.
(٢) د : ان يكون غرضه ايقاع احدهما.
(٣) د : الحكيم اذا امر عبده بالكتابة والنساجة في آن واحد ، فتضادّهما دليل على تخيير العبد فيهما ؛ اذ هو لا يريد الجمع بينهما في ذلك الوقت ؛ لانّه حكيم عادل.
(٤) د : حيث.
(٥) د : ـ السيّد.
(٦) م ١ : ان.
(٧) معالم الدين / ٦٤.
الدلالات الثلاث. امّا بالمطابقة والتضمّن : فلانّ حقيقة الوجوب ، رجحان الفعل مع المنع من الترك ؛ لا غير ؛ والنهي عن الضدّ الخاصّ امر خارج. وامّا الالتزام : فلعدم لزوم العقليّ والعاديّ ؛ فانّ من تصوّر معنى «اضرب» ، لا ينتقل منه الى تصوّر اضداد الضرب ، الخاصّة ؛ ك : النوم ؛ مثلا.
وجوابه ظاهر ممّا ذكرناه.
مع انتفائه : اي : الذهول.
فيما اصّل : وهو : احكام الله ؛ سبحانه.
هذا الاصل : اهمّ المسائل المتفرّعة على هذا الاصل ، بطلان العبادات المأمور باضدادها وعدمه ؛ ك : الصلاة عند الامر بردّ الوديعة ، او ازالة النجاسة من المسجد ـ مثلا ـ وك : الحجّ حال مطالبة الزوجة ، المهر ؛ مع الإيسار.
وقد يتفرّع عليه امور اخرى ، سوى بطلان العبادة وصحّتها ؛ ك : حنث من حلف : «ان لا ينهى زيدا عن شيء» ، فامره بشيء ، وكما علّق ظهار زوجته على مخالفة نهيه ، ثمّ ، قال لها : «قومي!» ، فقعدت.
وممّا فرّعوا على هذا الاصل : ما لو اشرف الاعمى على السقوط في بئر ـ مثلا ـ وترك (١) المصلّي تحذيره بالقول ـ مع انحصار التحذير فيه ـ وبقي مشتغلا بالقراءة ، فانّ صلاته تبطل ؛ ان قلنا باستلزام الامر بالشيء ، النهي عن ضدّه الخاصّ ؛ لتعلّق النهي بجزء الصلاة ـ اعني : القراءة ـ وان لم نقل بذلك ، لم تبطل ؛ لانّ النهي ـ حينئذ ـ عن امر خارج عن الصلاة. وامّا لو كان وقت ترك التحذير ساكتا عن القراءة ، فانّ صلاته لا تبطل ؛ لانّه ليس في تلك الحال منهيّا عن جزء الصلاة ؛ ولا عن شرطها.
هذا ؛ ولقائل ان يقول : انّه في تلك الحال منهيّ عن شرط الصلاة ـ وهي الاستدامة الحكميّة ـ فيجب تخصيص البحث بما اذا لم نقل ببطلان الصلاة عند
__________________
(١) م ١ : يترك.
التحذير بكلام قليل. وبما اذا لم يتوقّف حصول حذره على كلام كثير ، يخرج عن كونه مصلّيا.
هذا (١) ؛ ولا يخفى : انّ من ذهب الى بطلان الصلاة والحجّ وغيرهما في الصور المذكورة وامثالها ، لو عدل عن الاستدلال باستلزام الامر بالشيء ، النهي عن ضدّه ، الى الاستدلال باستلزامه عدم الامر بضدّه ، لكان اقرب الى الثبوت ؛ لانّ اتمام الاوّل في غاية الاشكال ؛ بخلاف الثاني ؛ كما لا يخفى على المتأمّل. والى هذا ينظر قوله : «ولو ابدل النهي عن الضدّ ...» ـ الى آخره (٢) ـ فتدبّر!
والّذي ظهر لي بعد امعان النظر فيما يتفرّع على هذا الاصل ، انّ الفعلين المتضادّين ، امّا معا حقّ الله ـ تعالى ـ او حقّ النّاس ، او مختلفان. وعلى التقديرين ، فامّا معا مضيّقان ، او موسّعان ، او مختلفان ؛ فالصور تسع. فمع ضيق احدهما ، الترجيح له مطلقا. ومع سعتها ، التخيير مطلقا. فهذه ستّ ؛ يبقي ثلاث. فمع اتّحاد الحقّيّة ، التخيير مطلقا ؛ الّا ، مع اهمّيّة احدهما في نظر الشارع ؛ لحفظ بيضة الاسلام. ومع اختلافهما ، الترجيح لحقّ النّاس ؛ الّا ، مع الاهمّيّة. وقد فصّلنا الصور التسعة في جدول لطيف ؛ وهذه صورته (٣) :
__________________
(١) م ١ : ـ هذا.
(٢) م ١ : ـ الى آخره.
(٣) ل : يطلب من حواشينا على شرح «العضديّ».
انواع المتضادين المأمور بهما من حيث تضييق وحقّ الله وحقّ الناس. |
كلاهما حقّ الله المكلَّف المتعال. |
كلاهما حقّ الناس المخلوق. |
أحدهما حقّ الله ـ تعالى ـ والآخر حقّ الناس ـ. |
كلاهما مضيّق. |
كـ : الصلاة في آخر الوقت وتطهير المسجد. والظاهر ترجيح الصلاة : الّا مع كون الثاني اهمّ. |
كـ : انقاذ المتروّي واداء الدين مع الطلب والقدرة. فالانقاذ مرجّح : الّا ، مع المعارض المساوي ، فتخيّر. |
كـ : الصلاة في آخر الوقت واداء الدَين فالاظهر ، الثاني : لانّه حقّ الناس : سيّما مع فوت المصلحة للمطالب. |
كلاهما موسّع. |
كـ : صلاة المنذور والزلزلة. المكلّف مخيّر في الترجيح. |
كـ : اداء الدينين اللذين هما غير مضيّقين ، فالمكلّف مخيّر في الترجيح مع التساوي في المصلحة والمدّة. |
كـ : الصلاة قبل الضيق واداء بدون الطلب والقدرة. فلا ريب بالتخيير. |
احدهما مضيّق والآخر موسّع. |
كـ : تطهير المسجد وصلاة الزلزلة. فلا ريب في ترجيح المضيّق. |
كـ : انقاذ المتروّي واداء الدّين الموسّع. فلا ريب في ترجيح المضيّق. |
كـ : تطهير المسجد واداء الدّين مع عدم الطلب. فلا ريب في ترجيح المضيّق. |
وللبحث من الجانبين مجال واسع : يطلب تفصيله من حواشينا على (١) شرح
__________________
(١) د ، م ١ : وقد بسطنا الكلام فيه في حواشي.
«العضديّ» (١).
لكان اقرب : بان يصير المدّعى : انّ الامر بالشيء يستلزم عدم الامر بضدّه. وهذه الدعوى اقرب الى الاثبات من تلك ؛ اذ استلزام الامر باحد الضدّين ، عدم الامر بالآخر ، اظهر من استلزام الامر به ، النهي عن الآخر ؛ فانّ ادلّة اثبات تلك مدخولة ؛ كما يظهر لمن تأمّلها ؛ لكنّ ثمرة الخلاف لا تظهر ـ حينئذ ـ الّا في العبادات ؛ فتدبّر!
__________________
(١) مع بذل جهدي ـ الى الآن ـ لم نعثر على نسخة منها.
فصل
[في الامر بالموقّت]
«الشيخ» (١) والاكثر ، على انّ الامر بالموقّت ، لا يكفي في وجوب قضائه ؛ لو فات.
لعدم دلالة : «صم الخميس!» ، على صوم غيره بوجه.
واحتمال اختصاص جهة الحسن به. والاستدلال (٢) بالاداء الى الاداء ، والتسوية ، ضعيف.
قالوا : امرنا بالصوم وبتخصيصه ؛ وبفوت الثاني ، لا يفوت الاوّل. والوقت كأجل الدين ويلزم ادائه.
قلنا : التعدّد ـ خارجا ـ ممنوع. واشتغال الذمّة فارق. واستدراك الفائت مانع.
______________________________________________________
انّ الامر بالموقّت : سواء كان موسّعا ، او مضيّقا ـ ك : صلاة الظهر ، وصوم رمضان ـ لو لم يوفّر قضائه. امّا ما ليس موقّتا ـ ك : صلاة الزلزلة ـ فلا يقضيه المخاطب به.
__________________
(١) العدّة في اصول الفقه ١ / ٢١٠.
(٢) منتهى الوصول والامل / ٩٨.
لا يكفي في وجوب قضائه : (١) معلوم : انّ من العبادات ما اوجب الشارع قضائه ـ ك : الفرائض الخمس ـ ومنها ما لم يجعل له قضاء ـ ك : صلاة العيد والجمعة ـ فاذا امر بعبادة (٢) في وقت معيّن ، وفات ذلك الوقت ، فهل يجب علينا قضائها بمجرّد الامر الاوّل ، ام لا يجب ، الّا باعلامه بوجوب القضاء؟
لا يخفى : انّ مثل هذا البحث ، يتمشّى على القول بانّ الامر للفور. فاذا لم يأت به المكلّف في اوّل اوقات الامكان ، فهل يجب عليه الاتيان في الثاني بمجرّد الامر الاوّل ، ام لا؟ (٣)
ثمّ ، جعل بعضهم ، المتنازع فيه ، هو : انّ الشارع ، اذا امرنا بالفعل ، وعيّن وقته ، فاخّرناه عنه لعذر ، او لغير عذر ، فهل يجب علينا قضائه بمجرّد ذلك الامر الاوّل ، ام لا بدّ من امر جديد؟
ويعلم منه بالمقايسة ، حال المستحبّ الموقّت.
يتفرّع على هذا الاصل : وجوب قضاء الفرائض الموقّتة ، واستحباب قضاء النوافل كذلك ؛ اذا سكت الشارع عن قضائهما.
وبعضهم اطلق محلّ النزاع ولم يقيّد بامر الشارع. وعبارته هكذا : «اذا صدر الطلب بشيء في وقت معيّن وفات ذلك الوقت ، فهل يكون الطلب الاوّل مقتضيا لطلب الاتيان به في الآن الثاني ، ام لا؟».
وجعل من جملة ما يتفرّع على هذا الاصل : ما لو وكّل زيد عمروا في اخراج زكاة الفطرة ، فخرج الوقت ، فهل له ان يخرجها بعده ، ام لا؟
وكذا لو وكّله في الأضحية المستحبّة ، فخرج وقتها.
__________________
(١) م ١ : + اذ.
(٢) م ١ : اقرّ لعبادة.
(٣) م ١ : ام لا بدّ من امر جديد؟ فتدبّر!
ولا يخفى : انّ اطلاق محلّ النزاع ، هو الاولى ؛ لكن اقتضينا اثر الاكثر.
لو فات : بل ، لا بدّ من امر (١) جديد.
لعدم دلالة : «صم الخميس» ، على صوم غيره : لم يقل : «على صوم الجمعة» ؛ كما قاله «الحاجبيّ» (٢) ، وقرّره «العضديّ» (٣) ؛ لانّه لم يقل به احد باقتضاء الامر بالشيء ، تخصيص قضائه بوقت.
وظنّي : انّ ذكر «الجمعة» في كلام «الحاجبيّ» (٤) ، على سبيل التمثيل ؛ كما يعطيه كلام «التفتازانيّ» (٥). ومراده : صوم «الجمعة» ؛ مثلا.
ودعوى «الابهريّ» (٦) : لزوم المصادرة (٧) ، غير مسموعة.
عبارة «الحاجبيّ» هكذا : «القضاء بامر جديد. وبعض الفقهاء : بالاوّل. لنا : لو وجب به ، لاقتضاه. وصوم يوم الخميس ، لا يقتضي صوم يوم الجمعة» (٨).
__________________
(١) د ، م ١ : بامر.
(٢) منتهى الوصول والامل / ٩٨.
(٣) شرح مختصر المنتهى ١ / ٢٠٦.
(٤) منتهى الوصول والامل / ٩٨.
(٥) حاشية سعد الدين التفتازانيّ على شرح مختصر المنتهى ٢ / ٩٢.
(٦) م ١ : بعضهم.
(٧) حاشية الابهريّ على شرح مختصر المنتهى / الورقة ١٧٤ / الف.
(٨) منتهى الوصول والامل / ٩٨. عبارة «الحاجبيّ» هكذا : «الامر بفعل في وقت معيّن ، لا يقتضيه بعده ؛ لا اداء ولا قضاء. فان ثبت قضاء ، فبامر جديد. وقالت الحنابلة وبعض الفقهاء : يجب القضاء بالامر الاوّل.
لنا : لو اقتضاه ، لا شعر به. وصم الخميس! لا اشعار له بصيام يوم الجمعة.
و ـ ايضا ـ : لو اقتضاه ، لما انفكّ عنه ؛ وقد انفكّ ؛ ك : الجمعة ، والاضحية وغيرها ..».
وردّ «العضديّ» (١) هذا الدليل بما حاصله : انّ للخصم ان يقول : مرادي : انّ المكلّف مأمور بالصوم ، وبإيقاعه في يوم الخميس. واذا فاتت الخصوصيّة الّتي هي اكمل ، بقي الوجوب مع نقص ، ولا ادّعي اقتضاء «صم الخميس!» صوم خصوص يوم الجمعة.
وردّ «التفتازانيّ» (٢) هذا الرد ب : انّ المستدلّ ليس غرضه ، عدم اقتضاء الامر بصوم الخميس ، صوم خصوص يوم الجمعة ؛ بل ، غرضه : القطع بانّه لا تعرّض في : «صم يوم الخميس!» ، لصوم غير الخميس.
وردّ بعضهم (٣) كلام «التفتازانيّ» ب : انّه لو كان غرض المستدلّ ، هذا ، لكان كلامه مصادرة على المطلوب.
وانت خبير بامكان تقرير محلّ النزاع على وجه يضمحل به توهّم المصادرة ؛ فتأمّل!
بوجه : كقول السيّد لعبده : «اكرم زيدا!» ؛ فانّه لا يدلّ على وجوب اكرام «عمرو» عند فوت اكرام «زيد».
واحتمال اختصاص جهة الحسن به : اي : بالموقّت ؛ كامر السيّد عبده بلبس الفاخر يوم العيد ، وقول المنجّم ، او الطبيب : «سافر!» او «اقتصد غذاء!».
وهذا الدليل ، انّما يتمشّى على قاعدة التحسين العقليّ ؛ كما هو الحقّ.
والاستدلال : الاستدلال بهذين الدليلين ل : «الحاجبيّ» (٤).
__________________
(١) شرح مختصر المنتهى ١ / ٢٠٦.
(٢) حاشية سعد الدين التفتازانيّ على شرح مختصر المنتهى ٢ / ٩٢.
(٣) حاشية الابهريّ على شرح مختصر المنتهى / الورقة ١٧٤ / الف.
(٤) منتهى الوصول والامل / ٩٨.
واستدلّ «العلّامة» (١) ب : انّ الاوامر الشرعيّة ، قد يستتبع (٢) القضاء ـ ك : الصلاة اليوميّة ـ وقد لا يستتبعه (٣) ـ ك : الجمعة ، والعيد ـ ولا دلالة للعامّ على الخاصّ.
وبـ : انّه ـ سبحانه ـ قال : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)(٤). وقال النبي (٥) صلىاللهعليهوآله : «من نام عن صلاة ، او نسيها ، فليصلّها (٦) ؛ اذا ذكرها» (٧) ؛ والتأسيس خير من التأكيد.
وللنظر في كلّ من (٨) هذين الدليلين مجال.
بالاداء الى الاداء : اي : على المذهب المختار ب : انّه لو اقتضى القضاء ، لكان الاتيان الثانويّ اداء ؛ فكانّ الشارع قال : «صم يوم الجمعة ، او غيره!».
وعبارة «العضديّ» (٩) في شرح قول «الحاجبيّ» هكذا : «ولنا ـ ايضا ـ : لو وجب به ، لاقتضاه ؛ ولو اقتضاه ، لكان اداء. وكان بمثابة ان يقول : «صم ؛ امّا يوم الخميس ،
__________________
(١) نهاية الوصول الى علم الاصول الورقة ٦١ / ب ، ٦٧ / الف.
(٢) في المصدر : يستعقب.
(٣) في المصدر : لا يستعقبه.
(٤) البقرة / ١٨٥ ، ١٨٤.
(٥) فانّه لا يكون هذا الحديث تأكيدا لقوله : «اقم الصلاة». منه ؛ رحمهالله.
(٦) د ، م ١ : فليقضها.
(٧) سنن ابن ماجة ١ / ٢٢٧ ب ١٠ ح ٦٩٦ ، ٦٩٧ ، ٢٢٨ ح ٦٩٨ ، سنن ابي داود ١ / ١١٨ ح ٤٣٠ ، ١١٩ ح ٤٣٧ ، ١٢١ ح ٤٤٢ ، الموطّأ ١ / ١٣ ب ٦ ح ٢٥ ، سنن النسائيّ ١ / ٢٩٣ ، ٢٩٤ ، ٢٩٥ ، ٢٩٦ ، الجامع الصحيح ١ / ٢٣٤ ب ١٣٠ ح ١٧٧ ، ٢٣٦ ـ ٢٣٥ ب ١٣١ ح ١٧٨ ، صحيح مسلم ٢ / ١٢٧ ب ٥٥ ح ٣٠٩ ، ٣١٣ ح ٣١٤ ، ٣١٥ ، ٣١٦ ، صحيح البخاريّ ١ / ١١٢ ، مسند احمد ٣ / ١٠٠ ، ٢٤٣ ، ٢٦٧ ، ٢٨٢.
(٨) م ١ : ـ كلّ من.
(٩) شرح مختصر المنتهى ١ / ٢٠٦.
وامّا يوم الجمعة!» ؛ وهو تخيير بينهما. والثاني اداء برأسه ؛ لا قضاء للاوّل.
والتسوية : اي (١) : بين الاداء والقضاء ؛ فلا يعصي (٢) بالتأخير عن الوقت.
ضعيف : للمنع من لزومها.
وبفوت الثاني ، لا يفوت الاوّل : اذا تعقّلنا صوما خاصّا ـ ك : صوم الخميس ؛ مثلا ـ [فقد] تعقّلنا امرين. فهل المأمور به هو ذانك الشيئان ـ فاذا انتفى الثاني ، بقي الاوّل ـ او هو شيء واحد يصدقان عليه؟
فمن قال بالاوّل ، جعل القضاء ، بالامر الاوّل. ومن قال بالثاني ، جعله بامر جديد.
والوقت : اسقطنا الاستدلال بظرفيّة الوقت ؛ لاغناء الدليل الاوّل عنه (٣).
كأجل الدين : وهو لا يسقط بالتأخير عن اجله ؛ فكذا المأمور به.
ويلزم ادائه : اي : لو وجب القضاء بامر جديد ، لكان اداء ؛ لانّه امر بشيء بعد الوقت ؛ فيكون مأتيّا به في وقته ؛ لا بعده ؛ (٤).
قلنا : التعدّد ـ خارجا ـ ممنوع : اذ المطلوب بالامر ، الوجود الخارجيّ. ومفهوم «صم يوم الخميس!» ، وان كان مركّبا ، الّا انّ تركّب ما صدق عليه هذا المفهوم في الخارج ، ممنوع ؛ بل ، هو واحد ؛ كما هو الحقّ في المركّب من الجنس والفصل.
واشتغال الذمّة : اي (٥) : بالدين في ايّام الأجل وبعدها.
واستدراك الفائت مانع : من كونه اداء.
__________________
(١) و : ـ اي.
(٢) و : فلا نقض.
(٣) و ، د : لانّ الدليل الاوّل مستغن عنه.
(٤) و : + وهو الاداء.
(٥) و ، م ١ : ـ اي.
فصل
[في المطلوب بالامر]
قيل (١) : المطلوب بالامر فعل جزئيّ مطابق للماهيّة الكلّيّة ؛ لا هي ؛ لاستحالتها خارجا.
وقيل (٢) : بل ، هي ؛ لتقيّده. والمطلوب مطلق.
ومنشأ النزاع : الاختلاف في وجودها لا بشرط.
والحقّ ، وجودها بوجود افرادها ؛ فتطلب. ومطلقها لا ينافي مقيّدها ؛ بل ، يشمله.
والقول بانّ منشأ النزاع عدم التفرقة بينها بشرط لا ، وبلا شرط ، بعيد.
______________________________________________________
لتقيّده : اي : الفعل الجزئيّ.
عبارة «العضديّ» (٣) هكذا : «قالوا : المطلوب غير مقيّد ؛ والجزئيّ مقيّد ؛ فلا يكون
__________________
(١) منتهى الوصول والامل / ٩٩ ، شرح مختصر المنتهى ١ / ٢٠٧.
(٢) شرح مختصر المنتهى ١ / ٢٠٧ ، معالم الدين / ٥٣.
(٣) شرح مختصر المنتهى ١ / ٢٠٧.
المطلوب هو الجزئيّ ؛ فيكون هو المشترك ؛ اذ لا مخرج عنهما».
ومنشأ النزاع : الاختلاف في وجودها لا بشرط : فمن قال بوجودها في الخارج لا بشرط ، قال : انّها المطلوبة بالامر. ومن قال بامتناع وجودها الخارجيّ ، قال : انّ المطلوب بالامر هو الجزئيّ المطابق لها ؛ لامتناع التكليف بايجاد الممتنع.
والحقّ ، وجودها بوجود افرادها : اي : وجود الماهيّة ، في : الكلّيّ الطبيعيّ.
قال «ابن سينا» في شفائه : «انّ الحيوان بشرط ان لا يكون معه شيء آخر ، لا وجود له (١). وامّا الحيوان ـ [مجرّدا] لا بشرط شيء آخر ـ فله وجود في الاعيان ؛ فانّه [في نفسه و] في حقيقته ، بلا شرط شيء آخر ؛ وان كان مع الف شرط يقارنه من خارج ؛ فالحيوان بمجرّد الحيوانيّة موجود في الاعيان. وليس يوجب ذلك ، عليه ، ان يكون مفارقا ؛ بل ، [هو] الّذي هو في نفسه خال عن الشرائط اللاحقة موجود في الاعيان. وقد اكتنفه من خارج شرائط واحوال ، فهو في حدّ وحدته الّتي بها هو واحد من تلك الجملة ، حيوان مجرّد بلا شرط شيء آخر» ؛ هذا كلامه (٢).
عدم التفرقة بينها : اي : الماهيّة.
__________________
(١) في المصدر : بل الحيوان بشرط لا شيء آخر ، وجوده في الذهن فقط.
(٢) الشفاء (الالهيات) ١ / ٢٠٤.
فصل
[في النهي والمطلوب به]
النهي للتحريم ؛ للتبادر ؛ لذمّ العبد على الفعل ، بعد قول السيّد : «لا تفعل!» ؛ ولفحوى قوله ـ تعالى ـ : (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ ، فَانْتَهُوا!)(١).
وهل المطلوب به كفّ النفس ، او عدم الفعل؟ قولان ؛ حتّى ل : «العلّامة» (٢) في الكتابين (٣).
فللأوّل : عدم تأثير القدرة في الثاني.
وللثاني : اغلبيّة الغفلة عن الاوّل.
وهذا اظهر. وتأثير القدرة في الاستمرار ؛ كما مرّ (٤).
__________________
(١) الحشر / ٧.
(٢) م ١ : حتّى «العلّامة».
(٣) ذهب رحمهالله في «النهاية» الى عدم الفعل (نهاية الوصول الى علم الاصول / الورقة ٧١ / الف) امّا في «التهذيب» فليس فيه تصريح ، ولا اشارة الى هذه المسألة.
(٤) زبدة الاصول / ١٠٢.
ولفحوى قوله ـ تعالى ـ : (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ ، فَانْتَهُوا!)(١) : فانّه ـ سبحانه ـ امر بالانتهاء عند النهي ؛ والامر للوجوب ـ كما مرّ ـ (٢) فيجب الانتهاء ؛ وهو معنى التحريم.
او عدم الفعل ؛ وان لم يخطر كفّ النفس بباله.
فللأوّل : اي : للقول الاوّل.
عدم تأثير القدرة في الثاني : اي : في عدم الفعل ؛ لانّه لو كان قبل القدرة ، فلا يكون اثرا لها.
و ـ ايضا ـ فلا ثواب في عدم الفعل ؛ ما لم يقترن بكفّ النفس ؛ اذ من المعلوم : انّ من لم يزن ، ولم يسرق ، ولم يشرب الخمر في مدّة عمره ـ وهو لا يعلم بتحريم شيء من ذلك ـ فهو غير مثاب على تركه ؛ حتّى يعلمه (٣) ويكفّ نفسه امتثالا للنهي.
وللثاني : وهو القول ب : انّ المطلوب عدم الفعل.
اغلبيّة الغفلة عن الاوّل : اي : عن كفّ النفس ؛ فانّ تارك السرقة ـ مثلا ـ قد لا يخطر بباله في مدّة عمره كفّ نفسه عنها ؛ مع انّه مكلّف بتركها.
وهذا اظهر : والثواب لا يترتّب على مجرّد عدم الفعل ؛ بل ، لا بدّ من الشعور به ، والاطّلاع على التحريم. امّا انّه لا بدّ من امر وجوديّ ـ وهو : كفّ النفس ـ وبدونه لا امتثال ، فغير مسلم.
كما مرّ : اي المقدور ، هو الاستمرار.
__________________
(١) الحشر / ٧.
(٢) زبدة الاصول / ٢٦٣ ، ١٤٥.
(٣) م ١ : يعلم.
فصل
[في انّ النهي للدوام]
النهي للدوام ـ عند الاكثر ، «والمرتضى» (١) ، واتباعه (٢) ـ كالامر. ول : «العلّامة» قولان (٣).
لنا : استدلال السّلف ، به ، على دوامه ؛ من غير نكير.
والمستدلّ (٤) بالمنع من ادخال الماهيّة في الوجود ، ان عنى دائما ، فمصادرة ؛ والّا ، لم ينفعه.
قالوا : (٥) ورد لهما ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَقْرَبُوا!)(٦) ، ونهي الطبيب على اكل
__________________
(١) الذريعة الى اصول الشريعة ١ / ١٧٦.
(٢) غنية النزوع ٢ / ٣٠٦.
(٣) في «النهاية» الى الدوام (نهاية الوصول الى علم الاصول / الورقة ٧١ / الف) ، وفي «التهذيب» على عدم التكرار. (تهذيب الوصول الى علم الاصول / ٣٣).
(٤) معالم الدين / ٩٢ ، تهذيب الوصول الى علم الاصول / ٣٣ ، الاحكام في اصول الاحكام ٢ / ٢١٥.
(٥) المحصول ١ / ٣٣٨ ، معالم الدين / ٩٢ ، تهذيب الوصول الى علم الاصول / ٣٣.
(٦) الاسراء / ٣٢.