دروس في الكفاية - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٧

على لفظ ولا على معنى ، فتكون (١) متواترة لفظا أو معنى.

ولكنه (٢) مندفع بأنها وإن كانت كذلك ؛ إلا إنها متواترة إجمالا ، ...

______________________________________________________

الآحاد مستلزم للدور الباطل ، بتقريب : أن هذه الأخبار في أنفسها أخبار آحاد ، وليست متواترة لا لفظا ولا معنى ، فحينئذ : لو استدل بها على حجية أخبار الآحاد لزم الدور ؛ لأنه استدلال بأخبار الآحاد على حجية أخبار الآحاد ، فإن الاستدلال بهذه الأخبار يتوقف على حجية مطلق أخبار الآحاد بما فيها هذه الأخبار.

فلو كانت حجية مطلق أخبار الآحاد متوقفة على الاستدلال بهذه الأخبار لزم الدور ؛ إذ لازمه : توقف حجية هذه الأخبار على أنفسها ، وهو دور باطل.

(١) أي : ليست الأخبار المتقدمة متفقة على لفظ ولا على معنى ؛ حتى تكون متواترة لفظا أو معنى.

(٢) أي : ولكن الإشكال على الاستدلال مندفع.

وحاصل الدفع : إن الأخبار التي دلت على حجية أخبار الآحاد وإن كانت غير متفقة على لفظ ولا على معنى ، كي تكون متواترة لفظا أو معنى ؛ ولكنها متواترة إجمالا ، بمعنى : أنه يعلم إجمالا بصدور بعضها على اختلاف مضامينها عن المعصوم «عليه‌السلام» ، وقد عرفت شرح كل من التواتر اللفظي والمعنوي والإجمالي عند الجواب عن المانعين.

وكيف كان ؛ فحينئذ : يندفع إشكال الدور ؛ لأنها ليست أخبار آحاد حتى يلزم الدور ، غاية الأمر : مقتضى تواترها الإجمالي هو الأخذ بالمتيقن ـ وهو أخصها مضمونا وأضيقها دائرة ـ وهو خبر العدل الإمامي ، فإنه الجامع بين الكل ، فإذا دل بعضها مثلا على حجية خبر الثقة ، وبعضها على حجية الثقة العدل ، وبعضها على حجية الثقة العدل المشهور بين الأصحاب ، فالحجة بين الكل هو ما دل على حجية خبر الثقة العدل المشهور ، فإنه الذي توافقت عليه أخبار الحجية ، وأطبقت على صحة مؤداه.

وهذا يكفي في إثبات ما هو المدعى ، وهو حجية خبر الواحد في الجملة ، يعني : على نحو الإيجاب الجزئي في مقابل السلب الكلي ، أو نقول : إن هذا المقدار وإن لم يكف بمعظم الفقه ولا بقليل منه لندرته جدا ؛ ولكن إذا كان في أخبار الحجية خبر بهذه الخصوصيات الثلاث ، وقد دل على حجية ما هو أعم وأوسع ؛ كحجية خبر الثقة مطلقا ، من غير ضمّ خصوصية أخرى إلى الوثاقة ، فنتعدى عنه إلى الأعم الأوسع ، ويكفي بمعظم الفقه لكثرته بلا كلام.

٣٢١

ضرورة (١) : أنه يعلم إجمالا بصدور بعضها منهم «عليهم‌السلام» ، وقضيته (٢) وإن كان حجية خبر دل على حجية أخصها مضمونا ؛ إلا إنه يتعدى عنه (٣) فيما إذا كان بينها ما كان بهذه الخصوصية (٤) ، وقد دل على حجية ما كان أعم (٥) ، فافهم (٦).

______________________________________________________

قوله : «كذلك» أي : غير متواترة لفظا أو معنى.

(١) تعليل لقوله : «إلا أنها متواترة إجمالا».

(٢) أي : ومقتضى العلم الإجمالي بصدور بعض هذه الأخبار ؛ «وإن كان حجية خبر دل ...» الخ.

(٣) أي : عن أخصها مضمونا.

(٤) وهي كون المخبر ثقة عدلا.

(٥) كصحيحة أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن «عليه‌السلام» قال : سألته وقلت : من أعامل؟ وعمن أخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال : «العمري ثقتي ، فما أدّى إليك عني فعني يؤدي ، وما قال لك عني فعني يقول ، فاسمع له وأطع ، فإنه الثقة المأمون» (١). فهذه الصحيحة وافية بإثبات المطلوب ؛ إذ هي ظاهرة في حجية قول الثقة مطلقا ، سواء كان إماميا أم غيره ، فإن تعليل الإمام لوجوب قبول رواية العمري بأنه الثقة المأمون تعليل بمطلق الوثاقة والمأمونية لا الوثاقة المختصة بأمثال العمري ، ومن المعلوم : أن العبرة بعموم التعليل لا بخصوصية المورد ، ومقتضاه : الالتزام بحجية خبر الثقة مهما كان مذهبه.

(٦) لعله إشارة إلى عدم جواز التعدي عما هو أخصها مضمونا إلى غيره ؛ لأن تلك القيود دخيلة في موضوع حجية خبر الواحد ، ولا أقل من احتمال دخلها فيه ، فمقتضى الاحتياط : اعتبارها.

أو إشارة إلى أن الأخبار الدالة على حجية خبر الثقة متواترة معنى لأنها كثيرة ، فلا حاجة إلى الالتزام بالتواتر الإجمالي ، ثم تعدى من أخصها مضمونا إلى ما كان أعم.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ الاستدلال بكل واحد واحد من الأخبار الدالة على حجية خبر الواحد لا محصل له ؛ لكونه مستلزما للدور.

وإنما الصحيح هو الاستدلال بمجموعها بلحاظ تواترها لا لفظا ؛ لعدم اتفاقها على

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٢٩ / جزء من ح ١ ، الوسائل ٢٧ : ١٣٨ / ٣٣٤١٩.

٣٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

لفظ واحد ؛ بل لتواترها إما بالتواتر المعنوي لاتفاقها على حجية خبر العدل أو الثقة ، أو بالتواتر الإجمالي للعلم الإجمالي بصدور بعضها عن المعصوم «عليه‌السلام» ، فيؤخذ بأخصها مضمونا للعلم بثبوته.

٢ ـ قد صنف الشيخ «قدس‌سره» هذه الروايات إلى أصناف :

منها : ما ورد في الخبرين المتعارضين من الأخذ بالأعدل والأصدق والمشهور ، والتخيير عند التساوي ، مما يظهر منه : حجية الخبر غير المقطوع صدوره.

ومنها : ما دل على إرجاع بعض الرواة إلى بعض أصحابهم ؛ كإرجاعه إلى زرارة ومحمد بن مسلم وأمثالهما ، مما يظهر منه : حجية خبر هؤلاء وإن لم يكن مفيدا للعلم.

ومنها : ما دل على وجوب الرجوع إلى الرواة والثقات والعلماء.

ومنها : ما دل على الأمر بحفظ الحديث وكتابته ، مما يظهر منه : حجية قول حافظ الحديث ؛ إذ لو لا ذلك لما كان معنى للحفظ والكتابة.

٣ ـ المتيقن هو الأخذ بأخصها مضمونا ؛ لأنه الجامع بين الكل ، فإذا دل بعضها مثلا على حجية خبر الثقة ، وبعضها على حجية خبر الثقة العدل ، وبعضها على حجية الثقة العدل المشهور بين الأصحاب ، فالحجة بين الكل هو الأخير ، وهذا المقدار يكفي لإثبات ما هو المطلوب من حجية خبر الواحد في الجملة.

«فافهم» لعله إشارة إلى أن الأخبار الدالة على حجية خبر الثقة متواترة بالتواتر المعنوي ، فيتم الاستدلال بها على حجية خبر الثقة بلا إشكال أصلا.

٤ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

تمامية الاستدلال بالأخبار على حجية خبر الواحد.

٣٢٣
٣٢٤

فصل

في الإجماع على حجية الخبر.

وتقريره من وجوه (١):

أحدها : دعوى الإجماع من تتبع فتاوى الأصحاب على الحجية من زماننا إلى زمان الشيخ ، فيكشف رضاه «عليه‌السلام» بذلك ، ويقطع به ، أو من تتبع الإجماعات المنقولة على الحجية.

______________________________________________________

في الإجماع على حجية خبر الواحد

(١) وهي ستة على ما ذكره الشيخ «قدس‌سره» ، وقد اقتصر المصنف على ذكر ثلاثة منها :

١ ـ الإجماع القولي.

٢ ـ استقرار سيرة المسلمين على العمل بخبر الواحد.

٣ ـ استقرار سيرة العقلاء على العمل بخبر الواحد.

والثاني والثالث إجماع عملي.

والأول : ما أشار إليه بقوله : «أحدها : دعوى الإجماع من تتبع فتاوى الأصحاب على الحجية» ، إلى قوله : «أو من تتبع الإجماعات المنقولة على الحجية» ، وجعلهما الشيخ وجها واحدا من وجوه تقرير الإجماع.

والثاني : ما أشار إليه بقوله : «وثانيها : دعوى اتفاق العلماء عملا ـ بل كافة المسلمين ـ ...» الخ.

والثالث : ما أشار إليه بقوله : «وهو دعوى استقرار سيرة العقلاء ...» الخ.

هذا مجمل الكلام في الوجوه الثلاثة من وجوه تقرير الإجماع.

وأما تفصيل الكلام فيها : فالوجه الأول ـ وهو الإجماع القولي ـ ينقسم إلى محصل ومنقول ، والأول : ما أشار إليه بقوله : «من تتبع فتاوى الأصحاب على الحجية من زماننا إلى زمان الشيخ ...» الخ ، أي : الشيخ الطوسي «قدس‌سره» ، فيحصل بذلك التتبع : القطع بالاتفاق الكاشف عن رضا الإمام «عليه‌السلام» بالحكم بحجية خبر الواحد ،

٣٢٥

ولا يخفى : مجازفة هذه الدعوى ؛ لاختلاف الفتاوى فيما أخذ في اعتباره من

______________________________________________________

«فيكشف» بالبناء للمجهول يعني : فيكشف هذا التتبع عن «رضاه بذلك» أي : عن رضا الإمام «عليه‌السلام» بحجية خبر الواحد ، «ويقطع به» أي : ويقطع باعتبار خبر الواحد من باب الحدس ، وذلك لعدم وجود الإجماع الدخولي في زمان الغيبة ، وبطلان الإجماع اللطفي عند المصنف «قدس‌سره». هذا ملخص الكلام في الإجماع المحصل.

وأما الإجماع المنقول : فقد أشار إليه بقوله : «أو من تتبع الإجماعات المنقولة على الحجية» ، فإن كثيرا من الفقهاء ادعى الإجماع على حجية خبر الواحد ؛ بحيث يقطع بتحقق الإجماع الكاشف عن رضا الإمام «عليه‌السلام» من تظافر النقل في نفسه ، أو بضميمة القرائن ؛ إذ لو لا القطع بتحقق الإجماع لما صح الاستدلال به ؛ لما عرفت من : لزوم الدور ؛ لأن الإجماع المنقول بخبر الواحد يكون من مصاديق خبر الواحد ، فيلزم محذور الدور.

وكيف كان ؛ فأورد المصنف على كلا القسمين من الإجماع القولي.

وأما الإجماع المحصل : فقد أشار إلى الإيراد عليه بقوله : «ولا يخفى مجازفة هذه الدعوي ؛ لاختلاف الفتاوى ...» الخ. وحاصل الإيراد على دعوى الإجماع المحصل على اعتبار خبر الواحد هو : اختلاف الفتاوى في الخصوصيات الدخيلة في حجية خبر الواحد ؛ إذ العنوان في بعضها خبر الثقة كما نسب إلى مشهور القدماء ، حيث قالوا باعتبار خبر الثقة ، وفي بعضها الآخر : خبر العدل الإمامي ، كما حكي عن صاحب المعالم ، حيث قال باعتبار خبر العدل الإمامي مع تعدد المزكي ، أو كفاية تزكية واحد كما ذهب إليه العلامة في التهذيب ، وفي بعضها الآخر : شيء آخر ككونه مقبولا عند الأصحاب.

ومع هذا الاختلاف ، وعدم وصول شيء من هذه العناوين إلى حد الإجماع كيف يمكن دعوى الإجماع والقطع برضا المعصوم «عليه‌السلام» باعتبار خبر الواحد.

وضمير «معه» راجع على الاختلاف ، وضمير اعتباره راجع على خبر الواحد ، وضمير «تتبعها» راجع على الفتاوى.

هذا خلاصة الكلام في الإشكال على الإجماع المحصل.

وأما الإيراد على الإجماع المنقول : فقد أشار إليه بقوله : «وهكذا حال تتبع الإجماعات المنقولة» أي : الإيراد على الإجماعات المنقولة على حجية خبر الواحد كالإيراد على دعوى الإجماع المحصل ؛ لأن بعضهم نقل الإجماع على حجية خبر

٣٢٦

الخصوصيات ، ومعه لا مجال لتحصيل القطع برضاه «عليه‌السلام» من تتبعها ، وهكذا حال تتبع الإجماعات المنقولة.

اللهم إلا أن يدعى تواطؤها (١) على الحجية في الجملة ، وإنما الاختلاف في الخصوصيات المعتبرة فيها ؛ ولكن دون إثباته خرط القتاد.

______________________________________________________

العدل الإمامي مثلا ، وآخر على حجية خبر الثقة ، وثالث على حجية خبر العدل الضابط. وهكذا.

فهذا الاختلاف في الفتاوى وفي الإجماعات المنقولة مانع عن تحقق الإجماع المحصل والمنقول ؛ لأن الملاك في حجية الإجماع هو : كشفه عن رضا المعصوم «عليه‌السلام» ، ومع الاختلاف المزبور لا يكون كاشفا عن رضاه «عليه‌السلام» ، فلا يكون حجة.

(١) أي : تواطؤ الفتاوى.

والمقصود من هذا الكلام : هو تصحيح التمسك بالإجماع على حجية خبر الواحد بأن يقال : إنهم يقولون بحجية خبر الواحد في الجملة ، ثم يختلفون في الخصوصيات المعتبرة فيه ، بنحو يكون القول بحجية الخبر الخاص بنحو تعدد المطلوب لا وحدته ؛ بحيث كان أصل اعتبار الخبر مفروغا عنه لديهم ، غاية الأمر : بعضهم يقول : إن الحجة هو الخبر الواجد لشرط كذا ، والآخر يقول : إنها هي الخبر الواجد لشرط كذا ، على نحو إذا انكشف بطلان أحدهما لالتزم بصحة قول صاحبه.

فالاختلاف في الخصوصيات حينئذ لا يقدح في تحقق الإجماع ؛ بعد اتفاقهم على أصله ، «ولكن دون إثباته خرط القتاد» أي : ولكن دون إثبات ادعاء التواطؤ خرط القتاد ؛ لأن الاختلاف في الفتاوى في مسألة حجية الخبر إن كان راجعا إلى الاختلاف في الخصوصيات دون أصل الحجية ؛ فلا بد حينئذ من الأخذ بما هو أخص مضمونا ؛ كأن يؤخذ بخبر العدل الإمامي الممدوح بما يفيد العدالة في كل طبقة ، كما هو الحال في التواتر الإجمالي ؛ للعلم بأن الاختلاف حينئذ راجع على تعيين ما هو الحجة عندهم ، بعد تسليم أصلها.

ولكن الإشكال في إثبات هذه الدعوى ؛ إذ ظاهر ترتّب الحجية على كل عنوان هو عدم حجية غيره على تقدير بطلانه. وعليه : فدعوى رجوع الاختلاف إلى الاختلاف في الخصوصية ، دون أصل الحجية غير ظاهرة ؛ بل الظاهر خلافها.

وكيف كان ؛ فالنتيجة هي : عدم صحة التمسك بالإجماع.

٣٢٧

ثانيها (١) : دعوى اتفاق العلماء عملا ـ بل كافة المسلمين ـ على العمل بخبر الواحد في أمورهم الشرعية ، كما يظهر من أخذ فتاوى المجتهدين من الناقلين لها.

______________________________________________________

في الإجماع العملي على حجية خبر الواحد

(١) الثاني : من وجوه تقرير الإجماع هو : «دعوى اتفاق العلماء عملا» ، وهذا هو الإجماع العملي ، المعبّر عنه بالسيرة ، والمناط في اعتباره هو نفس ما هو المناط في اعتبار الإجماع القولي ، وهو كشفه عن قول المعصوم «عليه‌السلام» أو فعله أو تقريره ؛ لا أن الوجه في حجية الإجماع العملي هو كشفه عن الإجماع القولي كما قيل ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٥١١».

وكيف كان ؛ فقد استقرت سيرة العلماء ـ بل كافة المسلمين ـ على العمل بخبر الواحد في أمورهم الشرعية.

أما العلماء : فإنا لا نزال نراهم يأخذون بخبر الواحد لاستنباط الحكم الشرعي ، كما يظهر ذلك من كتبهم العلمية.

وأما المسلمون : فقد استقرت سيرتهم طرّا على استفادة الأحكام الشرعية من أخبار الثقات المتوسطة بينهم وبين الإمام «عليه‌السلام» أو المجتهد ، حيث نرى استقرار سيرة المقلدين على أخذ الأحكام من الثقات المتوسطة بينهم وبين المجتهد ، فإنهم لا يتوقفون في العمل بما يخبرهم الثقة عن المجتهد ، ويأخذون فتاوى مجتهديهم عن الناقلين ، ومن المعلوم : أن الناقل ليس إلا واحدا.

فالمتحصل : أن جميع المسلمين يعملون بأخبار الثقات على حسب السيرة المستمرة بينهم. هذا تمام الكلام في الوجه الثاني من وجوه تقرير الإجماع ؛ إلا إن المصنف قد أجاب عن هذا التقرير بوجوه :

الأول : ما أشار إليه بقوله : «مضافا إلى ما عرفت».

وحاصل الوجه الأول : أن السيرة المتشرعة وإن كانت ثابتة على العمل بخبر الواحد ؛ إلا إنه لما كان هؤلاء العاملون به مختلفين فيما هو وجه العمل ومناط اعتباره ، حيث إن بعضهم يعمل به ؛ لأنه خبر عدل إمامي ، وبعضهم يعمل به لأنه خبر الثقة ، وبعضهم يعمل به لأنه مقبول عند الأصحاب ، وبعضهم يعمل به لوجود القرائن ، وبعضهم يعمل به لأن أخبار الآحاد عنده قطعية الصدور ، وبعضهم يعمل به من باب الظن الانسدادي.

ومع مثل هذا الاختلاف في وجه العمل وملاكه لا يمكن أن يقال : بأن إجماعهم العملي كاشف عن رأي الإمام «عليه‌السلام» بالحجية ؛ إذ مجرد عملهم به لم يكن

٣٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

كاشفا عن السنة أعني : قول الإمام «عليه‌السلام» أو فعله أو تقريره.

الوجه الثاني : ما أشار إليه بقوله : «أنه لو سلّم اتفاقهم على ذلك» أي : على العمل بخبر الواحد في أمورهم الشرعية.

وحاصل هذا الوجه : هو منع تحقق الإجماع العملي على العمل بخبر الواحد مطلقا ؛ وإن لم يفد العلم ـ كما هو المطلوب ـ وإنما المسلّم هو : عملهم بالأخبار الموجود في الكتب الأربعة وغيرها من الكتب المعتبرة ؛ إلا إن مسالكهم في العمل بها متشتتة ؛ إذ بعضهم يعمل بها لكونها متواترة عنده ، والآخر يعمل بها لكونها مقطوعة الصدور عنده ، والثالث يعمل بها لكونها في نظره محفوفة بالقرائن الموجبة للعلم بالصدور ، والرابع يعمل بها لكونها عنده أخبار الثقات ، وهكذا.

فالمتحصل : أنه لا يتحقق الإجماع العملي على العمل بخبر الواحد بما هو كذلك ؛ كما هو المطلوب في المقام.

الوجه الثالث : ما أشار إليه بقوله : «لم يحرز أنهم اتفقوا بما هم مسلمون ...» الخ.

وحاصل هذا الوجه : أنه ـ بعد تسليم اتفاقهم على العمل بخبر الواحد مطلقا ـ لم يظهر أن إجماعهم إنما هو لأجل كونهم مسلمين ، أو لكونهم عقلاء مع الغض عن تدينهم والتزامهم بدين ، فيرجع إلى الوجه الثالث من وجوه تقرير الإجماع ، وهو دعوى استقرار سيرة العقلاء عليه ؛ إلا أن يقال : أن ظاهر تعبير مدعي الإجماع بقوله : «كافة المسلمين» أنهم بما هم مسلمون يعملون بالخبر ، فدعوى عدم الإحراز خلاف التعبير بالمسلمين. هذا تمام الكلام في الجواب عن الوجه الثاني من وجوه تقرير الإجماع.

بقى الكلام في الوجه الثالث من وجوه تقرير الإجماع ، وهو ما أشار إليه بقوله : «دعوى استقرار سيرة العقلاء ...» الخ. وهذا عمدة الوجوه الثلاثة من وجوه تقرير الإجماع التي ذكرها المصنف «قدس‌سره» ؛ بل هو عمدة الأدلة التي أقيمت على حجية خبر الواحد بعد الأخبار ؛ بل الظاهر من شدة اهتمام المصنف بهذا الوجه أنه في نظره عمدة الأدلة حتى بالنسبة إلى الأخبار.

وكيف كان ؛ فحاصل هذا الوجه : هو دعوى استقرار سيرة العقلاء بما هم عقلاء ، على العمل بخبر الثقة ، واستمرارها إلى زماننا ، وعدم ردع نبي ولا وصي نبي عنه ؛ إذ لو كان هناك ردع عنه لبان وظهر لنا ، فعدم الردع عنه يكشف قطعا عن رضا المعصوم «عليه‌السلام» بالعمل بخبر الثقة في الشرعيات أيضا كعملهم به في أمورهم العادية ،

٣٢٩

وفيه : مضافا إلى ما عرفت مما يرد على الوجه الأول : إنه لو سلّم اتفاقهم على ذلك ، لم يحرز أنهم اتفقوا بما هم مسلمون ومتدينون بهذا الدين ، أو بما هم عقلاء ولو لم يلتزموا بدين ، كما هم لا يزالون يعملون بها في غير الأمور الدينية من الأمور العادية ، فيرجع إلى ثالث الوجوه ، وهو : دعوى استقرار سيرة العقلاء من ذوي الأديان وغيرهم على العمل بخبر الثقة ، واستمرت إلى زماننا ، ولم يردع عنه نبي ولا وصي نبي ، ضرورة (١) : أنه لو كان لاشتهر وبان ، ومن الواضح : أنه يكشف عن رضاء الشارع به في الشرعيات أيضا.

إن قلت (٢) : يكفي في الردع الآيات الناهية ، والروايات المانعة عن اتباع غير

______________________________________________________

وشذ من لا يعمل به ؛ بل نرى العقلاء أنهم يعتمدون في أعز أشيائهم وهي نفوسهم على الثقة ، فيركبون الطائرة التي يقودها ثقة عارف ، مع أنه لو قصر لسقطت وهلكوا ، فإذا عملوا على طبق نظر الثقة في مثل نفوسهم فكيف لا يعملون بخبره في سائر شئونهم؟

(١) تعليل لقوله : «ولم يردع عنه». وضمير «عنه» راجع على العمل بخبر الثقة.

وضمير «أنه» راجع على الردع المستفاد من العبارة. فمرجع الضمير حينئذ : معنوي ، وضمير «أنه» في قوله : «أنه عن رضا الشارع» راجع على عدم الردع ، وضمير «به» راجع على العمل بخبر الثقة.

قوله : «أيضا» أي : كما هو كاشف عن رضا الشارع في غير الشرعيات.

وهذا الوجه من تقرير الإجماع يتوقف على مقدمات أربع :

الأولى : عملهم بخبر الثقة.

الثانية : عدم ردع الشارع عنه.

الثالثة : وجود المقتضي للردع على تقدير عدم الحجية.

الرابعة : عدم المانع عن الردع.

والفرق بين هذا الوجه وسابقه : أن الوجه السابق كان سيرة المسلمين خاصة على العمل بخبر الثقة في خصوص الأمور الشرعية ، وهذا الوجه هو : دعوى سيرة العقلاء عامة على العمل بخبر الثقة في تمام أمورهم العادية ، ومنها الأمور الدينية ، فهذا الوجه أوسع من سابقه ، كما أن السابق كان أوسع من الأول.

(٢) هذا إشكال على التمسك ببناء العقلاء ، وحاصله : أن بناء العقلاء على العمل بخبر الثقة في كافة أمورهم وإن كان مسلما ولكن من المعلوم أن التمسك به مشروط بإمضاء الشارع له ، وعدم ردعه عنه ؛ إذ ليس بنفسه حجة لو لا إمضاء الشارع ، ولم يثبت

٣٣٠

العلم ، وناهيك (١) قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(*) ، وقوله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(**).

قلت (٢) : لا يكاد يكفي تلك الآيات في ذلك ، فإنه ـ مضافا إلى أنها وردت

______________________________________________________

إمضاؤه له ؛ بل ثبت ردعه عنه ؛ لأن عموم أو إطلاق الآيات الناهية عن العمل بغير العلم ، وكذا عموم الروايات المتقدمة في أدلة المانعين يشمل هذا البناء العقلائي أيضا ، فيصير موردا للردع ، ومعه لا عبرة به حتى يتمسك به لحجية خبر الواحد.

(١) أي : يكفيك في الردع قوله تعالى : ... ناهيك اسم فاعل من «نهى ينهى» معناه : أن ما نذكره من الآيات والروايات ينهاك عن تطلب غيره ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٥١٤».

(٢) وجواب المصنف عن الآيات الناهية : وقد أجاب عن إشكال الردع بالآيات الناهية بوجوه ثلاثة :

الأول : أنها واردة لبيان عدم كفاية الظن في أصول الدين ؛ لأن موردها هو ردع المشركين واليهود والنصارى عن العمل على تقليد آبائهم ، الذي ليس مستندا إلى العلم ، فلا ربط بها بما نحن فيه أعني : إثبات حجية خبر الواحد في الفروع ، فيكون النهي عن اتباع الظن في أصول الدين إرشادا إلى حكم العقل بعدم كفاية الظن فيها ، وهو أجنبي عن المقام ، وهذا ما أشار إليه بقوله : «مضافا ...» الخ.

الثاني : أن المتيقن من الآيات الناهية ـ لو لا المنصرف إليه إطلاقها ـ هو الظن الذي لم يقم على اعتباره حجة ، فالأمارة المعمول بها عند العقلاء ، أو صارت حجة بجعل الشارع خارجة عنها.

وبعبارة أخرى : أن النهي ـ بعد تسليم إطلاقه في الآيات ـ منصرف إلى خصوص الظن الذي لم يقم على اعتباره حجة ، أو هو مجمل ، والمتيقن منه هو : الظن الذي لم يقم على اعتباره دليل ، وعلى التقديرين : لا يشمل بناء العقلاء الذي هو حجة عندهم ، والمراد من الحجة في قوله : «لم يقم على اعتباره حجة» أعم من الحجة الشرعية والعقلائية ، ومن المعلوم : أن خبر الثقة مما قام على اعتباره حجة عقلائية ، فلا يكون مشمولا للآيات الناهية ، وهذا ما أشار إليه بقوله : «ولو سلّم ...» الخ.

الثالث : وهو عمدة الوجوه الثلاثة في الجواب : أن رادعية الآيات الناهية عن سيرة

__________________

(*) الإسراء : ٣٦.

(**) يونس : ٣٦.

٣٣١

إرشادا إلى عدم كفاية الظن في أصول الدين ، ولو سلّم فإنما المتيقن لو لا أنه المنصرف إليه إطلاقها هو خصوص الظن الذي لم يقم على اعتباره حجة ـ لا يكاد يكون الردع بها إلا على وجه دائر ، وذلك لأن الردع بها يتوقف على عدم تخصيص عمومها ، أو تقييد إطلاقها بالسيرة على اعتبار خبر الثقة ، وهو يتوقف على الردع عنها بها ، وإلا لكانت مخصصة أو مقيدة لها كما لا يخفى.

______________________________________________________

العقلاء على العمل بخبر الثقة دورية ؛ لأن الردع هنا يتوقف على عدم تخصيص عمومها ، أو عدم تقييد إطلاقها بالسيرة على اعتبار خبر الثقة ، وهو يتوقف على الردع عنها ؛ وإلا لكانت السيرة مخصصة أو مقيدة للآيات الناهية ، فلا يمكن أن تكون الآيات الناهية رادعة للسيرة العقلائية ؛ لأن ردعها مستلزم للدور.

توضيح الدور : أن رادعية عموم الآيات الناهية عن السيرة موقوفة على حجية الآيات الناهية بوصف كونها عامة ؛ إذ لو لا حجيتها بهذا الوصف لا تكون رادعة ، وحجيتها بهذا المعنى موقوفة على عدم كون السيرة التي هي أخص منها مخصصة لعمومها ؛ إذ لو كانت مخصصة لها لم يبق لها عموم حتى تكون بعمومها رادعة عن السيرة ، وعدم تخصيصها بها موقوف على الردع ؛ إذ لو لا الردع لكانت السيرة مخصصة ؛ لكونها دليلا خاصا مقدما على العام ، فيلزم توقف الردع على الردع وهو دور محال.

وبعبارة مختصرة : أن رادعية الآيات عن السيرة تتوقف على عدم مخصصية السيرة لها وعدم مخصصية السيرة لها يتوقف على رادعية الآيات عنها وهو دور واضح.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

«ولو سلم» يعني : ولو سلّم إطلاق النهي الوارد في الآيات والروايات ليشمل العمل بخبر الواحد في فروع الدين أيضا ، «فإنما المتيقن لو لا أنه المنصرف إليه إطلاقها» ، يعني : أن النهي بعد تسليم إطلاقه في الآيات والروايات ـ منصرف إلى خصوص الظن الذي لم يقم على اعتباره دليل وحجة ، أو هو مجمل ، والمتيقن منه هو ذلك ـ أي الذي لم يقم على اعتباره دليل ـ وعلى التقديرين : لا يشمل بناء العقلاء الذي هو حجة عندهم ، فالمراد بالحجة في قوله : «لم يقم على اعتباره حجة» أعم من الحجة الشرعية والعقلائية ؛ إذ لو كان المقصود خصوص الحجة الشرعية لكان بناء العقلاء مندرجا فيما لم تقم على اعتباره حجة شرعية ، ولتم الإشكال المذكور على العمل بخبر الواحد ببناء العقلاء.

وبالجملة : فقوله : «لو سلّم». بحسب التحليل إشارة إلى جوابين : أحدهما : دعوى انصراف إطلاق الآيات إلى خصوص الأمارة غير المعتبرة.

٣٣٢

لا يقال : على هذا (١) لا يكون اعتبار خبر الثقة بالسيرة أيضا (٢) ، إلا على وجه

______________________________________________________

وثانيهما : دعوى تيقنها أي : تيقّن الأمارة غير المعتبرة من إطلاقها لو فرض إجمالها ، وعدم وجود ما ينصرف إليه إطلاقها.

ومثال الظن الذي لم يقم على اعتباره حجة هو : الظن الحاصل من الشهرة الفتوائية.

قوله : «لا يكاد ...» الخ ، خبر «فإنه» في قوله : «فإنه مضافا ...» الخ. وهذا هو الوجه الثالث ، وهو الجواب الأصلي عن الإشكال ، وقد عرفت توضيحه ، فلا حاجة إلى التكرار ، فالعمدة في الجواب هو إشكال الدور ، بأن يقال : ردع الآيات عن السيرة متوقف على عدم كون السيرة مخصصة لها ؛ إذ لو كانت مخصصة لها لم تردع عنها وعدم كون السيرة مخصصة لها متوقف على كون الآيات رادعة عنها ؛ إذ لو لم تردع عنها كانت السيرة مخصصة لها ، فردع الآيات عن السيرة متوقف على ردعها عن السيرة ، وهو دور.

قوله : «وذلك» بيان للدور ، وضمير «عنها» راجع على السيرة ، وباقي الضمائر راجع على الآيات الناهية.

«وإلّا لكانت ...» الخ ، أي : وإن لم تكن الآيات رادعة عن السيرة لكانت السيرة مخصصة أو مقيدة للآيات الناهية.

(١) أي : بناء على استلزام رادعية الآيات عن السيرة للدور «لا يكون اعتبار خبر الثقة بالسيرة أيضا إلّا على وجه دائرة».

والمقصود من هذا الإشكال : عدم إمكان التمسك بالسيرة لإثبات حجية خبر الثقة ؛ لاستلزامه الدور المذكور أيضا.

توضيح الدور : أن حجية خبر الثقة موقوفة على حجية السيرة ؛ لأنها ـ حسب الفرض ـ دليل على حجية خبر الثقة ، والمفروض : أن حجية السيرة موقوفة على عدم رادعية الآيات عنها ، وعدم رادعية الآيات عنها موقوف على مخصصية السيرة لها ، ومخصصية السيرة لها موقوفة على حجية السيرة ، وحجيتها ، موقوفة على عدم رادعية عنها ، وعدم رادعية الآيات عنها موقوف على حجيتها فحجية السيرة موقوفة على حجية السيرة ، أو عدم رادعية الآيات موقوف على عدم رادعيّتها عنها ، وهو دور ، ولزوم هذا الدور مانع عن ثبوت حجية السيرة ، ومع عدم حجيتها كيف يصح جعلها دليلا على اعتبار خبر الثقة؟ يعني : فلا تكون السيرة دليلا على حجية خبر الثقة.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(٢) يعني : كما لم يكن ردع الآيات عن السيرة إلا على وجه دائر.

٣٣٣

دائر ، فإن اعتباره (١) بها فعلا يتوقف على عدم الردع (٢) بها عنها ، وهو (٣) يتوقف على تخصيصها (٤) بها ، وهو يتوقف على عدم الردع بها عنها.

فإنه يقال (٥) : إنما يكفي في حجيته بها : عدم ثبوت الردع عنها ؛ لعدم نهوض ما

______________________________________________________

(١) فإن اعتبار خبر الثقة بالسيرة ، وهذا تقريب للدور الذي تقدم توضيحه.

(٢) أي : عدم الردع بالآيات عن السيرة.

(٣) أي : وعدم الردع يتوقف على تخصيص الآيات بالسيرة.

(٤) أي : وتخصيص الآيات بالسيرة يتوقف على عدم ردع الآيات عن السيرة.

(٥) هذا جواب عن الإشكال.

وحاصل الجواب منع الدور بتقريب : أن حجية خبر الثقة وإن كانت متوقفة على حجية السيرة ؛ إلا إن حجية السيرة لا تتوقف على عدم كونها مردوعة ، وإنما تتوقف على عدم علمنا بالردع ، وهو حاصل بنفسه من دون توقف على شيء ، فالسيرة موجودة ولم نعلم بمردوعيتها ، وحيث ثبت أن الآيات لا تصلح أن تكون رادعة عنها ـ للزوم الدور كما عرفت ـ بقيت السيرة حجة ، فتكون دليلا على حجية خبر الثقة.

وبعبارة أخرى : أن اعتبار خبر الثقة بالسيرة لا يتوقف على عدم الردع الواقعي عن السيرة ؛ بل يتوقف على عدم العلم بالردع عنها ، فعدم العلم بالردع كاف في اعتبار السيرة ، فيثبت بها اعتبار خبر الثقة.

كما أن عدم ثبوت الردع كاف أيضا في تخصيص العموم بالسيرة ، فإذا لم يعلم بالردع كفى ذلك في اعتبار السيرة ، ويثبت بها اعتبار خبر الثقة حينئذ ، وعدم ثبوت الردع كاف في تخصيص العموم بالسيرة.

وكيف كان ؛ فالوجه في جواز الركون إلى السيرة ، مع عدم ثبوت الردع عنها : أن المناط في الإطاعة والمعصية ـ اللتين يحكم العقل بحسن الأولى وقبح الثانية ـ هو ما يكون عند العقلاء طاعة وعصيانا ، وحينئذ : فإذا كان خبر الثقة حجة عندهم ، إذ المفروض : عدم ثبوت ردع الشارع عنها كانت موافقته طاعة ومخالفته عصيانا بنظرهم ، فإذا كانت موافقته طاعة وجبت عقلا لصدق الإطاعة عليها بنظر العقلاء ، وكذا تحرم مخالفته عقلا لكونها معصية عندهم أيضا.

فالمتحصل : أن ما يكون عند العقلاء طاعة يجب عقلا ، وما يكون عندهم معصية يحرم كذلك.

قوله : «لعدم نهوض ...» تعليل لعدم ثبوت الردع ، ووجه عدم النهوض : ما عرفت

٣٣٤

يصلح لردعها ، كما يكفي في تخصيصها لها ذلك كما لا يخفى ، ضرورة (١) : أن ما جرت عليه السيرة المستمرة في مقام الإطاعة والمعصية ، وفي استحقاق العقوبة بالمخالفة ، وعدم استحقاقها مع الموافقة ولو في صورة المخالفة للواقع يكون (٢) عقلا في الشرع متبعا ؛ ما لم ينهض (٣) دليل على المنع عن أتباعه (٤) في الشرعيات ، فافهم وتأمل (٥).

______________________________________________________

من عدم صلاحية الآيات والروايات الناهية عن اتباع غير العلم للردع عن السيرة ؛ لاستلزامه الدور.

«إنما يكفي في حجيته» أي : خبر الثقة «ذلك» فاعل «يكفي» ، والمشار إليه : عدم ثبوت الردع عن السيرة ، أو عدم ثبوت كون السيرة مردوعة ، فإذا لم يثبت كون السيرة مردوعة أفادت أمرين :

الأول : حجية الخبر.

الثاني : تخصيص عموم الآيات ، فيكون الخبر حجة للسيرة ما دام لم يثبت ردع الشارع عن السيرة.

(١) تعليل ل «يكفي».

(٢) خبر «أن ما جرت» وقوله : «ولو في صورة» قيد لقوله : «وفي استحقاق العقوبة وعدم استحقاقها» ، وهو إشارة إلى الفرد الخفي من الإطاعة والمعصية وهو صورة مخالفة مورد الإطاعة والمعصية للواقع ، والفرد الجلي منهما هو صورة إصابته للواقع ، يعني : أن ما هو إطاعة ومعصية عند العقلاء يكون عند الشرع كذلك ، سواء كانتا حقيقتين كما في صورة إصابة موردهما للواقع ، أم صورتين كما في صورة مخالفته للواقع.

(٣) فإذا نهض دليل على المنع عن اتباعه كالقياس لم تكن السيرة على العمل به معتبرة حينئذ ، فالمعيار في عدم حجية السيرة العقلائية قيام الدليل ، على المنع عن اتباع ما جرت عليه ، ووصوله إلى المكلف.

(٤) أي : اتباع ما جرت عليه السيرة.

(٥) قوله : «فافهم وتأمل» إشارة إلى كون خبر الثقة متبعا. ولو قيل : بسقوط كل من السيرة والإطلاق عن الاعتبار بسبب دوران الأمر بين ردعها به وتقييده بها ؛ وذلك لأجل استصحاب حجيته الثابتة قبل نزول الآيتين.

فإن قلت : لا مجال لاحتمال التقييد بها ، فإن دليل اعتبارها مغيّا بعدم الردع عنها ، ومعه لا تكون صالحة لتقييد الإطلاق مع صلاحيته للردع عنها كما لا يخفى.

٣٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

قلت : الدليل ليس إلا إمضاء الشارع لها ورضاه بها ، المستكشف بعدم ردعه عنها في زمان مع إمكانه وهو غير مغيّا ، نعم ؛ يمكن أن يكون له واقعا وفي علمه تعالى أمر خاص كحكمه الابتدائي ، حيث إنه ربما يكون له أمد فينسخ ، فالردع في الحكم الإمضائي ليس إلا كالنسخ في الابتدائي ، وذلك غير كونه بحسب الدليل مغيا كما لا يخفى.

وبالجملة : ليس حال السيرة مع الآيات الناهية إلا كحال الخاص المقدم والعام المؤخر في دوران الأمر بين التخصيص بالخاص أو النسخ بالعام ، ففيهما يدور الأمر أيضا بين التخصيص بالسيرة أو الردع بالآيات.

«فافهم وتأمل» حتى لا يشتبه عليك الأمر فتقول : فما ذا يصنع الشارع إذا أراد الردع عن السيرة؟ وهل يمكن أن يقول في مقام الردع عنها بأصرح من الآيات والروايات الناهية عن العمل بغير العلم ، حتى نحتاج إلى الإجابة بأن الردع لا يكون بمثل هذه العمومات وإنما يكون بمثل ما ردع عن القياس؟ فلو أراد الشارع الردع لزم أن تكون أدلة الردع نصا ؛ كأن يقول : لا تعملوا بالخبر الواحد ، أو تكون أظهر من السيرة ؛ كما في «الوصول إلى كفاية الأصول ، ج ٤ ، ص ٧١».

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ إما لإجماع على حجية خبر الواحد : فتقريره بوجوه :

الوجه الأول : هو الإجماع القولي ، الحاصل من تتبع فتاوى العلماء بحجية خبر الواحد ، أو من تتبع الإجماعات المنقولة على الحجية ، فيستكشف بالإجماع عن رضا الإمام «عليه‌السلام» بحجية خبر الواحد.

وأورد المصنف عليه : بأن فتاوى العلماء في حجية خبر الواحد مختلفة من حيث الخصوصيات التي يعتبرونها فيما هو حجة ، ومعه لا يمكن استكشاف رضا الإمام «عليه‌السلام» ؛ لعدم اتفاقهم على أمر واحد. هذا هو الإشكال على الإجماع المحصل ، وهكذا الحال في الإجماع المنقول.

نعم لو علم أنهم يقولون بأجمعهم بحجيّة خبر الواحد في الجملة ، ثم يختلفون في الخصوصيات المعتبرة فيه ؛ بحيث يكون القول بحجية الخبر الخاص بنحو تعدد المطلوب لا وحدته ـ لو علم ذلك ـ تم ما ذكر ؛ ولكن دون إثباته خرط القتاد.

٣٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

٢ ـ الوجه الثاني : هو الإجماع العملي من العلماء ؛ بل من المسلمين كافة على العمل بخبر الواحد في أمورهم الشرعية.

وأورد عليه المصنف :

أولا : بنفس ما أورده على الإجماع القولي ؛ من الاختلاف في المسالك والمشارب.

وثانيا : بأنه لم يعلم أن اتفاقهم على ذلك بما أنهم متدينون ؛ بل يمكن أن يكون بما أنهم عقلاء ، فيرجع إلى الوجه الثالث من وجوه تقرير الإجماع ، وهو قيام سيرة العقلاء من ذوي الأديان وغيرهم ـ ممن لا يلتزم بدين ـ على العمل بخبر الثقة. وهذا هو عمدة الوجوه.

واستمرت هذه السيرة إلى زمان المعصوم «عليه‌السلام» ، ولم يردع عنها المعصوم ؛ إذ لو كان لبان واشتهر ، وعدم الردع يكشف عن تقرير الشارع للسيرة ، وإمضائه لها ، فتثبت حجية الخبر في الشرعيات.

٣ ـ الإشكال عليه : بأنه يكفي في ثبوت الردع وجود الآيات الناهية عن العمل بغير العلم واتباع الظن ؛ كقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ، و (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) ، فإنها بعمومها تشمل هذه السيرة.

وقد أجاب المصنف عن هذا الإشكال بوجوه ثلاثة :

الأول : أنها واردة لبيان عدم كفاية الظن في أصول الدين ، فلا ربط لها بحجية الظن في الفروع.

الثاني : أنها راجعة على الظن الذي لم يقم على اعتباره حجة ، والمفروض في خبر الواحد خلافه.

الثالث : أن رادعية الآيات الناهية عن السيرة تستلزم الدور ؛ لأن ردع الآيات عن السيرة متوقف على عدم كون السيرة مخصصة لها ، وعدم كون السيرة مخصصة لها متوقف على كون الآيات رادعة عنها ، فردع الآيات عن السيرة متوقف على ردعها عنها ، وهو دور.

٤ ـ إيراد المصنف على نفسه : بأن السيرة لا تصلح للتخصيص إلا على وجه دائر أيضا ؛ إذ تخصيص السيرة يتوقف على عدم الردع بها عنها ، وعدم الردع يتوقف على تخصيصها للآيات ، فعدم تخصيصها للآيات يتوقف على عدم تخصيصها لها ، وهو دور باطل.

٣٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

جواب المصنف عن هذا الإيراد : أنه يكفي في اعتبار خبر الثقة بالسيرة عدم ثبوت الردع عنها ؛ لا عدم الردع واقعا عنها ، فإذا لم يعلم بالردع كفى ذلك في اعتبار السيرة ، فيثبت بها اعتبار خبر الثقة ، وأيضا عدم ثبوت الردع كاف في تخصيص العموم بالسيرة.

«فافهم وتأمل» إشارة إلى كون خبر الثقة حجة ، ولو قيل بسقوط السيرة عن الاعتبار ؛ وذلك لأجل استصحاب حجية خبر الثقة الثابتة قبل نزول الآيات الناهية.

٥ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ عدم تمامية الاستدلال بالإجماع القولي على حجية خبر الواحد.

٢ ـ تمامية الاستدلال بالإجماع العملي ، أعني : سيرة العقلاء على حجية خبر الثقة.

٣٣٨

فصل

في الوجوه العقلية (١) التي أقيمت على حجية خبر الواحد :

أحدها (٢) : أنه يعلم إجمالا بصدور كثير مما بأيدينا من الأخبار من الأئمة الأطهار

______________________________________________________

في الوجوه العقلية على حجية خبر الواحد

(١) قد جعلها المصنف في ضمن فصلين :

الفصل الأول : في إثبات حجية خصوص خبر الواحد بالوجوه العقلية.

الفصل الثاني : في إثبات حجية مطلق الظن بها.

الفصل الأول يشتمل على ثلاثة وجوه.

والفصل الثاني على أربعة وجوه :

فالوجوه العقلية هي سبعة وجوه ، مفادها إما حجية خصوص خبر الواحد ، أو حجية مطلق الظن.

(٢) هذا هو الوجه الأول من الوجوه العقلية التي أقيمت على حجية خصوص خبر الواحد. وتوضيح هذا الوجه يتوقف على مقدمة وهي : إن هناك علمين إجماليين :

أحدهما : أنّا نعلم إجمالا بوجود تكاليف شرعية بين جميع الأمارات من الروايات وغيرها ؛ كالشهرات والإجماعات المنقولة ، والأولويات الظنية وغيرها. وهذا العلم الإجمالي يسمى بالعلم الإجمالي الكبير.

وثانيهما : أنّا نعلم إجمالا أيضا بوجود أحكام شرعية في روايات صادرة عن الأئمة «عليهم‌السلام» ، منقولة إلينا في ضمن مجموع ما بأيدينا من الأخبار المروية عنهم «عليهم‌السلام» ، وهذا العلم الإجمالي الصغير ، ثم تلك الأخبار المتضمنة للأحكام الشرعية ليست قليلة ؛ بل هي من الكثرة بمقدار واف بمعظم الفقه ؛ بحيث لو علم تفصيلا ذاك المقدار الصادر قطعا لانحل علمنا الإجمالي الكبير ـ وهو علمنا إجمالا بثبوت الأحكام بين الروايات وسائر الأمارات ـ إلى العلم التفصيلي بالتكاليف في مضامين الأخبار الصادرة عن الأئمة «عليهم‌السلام» ، والشك البدوي في ثبوت التكليف في مورد سائر الأمارات غير المعتبرة.

٣٣٩

«عليهم‌السلام» بمقدار واف بمعظم الفقه ؛ بحيث لو علم تفصيلا ذاك المقدار لانحل علمنا الإجمالي بثبوت التكاليف بين الروايات وسائر الأمارات إلى العلم التفصيلي بالتكاليف في مضامين الأخبار الصادرة المعلومة تفصيلا ، والشك البدوي في ثبوت

______________________________________________________

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن لازم العلم الإجمالي الصغير هو وجوب العمل على وفق جميع الأخبار المثبتة للتكليف الإلزامي ، كالتي تقول بحرمة الخمر والزنا ، ووجوب الصلاة والصيام إلى غير ذلك ، وجواز العمل على طبق الأخبار النافية للتكليف الإلزامي ، كالتي تقول بعدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، وعدم وجوب زيارة الإمام الحسين «عليه‌السلام» ؛ لأن مقتضى العلم الإجمالي هو : لزوم الاحتياط بالنسبة إلى الأخبار المثبتة للتكليف لا النافية له.

ولا تجب مراعاة أطراف العلم الإجمالي الكبير بعد انحلاله بالعلم الإجمالي الصغير ، بمعنى : انحصار أطرافه في خصوص ما بأيدينا من الروايات ، فإذا انحصرت التكاليف والأحكام الشرعية في هذه الأطراف خرجت بقية الأمارات عن أطراف العلم الإجمالي ، وكان الشك في ثبوت التكليف بالنسبة إليها بدويا ، فيجوز الرجوع إلى الأصول النافية في الشبهات الحكمية في موارد بقية الأمارات ؛ لعدم لزوم محذور من جريانها حينئذ من الخروج عن الدين مثلا.

وكيف كان ؛ فمقتضى هذا الوجه العقلي هو : اعتبار الأخبار فقط.

فالمتحصل : أن العلم الإجمالي الصغير يوجب انحلال العلم الإجمالي الكبير ، فيجب العمل على وفق جميع الأخبار المثبتة للتكليف ؛ لأن العلم الإجمالي منجّز للتكليف في أطرافه كالعلم التفصيلي ، وإنما يجب الاحتياط في الأخبار المثبتة للتكليف دون النافية منها له ؛ لأن العلم ولو إجمالا بالأخبار المثبتة علم بالتكليف الإلزامي ، والتكليف الإلزامي لازم الامتثال. وأما العلم بالنافي من الأخبار فهو علم بغير التكليف ، والعلم بما هو خارج عن التكليف الإلزامي لا يثبت في عهدة المكلف سوى أن يعتقد أنه ليس هناك حكم إلزامي.

أما في مرحلة العمل : فهو عقيم الأثر ؛ لأن ما ليس بواجب وليس بحرام لا يكون للعلم التفصيلي والإجمالي فيه أقل أثر من حيث التنجز ولزوم الاحتياط ؛ لأن التنجز ولزوم الاحتياط من لوازم التكليف كما هو واضح ، ولذلك قال المصنف : «وجواز العمل على طبق النافي منها» أي : من الأخبار المتعلقة للعلم الإجمالي ، «فيما إذا لم يكن في المسألة أصل مثبت له».

٣٤٠