دروس في الكفاية - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٧

والصواب في الجواب : هو منع الصغرى (١) ، أما العقوبة (٢) : فلضرورة عدم الملازمة بين الظن بالتكليف والظن بالعقوبة على مخالفته ؛ لعدم الملازمة بينه (٣) والعقوبة على مخالفته ، وإنما الملازمة بين خصوص معصيته واستحقاق العقوبة عليها ؛

______________________________________________________

(١) وقد عرفت توضيح ذلك ، وبعبارة أخرى : أن مطلق مخالفة الحكم الواقعي لا يستلزم استحقاق العقوبة ؛ بل المستلزم له هو خصوص مخالفة الحكم المنجز.

وإن شئت فقل : إن استحقاق العقوبة ليس من لوازم جميع مراتب الحكم ؛ بل خصوص مرتبته الأخيرة ـ وهي التنجز ـ فاستحقاق العقوبة من لوازم المعصية ، التي هي خصوص مخالفة الحكم المنجز ، ومن المعلوم : أن الظن بالحكم ـ مع الشك في اعتباره ـ لا يستلزم الظن باستحقاق العقوبة ولا الشك فيه ؛ بل يقطع بعدم الاستحقاق ؛ إذ مع عدم تنجز الحكم الواقعي لا تعد مخالفته معصية حتى يترتب عليها استحقاق العقوبة.

هذا كله في منع الصغرى بناء على الاحتمال الأول أعني : المراد بالضرر العقوبة.

وأما منعها بناء على الاحتمال الثاني ، وهو : كون المراد به المفسدة ، فسيأتي في كلام المصنف ، وقد عرفت توضيح ذلك.

(٢) أي : أما إذا كان المراد بالضرر العقوبة : فهي ممنوعة ، «لضرورة عدم الملازمة ...» الخ. وقد مرّ توضيحه.

(٣) هذا الضمير وضمير «مخالفته» راجع إلى التكليف ، وكان الأولى تكرار كلمة «بين» بأن يقال : «بينه وبين العقوبة» ، وغرضه : أنه لا ملازمة بين التكليف وبين العقوبة على مخالفته حتى تثبت الملازمة بين ظنيهما ، ضرورة : تحقق الانفكاك بينهما في صورة الجهل بالتكليف.

والمراد من «معصيته» هي : مخالفة التكليف المنجز ، والضمير في «معصيته» راجع على التكليف.

قوله : «لا بين مطلق المخالفة والعقوبة بنفسها» عطف على «الملازمة» يعني : أن الظن بالعقوبة متفرع على ثبوت التلازم بين مطلق المخالفة وإن لم تكن معصية وبين نفس العقوبة ، وليس الأمر كذلك ؛ بل الملازمة تكون بين المعصية وبين استحقاق العقوبة.

وكلمة «بنفسها» ـ في قوله : «والعقوبة بنفسها» ـ مستدركة ؛ لأن المقصود : نفي الملازمة بين مطلق المخالفة والعقوبة ، وهو يستفاد من العبارة ، بلا حاجة إليها ، ويمكن توجيه العبارة بجعل كلمة «بنفسها» صفة للعقوبة ، وإرجاع ضميرها إلى المخالفة ؛ بأن

٣٦١

لا بين مطلق المخالفة والعقوبة بنفسها ، وبمجرد الظن به (١) بدون دليل على اعتباره لا يتنجز به ، كي تكون مخالفته عصيانه.

إلا أن يقال (٢) : إن العقل وإن لم يستقل بتنجزه بمجرده ؛ بحيث يحكم باستحقاق

______________________________________________________

يكون المراد : نفي الملازمة بين مطلق المخالفة والعقوبة الناشئة عن مطلق المخالفة فيكون نفي العقوبة من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

والمتحصل : أنه إذا لم يكن تلازم بين المخالفة وبين العقوبة لم يكن تلازم بين الظن بالحكم والظن بالعقوبة.

(١) أي : بالتكليف ، يعني : أن مجرد الظن بالحكم ـ إذا لم يثبت اعتبار ذلك الظن ـ لا يوجب الظن باستحقاق العقوبة ؛ لأن الظن غير المعتبر بحكم الشك في عدم كون مخالفته سببا للاستحقاق ، فيقطع بعدم الاستحقاق في الظن غير المعتبر.

«لا يتنجز به كي تكون مخالفته عصيانه» يعني : لا يتنجز التكليف بالظن الذي لا دليل على اعتباره ، حتى يكون مخالفته عصيانا للتكليف الواقعي.

وضميرا «اعتباره ، مخالفته» راجعان على مجرد الظن ، وضمير «عصيانه» راجع على التكليف.

(٢) غرضه : الإشكال على الجواب ، وتصحيح الدليل العقلي ، وأصل الإشكال من الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» ، وتوضيحه : أن العقل وإن لم يحكم بتنجز التكليف بمجرد الظن به ليترتب عليه استحقاق العقوبة ، إلا إنه لاحتمال بيانية الظن للحكم الواقعي لا يحكم أيضا بعدم استحقاق العقوبة ، فتكون العقوبة محتملة ، وحينئذ : فدعوى استقلال العقل بلزوم دفع الضرر المشكوك كالمظنون قريبة جدا.

لا يقال : إن مقتضى الظن بالحكم هو الظن بالعقوبة لا الشك فيها واحتمالها.

فإنه يقال : ليس غرض المصنف دعوى الملازمة بين الحكم بوجوده الواقعي ، وبين العقوبة على مخالفته حتى يكون العلم بالتكليف والظن به والشك فيه موجبا للعلم بالعقوبة ، والظن بها والشك فيها ؛ إذ لا يتصور التفكيك بين المتلازمين في شيء من المراحل ؛ بل غرضه : عدم استقلال العقل بقبح العقوبة ، مع احتماله بيانية الظن ، ومع هذا الاحتمال يحتمل العقوبة ، فيحصل التفكيك بين الظن بالتكليف ، وبين الظن بالعقوبة.

وبالجملة : يكون العقاب في المقام محتملا ، والعقل يستقل بوجوب دفعه كالعقاب المظنون. نعم ؛ قد تعرض الشيخ «قدس‌سره» لهذا الإشكال ، وأجاب عنه ؛ ولكن المصنف ارتضاه ولم يجب عنه.

٣٦٢

العقوبة على مخالفته ؛ إلا إنه لا يستقل ـ أيضا ـ بعدم استحقاقها معه ، فيحتمل العقوبة ـ حينئذ ـ على المخالفة.

ودعوى استقلاله بدفع الضرر المشكوك كالمظنون قريبة (١) جدا ، لا سيما (٢) إذا كان هو العقوبة الأخروية ، كما لا يخفى (٣).

وأما المفسدة (٤) : فلأنها وإن كان الظن بالتكليف يوجب الظن بالوقوع ....

______________________________________________________

والضمير في «بتنجزه» راجع على التكليف ، وكذلك في «بمجرده» و «مخالفته».

قوله : «لا يستقل أيضا» يعني : أن العقل كما لا يستقل بالحكم بتنجز التكليف بمجرد الظن به ؛ كذلك لا يستقل بعدم استحقاق العقوبة ؛ بل يحتمل العقوبة معه ؛ لما عرفت من : احتمال كون هذا الظن بيانا للحكم الواقعي ، ومعه لا يستقل العقل بعدم استحقاق العقوبة. والضمير في «معه» راجع على الظن بالتكليف.

«حينئذ» أي : حين عدم استقلال العقل بعدم استحقاق العقوبة مع الظن.

(١) لاحتمال كون الظن بالحكم أو الشك فيه بيانا ومنجزا له ؛ كاحتمال التكليف المنجز في الشبهات البدوية قبل الفحص ، حيث يستقل العقل بإيجابه الاحتياط.

(٢) وجه الخصوصية : هو أهمية العقوبة الأخروية من الدنيوية بمراتب.

(٣) اللهم إلا أن يقال : إنه لا احتمال للعقاب وإن ظن بالتكليف ؛ لأن أدلة البراءة كقبح العقاب بلا بيان ، و «رفع ما لا يعلمون» كافية في التأمين ، وإن كان الإنسان ظن بالتكليف ، فإن الظن لا يغني من الحق شيئا ؛ لأن الظن المشكوك اعتباره بحكم المعلوم عدم اعتباره ، وإن كان حجة واقعا ، فإن البيان الرافع لموضوع البراءة العقلية ، والمصحح للعقوبة هو الحجة الواصلة إلى المكلف ، فلا يكفي في تصحيح العقوبة مجرد جعل الحجية لشيء ، مع عدم وصوله إلى العبد كما هو واضح.

وعليه : فالظن بالتكليف ما لم يثبت اعتباره لا يستلزم العقوبة على مخالفته ، فليست العقوبة محتملة حتى يحكم العقل بلزوم دفعها كحكمه بلزوم دفع الضرر المظنون. نعم ؛ تصح هذه الدعوى في أطراف العلم الإجمالي.

(٤) عطف على قوله : «أما العقوبة» أي : أما إذا كان المراد بالضرر المذكور في صغرى الدليل هو المفسدة «فلأنها ...» الخ. وهذا هو الاحتمال الثاني في المراد من الضرر المذكور في صغرى الدليل ، وقد أجاب عنه بوجهين : ثانيهما : ما سيذكره بقوله : «مع منع كون الأحكام تابعة ...» الخ.

وأولهما : ما ذكره هنا بقوله : «فلأنها وإن كان الظن ...» الخ.

٣٦٣

فيها (١) لو خالفه ، إلا إنها ليست بضرر على كل حال (٢) ، ضرورة (٣) : أن كل ما

______________________________________________________

وحاصل هذا الوجه الأول : أن المفسدة وإن كانت مظنونة بظن التكليف ، حيث إن الملاكات من قبيل الأمور التكوينية والخواص المترتبة على الأشياء التي لا تنفك عنها ، فالظن بالتكليف كالعلم به ، والشك فيه مستلزم للظن بالملاك أو العلم به أو الشك فيه ، فإن الملازمة بين الحكم وبين ملاكه ثابتة في جميع المراحل ، بخلاف العقوبة كما عرفت ، فلا يمكن التفكيك بين الظن بالحكم وبين الظن بملاكه ؛ إلا إن هذا التكليف إما أن يكون هو الحرمة ، وإما أن يكون هو الوجوب ، فإن كان هو الوجوب : كانت المفسدة المظنونة ـ لو خولف الوجوب المظنون ـ هو فوات المصلحة ، وسيأتي التعرض له عند قول المصنف : «وأما تفويت المصلحة ...» الخ.

وإن كان هو الحرمة : فالمفسدة وإن كانت مظنونة حينئذ إلا إن المفاسد على قسمين ، فإنها قد تكون نوعية ، وقد تكون شخصية. فإن كانت نوعية : لم توجب ضررا على الفاعل وإن كان ضررا على المؤمنين القاطنين في أقطار أعداء الدين ، فالمفسدة النوعية توجب قبح الفعل ؛ لكنها ليست ضررا على الفاعل حتى يجب عليه دفعه عند الظن به ، فنفس عنوان المفسدة ليس ضررا ولا ملازما له.

وإن كانت المفسدة شخصية : فالعقل وإن حكم بوجوب دفعها ؛ لأنه ضرر على شخص الفاعل ؛ لكن لزوم دفعها منوط بإحرازها علما أو ظنا ، وما لم يحرز ذلك الضرر لم يحكم العقل بلزوم دفعه والتخلص منه ، فإن المورد شبهة موضوعية تجري فيه قاعدة قبح العقاب بلا بيان. هذا ما أفاده المصنف في منع الصغرى ؛ ولكن الشيخ الأنصاري منعها بوجه آخر.

(١) أي : في المفسدة ، للملازمة الواقعية بين التكليف بوجوده الواقعي وبين ملاكه ، ومن المعلوم : أن هذه الملازمة تتحقق في صورة العلم بالتكليف والظن به والشك فيه ، وضمائر «فلأنها ، فيها ، إنها» راجعة على المفسدة ، وضمير «خالفه» راجع على التكليف.

(٢) أي : المفسدة ليست ضررا مطلقا وإن كانت نوعية ؛ بل هي ضرر إن كانت شخصية فقط.

(٣) تعليل لعدم كون المفسدة ضررا مطلقا ، تقريبه : أن «القبيح» أعم من الضرر ، فالمفسدة ـ ولو كانت نوعية ـ توجب قبح الفعل من دون أن تكون ضررا ، فلا ملازمة بين القبح وبين الضرر الشخصي الذي هو مورد قاعدة دفع الضرر المظنون كما لا يخفى.

٣٦٤

يوجب قبح الفعل من المفاسد لا يلزم أن يكون من الضرر على فاعله (١) ؛ بل ربما يوجب حزازة ومنقصة في الفعل ؛ بحيث يذم عليه فاعله بلا ضرر عليه أصلا (٢) ، كما لا يخفى.

وأما تفويت المصلحة (٣) : فلا شبهة في أنه ليس فيه مضرة ؛ بل ربما يكون في استيفائها (٤) المضرة ؛ كما في الإحسان بالمال ، هذا مع منع (٥) كون الأحكام تابعة

______________________________________________________

(١) فإن الأحكام التحريمية إنما وضعت للأضرار الكامنة فيها ، ولا تختص الأضرار بأشخاص الفاعلين ، فكثير من الأحكام أضرارها نوعية تعود إلى النوع ، ولذا حرمت ؛ بل ربما كانت الأحكام الضررية ذات منافع على نفس الفاعل.

فإن في ترك الزكاة وأكل الربا والسرقة منافع مادية للمرتكب.

(٢) لا على فاعله ولا على غيره ، فإن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد ولا دليل على أن المفسدة يجب أن تكون ضررا.

(٣) غرضه : منع الصغرى ـ أعني : كون الظن بالحكم ملازما للظن بالضرر ـ مطلقا ، سواء كان المظنون الحرمة أم الوجوب. أما الحرمة فقد تقدم الكلام فيها. وأما الوجوب ـ وهو المقصود بالذكر فعلا ـ فمحصل ما أفاده في وجهه : أن مخالفة الوجوب المظنون لا توجب إلا الظن بفوات المصلحة ، ومن المعلوم : أن فوات المصلحة ليس ضررا ـ أي نقصا ـ بل عدم نفع ، ومن الواضح : أن تحصيل النفع غير لازم حتى يجب العمل بالوجوب المظنون.

وقد تحصل من جميع ما ذكرنا في منع صغرى هذا الدليل العقلي : أن الملازمة المدعاة بين الظن بالحكم والظن بالضرر ممنوعة ، سواء كان الحكم المظنون وجوبا أم حرمة ، وسواء أريد بالضرر الضرر الدنيوي ـ أعني المفسدة ـ أم الأخروي ـ أعني : العقوبة ـ وعليه : فلا يكون الظن بالحكم حجة.

وضمير «فيه» راجع على تفويت المصلحة ، وضمير «أنه» للشأن.

(٤) أي : استيفاء المصلحة ، وغرضه : أن فوات المصلحة لا يكون مطلقا ضررا ؛ لعدم كونه نقصا ، بل قد يكون الضرر في استيفائها كما في استيفاء مصلحة الإحسان بالمال والجهاد ، فإن الأول موقوف على الضرر المالي ، والثاني على الضرر النفسي.

(٥) هذا ثاني الوجهين اللذين ذكرهما في منع الصغرى ، بناء على الاحتمال الثاني ـ أعني : ما إذا أريد بالضرر المذكور فيها المفسدة ، ـ وهذا الوجه ناظر إلى إنكار أصل تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، وكان الأولى تقديمه على الوجه الأول المتقدم بقوله : «فلأنها

٣٦٥

للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهي عنها ، بل إنما هي تابعة لمصالح فيها كما حققناه في بعض فوائدنا.

وبالجملة (١) : ليست المفسدة ولا المنفعة الفائتة اللتان في الأفعال وأنيط بهما الأحكام بمضرة (٢) ، وليس مناط حكم العقل بقبح ما فيه المفسدة أو حسن ما فيه المصلحة من (٣) الأفعال على القول باستقلاله بذلك (٤) : ...

______________________________________________________

وإن كان الظن ...» الخ ، لتقدمه عليه طبعا ، فكان المناسب أن يقول هكذا : «أما المفسدة : ففيها أولا : عدم تسليم كونها في الفعل ، وثانيا : منع كونها ضررا على كل حال».

وكيف كان ؛ فتوضيح هذا الوجه الثاني : أن الظن بالحكم ليس ملازما للظن بالمفسدة أو فوات المصلحة ؛ إذ هذه الملازمة مبنية على حصر المصالح والمفاسد في متعلقات التكاليف حتى تكون مخالفة العبد سببا للوقوع في المفسدة أو فوات المصلحة. وأما إذا كانتا في نفس الجعل ، فهما حاصلتان بنفسه ، ولا ربط لهما بمخالفة العبد وموافقته للحكم المظنون.

وضمير «فيها» راجع على الأحكام ، بمعنى أنه يكفي أن يكون نفس الإيجاب أو التحريم ذا مصلحة.

وحاصل ما حققه المصنف في بعض فوائده : أن الأحكام مما لا تتبع المصالح والمفاسد في الأفعال ؛ كي يستلزم الظن بالوجوب أو الحرمة الظن بالمفسدة في المخالفة ؛ بل تتبع المصالح والمفاسد في نفس الأحكام.

(١) هذا حاصل ما ذكره في الوجه الأول ومزيد توضيح له ، فكان المناسب بيانه قبل قوله : «مع منع كون ...» وتوضيحه : ـ على ما في «منتهى الدراية» ـ أنه ليس ملاك حكم العقل بحسن شيء أو قبحه هو كونه ذا نفع عائد إلى الفاعل أو ضرر وارد عليه ؛ بل ملاك حكمه بهما أعم من ذلك.

فعلى القول باستقلال العقل بالحسن والقبح لا يتوقف حكمه بهما على النفع والضرر الشخصيين ؛ بل يكفي في اتصاف الفعل بالحسن والقبح المصلحة والمضرة النوعيتان كما لا يخفى.

(٢) خبر «ليست المفسدة».

(٣) بيان للموصول في الموضعين.

(٤) أي : بقبح ما فيه المفسدة أو حسن ما فيه المصلحة. وضمير «باستقلاله» راجع على العقل.

٣٦٦

هو (١) كونه ذا ضرر وارد على فاعله أو نفع عائد إليه ، ولعمري هذا (٢) واضح ، فلا مجال (٣) لقاعدة دفع الضرر المظنون هاهنا أصلا.

ولا استقلال (٤) للعقل بقبح فعل ما فيه احتمال المفسدة أو ترك ما فيه احتمال المصلحة. فافهم (٥).

______________________________________________________

(١) خبر «وليس مناط» ، وضمير «كونه» راجع على الموصول في الموضعين المراد به الأفعال.

(٢) أي : ما ذكرناه بقولنا : «وليس مناط حكم العقل ...» الخ ، واضح.

(٣) لما عرفت من : عدم كون الظن بالحكم من صغرياتها ، ومن غير فرق في ذلك بين الضرر الأخروي والدنيوي ، ومن دون تفاوت أيضا فيه بين كون الحكم المظنون وجوبيا وتحريميا.

(٤) غرضه : دفع ما قد يتوهم من أن المفسدة وإن لم تكن ملازمة للضرر حتى يكون الظن بها صغرى لكبرى وجوب دفع الضرر المظنون ـ بأن يقال : الظن بالمفسدة ظنّ بالضرر ، وكل ضرر مظنون يجب دفعه ، فالمفسدة المظنونة يجب دفعها ـ إلا إن هنا قاعدة أخرى يكون الظن بالمفسدة من صغرياتها ، وهي : حكم العقل بقبح فعل ما فيه احتمال المفسدة ، وترك ما فيه احتمال المصلحة ، فالظن بالحكم ملازم للظن بالمفسدة ، ويصير من صغريات هذه القاعدة ؛ بأن يقال : الظن بحرمة شيء مثلا مستلزم لاحتمال المفسدة في فعله ، وكل ما احتمل المفسدة في فعله ففعله قبيح ، فالظن بحرمة شيء مستلزم لقبح فعله ، هذا.

وقد دفع المصنف «قدس‌سره» هذا التوهم بما حاصله : عدم تسليم هذه القاعدة ، فإنه لم يظهر استقلال العقل بقبح ما فيه احتمال المفسدة.

نعم ؛ هذا الحكم مسلم فيما إذا تنجز الحكم ، كما في أطراف العلم الإجمالي ، وليس المقام منه.

فالمتحصل من جميع ما ذكره المصنف «قدس‌سره» : عدم حجية الظن بالحكم من حيث صغرويته لكبرى وجوب دفع الضرر المظنون ، ولا لكبرى حكم العقل بقبح ما فيه احتمال المفسدة.

(٥) لعله إشارة إلى ضعف ما أفاده بقوله : «فلا مجال لقاعدة دفع الضرر المظنون ...» الخ ؛ لما تقدم منه من أن المفسدة قد تكون من الأضرار أحيانا ، ولازمه : أن الظن بالحرمة مستلزم لاحتمال الضرر ، وقد تقدم منه : أن دفع الضرر المحتمل واجب كالضرر المظنون

٣٦٧

الثاني (١) : أنه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح.

وفيه (٢) : أنه لا يكاد يلزم منه ذلك ؛ إلا فيما إذا كان الأخذ بالظن أو بطرفه لازما ،

______________________________________________________

عينا ، حيث قال : «ودعوى استقلاله بدفع الضرر المشكوك كالمظنون قريبة جدا فتأمل جيدا».

أو إشارة إلى أن الموارد مختلفة لديهم ، فلا يصح إطلاق القول بأنهم يقتحمون محتمل الفساد ، كما لا يصح إطلاق القول بأنهم يجتنبون عنه ؛ بل لو كانت المفسدة المحتملة كبيرة لا يقدمون في الغالب ، كما لو كان هناك تلف نفس أو ذهاب جميع المال أو ما أشبه ذلك ، بخلاف ما لو كانت صغيرة كاحتمال ذهاب شيء يسير من المال مثلا ، فإطلاق القول في كل من الجانبين غير تام.

هذا تمام الكلام في الوجه الأول من الوجوه العقلية على حجية مطلق الظن.

في الوجه الثاني من الوجوه العقلية

(١) وقد ذكره الشيخ في «الرسائل» ، وتوضيحه : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٥٦٩» ـ أنه يدور الأمر بين العمل بالظن بالحكم ، وبين العمل بالشك والوهم فيه ، ومن المعلوم : تقدم الظن عليهما ، وإلا لزم ترجيح المرجوح على الراجح ، وفساده بمكان من الوضوح ؛ بحيث لا يحتاج إلى البيان.

(٢) أي : في هذا الوجه من الإشكال : أنه لا يلزم من عدم الأخذ بالظن ترجيح المرجوح على الراجح إلا فيما إذا تم هناك أمران :

الأمر الأول : بأن كان الأخذ بالظن أو بطرفه الذي هو الوهم لازما ؛ إذ لو لم يلزم الأخذ بأحدهما لم يكن مجال للدوران ، حتى يحتم العقل العمل بالظن ترجيحا على الوهم.

الأمر الثاني : هو عدم إمكان الجمع بينهما ، أو عدم وجوب الجمع شرعا من باب الاحتياط.

أما الأول : فكما لو حلف بأن يكون يوم عرفة في كربلاء أو في مكة ، وكان يظن أن الحلف تعلق بالأول ، فإنه لا يمكن الجمع بين الأمرين عقلا.

وأما الثاني : فكما إذا كان الجمع بينهما احتياطا مستلزما لاختلال النظام أو العسر المنفي شرعا ، وحينئذ : يدور الأمر بين ترجيح الظن أو ترجيح الوهم. ولا يدور الأمر بينهما إلا بعد تمامية مقدمات الانسداد ؛ إذ توقف دوران الأمر بين العمل بالظن أو طرفه على مقدمات الانسداد واضح ؛ لأنه ـ بعد أن وجب عقلا امتثال الأحكام ، ولم يجب أو

٣٦٨

مع عدم إمكان الجمع بينهما عقلا ، أو عدم وجوبه شرعا ، ليدور الأمر بين ترجيحه (١) أو ترجيح طرفه ، ولا يكاد يدور الأمر بينهما (٢) إلا بمقدمات دليل الانسداد ، وإلا

______________________________________________________

لم يجز الاحتياط التام ـ يدور الأمر بين العمل بالمشكوكات والموهومات وإهمال المظنونات ، وبين العمل بهذه وطرح المشكوكات والموهومات ، فمقتضى المقدمة الأخيرة من مقدمات دليل الانسداد الآتي ـ وهي قبح ترجيح المرجوح على الراجح ـ هو تعين الأخذ بالظن ، وطرح المشكوك والموهوم ، ففي الحقيقة يكون هذا الوجه والدليل هي المقدمة الأخيرة من مقدمات الانسداد ، وليس دليلا آخر.

(١) أي : ترجيح الظن «أو ترجيح طرفه» ، أي : الذي هو الوهم ، فإنه لو أمكن الجمع لم يلزم أحد الأمرين ؛ حتى يلزم ترجيح المرجوح على الراجح.

(٢) أي : ولكن لا يتم الأمران ، أي : «لا يكاد» يلزم الأخذ بالظن أو طرفه ، ولا «يدور الأمر بينهما إلا بمقدمات دليل الانسداد» ، التي هي علمنا ببقاء التكليف ، وعدم وجود العلم والعلمي بقدر الكافي بمعظم الأحكام ، ولزوم العسر والحرج من الرجوع إلى الاحتياط ، ولزوم الخروج من الدين على تقدير الرجوع إلى البراءة. فإذا تمت هذه المقدمات : كان اللازم الرجوع إلى الظن لا الوهم ؛ لئلا يلزم ترجيح المرجوح على الراجح ، وهو قبيح عقلا.

وبهذا تحقق أن هذا الدليل الثاني ليس دليلا مستقلا ، وإنما هو تقرير لجزء من دليل الانسداد الآتي.

قوله : «وإلا ...» الخ ، أي : وإن لم تتم مقدمات الانسداد لم يكن الأمر دائرا بين الظن والوهم ؛ بل «كان اللازم هو ...» الخ عدم أي تكليف لو لم تتم المقدمة الأولى ، أو «الرجوع إلى العلم والعلمي» لو لم تتم المقدمة الثانية ، «أو» الرجوع إلى «الاحتياط» لو لم تتم المقدمة الثالثة ، «أو» الرجوع إلى «البراءة» لو لم تتم المقدمة الرابعة ، «أو غيرهما» من الرجوع إلى فتوى الفقيه ، أو التبعيض «على حسب اختلاف الأشخاص ، أو الأحوال في اختلاف المقدمات» ، فإن بعضها يتم بالنسبة إلى بعض ، ولا يتم بالنسبة إلى بعض آخر.

وكيف كان ؛ فغرض المصنف «قدس‌سره» : أن دوران الأمر بين الأخذ وبين الأخذ بطرفه منوط بمقدمات الانسداد ؛ إذ مع اختلالها وعدم تماميتها يجب الرجوع إلى العلم أو العلمي إن كانت إحدى مقدماتها ـ وهي انسداد باب العلم والعلمي ـ منتفية ، بأن كان باب العلم أو العلمي مفتوحا ، أو الرجوع إلى الاحتياط إن كانت مقدمة أخرى من مقدماته ـ وهي بطلان الاحتياط أو البراءة ـ منتفية بأن أمكن الاحتياط أو لم تبطل البراءة

٣٦٩

كان اللازم هو الرجوع إلى العلم أو العلمي ، أو الاحتياط أو البراءة ، أو غيرهما (١) على حسب اختلاف الأشخاص أو الأحوال في اختلاف المقدمات على ما ستطلع على حقيقة الحال.

الثالث : ما عن السيد الطباطبائي (٢) «قدس‌سره» من : «أنه لا ريب في وجود واجبات ومحرمات كثيرة بين المشتبهات ، ومقتضى ذلك (٣) : وجوب الاحتياط بالإتيان بكل ما يحتمل الوجوب ولو موهوما ، وترك ما يحتمل الحرمة كذلك».

ولكن مقتضى قاعدة نفي الحرج (٤) : عدم وجوب ذلك (٥) كله ؛ ...

______________________________________________________

على ما سيأتي توضيحه في دليل الانسداد.

(١) كالاستصحاب وفتوى المجتهد ، والأولى «غيرها» كما في بعض النسخ لرجوع الضمير إلى جميع ما ذكر ؛ لأنها ذكرت على نسق واحد ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٥٧٢».

وكيف كان ؛ فجواز الرجوع إلى الظن منوط بثبوت مقدمات الانسداد ، فهذا الوجه العقلي لا يثبت حجية الظن إلا بعد ضم سائر مقدمات الانسداد إليه ، فلا وجه لعده دليلا مستقلا.

في الوجه الثالث من الوجوه العقلية

(٢) وهو السيد المجاهد «قدس‌سره» على ما في «منتهى الدراية ج ٤ ، ص ٥٧٢».

وتوضيحه : أنّا نعلم بوجود واجبات ومحرمات كثيرة بين المشتبهات ، ومقتضى هذا العلم الإجمالي : الاحتياط بالإتيان بكل ما يحتمل الوجوب ولو موهوما ، وترك كل ما يحتمل الحرمة كذلك ؛ لكن لما كان هذا الاحتياط موجبا للعسر والحرج : فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط والحرج هو العمل بالاحتياط في المظنونات ، وطرحه في المشكوكات والموهومات ؛ لأن الجمع على غير هذا الوجه بإخراج بعض المظنونات وإدخال بعض المشكوكات والموهومات باطل إجماعا.

(٣) أي : العلم الإجمالي ، وقوله : «كذلك» أي : ولو موهوما ؛ لأنه مقتضى العلم الإجمالي.

(٤) كقوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(١).

(٥) أي : عدم وجوب الإتيان بجميع الأطراف المظنونة والمشكوكة والموهومة.

__________________

(١) الحج : ٧٨ ،

٣٧٠

لأنه (٢) عسر أكيد وحرج شديد ، فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط وانتفاء الحرج : العمل بالاحتياط في المظنونات ، دون المشكوكات والموهومات ؛ لأن الجمع على غير هذا الوجه بإخراج بعض المظنونات وإدخال بعض المشكوكات والموهومات باطل إجماعا.

ولا يخفى ما فيه من القدح والفساد ، فإنه (٣) بعض مقدمات دليل الانسداد ولا يكاد ينتج بدون سائر مقدماته ، ومعه (٤) لا يكون دليلا (٥) آخر ؛ بل ذاك الدليل.

______________________________________________________

وبعبارة أخرى : عدم وجوب الإتيان بكل ما يحتمل الوجوب ، وترك كل ما يحتمل الحرمة.

(٢) أي : لأن وجوب الإتيان بكل ما يحتمل الوجوب ، وترك كل ما يحتمل الحرمة عسر أكيد.

(٣) أي : فإن هذا الوجه بعض مقدمات الانسداد ، ولا ينتج هذا البعض بدون سائر مقدمات الانسداد ، ومع ضم سائر المقدمات : لا يكون هذا الدليل دليلا آخر ؛ بل يكون نفس دليل الانسداد الآتي.

وحاصل ما أفاده المصنف في رد هذا الوجه : أن هذا الوجه هو أولى مقدمات الانسداد ، وهي العلم الإجمالي بوجود واجبات ومحرمات في الشريعة ، وكذا يتضمن المقدمة الرابعة وهي : عدم وجوب الاحتياط التام ؛ لكونه مستلزما للعسر والحرج الشديدين ، وللمقدمة الخامسة أيضا وهي العمل بالمظنونات ، ورفع العسر بطرح المشكوكات والموهومات ، فليس هذا وجها آخر في قبال دليل الانسداد ، ولذا قال الشيخ «قدس‌سره» في الجواب عنه «أنه راجع على دليل الانسداد الآتي».

ثم الفرق بين هذا الوجه وبين الوجه الثاني هو : أن هذا الوجه مؤلف من جملة من مقدمات الانسداد ، والوجه الثاني ليس فيه إلا مقدمة واحدة من مقدماته ، وهي : قبح ترجيح المرجوح على الراجح.

(٤) أي : ومع سائر المقدمات لا يكون هذا الدليل دليلا آخر غير دليل الانسداد.

(٥) فما في بعض النسخ من «دليل» بالرفع سهو من الناسخ.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

حجية مطلق الظن بالوجوه العقلية

١ ـ أن الظن بالتكليف يلازم الظن بالضرر على مخالفته ، ودفع الضرر المظنون لازم عقلا.

٣٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

فهناك صغرى وكبرى.

أما الصغرى : فلأن مخالفة التكليف تستلزم العقوبة كما تستلزم الوقوع في المفسدة ، بناء على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.

فالظن بالتكليف ملازم للظن بالعقوبة والمفسدة في مخالفته.

وأما الكبرى : فحكم العقل بلزوم دفع الضرر المظنون ، وحكمه بذلك لا يستند إلى حكمه بالحسن والقبح ؛ بل مع إنكار التحسين والتقبيح العقليين يلتزم العقل بلزوم دفع الضرر المظنون ؛ إذ لا ينكر الأشعري المنكر للحسن والقبح بأن العقل لا يقدم على مظنون الضرر ؛ بل يدفع الضرر المظنون.

وكيف كان ؛ فقد استقل العقل بلزوم دفع الضرر المظنون ، سواء قلنا بالحسن والقبح العقليين أم لم نقل.

٢ ـ وقد أجاب المصنف عن هذا الوجه : بمنع الصغرى فقال : إن الظن بالتكليف لا يستلزم الظن بالضرر على مخالفته ، سواء كان المراد بالضرر الضرر الأخروي ـ العقوبة ـ أو الدنيوي ـ المفسدة أو فوات المصلحة ـ.

وأما العقوبة : فلأنها لا تترتب على مجرد مخالفة التكليف الواقعي ؛ بل هي تترتب على المعصية ، وهي لا تتحقق إلا إذا كان التكليف منجزا عقلا ؛ إذ لو لا تنجز التكليف لما كان الظن بالتكليف ملازما للظن بالعقوبة على مخالفته.

اللهم إلا أن يقال : إن العقل كما لا يستقل بتنجز التكليف بمجرد الظن به لا يستقل بعدم العقاب على مخالفته أيضا ، فتكون العقوبة محتملة ، فيكون المورد من موارد دفع الضرر المشكوك المحتمل ، ودعوى لزوم دفعه عقلا قريبة جدا.

وأمّا للمفسدة فلوجهين :

أحدهما : إنكار لزوم تبعية الأحكام للمصالح أو المفاسد في متعلقاتها ؛ بل يمكن أن تكون تابعة للمصالح فيها ، وهي تستوفى بمجرد الجعل.

وثانيهما : أن التكليف إنما ينشأ عن مصلحة أو مفسدة نوعية في متعلقه لا شخصية ، ولذا كان بعض الواجبات يستلزم أضرارا شخصية كالزكاة والجهاد ، كما أن بعض المحرمات يستلزم منافع شخصية كالقمار والسرقة والغصب.

٣ ـ الوجه الثاني : أنه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح عقلا.

٣٧٢

الرابع : دليل الانسداد (١) ، وهو مؤلف من مقدمات ، يستقل العقل مع تحققها بكفاية الإطاعة الظنية حكومة أو كشفا على ما تعرف ، ولا يكاد يستقل بها بدونها ، وهي خمس :

______________________________________________________

وخلاصة الإشكال على هذا الوجه : أنه إنما يتم لو فرض عدم قيام الحجة على خلاف الظن ، وفرض أيضا لزوم العمل بالظن أو بالوهم وعدم جواز ترك العمل بإجراء البراءة ، وفرض أيضا عدم إمكان الجمع بين الاحتمالين عقلا أو عدم جوازه شرعا بالاحتياط ؛ لأجل لزوم العسر والحرج المنفي شرعا ، فهذا الدليل يتوقف على تمامية مقدمات الانسداد ، وبدونها لا ينهض دليلا على حجية الظن ، فيرجع إلى دليل الانسداد.

٤ ـ الوجه الثالث : ما عن السيد الطباطبائي «قدس‌سره» من أنه لا ريب في وجود واجبات ومحرمات كثيرة بين المشتبهات ، ومقتضى ذلك : وجوب الاحتياط بالإتيان بكل ما يحتمل الوجوب ولو موهوما ، وترك ما يحتمل الحرمة كذلك.

ولكن مقتضى قاعدة العسر والحرج : عدم ذلك كله ؛ لأنه عسر أكيد وحرج شديد ، فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط وانتفاء الحرج هو : العمل بالاحتياط في المظنونات دون المشكوكات والموهومات ؛ لأن الجمع على غير هذا الوجه باطل إجماعا.

الإيراد عليه : أن هذا الوجه بعض مقدمات الانسداد ، ولا ينتج بدون سائر المقدمات ، ومع ضم سائر المقدمات لا يكون دليلا آخر ؛ بل هو نفس دليل الانسداد.

٥ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

عدم تمامية هذه الوجوه الثلاثة على حجية مطلق الظن ؛ لما عرفت من الإيراد على كل واحد منها.

في دليل الانسداد

(١) قبل الخوض في البحث ينبغي بيان ما هو محل الكلام من الظن ، الذي كون مستند حجيته دليل الانسداد.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : الفرق بين الظن الخاص والظن المطلق ، وحاصل الفرق : أن الظن الخاص ما قام على حجيته دليل خاص غير دليل الانسداد ، والظن المطلق ما يكون مستند حجيته دليل الانسداد ، ثم الظن المطلق مطلق من حيث السبب ، والظن الخاص خاص من حيث السبب ؛ بأن يكون سبب الظن خبر العادل أو الثقة مثلا.

٣٧٣

أولها : أنه يعلم إجمالا بثبوت تكاليف كثيرة فعلية في الشريعة.

ثانيها : أنه قد انسد علينا باب العلم والعلمي إلى كثير منها.

ثالثها : أنه لا يجوز لنا إهمالها ، وعدم التعرض لامتثالها أصلا.

رابعها : أنه لا يجب علينا الاحتياط في أطراف علمنا ؛ بل لا يجوز في الجملة ، كما لا يجوز الرجوع إلى الأصل في المسألة ، من استصحاب وتخيير وبراءة واحتياط (١) ، ولا إلى فتوى العالم بحكمها.

______________________________________________________

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إن محل الكلام في المقام هو الظن المطلق ؛ لأن الدليل المعروف بدليل الانسداد دليل على حجية الظن المطلق.

وهذا الدليل مركب من مقدمات يستقل العقل مع تحققها بكفاية الإطاعة الظنية ، وبدون هذه المقدمات لا يستقل العقل بذلك وهي خمس :

الأولى : العلم الإجمالي بوجود تكاليف كثيرة فعلية في الشريعة في مجموع المشتبهات التي هي أطراف العلم الإجمالي الكبير.

الثانية : انسداد باب العلم والعلمي ـ أعني : الأمارات المعتبرة غير العلمية كخبر الواحد ـ إلى معظم الأحكام الشرعية.

وهذه هي المقدمة الأولى التي ذكرها الشيخ «قدس‌سره» وهي العمدة في الاستنتاج من هذا الدليل.

وكيف كان ؛ فحاصل هذه المقدمة الثانية : أن لم نعلم الأحكام الشرعية. هذا معنى انسداد باب العلم. ولم يقم عليها دليل معتبر ينتهي إلى العلم ، كأن نعلم أن قول زرارة حجة ، ثم يخبرنا زرارة بشيء ، فإن خبر زرارة علمي وليس بعلم ، أي : منسوب إلى العلم.

هذا ـ أي : عدم قيام دليل على الأحكام معنى انسداد باب العلمي.

الثالثة : عدم جواز إهمال التكاليف بالرجوع إلى أصالة البراءة ، وعدم التعرض لامتثالها بالمرة. فإن في ذلك لزوم الخروج من الدين.

الرابعة : عدم جواز الرجوع إلى الوظائف المقررة للجاهل من الاحتياط في جميع الوقائع المشتبهة ، أو الرجوع إلى الأصل في المسألة من البراءة والاستصحاب والتخيير والاحتياط ، أو التقليد بأخذ فتوى الغير الذي يرى انفتاح باب العلم والعلمي ، فليس له الرجوع ولا الإرجاع إلى المجتهد الانفتاحي ؛ لأنه بنظر الانسدادي جاهل بالأحكام.

(١) المراد به : أصالة الاحتياط في المسألة ؛ لا الاحتياط التام ، الجاري فيها وفي غيرها.

٣٧٤

خامسها : أنه كان ترجيح المرجوح على الراجح قبيحا (١) ، فيستقل (٢) العقل حينئذ (٣) بلزوم الإطاعة الظنية لتلك التكاليف المعلومة ، وإلا (٤) لزم ـ بعد انسداد باب العلم والعلمي بها ـ إما إهمالها ، وإما لزوم الاحتياط في أطرافها ، وإما الرجوع إلى الأصل الجاري في كل مسألة ، مع قطع النظر عن العلم بها ، أو التقليد فيها ، أو الاكتفاء بالإطاعة الشكية أو الوهمية مع التمكن من الظنية ، والفرض بطلان كل واحد منها.

______________________________________________________

الخامسة : أن ترجيح المرجوح على الراجح قبيح عقلا ، وهو : أن يؤخذ بالمشكوكات والموهومات ، ويترك الأخذ بالمظنونات.

فإذا تمت هذه المقدمات فلا محيص حينئذ عن الرجوع إلى الظن في امتثال التكاليف ، فيجب الأخذ به وترك العمل بالمشكوك والموهوم ؛ لئلا يلزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو المطلوب في المقام. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب دليل الانسداد على حجية الظن المطلق.

(١) أي : لا يأمر به شرع ولا يحكم به عقل.

(٢) هذا نتيجة المقدمات الخمس بنحو الإجمال ، يعني : أنه بعد أن ثبت عدم جواز الإهمال ، وعدم جواز الرجوع إلى الطرق المزبورة ، وقبح ترجيح المرجوح على الراجح ـ أي : ترجيح الشك والوهم على الظن ـ فلا محيص حينئذ عن الرجوع إلى الظن في امتثال التكاليف.

(٣) أي : حين تمام المقدمات.

(٤) أي : وإن لم يستقل العقل بلزوم الإطاعة الظنية لزم أحد هذه التوالي الباطلة التي سيأتي وجه بطلانها في شرح المقدمات ، فهنا قضية منفصلة حقيقية مانعة الخلو ذات أطراف كثيرة ، هكذا : إما أن يلزم ـ بحكم العقل ـ الإطاعة الظنية ، أو إهمال الأحكام ، أو الاحتياط في أطرافها ، أو الرجوع إلى الأصل الجاري في كل مسألة أو التقليد فيها ، أو الاكتفاء بالإطاعة الشكية والوهمية ، مع فرض التمكن من الظنية ، والتوالي كلها باطلة ؛ لما سيأتي ، فالمقدم وهو عدم استقلال العقل بلزوم الإطاعة الظنية أيضا باطل ، فالنتيجة هي لزوم الإطاعة الظنية ، وهو المطلوب ، فالمقام نظير أن يقال : هذا العدد إما فرد وإما زوج ، لكنه ليس بزوج ؛ لعدم انقسامه إلى متساويين ، فهو فرد.

٣٧٥

أما المقدمة الأولى (١) : فهي وإن كانت بديهية ؛ إلا إنه قد عرفت انحلال العلم الإجمالي بما في الأخبار الصادرة عن الأئمة الطاهرين «عليهم‌السلام» ، التي تكون فيما بأيدينا ، من الروايات في الكتب المعتبرة ، ومعه (٢) لا موجب للاحتياط إلا في

______________________________________________________

الكلام في المقدمة الأولى

(١) هذا شروع من المصنف في البحث حول كل مقدمة على حدة ؛ ليعلم صحيحها من فاسدها.

وحاصل الكلام في المقدمة الأولى : وهي العلم الإجمالي بثبوت تكاليف كثيرة في الشريعة في مجموع المشتبهات ، «وإن كانت بديهية» لا نحتاج إلى الاستدلال ؛ إلا إنك قد عرفت في الوجه الأول ـ من الوجوه العقلية التي أقيمت على حجية خبر الواحد أن العلم الإجمالي الكبير الموجود في مجموع الأخبار وسائر الأمارات منحلّ إلى العلم الإجمالي الصغير في خصوص الأخبار ، كما أنك قد عرفت في الوجه الثاني منها : أن العلم الإجمالي الموجود في مجموع الأخبار منحل إلى علم تفصيلي «بما في الأخبار الصادرة عن الأئمة الطاهرين «عليهم‌السلام» ، التي تكون فيما بأيدينا من الروايات في الكتب المعتبرة» ، وإلى شك بدوي فيما في غير الأخبار.

(٢) أي : مع هذا الانحلال «لا موجب للاحتياط إلا في خصوص ما في الروايات» ؛ إذ العلم الإجمالي المنحل يقتضي العمل بما في الروايات ، ومن الواضح المعلوم : أن الاحتياط في مواردها بمعنى الأخذ بكل خبر منها دل على التكليف من وجوب أو حرمة ، وهو مما لا يوجب العسر والحرج فضلا عن الاختلال بالنظام.

وكيف كان ؛ فيلزم الاحتياط في تمام أطراف العلم الإجمالي المتعلق بخصوص الروايات ، والاحتياط في أطراف الروايات غير مستلزم للعسر والاختلال بالنظام ؛ لأن الروايات منحصرة ، فالعمل بها لا يلزم عسرا ولا اختلالا ، ولا إجماع على عدم وجوب الاحتياط ، فلو تمت هذه المقدمة مع سائر المقدمات لكانت النتيجة العمل بالروايات لا بمطلق الظن ، والمطلوب هو الثاني دون الأول.

قوله : «وهو غير مستلزم ...» الخ ، دفع توهم ، فلا بد أولا : من بيان التوهم ، وثانيا : من بيان دفعه.

أما التوهّم : فحاصله : أن العلم الإجمالي الصغير الموجود في الروايات لا يوجب انحلال العلم الإجمالي الكبير ؛ إلا إذا كان مؤثرا في جميع أطرافه ، وهي الروايات ، ولا

٣٧٦

خصوص ما في الروايات ، وهو غير مستلزم للعسر فضلا عما يوجب الاختلال ، ولا إجماع على عدم وجوبه ولو (١) سلم الإجماع على عدم وجوبه لو لم يكن هناك انحلال.

وأما المقدمة الثانية (٢) : أما بالنسبة إلى العلم : فهي بالنسبة إلى أمثال زماننا بيّنة وجدانية ، يعرف الانسداد كل من تعرض للاستنباط والاجتهاد.

______________________________________________________

يكون مؤثرا كذلك ؛ للزوم الاختلال أو العسر ، أو الإجماع على عدم وجوب الاحتياط في جميع الروايات.

أما الدفع : فملخصه : أن الاحتياط في جميع الروايات لا يوجب عسرا فضلا عن لزوم الاختلال ، وكذا لا إجماع على عدم وجوب الاحتياط في جميع الأخبار ، وعلى هذا لا مانع من كون العلم الإجمالي الصغير موجبا لانحلال العلم الإجمالي الكبير ، ومع الانحلال لا موجب للاحتياط في جميع الوقائع المشتبهة ، بل الموجب له إنما هو خصوص الروايات.

(١) كلمة «لو» وصلية ، يعني : أنه لا نسلم الإجماع على عدم وجوب الاحتياط في الروايات ؛ وإن سلمنا في صورة عدم انحلال العلم الإجمالي الكبير بما في الروايات.

والحاصل : أنه لا ملازمة بين عدم وجوب الاحتياط في صورة عدم انحلال العلم الإجمالي الكبير ، وبين وجوبه في صورة الانحلال ؛ إذ في صورة الانحلال لا مانع من وجوب الاحتياط في الروايات ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٥٧٩».

الكلام في المقدمة الثانية

(٢) وهي : انسداد باب العلم والعلمي إلى كثير من الأحكام ، وهي أهم المقدمات ، وباعتبارها سمي هذا الوجه بدليل الانسداد ؛ بل ادعي أنها مما تكفي في حجية الظن المطلق ، بلا حاجة إلى سائر المقدمات أصلا ، وعليه : فإذا بطلت هذه المقدمة فقد بطلت النتيجة من أصلها ، وانهدم الأساس بتمامه.

وكيف كان ؛ فحاصل كلام المصنف حول هذه المقدمة الثانية : أن دعوى انسداد باب العلم بمعظم المسائل الفقهية ؛ وإن كانت هي مسلمة يعرفها كل من تصدى للاجتهاد والاستنباط ؛ ولكن دعوى انسداد باب العلمي ـ أي : الظن الخاص المعتبر بدليل قطعي ـ غير مسلمة ، بعد ما عرفت نهوض الأدلة المتقدمة الثلاثة على حجية خبر الثقة من الأخبار المتواترة ، وسيرة المسلمين على العمل به في أمورهم الدينية ، وأخذهم المسائل

٣٧٧

وأما بالنسبة إلى العلمي ؛ فالظاهر : إنها غير ثابتة ؛ لما عرفت من : نهوض الأدلة على حجية خبر يوثق بصدقه ، وهو بحمد الله واف بمعظم الفقه ، لا سيما بضميمة ما علم تفصيلا منها ، كما لا يخفى.

وأما الثالثة (١) : فهي قطعية ؛ ولو لم نقل بكون العلم الإجمالي منجزا مطلقا (١) ، أو

______________________________________________________

الشرعية ، وسيرة العقلاء بما هم عقلاء كافة على العمل به في عامة أمورهم ، ومنها الأمور الدينية ، ومن الواضح المعلوم : أن خبر الثقة واف بمعظم الفقه ، وعليه : فلا تنتج المقدمات شيئا مما يقصده الانسدادي أصلا.

هذا كله مضافا إلى أنها لو تمت المقدمات لم تنتج إلا التبعيض في الاحتياط ؛ لا حجية الظن ، وفرق بين العمل به من باب الاحتياط وبين العمل به من باب الحجية ، ونتيجة الانسداد هو الأول ، والمطلوب هو الثاني.

الكلام في المقدمة الثالثة

(١) وهي : عدم جواز إهمال تلك الأحكام المعلومة إجمالا ، «فهي قطعية» ؛ لأن من ضروريات الشرع أن الشارع أراد الأحكام ولم يرض بإهمالها وتركها ؛ إلا إن وجوب التعرض لامتثال الأحكام ، وعدم جواز إهمالها ليس مستندا إلى العلم الإجمالي بوجوب تلك الأحكام في الشريعة المقدسة ، حتى يمنع وجوب امتثالها إما بدعوى : عدم تنجيز العلم الإجمالي أصلا ، كما هو مذهب بعض كالمحقق القمي والخوانساري فيما نسب إليهما «قدس‌سرهما» ، حيث جعلاه كالشك البدوي في عدم الحجية ، أو بدعوى : عدم تنجزه في خصوص ما إذا لم يجب الاحتياط في جميع أطرافه ، أو لم يجز الاحتياط ، كما إذا كان مخلا بالنظام ؛ بل هو ـ يعني : وجوب التعرض لامتثال الأحكام وعدم جواز إهمالها ـ مستند إلى وجهين آخرين :

أحدهما : الإجماع على عدم جواز الإهمال.

ثانيهما : استلزامه الخروج عن الدين ؛ لأن إهمال معظم الأحكام مستلزم له ، ومن المعلوم : أن الشارع راغب عنه.

(٢) أي : في جميع الموارد ؛ بل يجوز ارتكاب جميع أطرافه أو بعضه ، سواء في حال الاضطرار إليه أم لا.

وكيف كان ؛ فقد اختلف في باب العلم الإجمالي ، فبعض يقول : بعدم كونه منجزا مطلقا ، فيجوز ارتكاب جميع الأطراف ، وبعض يقول بجواز ارتكاب ما عدا المقدار المعلوم إجمالا ، فلو اشتبه إناء حرام في عشرة أوان : فقال الأول : بجواز ارتكاب جميع

٣٧٨

فيما جاز ، أو وجب الاقتحام في بعض أطرافه ، كما في المقام حسب ما يأتي ؛ وذلك لأن إهمال معظم الأحكام وعدم الاجتناب كثيرا عن الحرام ، مما يقطع بأنه مرغوب عنه شرعا ، ومما يلزم تركه إجماعا.

إن قلت (١) : إذا لم يكن العلم بها منجزا لها ؛ للزوم الاقتحام في بعض الأطراف ـ

______________________________________________________

تلك الأواني تدريجا ، وقال الثاني : بجواز ارتكاب تسعة منها ، والمشهور قالوا : بعدم جواز ارتكاب أي واحد منها ؛ إلا إذا كان بعض الأطراف خارجا عن محل الابتلاء أو مضطرا إليه ، فيجوز ارتكابه.

فالمتحصل : أنه يمكن إثبات عدم جواز إهمال الأحكام بوجوه ثلاثة :

العلم الإجمالي ، والإجماع ، واستلزام الخروج عن الدين.

فلو نوقش في العلم الإجمالي بعدم تنجيزه مطلقا ، أو في خصوص ما جاز أو وجب الاقتحام في بعض الأطراف ؛ كالاضطرار إلى بعض أطرافه إذا كان مقارنا للعلم الإجمالي أو متقدما عليه ، حيث لا يجب الاجتناب عن سائر الأطراف مما لا اضطرار إليه ، ففي الوجهين الآخرين غنى وكفاية.

قوله : «أو فيما جاز» عطف على «مطلقا» ، يعني : «أو لم نقل بكون العلم الإجمالي منجزا في خصوص ما جاز أو وجب الاقتحام ...» الخ ، «كما في المقام» ، حيث إن الاحتياط في جميع الوقائع المشتبهة مخل بالنظام ، أو سبب للمشقة المجوزة للاقتحام في بعض الأطراف ، فيكون المقام كالاضطرار إلى بعض الأطراف ، بل عينه ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٥٨٣».

قوله : «وذلك لأن إهمال» تعليل لقوله : «فهي قطعية» ، وأنه لا يجوز الإهمال ؛ لما تقدم من الوجهين المذكورين.

(١) «إن قلت» : قوام هذه المقدمة العلم الإجمالي ؛ لأنه هو الذي يمنع من إهمال تلك الأحكام ، وحيث ثبت عدم تنجيز العلم الإجمالي لا يبقى مجال لهذه المقدمة الثالثة ؛ إذ بعد سقوط العلم الإجمالي عن التأثير ـ لفرض وجوب الاقتحام أو جوازه في بعض الأطراف ـ تكون قاعدة قبح العقاب بلا بيان في غير ما وجب أو جاز الاقتحام فيه من سائر الأطراف محكمة ، فلو خالف الأحكام الإلزامية الواقعة في سائر الأطراف لزم أن لا يعاقب عليه ؛ لكونه عقابا بلا بيان ، مع أن المسلّم عقابه وصحة مؤاخذته.

قوله : «للزوم الاقتحام ...» الخ. تعليل لعدم التنجيز ، وضمير «بها لها» راجعان على الأحكام.

٣٧٩

كما أشير إليه (١) ـ فهل (٢) كان العقاب على المخالفة في سائر الأطراف حينئذ (٣) على تقدير المصادفة إلا عقابا بلا بيان ، والمؤاخذة (٤) عليها إلا مؤاخذة بلا برهان؟!

قلت (٥) : هذا إنما يلزم لو لم يعلم بإيجاب الاحتياط ، وقد علم به بنحو اللمّ حيث

______________________________________________________

(١) أي : بقوله : «فيما جاز أو وجب الاقتحام في بعض أطرافه».

(٢) الاستفهام إنكاري ، أي : لا يكون العقاب على المخالفة على تقدير المصادفة إلا عقابا بلا بيان.

(٣) أي : حين لزوم الاقتحام في بعض الأطراف أو جوازه.

(٤) عطف على «العقاب» أي : وهل كان المؤاخذة على المخالفة إلا مؤاخذة بلا برهان؟

وحاصل الكلام : أنه إذا سقط العلم الإجمالي عن التنجيز ، ولم يكن هناك دليل على التكليف غيره لم يكن بأس بارتكاب جميع الأطراف ، أما بعضها : فلعدم تنجزها للزوم الاختلال ، وأما الباقي : فلأن العلم بالنسبة إليه ينقلب شكا ، ولا يجب متابعة الشك.

فالمتحصل : أن مقصود المستشكل من هذا الإشكال : أنه إذا لم نقل بكون العلم الإجمالي منجزا ولو في خصوص ما جاز أو وجب الاقتحام في بعض الأطراف كما في المقام لدفع العسر أو اختلال النظام ، فما هو الموجب لمراعاة الاحتياط في بقية الأطراف ، وعدم جواز الإهمال بالمرة؟ وهل البراءة حينئذ في سائر الأطراف إلا بلا مزاحم؟ لكون الشك فيها بدويا لاحتمال كون التكاليف المعلومة بالإجمال بأجمعها في الطرف المرخص فيه ، نظير ما تقدم في العلم الإجمالي بوجود الحرام في أطراف نضطر إلى ارتكاب بعضها عينا ، وهل العقاب حينئذ على المخالفة في سائر الأطراف على تقدير المصادفة إلا عقابا بلا بيان؟ وذلك لانتفاء العلم الإجمالي وانحلاله من أصله.

(٥) وحاصل ما أفاده المصنف «قدس‌سره» في الجواب : أن العقاب بلا بيان إنما يلزم لو لم يعلم وجوب الاحتياط ، فإذا علم وجوبه لم يلزم ذلك ؛ بل كان عقابا مع البيان ، وغرضه من هذا الكلام : منع جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان بإثبات البيان وهو إيجاب الاحتياط الرافع لموضوع هذه القاعدة في الأطراف التي لا اضطرار إليها ، والمثبت لكون العقاب فيها مع البيان.

وحاصل ما أفاده في منع جريانها ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٥٨٥» ـ وجهان يستكشف من كل منهما وجوب الاحتياط :

أحدهما : أن الشارع لما اهتم بحفظ أحكامه حتى في حال الشك وانسداد باب

٣٨٠