دروس في الكفاية - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وكذلك ما إذا كان متعلق القطع حكما ، فمجموع الصور والاحتمالات هي اثنتان وثلاثون صورة بين صحيحة وممتنعة فراجع الجداول.

٤ ـ توهّم : أنه لا وجه لتخصيص دليل تنزيل الأمارة منزلة القطع من حيث الطريقية ، فإنه خلاف إطلاق دليل التنزيل ، ومقتضى الإطلاق : هو قيامها مقام القطع مطلقا فاسد جدا ؛ لأن مقتضى إطلاق دليل التنزيل وإن كان تنزيل الأمارة منزلة القطع في كل ما للقطع من الموضوعية والطريقية ، إلا إن هذا الإطلاق ممتنع في المقام ؛ لاستلزامه اجتماع الضدين ، فإن تنزيل الأمارة منزلة القطع الموضوعي يستدعي لحاظ القطع استقلالا ، وتنزيلها منزلة القطع الطريقي يستدعي لحاظه آلة للغير ، وهو الواقع المتكشف به.

ومن الواضح : أن هذين اللحاظين متضادان ، فيمتنع اجتماعهما في إنشاء واحد.

نعم ؛ لو كان في البين على فرض مستحيل ما بمفهومه جامع بينهما يمكن أن يكون دليل واحد دليلا على التنزيلين ؛ ولكن وجود الجامع مجرد فرض ؛ إذ لا يعقل بين الضدين.

٥ ـ لا يقال : إنه لا يصح على هذا التمسك بدليل التنزيل على إثبات أحد التنزيلين ؛ لإجماله الناشئ من عدم قرينة على تعيين أحد التنزيلين ، فيسقط عن الاستدلال به على قيام الأمارة مقام الطريق أيضا.

فإنه يقال : إن الظاهر للقطع طريقيته لا موضوعيته ، فكلما نزل منزلته يكون ظاهرا في أنه نزّل بلحاظ كاشفيته وطريقته ، فإشكال إجمال الدليل غير وارد في المقام ، ضرورة : أن الأثر المترتب على القطع هو باعتبار الكشف والطريقية ، فدليل تنزيل الأمارة منزلة القطع يكون ظاهرا في تنزيلها منزلته في الطريقية لا في الموضوعية.

٦ ـ توهّم : قيام الاحتياط مقام القطع في تنجز التكليف ، فالاحتياط كالاستصحاب يقوم مقام القطع ؛ لاشتراكه مع القطع في أثره المهم والتنجيز ؛ مدفوع : بأن الاحتياط العقلي ليس إلا نفس حكم العقل بتنجز التكليف ، وليس شيئا آخر يقوم مقامه في هذا الحكم العقلي.

مع أنه يعتبر في التنزيل المغامرة بين المنزل والمنزل عليه ، وهذا مفقود في الاحتياط العقلي.

وأما الاحتياط الشرعي ـ وهو إلزام الشارع به ـ فهو وإن كان موجبا للتنجيز فصح تنزيله منزلة القطع ؛ إلا إن الاحتياط الشرعي مجرد فرض لا يقول بوجوبه أحد من

٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

الأصوليين في الشبهات البدوية.

٧ ـ خلاصة ما أفاده المصنف في الحاشية في تصحيح قيام الأمارات والاستصحاب مقام القطع الموضوعي والطريقي بلحاظ واحد في التنزيل ، من دون حاجة إلى لحاظين : الآلي والاستقلالي ، كي لا يمكن الجمع بينهما : أن دليلي اعتبار الأمارة والاستصحاب ينزلان المؤدى والمستصحب منزلة الواقع بالمطابقة ، فإذا نزّلا منزلة الواقع بالمطابقة نزّل القطع بهما منزلة الواقع بالملازمة ، فيترتب على القطع بهما ما يترتب على القطع بالواقع ، فإذا قامت الأمارة مثلا على وجوب صلاة الجمعة ، وقد نزل دليل اعتبار الأمارة هذا الوجوب الذي قامت عليه الأمارة منزلة الوجوب الواقعي بالمطابقة ، فالقطع بهذا الوجوب التنزيلي يكون منزّلا منزلة القطع بالوجوب الواقعي بالملازمة ، فيترتب عليه ما يترتب على القطع بالوجوب الواقعي من التصدق بدرهم في المثال المعروف. والمصنف وصف ما في الحاشية في الكفاية بالتكلف والتعسف.

أما وجه التكلف : فهو عدم الملازمة العرفية بين تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، وبين القطع بالمؤدى منزلة القطع بالواقع ؛ إذ التنزيل الثاني ليس من قبيل اللازم البيّن ولا غير البين.

وأما وجه التعسف : فهو لزوم الدور ، بتقريب : أن تنزيل مؤدى الأمارة أو المستصحب منزلة الواقع يتوقف على تنزيل القطع التعبدي منزلة العلم بالواقع ؛ لكون الأثر مترتبا على المركب من الواقع والعلم به ، والمفروض : أن تنزيل القطع التعبدي منزلة القطع بالواقع يتوقف على تنزيل المستصحب أو المؤدى منزلة الواقع ، فيكون أحد التنزيلين موقوفا على الآخر. هذا دور واضح.

٨ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ أقسام القطع خمسة.

٢ ـ وقوع الأمارات المعتبرة والاستصحاب من الأصول العملية مقام القطع الطريقي المحض.

٣ ـ عدم وقوع الأمارات المعتبرة والأصول العملية مقام القطع الموضوعي مطلقا.

٤ ـ عدم صحة أخذ القطع الموضوعي في موضوع نفس حكم متعلقه ولا في موضوع مثل حكم متعلقه ، ولا في موضوع ضد حكم متعلقه.

٥ ـ صحة أخذ القطع الموضوعي في موضوع حكم مخالف لحكم متعلقه.

٦ ـ عدم صحة أخذ القطع الموضوعي المتعلق بالحكم في موضوع ذلك الحكم ، أو في

٨٢

الأمر الرابع (١):

لا يكاد يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا الحكم للزوم الدور ، ولا مثله (٢) للزوم اجتماع المثلين ، ولا ضده للزوم اجتماع الضدين.

______________________________________________________

موضوع مثله أو ضده.

٧ ـ صحة أخذ القطع الموضوعي المتعلق بالحكم في موضوع مخالف ذلك الحكم.

امتناع أخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا الحكم

(١) الغرض من بيان هذا الأمر : بيان امتناع أخذ القطع بحكم في موضوع نفس ذلك الحكم كأن يقال : «إذا علمت بحرمة الخمر فالخمر حرام» ، ولا فرق في ذلك بين أقسام القطع الموضوعي ، فإن جميع هذه الأقسام الأربعة ممتنعة ؛ للزوم الدور بتقريب : أن الحرمة ـ في المثال المذكور ـ موقوفة على العلم بها لكونه موضوعا لها ، وتوقف كل حكم على موضوعه بديهيّ ، والعلم بها موقوف على وجودها قبل تعلق العلم بها ؛ إذ لا بد من وجود حكم يتعلق به العلم أو الجهل ، فالعلم موقوف على الحكم ، وهو موقوف على العلم ، وهذا دور ونتيجته : توقف الشيء على نفسه ، فالحرمة موقوفة على نفسها وهو مستحيل.

(٢) يعني : لا يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع مثل ذلك كأن يقال : «إذا علمت بحرمة الخمر فالخمر حرام بمثل تلك الحرمة المعلومة لا نفسها» ، بمعنى : أن الحرمة المجعولة ثانيا ليست نفس الحرمة المجعولة لذات الخمر أولا ؛ بل مثلها ، وذلك للزوم اجتماع المثلين ، وهو في الاستحالة كاجتماع الضدين.

فقوله : «للزوم اجتماع المثلين» تعليل لعدم إمكان أخذ العلم بحكم في موضوع مثل هذا الحكم.

توضيح اجتماع المثلين ـ في المثال المذكور ـ أن العلم بحرمة الخمر إذا جعل موضوعا لحرمة أخرى مثلها لزم اجتماع حكمين متماثلين في موضوع واحد وهو الخمر واجتماع المثلين ممتنع.

وكذلك لا يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع ضد هذا الحكم ؛ بأن يكون العلم بحرمة شيء موضوعا لضد حرمته وهو حليته مثلا ، كأن يقال : «إذا علمت بحرمة الخمر فالخمر لك حلال» ؛ للزوم اجتماع الضدين ، بتقريب : أن الخمر المعلوم حرمتها إذا جعل لها حكم ضد الحرمة كالحلية لزم تعلق حكمين متضادين ـ وهما الحرمة والحلية ـ بموضوع واحد وهو الخمر ، ومن البديهي : امتناع اجتماع المتضادين في موضوع واحد ،

٨٣

نعم (١) ؛ يصح أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أخرى منه أو مثله أو ضده.

وأما الظن (٢) بالحكم : فهو وإن كان كالقطع في عدم جواز أخذه في موضوع

______________________________________________________

وقد أشار إليه بقوله : «ولا ضده ؛ للزوم اجتماع الضدين».

(١) استدراك على ما ذكره من امتناع أخذ القطع بحكم موضوعا لنفس ذلك الحكم أو مثله أو ضده.

وتوضيح ذلك بعد مقدمة قصيرة وهي : أن للحكم مراتب وهي : مرتبة الاقتضاء ومرتبة الإنشاء ومرتبة الفعلية ومرتبة التنجز.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن ما ذكر من عدم الإمكان إنما هو في الحكم الفعلي ؛ بأن يكون العلم بالحرمة مثلا موضوعا لنفس هذه الحرمة الفعلية أو مثلها أو ضدها. وأما إذا كان الحكم المعلوم إنشائيا فلا مانع من أخذ القطع بالحكم بهذه المرتبة الإنشائية موضوعا لنفس ذلك الحكم في المرتبة الفعلية ، كأن يقال : «إذا علمت بإنشاء وجوب الجهر أو الإخفات أو القصر على المسافر وجبت عليك فعلا هذه الأمور» ، فيكون العلم بالحكم بمرتبته الإنشائية موضوعا لنفس هذا الحكم بمرتبته الفعلية ، وكذا الحال في المثل والضد ، فيصح أن يقال : «إذا علمت بإنشاء حرمة الخمر فالخمر حرام عليك فعلا حرمة مماثلة» ، أو «إذا علمت بحرمة الخمر إنشاء يباح لك فعلا شربه» ، وكما إذا قال : «إذا علمت بإنشاء الحرمة لشرب التتن فهو ذلك حلال فعلا» ، ولا يلزم شيء من المحاذير المتقدمة من الدور أو اجتماع المثلين أو الضدين أصلا لتعدد المرتبة.

ثم إن المناط في مثلية الحكم الذي تعلق به القطع هو : كون الحكم المماثل ناشئا عن ملاك غير ملاك الحكم الذي تعلق به القطع.

وقد تحصل من كلمات المصنف «قدس‌سره» أمران :

الأول : عدم صحة أخذ القطع موضوعا لحكم يكون نفس متعلقه ولا مثله ولا ضده.

الثاني : صحة أخذ القطع بمرتبة حكم موضوعا لمرتبة أخرى من نفس ذلك الحكم أو مثله أو ضده. هذه جملة مما يتعلق بأخذ القطع بحكم في موضوع ذلك الحكم أو مثله أو ضده ، كما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ١٢٠».

(٢) الغرض من هذا الكلام : بيان حال الظن بالحكم ، وأنه كالقطع به في استحالة أخذه في موضوع نفس ذلك الحكم ؛ ولكنه يفترق عن القطع بجواز أخذه ـ إذا تعلق بحكم ـ موضوعا لمثل ذلك ذلك أو ضده ، لعدم لزوم محذور اجتماع المثلين أو الضدين ، وتوضيحه : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ١٢١» ـ أن الظن بالحكم وإن كان

٨٤

نفس ذاك الحكم المظنون ، إلا إنه لما كان معه مرتبة الحكم الظاهري محفوظة كان جعل حكم آخر في مورده مثل الحكم المظنون أو ضده بمكان من الإمكان.

إن قلت (١) : إن كان الحكم المتعلق به الظن فعليا أيضا ؛ بأن يكون الظن متعلقا

______________________________________________________

كالقطع به في عدم جواز أخذ الظن به موضوعا لنفس ذلك الحكم المظنون ، كأن يقال : «إذا ظننت بحرمة الخمر فالخمر حرام بنفس تلك الحرمة» ؛ للزوم الدور الذي عرفت تقريبه في القطع ، إلا إن جعل حكم آخر مثل الحكم المظنون أو ضده ممكن ، وذلك للفرق الواضح بين الظن والقطع ، وهو : أن القطع لما كان موجبا لانكشاف الواقع بتمامه ؛ بحيث لا يبقى معه احتمال الخلاف أصلا لم يمكن حينئذ جعل حكم آخر مثلا كان أو ضدا كما لا يخفى.

وهذا بخلاف الظن بالحكم ، فإنه لما لم يكن كاشفا عن الواقع كشفا تاما ، فلا محالة تكون مرتبة الحكم الظاهري معه محفوظة ، فيمكن جعل حكم آخر مماثل للحكم المظنون أو مضادّ له ، فيصح أن يقال : إذا ظننت بحرمة الخمر ، فالخمر حرام بحرمة مماثلة للحرمة المظنونة ، أو مباح. والضمير في «معه» راجع على الظن بالحكم ، وكذلك الضمير «في مورده» راجع على الظن بالحكم.

(١) هذا إشكال على دعوى جواز الظن بحكم موضوعا لحكم آخر مثله أو ضده ، نظرا إلى محفوظية مرتبة الحكم الظاهري مع الظن ، فيكون ناظرا إلى ما ذكر من الفرق بين القطع والظن في إمكان أخذ الظن بحكم موضوعا لمثل ذلك الحكم أو ضده ، دون القطع.

وحاصل الإشكال : هو عدم الفرق بين الظن والقطع ، فكما لا يصح جعل مثل الحكم المقطوع أو ضده إذا كان فعليا ؛ لاستلزامه اجتماع المثلين أو الضدين ، فكذلك لا يصح جعل مثل الحكم المظنون أو ضده فيما إذا كان الحكم المظنون فعليا ؛ لاستلزامه اجتماع الحكمين الفعليين المتماثلين أو المتضادين في موضوع واحد وهو محال ، مثلا : إذا كانت الحرمة المظنونة للخمر حكما فعليا له ، فلا يعقل أن يؤخذ الظن بهذه الحرمة الفعلية موضوعا لحرمة مماثلة أو للإباحة المضادة لها ؛ لاجتماع المثلين أو الضدين ؛ إذ الخمر مثلا يصير ذا حكمين متماثلين أو متضادين. نعم ؛ لا بأس بأخذ الظن بحكم فعلي لموضوع في موضوع حكم آخر مماثل له أو مضاد ، كأن يقال : «إذا ظننت بحرمة الخمر فالخلّ لك حلال أو حرام» ، كإمكان أخذ القطع بحكم لموضوع في موضوع حكم آخر كقوله : «إذا علمت بوجوب الصلاة فالتصدق واجب».

فالمتحصل : أنه لا يصح أخذ الظن بحكم فعلي موضوعا لحكم آخر فعلي مثله أو

٨٥

بالحكم الفعلي لا يمكن أخذه في موضوع حكم فعلي آخر مثله أو ضده ؛ لاستلزامه الظن باجتماع الضدين أو المثلين ، وإنما يصح أخذه في موضوع حكم آخر كما في القطع طابق النعل بالنعل.

قلت (١) : يمكن أن يكون الحكم فعليا ، بمعنى : أنه لو تعلق به القطع على ما هو

______________________________________________________

ضده ؛ لكونه مستلزما لاجتماع المثلين أو الضدين كمورد القطع ؛ النعل بالنعل.

(١) هذا جواب عن الإشكال المذكور. توضيح الجواب يتوقف على مقدمة : وهي : أن الفعلية تتصور على قسمين :

أحدهما : أن يكون الحكم بمثابة لو تعلق به العلم لتنجز على العبد ، وصارت مخالفته موجبة لاستحقاق المؤاخذة عقلا ، مع عدم إرادة المولى أو كراهته به ، وتسمى هذه المرتبة من الفعلية بالفعلية غير التامة ، وتكون برزخا بين الإنشائية التي لا يتنجز معها الحكم بقيام الحجة عليه ، وبين الفعلية التامة التي يكون معها الإرادة والكراهة.

ثانيهما : أن يكون الحكم مقرونا بالإرادة والكراهة ، فيكون تاما في البعث والزجر ، وتسمى هذه المرتبة بالفعلية التامة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الظن كالقطع بالنسبة إلى الحكم الفعلي التام ، فكما لا يمكن أخذ القطع بالحكم الفعلي في موضوع مثله أو ضده فكذلك لا يمكن أخذ الظن بالحكم الفعلي التام في موضوع مثله أو ضده ، فلا فرق بين القطع والظن كما عرفت في الإشكال.

وأما الفعلي غير التام : فيمكن أخذ الظن بحكم في موضوع مثله أو ضده ؛ لأن الحكم المظنون إن كان فعليا بالمعنى الثاني ـ وهو المقرون بالإرادة والكراهة ـ لكان تعلق الإرادة والكراهة بهذا الحكم الفعلي منافيا لتعلق إرادة أو كراهة أخرى به. وأما إذا كان المراد بالفعلية المعنى الأول ـ «أعني : لو تعلق به القطع لتنجز» من دون إرادة أو كراهة ـ فيمكن أن يؤخذ الظن بحكم في موضوع مثله أو ضده ؛ إذ لا ضير حينئذ في اجتماع الحكمين الفعليين ـ كما هو المفروض في المقام ـ مثلا : إذا كانت الحرمة المظنونة للخمر فعلية ـ بمعنى : تنجزها بالقطع من دون كراهة الشارع ـ فلا بأس باجتماعها مع الإباحة أو الكراهة الفعلية.

فالمتحصل : أنه لا مانع من أخذ الظن بحكم فعلي موضوعا لحكم آخر فعلي مثله أو ضده ، فإن الفعلي الذي تعلق به الظن وإن كان على فرض وجوده فعليا ، بمعنى : أنه حكم لو تعلق به العلم لتنجز ، ولكنه غير منجز لعدم تعلق العلم به ، والفعلي الذي قد

٨٦

عليه (١) من الحال لتنجز ، واستحق على مخالفته العقوبة ، ومع ذلك (٢) لا يجب على الحاكم رفع عذر المكلف برفع جهله لو أمكن ، أو بجعل لزوم الاحتياط عليه فيما أمكن ؛ بل يجوز جعل أصل أو أمارة مؤدية إليه تارة ، وإلى ضده أخرى.

______________________________________________________

أخذ الظن موضوعا له فعليّ منجز لتحقق موضوعه ، فلا تنافي بينهما من جهة اختلاف المرتبة.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) الضمير راجع على الموصول في «ما هو» ، والمراد به : الحال يعني : أن الحكم المظنون فعلي بفعلية غير منجزة ، وتنجزه يكون بالعلم به ، بخلاف الحكم الثاني الذي موضوعه الحرمة المظنونة ، فإنه حكم فعلي بفعلية منجزة ، ولا تنافي بين الحكم المنجز وغيره حتى يلزم محذور اجتماع المثلين أو الضدين ، وعلى هذا فعبارة المتن لا تفي بالمقصود ، فالأولى سوقها هكذا : «قلت : إنما يمتنع أخذ الظن بحكم فعلي موضوعا لحكم فعلي مثله أو ضده إذا كانت الفعلية في كليهما بمعنى واحد ، وهو كون الحكم بحيث إذا تعلق به القطع لتنجز واستحق على مخالفته العقوبة ... وأما إذا اختلف معناها فيهما ؛ بأن أريد بها في الحكم المظنون الفعلية غير المنجزة ، وفي الثاني الفعلية المنجزة ، فلا يلزم محذور اجتماع المثلين أو الضدين لتعدد الرتبة فيهما.

(٢) أي : مع كون الحكم المظنون فعليا بالمعنى الأول ـ وهو أنه لو تعلق به العلم لتنجز ـ «لا يجب على» المولى «الحاكم» بهذا الحكم الفعلي «رفع عذر المكلف برفع جهله لو أمكن» رفع جهله ، «أو بجعل لزوم الاحتياط عليه» ، يعني : لا يجب رفع عذر المكلف برفع جهله تكوينا مع الإمكان ، أو بجعل وجوب الاحتياط عليه حفاظا على الواقع فيما أمكن الاحتياط ، كما في غير موارد دوران الأمر بين المحذورين ؛ «بل يجوز» مع عدم رفع عذره ، وعدم جعل الاحتياط عليه «جعل أصل أو أمارة مؤدية إليه» أي : إلى ذلك الحكم الفعلي «تارة ، وإلى ضده أخرى».

ووجه الترقي بكلمة «بل» : أنه قد يكله المولى إلى الأصول العقلية بلا تصرف جديد ، وهذا أوهن من جعل الأصل كوجوب الاحتياط كما لا يخفى.

وكيف كان ؛ فلا يلزم اجتماع المثلين أو الضدين ؛ فيما لو جعل الظن بالحكم الفعلي غير التام موضوعا لحكم فعلي مماثل أو مضاد للحكم المظنون ، فيكون قوله : «بل يجوز» إشارة إلى آثار الفعلية بالمعنى الأول ـ وهو كون الحكم بمثابة لو علم به لتنجز ـ إذ بعد فرض عدم تعلق إرادة المولى أو كراهته به ، وعدم وجوب رفع جهله تكوينا على المولى ،

٨٧

ولا يكاد يمكن مع القطع به (١) جعل حكم آخر مثله أو ضده كما لا يخفى فافهم (٢).

إن قلت (٣) : كيف يمكن ذلك وهل هو إلّا إنه يكون مستلزما لاجتماع المثلين أو الضدين؟

______________________________________________________

ولا جعل وجوب الاحتياط على المكلف لا مانع من جعل أصل مرخص في الارتكاب ، أو أمارة كذلك ـ مخطئة كانت أم مصيبة ـ إلى الحكم الواقعي الفعلي بهذا المعنى ، فلا منافاة بين هذا الفعلي وبين جعل حكم آخر مثله أو ضده ، وبهذا المعنى من الفعلية جمع المصنف بين الحكم الواقعي والظاهري كما سيجيء إن شاء الله تعالى فانتظر.

ويمكن أن يكون قوله : «ومع ذلك ...» الخ إشارة إلى دفع ما ربما يتوهم من أن الحكم الذي تعلق به الظن إذا كان فعليا ؛ بحيث لو علم به لتنجز ، فلما ذا لا يرفع الحاكم عذر المكلف برفع جهله تكوينا لو أمكن كي يأتي به ويمتثله ، أو يجعل له الاحتياط فيما أمكن كي يدركه ولا يفوته؟

وحاصل الدفع : أنه لا يجب على الحاكم رفع ذلك الجهل ، مع أن الحكم فعلي لا نقص فيه سوى أنه لم يتعلق به العلم ليتنجز ؛ بل يجوز للحاكم جعل أصل أو أمارة مؤدية إليه تارة ، وإلى خلافه أخرى ؛ وذلك لحكمة مقتضية للجعل هي أهم من درك الواقع.

(١) أي : بالحكم الفعلي يعني : لا يمكن مع القطع جعل حكم آخر مثله أو ضده.

والوجه في عدم إمكان جعل حكم آخر ، مع تعلق القطع بالحكم هو : عدم كون رتبة الحكم الظاهري محفوظة مع القطع ؛ لانكشاف الواقع به فجعل حكم آخر معه مستلزم لاجتماع المثلين أو الضدين. بخلاف الظن ، فإن رتبة الحكم الظاهري معه محفوظة ، فجعله حينئذ غير مستلزم لاجتماع الضدين أو المثلين ؛ لتعدد رتبتهما باختلاف الفعلية فيهما.

(٢) لعله إشارة إلى عدم صحة فعلية الحكم بالمعنى الأول ، أو إشارة إلى عدم إجدائها ـ بعد تسليمها ـ في دفع التنافي المذكور ، نظرا إلى نظر العرف السطحي ؛ وإن كان مجديا في دفع التنافي عقلا ، لاختلاف رتبتهما بحسب النظر العقلي الدقي.

(٣) يعني : كيف يمكن أن يكون الحكم الواقعي فعليا مع جعل أصل أو أمارة مؤدية إليه تارة وإلى ضده أخرى؟ وهل هو إلا مستلزم لاجتماع المثلين أو الضدين؟ المشار إليه بقوله : «ذلك» هو جعل حكم آخر يعني : كيف يمكن جعل حكم آخر يقتضيه أصل أو أمارة مؤدية إلى الحكم المظنون تارة وإلى ضده أخرى؟ وليس هذا إلا مستلزما لاجتماع

٨٨

قلت (١) : لا بأس باجتماع الحكم الواقعي الفعلي بذاك المعنى (٢) ـ أي لو قطع به من باب الاتفاق (٣) لتنجز ـ مع حكم آخر فعلي في مورده (٤) بمقتضى الأصل أو الأمارة (٥) ، أو دليل أخذ في موضوعه الظن بالحكم بالخصوص به ؛ على ما سيأتي من التحقيق في التوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي.

______________________________________________________

المثلين في صورة الإصابة ، واجتماع الضدين في صورة الخطأ.

(١) دفع للإشكال المذكور ، وحاصل الدفع : ما تقدم في الجواب عن الإشكال السابق من أن اختلاف معنى الفعلية مانع عن لزوم اجتماع المثلين أو الضدين ؛ لأن الحكم الواقعي فعلي غير منجز ، والحكم الآخر الذي في مورده بمقتضى الأصل أو الأمارة أو بمقتضى دليل قد أخذ في موضوعه الظن بالحكم فعلي منجز ، فلا تنافي بينهما.

(٢) أي : الفعلي غير التام.

(٣) أي : بدون عناية من المولى لرفع جهل المكلف ، أو إيجاب الاحتياط عليه.

(٤) أي : في مورد الحكم.

(٥) أي : لعدم استلزامه اجتماع إرادتين أو إرادة وكراهة ، فإن الفعلي غير التام بمقتضى الواقع لا ينافي الفعلي التام بمقتضى الأمارة والأصل. وبتعبير آخر : أن مؤدى الأمارة والأصل حكم فعلي ، ويمكن أن يكون الحكم الواقعي فعليا أيضا بمعنى : تنجزه لو علم به ، ولا منافاة بين الحكمين الفعليين إذا كانت فعلية أحدهما بهذا المعنى.

وكيف كان ؛ فإن الحكم الفعلي غير التام لا ينافي حكم الأصل والأمارة ، ولا حكما أخذ في موضوعه الظن بالحكم الواقعي الفعلي غير التام. وضمير «به» راجع على الحكم ، و «من التحقيق» بيان للموصول في «ما سيأتي».

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ الغرض من بيان هذا الأمر : بيان امتناع أخذ القطع بحكم في موضوع نفس ذلك الحكم أو مثله أو ضده.

مثال الأول : كأن يقال : «إذا علمت بحرمة الخمر فالخمر حرام».

وجه الامتناع : لزوم الدور ؛ لأن الحرمة موقوفة على العلم بها لكونه موضوعا لها ، والعلم بها موقوف على وجودها قبل العلم بها ، فالعلم موقوف على الحكم ، وهو موقوف على العلم ، وهذا دور واضح.

ومثال الثاني : كأن يقال : «إذا علمت بحرمة الخمر فالخمر حرام مثل تلك الحرمة المعلومة».

٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وجه الامتناع : لزوم اجتماع المثلين وهو في الاستحالة كاجتماع الضدين.

ومثال الثالث : كأن يقال : «إذا علمت بحرمة الخمر فالخمر لك حلال».

وجه الامتناع : لزوم اجتماع الضدين.

٢ ـ يصح أخذ القطع بمرتبة من الحكم ـ كالقطع بالحكم الإنشائي ـ في موضوع مرتبة أخرى منه ـ كالمرتبة الفعلية ـ كأن يقال : إذا علمت بإنشاء وجوب القصر على المسافر وجب عليك فعلا القصر.

وكذا الحال في المثل والضد ؛ بأن يقال : «إذا علمت بإنشاء حرمة الخمر فالخمر حرام عليك فعلا حرمة مماثلة» ، أو «إذا علمت بحرمة الخمر إنشاء يباح لك فعلا شربه».

٣ ـ بيان حال الظن بالحكم وأنه كالقطع في استحالة أخذه في موضوع نفس ذلك الحكم ، ولكنه يفترق عن القطع بجواز أخذه في موضوع مثل ذلك الحكم أو ضده ؛ لعدم لزوم محذور اجتماع المثلين أو الضدين ، لأن القطع لما كان موجبا لانكشاف الواقع بتمامه ؛ بحيث لا يبقى معه احتمال الخلاف أصلا لم يمكن حينئذ جعل حكم آخر مثلا كان أو ضدا.

هذا بخلاف الظن بالحكم ، فإنه لما لم يكن كاشفا عن الواقع كشفا تاما ، فلا محالة تكون مرتبة الحكم الظاهري معه محفوظة ، فيمكن جعل حكم آخر مماثل للحكم المظنون أو مضاد له ، فيصح أن يقال : «إذا ظننت بحرمة الخمر فالخمر حرام مماثلة للحرمة المظنونة أو مباح».

٤ ـ وإشكال عدم الفرق بين الظن والقطع في استلزام كليهما لاجتماع المثلين أو الضدين ، فكما لا يصح جعل مثل الحكم المقطوع أو ضده إذا كان فعليا ؛ لاستلزامه اجتماع المثلين أو الضدين ، فكذلك لا يصح جعل الحكم المظنون أو ضده فيما إذا كان فعليا ؛ لاستلزامه اجتماع المثلين أو الضدين ؛ مدفوع : بأنه لا مانع من أخذ الظن بحكم فعليّ موضوعا لحكم آخر فعلي مثله أو ضده ؛ لاختلاف الحكمين الفعليين.

فإن الفعلي الذي تعلق به الظن وإن كان على فرض وجوده فعليا بمعنى : أنه لو تعلق به العلم لتنجز ، ولكنه غير منجز ؛ لعدم تعلق العلم به ، والفعلي الذي قد أخذ الظن موضوعا له فعلي منجز لتحقق موضوعه ، فلا تنافي بينهما من جهة اختلاف المرتبة ، فلا يلزم اجتماع المثلين أو الضدين.

٥ ـ إن قلت : كيف يمكن أن يكون الحكم الواقعي فعليا مع جعل أصل أو أمارة

٩٠

الأمر الخامس (١):

هل تنجز التكليف بالقطع كما يقتضي موافقته عملا يقتضي موافقته التزاما ، والتسليم له اعتقادا وانقيادا؟ كما هو اللازم في الأصول الدينية والأمور الاعتقادية ؛

______________________________________________________

مؤدية إليه تارة ، وإلى ضده أخرى ؛ إذ ليس هذا إلا مستلزما لاجتماع المثلين أو الضدين؟

قلت : لا بأس باجتماع الواقعي الفعلي بالمعنى التعليقي مع حكم آخر فعلي في مورده بمقتضى الأصل أو الأمارة.

وجه عدم البأس : هو ما تقدم من اختلاف الرتبة بين الحكمين الفعليين ، فلا يلزم اجتماع المثلين أو الضدين ؛ إذ يعتبر في استحالة اجتماع المثلين أو الضدين : اتحاد الحكمين المتماثلين أو المتضادين من حيث الرتبة أيضا ؛ كاتحادهما من حيث الزمان والموضوع ونحوهما كما في علم الميزان.

٦ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ عدم إمكان أخذ القطع بحكم في موضوع نفس ذلك الحكم ، ولا في موضوع مثل ذلك الحكم ، ولا في موضوع ضده ؛ للزوم الدور واجتماع المثلين أو الضدين ، والكل محال عقلا.

٢ ـ جواز أخذ القطع بحكم في مرتبة في موضوع نفس ذلك الحكم أو مثله أو ضده في مرتبة أخرى.

٣ ـ عدم أخذ الظن بحكم في موضوع نفس ذلك الحكم.

٤ ـ إمكان أخذ الظن بحكم في موضوع مثل ذلك الحكم أو ضده.

في وجوب الموافقة الالتزامية

(١) الغرض من عقد هذا الأمر : هو التعرض لوجوب الموافقة الالتزامية وعدمه بعد حكم العقل بوجوب الموافقة العملية.

وقبل الخوض في البحث ينبغي بيان ما هو محل الكلام من الالتزام فنقول : إنه لا شك في وجوب الالتزام بمعنى : الإيمان بما جاء به النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» أي : الالتزام بكل ما جاء به النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» من الأصول والفروع إنما هو من لوازم الإيمان بنبوّته ورسالته «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وهذا مما لا نزاع فيه.

وإنما النزاع بوجوب الالتزام بمعنى : عقد القلب على الأحكام الشرعية ؛ كالوجوب والحرمة وغيرهما من الأحكام الخمسة. ثم ما ذكره المصنف ـ حيث قال : في تفسير الموافقة الالتزامية : «والتسليم له اعتقادا وانقيادا» ـ وإن كان ينطبق على المعنى الأول ؛ إلا

٩١

بحيث كان له امتثالان وطاعتان ، إحداهما : بحسب القلب والجنان ، والأخرى : بحسب العمل بالأركان ، فيستحق العقوبة على عدم الموافقة التزاما ولو مع الموافقة عملا ، أو لا يقتضي؟ فلا يستحق العقوبة عليه ؛ بل إنما يستحقها على المخالفة العملية.

الحق هو الثاني لشهادة الوجدان (١) الحاكم في باب الإطاعة والعصيان بذلك ،

______________________________________________________

إنه يريد منه الالتزام بالمعنى الثاني وهو عقد القلب ؛ وذلك لخروج المعنى الأول عن محل النزاع قطعا. هذا مخلص الكلام في تحرير ما هو محل الكلام في المقام.

ثم الفرق بين الموافقة العملية والموافقة الالتزامية هو : اختصاص الأولى بالأحكام الإلزامية كالوجوب والحرمة ، هذا بخلاف الموافقة الالتزامية ، فإنها لا تختص بالأحكام الإلزامية ، بل تجري في غيرها.

وكيف كان ؛ فيقع الكلام في أنه هل تجب الموافقة الالتزامية كما تجب الموافقة العملية عقلا ؛ «بحيث كان له امتثالان وطاعتان ، إحداهما : بحسب القلب والجنان ، والأخرى : بحسب العمل بالأركان ، فيستحق العقوبة على عدم الموافقة التزاما ولو مع الموافقة عملا ، أو لا يقتضي؟».

فحاصل كلام المصنف في المقام هو : أن تنجز التكليف هل يقتضي عقلا وجوب إطاعتين إحداهما : عملية والأخرى : التزامية ، وحرمة مخالفتين كذلك أم لا يقتضي إلا وجوب إطاعة واحدة وهي العملية وحرمة مخالفة كذلك؟

وقد اختار المصنف عدم وجوب الموافقة الالتزامية حيث قال : «الحق هو الثاني» يعني :

عدم اقتضاء تنجز التكليف وجوب الموافقة الالتزامية.

(١) هذا استدلال على ما اختاره المصنف من عدم اقتضاء تنجز التكليف لوجوب الموافقة الالتزامية. وحاصله : أن مناط استحقاق العقوبة ـ وهو هتك حرمة المولى والطغيان عليه ـ مفقود في المخالفة الالتزامية ؛ إذ المفروض : أن الغرض من التكليف ـ وهو إحداث الداعي في نفس العبد إلى إيجاد ما فيه المصلحة الداعية إلى التشريع ـ متحقق على فرض الموافقة العملية وإن لم تتحقق الموافقة الالتزامية ؛ لأن العقل لا يرى العبد الممتثل عملا تحت الخطر وإن لم يكن ملتزما لحكم المولى اعتقادا.

نعم ؛ عدم التزامه اعتقادا بتكليف المولى يوجب نقصانه عن كمال العبودية ؛ لا انحطاطه عن أصلها ؛ لكن النقصان عن مزايا العبودية وعدم الفوز بها لا يوجب استحقاق العقوبة ، لما عرفت من أن سبب استحقاقها هو الهتك وعدم المبالاة بأحكام المولى ، وهو مفقود في من يمتثل أحكام المولى عملا ، ولا يوافقها التزاما. وهذا ما أشار

٩٢

واستقلال العقل بعدم استحقاق العبد الممتثل لأمر سيده إلا المثوبة دون العقوبة ، ولو لم يكن مستسلما وملتزما به ومعتقدا ومنقادا له ، وإن (١) كان ذلك يوجب تنقيصه وانحطاط درجته لدى سيده ؛ لعدم اتصافه بما يليق أن يتصف العبد به من الاعتقاد بأحكام مولاه والانقياد لها ، وهذا غير استحقاق العقوبة على مخالفته لأمره أو نهيه التزاما مع موافقته عملا ، كما لا يخفى.

ثم لا يذهب عليك (٢) : أنه على تقدير لزوم الموافقة الالتزامية ، لو كان المكلف

______________________________________________________

إليه بقوله : «واستقلال العقل بعدم استحقاق العبد ...» الخ.

(١) كلمة «إن» وصلية ، يعني : «وإن كان ذلك» أي : عدم التسليم والالتزام والانقياد «يوجب تنقيصه وانحطاط درجته» أي : العبد «لدى سيده» المطلع على حاله. هذا ما يظهر من كلام المصنف ؛ ولكن الظاهر من الآيات والروايات هو لزوم الالتزام شرعا.

فمن الآيات : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ)(١) ، فإن الإيمان بالكتاب عبارة عن الالتزام بأحكامه أصولا وفروعا.

ومن الروايات : ما عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عن قول الله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) قال : «الصلاة عليه والتسليم له في كل شيء جاء به» (٢).

ومن المعلوم : أن أحدا لو قال : أنا ملتزم بأحكام النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ولكن أوافقه عملا لم يكن ممن يسلم له «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ؛ إلا إن المستفاد من الآيات والروايات : هو لزوم الالتزام بالمعنى الأول أعني التسليم بكل ما جاء به النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» وهو خارج عن محل الكلام كما عرفت.

(٢) المقصود من هذا الكلام : هو عدم الملازمة بين وجوب الموافقة الالتزامية ـ على تقدير تسليمه ـ وبين وجوب الموافقة العملية وانفكاكهما في بعض الموارد ، كما في دوران الأمر بين المحذورين ، ضرورة : أن الموافقة القطعية العملية غير مقدورة للعبد مع تمكنه من الموافقة الالتزامية فيه ؛ لإمكان الالتزام بما هو حكم الله تعالى في الواقعة ؛ إذ لا يشترط في الموافقة الالتزامية معرفة الحكم الملتزم به بعينه ؛ بل يكفي في تحققها معرفة الحكم ولو إجمالا ، فيعقد القلب عليه ، فلا ملازمة بين الإطاعتين ، فتجب الموافقة

__________________

(١) النساء : ١٣٦.

(٢) بحار الأنوار ٢ : ٢٠٤ / ٨٨ ، عن المحاسن.

٩٣

متمكنا منها (١) لوجب ، ولو فيما لا يجب عليه الموافقة القطعية عملا ، ولا يحرم المخالفة القطعية عليه كذلك أيضا لامتناعهما ؛ كما إذا علم إجمالا بوجوب شيء أو حرمته للتمكن من الالتزام بما هو الثابت واقعا ، والانقياد له والاعتقاد به بما هو الواقع والثابت ؛ وإن لم يعلم أنه الوجوب أو الحرمة.

وإن أبيت (٢) إلا عن لزوم الالتزام به بخصوص عنوانه ، لما كانت موافقته القطعية الالتزامية حينئذ ممكنة ، ولما (٣) وجب عليه الالتزام بواحد قطعا ، فإن محذور الالتزام

______________________________________________________

الالتزامية ، ولا تجب الموافقة العملية القطعية ، ولا تحرم المخالفة كذلك ، لعدم القدرة عليهما.

(١) أي : من الموافقة الالتزامية. قوله : «لامتناعهما» تعليل لعدم وجوب الامتثال القطعي العملي ، وعدم الحرمة كذلك يعني : أن عدم القدرة أوجب ارتفاع الوجوب عن الموافقة العملية القطعية والحرمة عن المخالفة ، كذلك قوله : «للتمكن» تعليل لقوله : «تجب» يعني : تجب الموافقة الالتزامية ـ ولو مع عدم التمكن من الموافقة العملية ـ للقدرة على الموافقة الالتزامية ؛ بأن يلتزم بالحكم الثابت واقعا وإن لم يعلم أنه خصوص الوجوب أو الحرمة ؛ بل يكفي الالتزام بما هو عليه واقعا.

(٢) المقصود من هذا الكلام : هو فرض عدم تمكن العبد من الموافقة الالتزامية كما لا يتمكن من الموافقة العملية ، وذلك فيما إذا وجب الالتزام بحكم بخصوص عنوانه الخاص من الوجوب أو الحرمة ، ولا يكفي الالتزام بالجامع بين الوجوب والحرمة ، ولا بما هو الثابت بالواقع.

وبعبارة أخرى : وإن أبيت إلا عن لزوم الموافقة الالتزامية التفصيلية لم تجب حينئذ الموافقة الالتزامية في دوران الأمر بين المحذورين ، وذلك لعدم تمكن المكلف منها ؛ إذ المفروض : عدم كفاية الالتزام الإجمالي واعتبار العلم التفصيلي بالحكم الموجب ؛ لانتفاء القدرة على كل من الموافقة الالتزامية والعملية ، فتسقط الموافقة الالتزامية كالعملية.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(٣) عطف على قوله : «لما كانت» ، وقد ذكر المصنف جملة من اللوازم المترتبة على وجوب الالتزام بخصوص الحكم الواقعي ، الأول : ما أشار إليه بقوله : «لما كانت موافقته ...» الخ. والثاني : ما أشار إليه بقوله : «لما وجب عليه الالتزام بواحد قطعا».

وحاصله : أنه لا يجب على المكلف الالتزام بشيء من الحكمين لا خصوص الوجوب ولا خصوص الحرمة ؛ لإمكان أن يكون الحكم الملتزم به ضد الحكم الواقعي ، ومن

٩٤

بضد التكليف عقلا (١) ليس بأقل من محذور عدم الالتزام به بداهة (٢) ، مع (٣) ضرورة : أن التكليف ـ لو قيل باقتضائه للالتزام ـ لم يكد يقتضي إلا الالتزام بنفسه عينا لا الالتزام به أو بضده تخييرا.

______________________________________________________

المعلوم : أن محذور الالتزام بضد الحكم الواقعي ـ وهو التشريع ـ ليس بأقل من محذور عدم الالتزام بحكم رأسا ؛ بل لا محذور في عدم الالتزام ، لارتفاع وجوبه بعدم القدرة عليه ، فكما يكون الالتزام بحكم الله حسنا ، فكذلك يكون الالتزام بغير حكمه تعالى قبيحا ؛ لأنه تشريع محرم.

(١) قيد لمحذور الالتزام ، والمراد من المحذور : هو التشريع.

(٢) قيد «ليس» ، والمراد بمحذور عدم الالتزام به : هو المعصية.

(٣) هذا إشارة إلى اللازم الثالث من اللوازم المترتبة على وجوب الالتزام بخصوص الحكم الواقعي ، وحاصله : أنه يرد على وجوب الأخذ بأحدهما المعين من خصوص الوجوب أو الحرمة إشكالان :

أحدهما : محذور التشريع ؛ لاحتمال كون الحكم الملتزم به ضد الحكم الواقعي ، وهو الذي أشار إليه بقوله : «فإن محذور الالتزام ...» الخ.

ثانيهما : أن التكليف إذا اقتضى وجوب الالتزام فلا يقتضي إلا الالتزام بنفسه عينا ؛ لا الالتزام به أو بضده تخييرا.

والحاصل : أنه ـ بناء على عدم كفاية الموافقة الالتزامية الإجمالية ـ لا بد من الالتزام بارتفاع وجوبها ؛ كارتفاع وجوب الموافقة العملية.

وتوهّم : أنه لا بد إما من وجوب الالتزام بكلا الحكمين في الدوران بين المحذورين ـ الوجوب والحرمة ـ لتوقف الموافقة القطعية الالتزامية عليه ، أو الالتزام بأحدهما بالخصوص تخييرا ؛ لإناطة الموافقة الاحتمالية به فاسد.

أما الأول : فلعدم معقوليته ؛ إذ مع العلم بعدم كون أحدهما مرادا له «سبحانه وتعالى» لا ينقدح في نفس العاقل التزام جدي بكل واحد منهما بعينه ، هذا مضافا إلى استلزامه ـ بعد تسليمه ـ للمخالفة القطعية ؛ لعلمه بعدم كون أحدهما حكما له تعالى.

وأما الثاني : فلدورانه بين المحذورين ؛ لأنه إذا اختار الوجوب والتزم به بعينه ، فإن كان الحكم الواقعي هو الوجوب أيضا ، فلا بأس بهذا الالتزام ، ولم يتوجه إليه محذور ، وإن كان هو الحرمة فقد شرع ووقع في محذور التشريع. وكذا القول إذا اختار الحرمة والتزم بها ، فالالتزام بأحد الحكمين عينا إما واجب وإما حرام.

٩٥

ومن هنا (١) قد انقدح : إنه لا يكون من قبل لزوم الالتزام مانع عن إجراء الأصول الحكمية (٢) أو الموضوعية (٣) في أطراف العلم لو كانت (٤) جارية مع قطع النظر عنه.

كما لا يدفع بها (٥) محذور عدم الالتزام به ؛ بل الالتزام بخلافه لو قيل بالمحذور فيه

______________________________________________________

(١) يعني : ومن اقتضاء التكليف المعلوم وجوب الالتزام بنفسه وبعنوانه ـ بناء على أصل الاقتضاء ـ دون التخيير بينه وبين ضده قد ظهر : أن وجوب الالتزام ليس مانعا عن جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي ، إذا كانت بنفسها ـ مع قطع النظر عن وجوب الموافقة الالتزامية ـ جارية فيها ؛ بأن تمت أدلتها بحيث تشمل أطراف العلم الإجمالي ، ولم يمنع عن جريانها مانع آخر.

والوجه فيه ما عرفته من سقوط وجوب الالتزام بامتناع امتثاله.

وبالجملة : فبعد البناء على اختصاص وجوب الالتزام بالحكم المعلوم تفصيلا لا يكون وجوب الالتزام ـ فيما لا يعلم التكليف تفصيلا ـ ثابتا ؛ حتى يمنع عن جريان الأصول.

(٢) كأصالة الإباحة فيما أمره بين الوجوب والحرمة ؛ كالدعاء عند رؤية الهلال إذا فرض دوران حكمه الكلي بين الوجوب والحرمة.

(٣) كاستصحاب عدم تعلق الحلف لا فعلا ولا تركا بوطء المرأة المعيّنة في زمان معيّن ، فيما إذا ترددت من وجب وطيها بالحلف من وجب ترك وطيها به.

(٤) فلو لم تجر فيها الأصول لمانع آخر غير وجوب الالتزام ـ كالعلم الإجمالي على قول أو المخالفة العملية ـ كان عدم جريانها مستندا أيضا إلى ذلك المانع ؛ لا إلى وجوب الالتزام ، فوجوب الالتزام ليس مانعا عن جريان الأصول ؛ «لو كانت جارية ، مع قطع النظر عنه» أي : عن وجوب الالتزام.

(٥) أي : بالأصول الحكمية والموضوعية. هذا إشارة إلى ضعف ما صنعه الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» في المقام ؛ من دفع محذور عدم الالتزام بالحكم الواقعي في دوران الأمر بين المحذورين بوسيلة الأصول العملية.

وحاصل ما أفاده الشيخ «قدس‌سره» : أنه فرق بين الأصول في الشبهة الحكمية ، وبين الأصول في الشبهة الموضوعية ـ بناء على لزوم الالتزام بالحكم ـ بأن الأصول الحكمية لا تجري في أطراف العلم الإجمالي ؛ لأن جريانها موجب للمخالفة العملية. هذا بخلاف الأصول الموضوعية ، فإنها تجري وتخرج مجراها عن تحت وجوب الالتزام ؛ لأنها رافعة لموضوع وجوب الالتزام ، وهو الحكم الذي يجب الالتزام به ، مثلا : المرأة المردّدة بين من حرم وطيها بالحلف وبين من وجب وطيها به تخرج عن موضوع

٩٦

حينئذ أيضا إلا على وجه دائر (١) ؛ لأن جريانها موقوف على محذور في عدم الالتزام اللازم من جريانها ، وهو موقوف على جريانها بحسب الفرض.

______________________________________________________

حكمي التحريم والوجوب رأسا بوسيلة أصالة عدم تعلق الحلف وطيها ، وعدم تعلقه بترك وطيها.

فلا يلزم من جريانها طرح الحكم ورفعه عن موضوعه حتى يترتب عليه محذور عدم الالتزام به بسبب طرحه ؛ بل يلزم من جريانها ارتفاع الموضوع ، حيث إن الأصول الموضوعية ناظرة إلى موضوعاتها بإثباتها أو نفيها ، ومن المعلوم : قصور أدلة الأحكام عن هذا النظر ، حيث إنها في مقام الحكم للموضوع على فرض وجوده.

وعليه : فإذا جرى استصحاب عدم تعلق الحلف بوطء المرأة المعيّنة ، أو استصحاب عدم تعلقه بتركه لم يكن ذلك طرحا لدليل وجوب الوفاء باليمين ؛ بل تخرج المرأة حينئذ عن المرأة التي تعلق بها ، كما عرفت. فالأصول الموضوعية رافعة لموضوع وجوب الالتزام.

هذا بخلاف الشبهة الحكمية ، فإن الأصل فيها معارض لنفس الحكم المعلوم بالإجمال ، وليس مخرجا لمجراه عن موضوعه حتى لا ينافيه جعل الشارع. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح ما أفاده الشيخ «قدس‌سره» من الفرق بين الأصول الحكمية والموضوعية.

(١) هذا ردّ من المصنف على الشيخ الأنصاري «قدس‌سره».

وحاصل ما أفاده المصنف في ردّ الشيخ الأنصاري : أن محذور عدم الالتزام بالحكم الواقعي ـ بناء على وجوب الالتزام ـ لا يدفع بإجراء الأصول الحكمية أو الموضوعية ؛ لأن جريان الأصل لدفع محذور عدم الالتزام بالتكليف مستلزم للدور ؛ وذلك لأن جريان الأصل موقوف على عدم ترتب محذور في عدم الالتزام بالحكم الواقعي ، بسبب جريان الأصل ؛ إذ لو ترتب على عدم الالتزام به محذور لم تجر الأصول للعلم حينئذ بمخالفة بعضها للواقع.

وعدم المحذور موقوف أيضا على جريانها : إذ المقصود : نفي المحذور بجريانها الرافع لموضوع وجوب الالتزام ، فجريان الأصول موقوف على عدم المحذور ، وعدم المحذور متوقف على جريانها.

فالمتحصل : أن جريان الأصل يتوقف على عدم وجوب الالتزام ؛ لأنه مناف له وعدم ثبوته يتوقف على جريان الأصل فيلزم الدور.

٩٧

اللهم إلا أن يقال (١) : إن استقلال العقل بالمحذور فيه إنما يكون فيما إذا لم يكن هناك ترخيص في الإقدام والاقتحام في الأطراف ، ومعه لا محذور فيه ؛ بل ولا في الالتزام بحكم آخر.

إلّا إن الشأن (٢) في جواز جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي ، مع عدم ترتب أثر عملي عليها ، مع أنها أحكام عملية كسائر الأحكام الفرعية.

______________________________________________________

(١) هذا استدراك على قوله : «كما لا يدفع بها محذور عدم الالتزام به» ، ودفع للدور المذكور ، وتصحيح لكلام الشيخ الناظر إلى ارتفاع حكم العقل بلزوم الالتزام بالتكليف المحتمل.

وحاصل ما أفاده في هذا الاستدراك ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ١٤١» ـ أن حكم العقل بلزوم الموافقة الالتزامية إن كان منجزا غير معلق على شيء ؛ بأن يكون العلم الإجمالي بالتكليف علّة تامة لفعليته الحتمية الموجبة لحكم العقل بلزوم الالتزام به كان للدور المذكور حينئذ مجال. وأما إذا كان حكم العقل بلزوم الموافقة الالتزامية معلقا على عدم مانع ؛ كالترخيص في ارتكاب الأطراف وجعل الحكم الظاهري على خلاف الحكم المعلوم بالإجمال ارتفع محذور عدم الالتزام ببركة الأصول بدون غائلة الدور ؛ لأن الأصول ترفع موضوع حكم العقل بلزوم الالتزام ؛ إذ موضوع حكم العقل معلق على عدم جريان الأصول.

وأما جريان الأصول : فلا يتوقف على شيء أصلا فلا دور أصلا.

ولهذا قال المصنف : «ومعه لا محذور فيه» أي : ومع الترخيص الكاشف عن عدم فعلية الواقع لا محذور في عدم الالتزام ؛ بل ولا محذور في الالتزام بحكم آخر مغاير للحكم الواقعي ، وهو الحكم الظاهري الذي يقتضيه الأصل ؛ كالالتزام بحلية شرب التتن التي هي حكم فعلي ظاهري يقتضيه الأصل مع فرض حرمته واقعا.

(٢) وحاصل الكلام في المقام : أنه لا إشكال في جريان الأصول من ناحية حكم العقل بلزوم الالتزام ؛ لكون حكم العقل بلزوم الالتزام تعليقيا ، لكن إنما الإشكال في جريان الأصول لأجل عدم المقتضي في أطراف العلم الإجمالي ؛ وذلك لما ثبت في محله من اعتبار الأثر العملي في جريان الأصول ؛ لأنها أحكام عملية كسائر الأحكام الفرعية ، فبدون الأثر العملي لا مقتضي لجريانها ، ومن المعلوم : عدم ترتب أثر عملي على جريانها في المقام ؛ لأن المكلف في موارد دوران الأمر بين المحذورين إما فاعل وإما تارك ، وعلى كل واحد منهما يحتمل كل من الموافقة والمخالفة ، فلا يوجب جريان الأصل أمرا زائدا

٩٨

مضافا : إلى عدم شمول أدلتها لأطرافه (١) ؛ للزوم التناقض في مدلولها (٢) على تقدير شمولها ، كما ادّعاه شيخنا العلامة «أعلى الله مقامه» ، وإن كان (٣) محل تأمل ونظر ، فتدبر جيدا.

______________________________________________________

على ما يكون المكلف عليه تكوينا من الفعل أو الترك ، فلا أثر للأصول فيما دار حكمه بين الوجوب والحرمة.

وقد أشار إلى وجه عدم جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي بقوله : «مع عدم ترتب أثر عملي عليها».

(١) أي : لأطراف العلم الإجمالي. هذا إشارة إلى وجه آخر لعدم جريان الأصول ، ومرجع هذا الوجه إلى قصور أدلة الأصول عن الشمول لأطراف العلم الإجمالي.

وحاصل هذا الوجه : هو لزوم التناقض بين صدر أدلة الاستصحاب وذيلها ، على فرض شمولها لأطراف العلم الإجمالي ؛ لأن مقتضى مقتضى الصدر ـ وهو قولهم «عليهم‌السلام» ـ : «لا تنقض اليقين بالشك» ـ عدم جواز نقض اليقين بالطهارة ، فيما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد أطراف العلم الإجمالي ، ومقتضى الذيل ـ وهو قولهم «عليهم‌السلام» : «لكن تنقضه بيقين آخر ـ هو وجوب نقض اليقين بالطهارة بالعلم الإجمالي المذكور ؛ لكونه فردا ليقين آخر ، ومن المعلوم : أن الإيجاب الجزئي ـ وهو النقض في الجملة ـ يناقض السلب الكلي وهو عدم نقض شيء من أفراد اليقين بالشك ، مثلا : إذا علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين ، فاستصحاب طهارة كل منهما ـ بمقتضى عدم جواز نقض اليقين بها بالشك في نجاسة أحدهما ـ يناقض وجوب البناء على نجاسة واحد منهما بمقتضى العلم الإجمالي بها ، ومع تناقض الصدر والذيل وعدم مرجح لأحدهما يسقطان معا ، فيبقى جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي خاليا عن الدليل.

(٢) أي : مدلول الأدلة.

(٣) أي : وإن كان ما ذكره الشيخ «قدس‌سره» «محل تأمل ونظر» ؛ لإمكان أن تكون فعلية الأحكام الواقعية موقوفة على العلم التفصيلي ، ويكون حال العلم الإجمالي حال الشبهة البدوية ، كما التزموا به في مورد الشبهة غير المحصورة ، فإنه مع العلم الإجمالي بوجود الحكم قد أذن الشارع بارتكاب الأطراف. وقال المصنف في تعليقته على الكتاب : بجريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي.

٩٩

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ بيان ما هو محل الكلام من الالتزام : لا شك في وجوب الالتزام بمعنى التسليم والإيمان بما جاء به النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» من الأصول والفروع ؛ لأنه من لوازم الإيمان بنبوّته ورسالته ، وإنما الكلام والنزاع في وجوب الالتزام بمعنى عقد القلب على الأحكام الشرعية ؛ كالوجوب والحرمة ونحوهما من الأحكام الخمسة.

ثم الفرق بين الموافقة العملية والموافقة الالتزامية هو : اختصاص الأولى بالأحكام الالتزامية دون الثانية.

٢ ـ هل تجب الموافقة الالتزامية كما تجب الموافقة العملية عقلا ؛ بأن يكون هناك امتثالان وطاعتان إحداهما : بحسب القلب والجنان ، والأخرى : بحسب العمل بالأركان ، فيستحق العقوبة على عدم الموافقة التزاما ؛ ولو مع الموافقة عملا. أو لا؟

وقد اختار المصنف عدم وجوب الموافقة الالتزامية ، واستدل عليه : بشهادة الوجدان ؛ لأن مناط استحقاق العقوبة ـ وهو هتك حرمة المولى والطغيان عليه ـ مفقود في المخالفة الالتزامية.

وما يظهر من بعض الآيات والروايات من وجوب الالتزام هو الالتزام بالمعنى الأول ، الخارج عن محل الكلام ؛ دون الالتزام بالمعنى الثاني.

٣ ـ إنه لا ملازمة بين وجوب الموافقة الالتزامية ، وبين الموافقة العملية ـ بناء على وجوب الموافقة الالتزامية ـ وذلك لانفكاكهما في بعض الموارد كدوران الأمر بين المحذورين ، حيث لا تجب الموافقة العملية لكونها غير مقدورة للمكلف ، وتجب الموافقة الالتزامية لكونها مقدورة له.

نعم ؛ لا يقدر المكلف على الموافقة الالتزامية أيضا فيما إذا وجب الالتزام بكل حكم بعنوانه الخاص من الوجوب أو الحرمة أو نحوهما ، فلا تجب حينئذ الموافقة الالتزامية في دوران الأمر بين المحذورين ؛ لعدم قدرة المكلف على الموافقة الالتزامية ، فتسقط كالموافقة العملية.

٤ ـ أن لزوم الالتزام ـ على تقدير لزومه ـ لا يكون مانعا عن إجراء الأصول في أطراف العلم الإجمالي لو كانت جارية ، مع قطع النظر عنه بأن تمت أدلتها بحيث تشمل أطراف العلم الإجمالي ، ولم يمنع عن جريانها مانع آخر كالمخالفة العملية. والوجه فيه ما عرفت ؛ من سقوط وجوب الالتزام بامتناع امتثاله. نعم ؛ لو كان هناك مانع آخر

١٠٠