دروس في الكفاية - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٧

علم اهتمام الشارع بمراعاة تكاليفه ؛ بحيث ينافيه (١) عدم إيجابه الاحتياط ، الموجب للزوم المراعاة ، ولو (٢) كان بالالتزام ببعض المحتملات ، مع صحة دعوى الإجماع على عدم جواز الإهمال في هذا الحال (٣) ، وأنه مرغوب عنه شرعا قطعا.

وأما مع استكشافه (٤) : فلا يكون المؤاخذة والعقاب ...

______________________________________________________

العلم والعلمي إليها ، لما تقدم من أن إهمال معظم الأحكام مستلزم للخروج عن الدين ، وهو مرغوب عنه عنده ، كان اهتمامه هذا بحفظ أحكامه علة لإيجاب الاحتياط ولو في بعض المحتملات ـ أي : غير الأطراف التي وجب الاقتحام فيها ـ فمن شدة هذا الاهتمام يحصل لنا العلم بإيجابه الاحتياط لحفظ الأحكام ، ومع العلم بإيجابه الاحتياط لا مجال لقاعدة قبح العقاب بلا بيان في غير ما وجب الاقتحام فيه ؛ لورود قاعدة الاحتياط الشرعي عليها وكونها بيانا على التكاليف الفعلية الواقعية.

وثانيهما : ما أشار إليه بقوله : «مع صحة دعوى الإجماع» ، وحاصله : أن الإجماع على عدم جواز الإهمال في حال الانسداد ـ كما تقدم تقريبه ـ يكشف عن وجوب الاحتياط شرعا ، ومع هذا الوجوب لا يكون العقاب بلا بيان.

فالمتحصل : أنه لا موجب لإهمال الأحكام ؛ بل يجب ترك الإهمال إجماعا ، ومعه لا يكاد يبقى مجال لهذا الإشكال أصلا.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

قوله : «بنحو اللم» إشارة إلى الاستدلال على المعلول بوجود العلة ؛ لما عرفت من : أن اهتمام الشارع علة لإيجاب الاحتياط ، وقوله : «حيث علم» تقريب للدليل اللمي.

(١) هذا الضمير راجع إلى اهتمام الشارع ، يعني : ينافي عدم إيجاب الشارع الاحتياط اهتمامه بحفظ أحكامه. وقوله : «الموجب» صفة للاحتياط.

(٢) يعني : ولو كان الاحتياط بالالتزام ببعض المحتملات لإتمامها الموجب لحصول العلم بالواقع.

(٣) أي : حال الانسداد.

(٤) الظاهر أنه سهو من الناسخ ، ويؤيده خلو بعض النسخ عنه ؛ وذلك للاستغناء عنه بقوله : «وقد علم به بنحو اللم» ، فالحق إسقاطه ، فيكون قوله : «فلا يكون» متصلا بقوله : «قطعا» ، ونتيجة لإيجاب الاحتياط الثابت بالدليل اللمي وبالإجماع المذكورين ، راجع «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٥٨٦».

٣٨١

حينئذ (١) بلا بيان وبلا برهان كما حققناه في البحث وغيره.

وأما المقدمة الرابعة (٢) : فهي بالنسبة إلى عدم وجوب الاحتياط التام بلا كلام (٣)

______________________________________________________

(١) أي : حين وجوب الاحتياط شرعا. أو حين الاستكشاف كما في بعض الشروح وبهذا كله تبيّن تمامية المقدمة الثالثة ، فمن ناحيتها لا يرد إشكال على دليل الانسداد.

الكلام في المقدمة الرابعة

(٢) وهي تشتمل على مطالب ثلاث.

الأول : عدم وجوب الاحتياط التام ؛ بل عدم جوازه في الجملة.

الثاني : عدم جواز الرجوع في كل مسألة إلى الأصل العملي المناسب لها من استصحاب أو تخيير أو براءة أو اشتغال.

الثالث : عدم جواز الرجوع إلى فتوى مجتهد آخر انفتاحي.

(٣) هذا شروع في المطلب الأول ، وحاصل ما أفاده فيه : إن الاحتياط إن كان عسره مخلا بالنظام ، فلا كلام في عدم وجوبه ؛ بل عدم جوازه عقلا وأما إذا كان الاحتياط مما يوجب العسر فقط ، بلا إخلال بالنظام فعدم وجوبه محل نظر ؛ بل منع نظرا إلى أن أدلة الحرج ، وهكذا أدلة الضرر وإن كانت حاكمة على دليل التكليف والوضع رافعة لهما فيما إذا كانا حرجيين أو ضرريين ، وتوجب حصرهما بما إذا لم يلزم منهما حرج أو ضرر. لكن ذلك إذا كان نفس متعلق التكليف حرجيا أو ضرريا كالوضوء أو الغسل في البرد الشديد ، أو القيام في صلاة المريض ، وأمثال ذلك. وأما إذا كان متعلق التكليف بنفسه في كمال السهولة ؛ ولكن الجمع بين محتملاته احتياطا من جهة العلم الإجمالي هو الذي أوجب العسر أو الضرر ؛ كما إذا تردد الماء المطلق للوضوء بين ألف إناء مثلا ، فهاهنا لا تكون أدلة الحرج حاكمة على قاعدة الاحتياط ؛ إذ العسر لازم من حكم العقل بالجمع بين المحتملات للعلم الإجمالي بالتكليف ، وليس لازما من التكليف الشرعي ؛ كي يرتفع بالحرج أو الضرر.

نعم ؛ لو كان الاحتياط بحكم الشرع ، وقد أوجب العسر والحرج لكثرة الأطراف أمكن القول حينئذ بسقوطه ؛ ولكنه مجرد فرض ، فإنه ليس إلا بحكم العقل دون الشرع.

وفي «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٥٨٧» ما هذا لفظه : «أن دليل نفي العسر والضرر ونحوهما يحتمل فيه معان كثيرة ، وقد وقع اثنان منها مورد البحث والنقاش بين الشيخ والمصنف «قدس‌سرهما» ، فاختار الشيخ الأعظم : أن المنفي نفس الحكم الذي ينشأ منه الضرر والحرج ، بدعوى : أن الضرر والحرج من صفات نفس الحكم ؛ بحيث يصح حمل

٣٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

كل منهما عليه ، ويقال : «هذا الحكم ضرر أو حرج» ، وعليه : فيكون نفي الضرر والحرج بسيطا ، ومعنى بساطة نفيهما : نفي أنفسهما ، فإن معنى بساطة النفي : نفي الشيء وسلبه ، في قبال ترك النفي فإن معناه : نفي شيء عن شيء وسلبه عنه ، كما هو الحال في الجعل البسيط والمركب.

وبالجملة : فنفي الضرر والحرج هنا بسيط ، لوروده على نفي الحكم الضرري والحرجي ، ومعنى قوله «عليه‌السلام» : «لا ضرر أو لا حرج» : أن الحكم الذي هو ضرر أو حرج منفي ، يعني : أنه لا جعل له ، فالمنفي هو ما يتلو «لا» النافية حقيقة وبلا عناية.

واختار المصنف «قدس‌سره» ـ كما سيأتي في قاعدة لا ضرر ـ : أن المنفي هو متعلق الحكم وموضوعه ، وهو الفعل الضرري والحرجي ، فمعنى «لا ضرر» : أنه لا بيع ضرري مثلا ؛ لكن بما أنه لا معنى لورود النفي التشريعي حينئذ على ما هو موجود تكوينا وبالوجدان ؛ كالضرر والحرج فيما نحن فيه ، حيث إنهما موجودان في الخارج دائما ، فلا محالة يتوجه النفي إلى الموضوع ظاهرا ، وإلى الحكم واقعا ويقال : إن الفعل الضرري أو الحرجي لا حكم له ، فمعنى قول الشارع : «لا ضرر» إن البيع الضرري منفي حكمه ، كقوله : «لا شك لكثير الشك» ، فإن معناه : أن الشك الكثير منفي حكمه ، يعني : لا حكم له ، فيكون نفي الضرر حينئذ من باب نفي الحكم بلسان نفي الموضوع.

وقد ظهر بما ذكرنا : أن ارتفاع الحكم الأولي ـ تكليفيا أو وضعيا ـ بالضرر أو الحرج منوط بكون متعلقه ضرريا أو حرجيا ، فإذا لم يكن في المتعلق ضرر أو حرج لم يرتفع حكمه الأوّلي ؛ وإن كان الحكم الأوّلي علة للوقوع في الضرر والحرج.

هذا محصل الوجهين اللذين اختارهما الشيخ والمصنف «قدس‌سرهما» ، وعليهما يترتب جريان قاعدة العسر في المقام وعدم جريانها ، فبناء على المعنى الأول الذي اختاره الشيخ «قدس‌سره» : تجري القاعدة ؛ لأن الاحتياط بالجمع بين المحتملات نشأ عن لزوم مراعاة الأحكام الواقعية ، فالملقي في الحرج حقيقة هو تلك الأحكام ، فهي منفية بدليل نفي الحرج ، فالاحتياط الحرجي منفي بقاعدة الحرج الرافعة للأحكام الواقعية ، التي نشأ منها الاحتياط الحرجي.

وبناء على المعنى الثاني الذي اختاره المصنف «قدس‌سره» : لا تجري القاعدة ، ضرورة : أنه لا عسر في نفس متعلقات التكاليف الواقعية ؛ إذ لو كانت معلومة لما كان فيها حرج أصلا ، وإنما يكون الحرج في الجمع بين المحتملات من باب الاحتياط».

٣٨٣

فيما (١) يوجب عسره اختلال النظام ، وأما فيما لا يوجب : فحمل نظر بل منع ؛ لعدم (٢) حكومة قاعدة نفي العسر والحرج على قاعدة الاحتياط ، وذلك لما حققناه في

______________________________________________________

استدل الشيخ على بطلان الاحتياط بوجهين ، حيث قال : «أما الاحتياط : فهو وإن كان مقتضى الأصل والقاعدة العقلية والنقلية عند ثبوت العلم الإجمالي بوجود الواجبات والمحرمات ؛ إلا إنه في المقام غير واجب لوجهين :

أحدهما : الإجماع القطعي على عدم وجوبه في المقام .. الثاني : لزوم العسر الشديد والحرج الأكيد في التزامه لكثرة ما يحتمل موهوما بوجوبه ...» الخ.

ولم يتعرض المصنف «قدس‌سره» للإجماع هنا ، وقد ناقش فيه في حاشية «الرسائل».

(١) متعلق بقوله : «بلا كلام» ، وضمير «عسره» راجع على الاحتياط التام.

يعني : أن عدم وجوب الاحتياط التام مما لا إشكال فيه في كل مورد كان عسره موجبا لاختلال النظام ، وأما الموارد التي لا يوجب عسره فيها لاختلال النظام : فعدم وجوبه محل نظر بل منع.

(٢) تعليل لكون عدم وجوب الاحتياط ـ فيما إذا لم يوجب اختلال النظام ـ محل نظر ؛ بل منع ، وقد تقدم توضيحه.

وكيف كان ؛ فعلى ما اختاره المصنف من استظهار كون قاعدتي الحرج والضرر إنما هما بالنسبة إلى ما كان نفس الموضوع حرجيا أو ضرريا ، فعدم وجوب الاحتياط في الأطراف ـ مما لا يبلغ الإخلال ـ محل نظر بل منع ؛ «لعدم حكومة نفي الحرج والعسر على قاعدة الاحتياط» ؛ وإن كانت القاعدة حاكمة على الأدلة الأولية فالوضوء إذا صار عسرا كان مرفوعا بالقاعدة ، أما الوضوء إذا لم يكن ضرريا وإنما توجه الضرر من تكراره في صورة الجهل بالماء في البين ، فإن قاعدة الضرر لا ترفع وجوب مثل هذا الوضوء.

وكيف كان ؛ فحاصل الفرق بين مختار المصنف ومختار الشيخ «قدس‌سرهما» : إن المراد من الضرر والحرج هو الموضوع الضرري والحرجي على مختار المصنف ، فيقصد نفي الحكم عنهما بلسان نفي الموضوع أعني : الموضوع الضرري والحرجي.

وأما على مختار الشيخ : فالمراد هو : نفي الحكم الضرري والحرجي ، بمعنى : أن الحكم الناشئ من قبله الضرر والحرج منفي بقاعدة لا ضرر ولا حرج ، من باب نفي السبب بلسان نفي المسبب ، وعليه : لا يكون مفاد نفي الحرج رافعا لوجوب الاحتياط العقلي على مختار المصنف ؛ وذلك لأن موضوع الحكم الشرعي الواقعي لا يستلزم الحرج وإنما المستلزم للحرج هو الاحتياط بالجمع بين محتملات التكليف ، وهو ليس متعلقا للحكم

٣٨٤

معنى ما دل على نفي الضرر والعسر من أن التوفيق بين دليليهما (١) ودليل التكليف (٢) أو الوضع (٣) المتعلقين بما يعمهما (٤) هو (٥) : نفيهما عنهما بلسان نفيهما ، فلا يكون له (٦) حكومة على الاحتياط العسر إذا كان بحكم العقل ؛ ....

______________________________________________________

الشرعي ؛ بل هو عقلي فلا يقبل الرفع شرعا. وأما بناء على ما هو مختار الشيخ «قدس‌سره» : فأدلة نفي الحرج متكفلة لرفع الحكم الشرعي الواقعي ؛ لأن العسر ينشأ من التكاليف المجهولة ، فيرفعها دليل نفي الحرج ، فلا يبقى مجال لقاعدة الاحتياط عقلا لارتفاع موضوعها.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) أي : دليل نفي الضرر والعسر «من أن التوفيق» بيان للموصول في قوله : «لما حققناه».

(٢) كدليل وجوب الوضوء الذي له إطلاق بالنسبة إلى الضرر والحرج وغيرهما ، فإذا تردد الماء المطلق بين مائعات كثيرة يعسر الاحتياط بتكرار الوضوء بالجميع ؛ لإحراز كونه بماء مطلق ، فلا حكومة لمثل (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) على ما دل على وجوب تحصيل الطهارة المائية للدخول في الصلاة ، ونحوها مما يشترط بها.

(٣) كدليل لزوم العقد مثل (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).

(٤) أي : بما يعم الضرر والحرج ، يعني : أن الدليل الأوّلي يعم الضرر والحرج ، فإن دليل وجوب الوضوء يشمل الوضوء الضرري وغيره ، وكذلك دليل لزوم العقد وانعقاده ، ووجه الشمول : إطلاق دليل الحكم الأوّلي من حيث الحالات ، ودليل نفي الضرر والعسر يقول : لا ضرر ولا عسر ، سواء كان في الوضوء أم البيع أو غيرهما ، فالتوفيق بين هاتين الطائفتين من الأدلة «هو نفيهما» أي : نفي التكليف والوضع ، يعني : أن التكليف والوضع يعني انعقاد البيع ينفيان عن الموضوع الضرري والحرجي بلسان نفي نفس الضرر والحرج ، أي : لا تكليف ولا وضع في مورد الضرر والحرج ، ولذا يكون من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ؛ إذ قد نفى الشارع التكليف والوضع ولكن بلسان أنه لا ضرر ولا عسر ، فلم يقل لا وضوء ولا انعقاد للبيع ؛ بل قال : لا ضرر ولا عسر. ويعبر عنه بأن الموضوع الضرري أو الحرجي لا حكم له.

(٥) خبر «أن التوفيق» ، ومرجعه إلى التوفيق ، كما أن مرجع ضمير «نفيهما» هو التكليف والوضع ، ومرجع ضمير «عنهما» و «نفيهما» الثاني هو الضرر والحرج.

(٦) أي : فلا يكون لدليل نفي الضرر والحرج «حكومة على الاحتياط العسر» إذا

٣٨٥

لعدم (١) العسر في متعلق التكليف ، وإنما هو في الجمع بين محتملاته احتياطا.

نعم (٢) ؛ لو كان معناه نفي الحكم الناشئ من قبله العسر ـ كما قيل ـ لكانت قاعدة نفيه (٣) محكمة على قاعدة الاحتياط ؛ لأن العسر حينئذ (٤) يكون من قبل التكاليف المجهولة ، فتكون منفية بنفيه.

______________________________________________________

كان الاحتياط بحكم العقل ، فهنا أمران : الأول : وجه عدم الحكومة. والثاني : تقييد الاحتياط بحكم العقل.

أما وجه عدم الحكومة : فلما تقدم من أن قاعدة العسر لا تجري إلا فيما إذا كان متعلق الحكم عسريا ؛ كالوضوء حال شدة البرد لبعض الأشخاص ، وأما إذا لم يكن في متعلقه عسر : فلا تجري ، والمقام من هذا القبيل ؛ إذ متعلقات التكاليف الواقعية إن كانت معلومة لنا لم يكن في امتثالها عسر أصلا ، وإنما نشأ العسر من الجمع بين المحتملات والوقائع المشتبهة ، فلا موضوع لقاعدة نفي العسر هنا.

وأما التقييد بحكم العقل : فلإخراج الاحتياط الشرعي ، فإن حكومة قاعدة العسر عليه حينئذ في محله ؛ إذ متعلق وجوب الاحتياط الأشعري ـ وهو الجمع بين المحتملات ـ عسري.

(١) تعليل لقوله : «فلا يكون له حكومة» ، وضمير «هو» راجع على العسر ، وضمير «محتملاته» إلى التكليف.

(٢) استدراك على قوله : «فلا يكون له حكومة» ، وغرضه : حكومة قاعدة نفي الضرر والحرج على قاعدة الاحتياط ، بناء على ما اختاره الشيخ «قدس‌سره» في معنى نفي الضرر والحرج من جعلهما عنوانين لنفس الحكم بمعنى : أن الحكم الضرري والحرجي منفي بقاعدة نفي الضرر والحرج ؛ لأن العسر في مورد الاحتياط نشأ من الأحكام الواقعية ، فتنفيها القاعدة ؛ إذ الموجب للعسر والملقي للعبد فيه هو تلك الأحكام.

(٣) أي : نفي الضرر والعسر «محكمة على قاعدة الاحتياط» ، كما أنها محكمة على الأدلة الأولية.

وضمير «معناه» راجع إلى ما دل على نفي الضرر والعسر.

(٤) أي : حين كون معناه نفي الحكم الناشئ من قبله العسر «يكون من قبل التكاليف المجهولة ، فتكون منفية بنفيه» أي فتكون التكاليف المجهولة منفية بنفي العسر. فقوله : لا عسر بمنزلة أن يقول : «لا تكاليف مجهولة».

٣٨٦

ولا يخفى : أنه على هذا (١) لا وجه لدعوى استقلال العقل بوجوب الاحتياط في بعض الأطراف ، بعد رفع اليد عن الاحتياط في تمامها ؛ بل لا بد من دعوى وجوبه شرعا كما أشرنا إليه (٢) في بيان المقدمة الثالثة ، فافهم وتأمل جيدا.

وأما الرجوع إلى الأصول (٣) : فبالنسبة إلى الأصول المثبتة من احتياط أو

______________________________________________________

(١) أي : على ما ذكره الشيخ «قدس‌سره» في معنى نفي الضرر والحرج ، ثم قال بحكومة أدلة نفي الحرج على الاحتياط : «لا وجه لدعوى استقلال العقل بوجوب الاحتياط في بعض الأطراف» ، يعني : هذا تعريض بالشيخ «قدس‌سره» ، حيث إنه ذهب إلى وجوب الاحتياط في بقية الأطراف بعد ارتفاع وجوبه في جميعها بقاعدة نفي العسر ، حيث قال بما حاصله : من أنه إذا كان مقتضى الاحتياط هو الإتيان بجميع المحتملات ، وقام دليل شرعي على عدم وجوب إتيان بعض المحتملات في الظاهر تعين مراعاة الاحتياط في باقي المحتملات.

وذهب المصنف : إلى عدم وجوب الاحتياط في بقية الأطراف بعد ارتفاع وجوبه في جميعها ، فاعترض على الشيخ بما حاصله : من أنه لا موجب لرعاية الاحتياط في بقية الأطراف ، حيث إن التكليف المعلوم إجمالا إن كان في مورد الاضطرار : فلا علم بالتكليف في غير ما اضطر إليه ، ومع عدم العلم به لا موجب للاحتياط فيه ، فلا وجه لدعوى استقلال العقل بلزوم الاحتياط في بعض الأطراف ؛ بل لا بد من دليل آخر شرعي يقوم على وجوب الاحتياط ، كما إذا استكشف وجوبه من اهتمام الشارع بحفظ أحكامه ، حتى في ظرف الجهل والانسداد ؛ وإلا فلا وجه للاحتياط العقلي.

(٢) أي : إلى وجوب الاحتياط شرعا في المقدمة الثالثة ، حيث قال : «وقد علم به بنحو اللم ، حيث علم اهتمام الشارع بمراعاة تكاليفه» ، فراجع تفصيل ذلك في المقدمة الثالثة. هذا تمام الكلام في المطلب الأول أعني : عدم وجوب الاحتياط بل عدم جوازه.

(٣) هذا شروع في المطلب الثاني ـ وهو ـ إبطال الرجوع إلى الأصل العملي في كل مسألة بخصوصها.

توضيح ذلك : أن الأصول على قسمين : ١ ـ الأصول المثبتة. ٢ ـ الأصول النافية.

الأول : كالاحتياط والاستصحاب المثبت.

الثاني : كالبراءة والاستصحاب النافي ، فالاستصحاب المثبت مطابق للاحتياط ، والنافي مطابق للبراءة ، فيقع الكلام في الأصول المثبتة تارة ، وفي الأصول النافية أخرى.

وقد استدل على بطلان الرجوع إلى الأصول المثبتة بوجهين :

٣٨٧

استصحاب مثبت للتكليف ، فلا مانع عن إجرائها عقلا ، مع حكم العقل وعموم النقل.

______________________________________________________

أحدهما : مشترك بين الاحتياط والاستصحاب المثبت ، وهو لزوم الحرج من العمل بالأصول المثبتة.

والآخر : مختص بالاستصحاب المثبت ، وهو لزوم التناقض في دليله بين الصدر والذيل. وسيأتي توضيحه.

وأما حاصل ما أفاده المصنف في رد بطلان الرجوع إلى الأصول المثبتة : فلأنه يجوز الرجوع إلى الاحتياط والاستصحاب المثبت المطابق له ، وذلك لوجود المقتضي وعدم المانع.

أما الأول : فلحكم العقل إن كان الأصل عقليا كالاحتياط ، وعموم النقل إن كان شرعيا كالاستصحاب.

وأما الثاني : فلأن المانع عن الاحتياط هو : كونه مستلزما للمحذور كاختلال النظام أو الحرج ، فيجوز الأخذ به إذا لم يكن مستلزما للمحذور المذكور.

وأما الاستصحاب : فلا مانع من جريانه في المقام على ما هو مبنى المصنف ؛ وإن كان لا يجري على مذهب الشيخ «قدس‌سره». وإليك بيان الفرق بين القولين.

وحاصل الفرق : أن المانع من الاستصحاب عند المصنف هو : لزوم المخالفة العملية القطعية أو الاحتمالية ، وعند الشيخ هو : لزوم التناقض في مدلول دليل الاستصحاب.

إذا عرفت هذا الفرق فاعلم : أنه إذا قلنا بما ذهب إليه المصنف من أن المانع هو لزوم المخالفة العملية ، كما في الإناءين الطاهرين إذا علم بوقوع نجاسة في أحدهما ، فإن استصحاب الطهارة في أحدهما أو كليهما يستلزم إحدى المخالفتين ، فلو كان الوجه في عدم الجريان هو ذاك فلا مانع فيما إذا لم يستلزم المخالفة العملية ؛ كما إذا كان الإناءان نجسين نعلم بطهارة أحدهما ، فإن الاستصحاب فيهما لا يستلزم شيئا من المخالفة ؛ لأن الأصلين موافقان للاحتياط.

وأما إذا قلنا بما ذهب إليه الشيخ من أن المانع من جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي هو : لزوم التناقض في مدلول الدليل ، فلا يجري الاستصحاب حتى ما إذا كان موافقا للاحتياط ؛ وذلك للزوم التناقض في مدلول دليله ، بداهة : أن حرمة النقض في كل منهما بمقتضى الاستصحاب ينافي لوجوب النقض في البعض كما هو مقتضى العلم الإجمالي بالنقض في بعض الأطراف.

٣٨٨

هذا ولو قيل بعدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي ؛ لاستلزام شموله دليله لها التناقض في مدلوله ، بداهة : تناقض حرمة النقض في كل منها

______________________________________________________

وإن شئت قلت : يلزم التناقض بين الصدر والذيل ، فإن لازم قوله : «لا تنقض اليقين بالشك» هو : الحكم ببقاء الحالة السابقة ؛ ولكن مقتضى ذيله ـ وهو قوله : «ولكن تنقضه بيقين آخر» هو عدم الحكم به ، بناء على أن المراد من اليقين في الذيل هو الأعم من اليقين الإجمالي والتفصيلي ، والمفروض : أن العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة مانع ، فلا يجري الاستصحاب وإن لم تكن هناك مخالفة عملية.

وكيف كان ؛ فلا تصل النوبة إلى الظن ، إما لعدم تمامية المقدمة الرابعة من مقدمات الانسداد ، وأما لأن مرتبة الظن متأخرة عن مرتبة العلم والعلمي ، فإن الأصل بين علم وعلمي.

ثم المصنف حاول تصحيح جريان الاستصحاب حتى على مبنى الشيخ «قدس‌سره» قائلا : بأنه يلزم التناقض فيما إذا كان الشك في أطراف العلم الإجمالي فعليا. وأما إذا لم يكن الشك فعليا ؛ بل لم يكن الشك موجودا بالفعل إلا في بعض أطرافه ، وكان بعض الآخر غير ملتفت إليه أصلا ، كما هو حال المجتهد في استنباط الأحكام فلا يكاد يلزم ذلك ؛ لأن قضية لا تنقض ليست حينئذ إلا حرمة النقض في خصوص الطرف المشكوك ، وليس فيه علم بالانتقاض كي يلزم التناقض في مدلول دليله من شموله له.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

قوله : «ولو قيل بعدم جريان الاستصحاب ...» الخ. إشارة إلى الوجه الثاني المختص بالاستصحاب.

قوله : «لاستلزام شمول ...» الخ تعليل لعدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي.

وحاصل الكلام في الوجه الثاني المختص بالاستصحاب : أنه لا يجري الاستصحاب المثبت للتكليف في أطراف العلم الإجمالي ، مثلا : إذا علمنا إجمالا بوجوب بعض الأفعال في زمن حضور الإمام «عليه‌السلام» ؛ كوجوب صلاة الجمعة والعيدين ووجوب الدعاء عند رؤية الهلال وغيرها ، وعلمنا إجمالا أيضا بانتقاض بعض هذه الأحكام في زمن الغيبة ؛ لدخل حضوره «عليه‌السلام» في بعضها ، ولكن لم نعلم ذلك بعينه ، فإنه لا مجال حينئذ لاستصحاب كل واحد من تلك الأحكام ؛ لعدم شمول دليل الاستصحاب لأطراف العلم الإجمالي ؛ للمناقضة بين صدر الدليل وذيله.

٣٨٩

بمقتضى «لا تنقض» لوجوبه في البعض ، كما هو قضية «ولكن تنقضه بيقين آخر» ، وذلك لأنه (١) إنما يلزم فيما إذا كان الشك في أطرافه فعليا.

وأما إذا لم يكن كذلك (٢) ؛ بل لم يكن الشك فعلا إلا في بعض أطرافه ، وكان بعض أطرافه الأخر غير ملتفت إليه فعلا كما هو (٣) حال المجتهد في مقام استنباط

______________________________________________________

قوله : «بداهة» تعليل للتناقض بين صدر الدليل وذيله.

(١) أي : «لأن التناقض إنما يلزم ..» الخ. وهذا تعليل لقوله : «فلا مانع عن إجرائها» ، وغرضه : إثبات عدم المانع من جريان الاستصحاب المثبت للتكليف ؛ حتى على القول بعدم جريانه في أطراف العلم الإجمالي من جهة التناقض المزبور.

توضيحه : أن التناقض بين صدر دليله وذيله موقوف على جريان الاستصحاب في كل واحد من الأطراف ؛ كما هو مقتضى صدره ؛ لأنه المناقض للحكم بوجوب النقض في بعضها ، وهو المعلوم بالإجمال كما هو مقتضى ذيله ، وجريان الاستصحاب في كل واحد من الأطراف منوط بتحقق موضوعه ـ وهو اليقين والشك الفعليان ـ وهو غير حاصل ، لتوقفه على الالتفات إلى كل واحد من الأطراف ، ولا يحصل هذا الالتفات للمجتهد إلا تدريجا كما هو واضح ، والمدار في الاستصحاب على الشك الفعلي لا التقديري ، ولازم عدم الالتفات فعلا إلى جميع الفروع هو : عدم العلم الإجمالي بالانتقاض ، فقوله : «عليه‌السلام» : «ولكن تنقضه بيقين آخر» أجنبي عن المقام ، مع فرض عدم الالتفات الفعلي ، فيكون كل فرع يستنبط المجتهد حكمه موردا لصدر الدليل ، أعني : «لا تنقض» فقط ، ولا ينطبق عليه الذيل حتى يلزم التناقض المزبور ؛ للغفلة عن سائر الأطراف المانعة عن تحقق الشك الفعلي ، فإشكال التناقض غير وارد هنا.

وببيان أوجز : أن التناقض يكون بين حرمة النقض ووجوبه ، وهذان الحكمان كغيرهما من الأحكام منوطان بموضوعهما ، ولا موضوع للحكم الثاني ـ أعني : وجوب النقض ـ لأن موضوعه الشك الفعلي ، وهو مفقود ؛ لعدم الالتفات دفعة إلى جميع الفروع حتى يحصل العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة فيها ، ومع الالتفات التدريجي لا يحصل علم إجمالي حتى يتحقق موضوع وجوب النقض ، فلا تناقض.

(٢) أي : لم يكن الشك في جميع أطراف العلم الإجمالي فعليا ، بل كان فعليا في بعض أطرافه وضمير «أطرافه» في المواضع الثلاثة راجع إلى العلم الإجمالي.

وقوله : «بل لم يكن» ... الخ ، عطف تفسيري لقوله : «كذلك».

(٣) مثال للنفي ، وهو عدم الالتفات فعلا إلى بعض الأطراف.

٣٩٠

الأحكام كما لا يخفى (١).

فلا يكاد (٢) يلزم ذلك ، فإن (٣) قضية «لا تنقض» ليس حينئذ (٤) إلا حرمة النقض في خصوص الطرف المشكوك ، وليس فيه (٥) علم بالانتقاض كي يلزم التناقض في مدلول دليله من شموله له ، فافهم (٦).

ومنه (٧) قد انقدح : ثبوت حكم العقل وعموم النقل بالنسبة إلى الأصول النافية

______________________________________________________

(١) لوضوح : أن المتصدي للاستنباط غافل عن غير الحكم الذي يريد استنباطه من الأدلة الشرعية.

(٢) جواب قوله : «وأما إذا لم يكن» ، أي : فلا يكاد يلزم التناقض المزبور.

(٣) تعليل لعدم لزوم التناقض.

(٤) أي : حين كون بعض الأطراف غير ملتفت إليه.

(٥) أي : في الطرف المشكوك حين عدم الالتفات إلى غيره.

(٦) لعله إشارة إلى : أن فرض الغفلة عن بعض الأطراف الموجب لجريان الاستصحاب في المقام ينافي ما جعله المصنف مقدمة أولى لدليل الانسداد ؛ من دعوى العلم الإجمالي بالتكاليف الفعلية في الشريعة المقدسة.

أو إشارة إلى ما ذكره المشكيني ، ج ٣ ، ص ٤٠٤ حيث قال : «إنه يمكن فرض الالتفات للمجتهد في آن واحد إلى مقدار يحصل العلم الإجمالي بالانتقاض فيه ، كما إذا سطر جميع موارد الأصول المثبتة في صحيفة ناظرا إليها أو مقدارا منها ، بحيث علم إجمالا بالانتقاض ، فلا يتم دعوى الكلية». انتهى.

هذا مضافا إلى أن الفقيه لو أجرى الأصل في المسائل تدريجا يعلم أخيرا بالانتقاض ، فكيف يمكن إثبات تلك المسائل في رسالته للرجوع إليها؟

وكيف كان ، فهذا تمام الكلام في الأصول المثبتة. وبقي الكلام في الأصول النافية.

(٧) أي : ومما ذكرنا من عدم لزوم محذور من إجراء الأصول المثبتة في حال الانسداد ـ من غير فرق بين الاحتياط والاستصحاب لعدم العلم الإجمالي بالانتقاض في مورد الاستصحاب ، لأجل الغفلة عن بعض الأطراف ـ ظهر «ثبوت حكم العقل وعموم النقل بالنسبة إلى الأصول النافية أيضا» ، فإن قوله «عليه‌السلام» : «لا تنقض اليقين» ، أو قوله : «رفع ما لا يعلمون» أو حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان كما يشمل مواضع الأصول النافية في حال الانفتاح يشمل مواضعها في حال الانسداد ، وكما يشمل «لا تنقض» الإثبات كذلك يشمل النفي.

٣٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

وكيف كان ، فحاصل مرام المصنف في المقام : أنه لا مانع من جريان الأصول النافية للتكليف أيضا ؛ لعدم لزوم محذور التناقض لأجل الغفلة عن بعض الأطراف كما عرفت ، فحكم العقل بجريان الأصل العقلي وعموم النقل بالنسبة إلى الأصل الشرعي باق على حاله.

وما يتوهم : من كونه مانعا عن جريان الأصول النافية أحد أمور :

١ ـ العلم الإجمالي بثبوت التكاليف الموجب للتناقض لو أجرينا الأصول النافية.

٢ ـ الإجماع على وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي.

٣ ـ العلم باهتمام الشارع بالتكاليف الموجب للعلم بإيجابه الاحتياط.

وشيء من هذه الأمور الثلاثة لا يصلح للمانعية.

أما الأول : فلانحلاله بالعلم أو العلمي أو الأصول المثبتة التي عرفت عدم المانع من جريانها ، ومع الانحلال لا مانع من جريان الأصول النافية.

وأما الأمر الثاني والثالث : فلتوقف مانعيتهما على عدم انحلال العلم الإجمالي الكبير ؛ إذ المتيقن من الإجماع على وجوب الاحتياط ، أو استكشاف وجوب الاحتياط من العلم باهتمام الشارع بالأحكام الشرعية : هو صورة عدم ثبوت مقدار معتد به من التكاليف ـ وأمّا مع ثبوته وإن لم يكن مساويا للمعلوم بالإجمال ـ فلا يثبت إجماع على وجوب الاحتياط في غيره ، ولا علم باهتمام الشارع بما عدا ذلك المقدار المعلوم بالإجمال من التكاليف ، ليستكشف به وجوب الاحتياط فيما عدا ذلك المقدار المعلوم.

وعليه : فلا مانع حينئذ من جريان الأصول النافية لا شرعا كالإجماع ، ولا عقلا كالعلم الإجمالي ، فظهر : عدم بطلان الرجوع إلى الأصول النافية ، وقد كانت تمامية المقدمة الرابعة متوقفة على بطلانه.

فالمتحصل : أنه لا مانع من جريان الأصول النافية إذا كان مجموع موارد الأصول المثبتة للتكليف بضميمة ما علم حكمه تفصيلا ، أو قام عليه الظن المعتبر بالخصوص بمقدار المعلوم بالإجمال ؛ بل بمقدار لا يبقى معه شيء مهم يوجب استكشاف وجوب الاحتياط.

فالحاصل : هو عدم ثبوت المطلب الثاني ـ وهو عدم جواز الرجوع إلى الأصول ـ من مطالب المقدمة الرابعة. وبقي الكلام في المطلب الثالث وهو عدم جواز الرجوع إلى فتوى مجتهد آخر يقول : بانفتاح باب العلم والعلمي.

٣٩٢

أيضا ، وأنه لا يلزم محذور لزوم التناقض من شمول الدليل لها لو لم يكن هناك مانع عقلا أو شرعا من إجرائها ، ولا مانع كذلك لو كانت موارد الأصول المثبتة (١) بضميمة ما علم تفصيلا أو نهض عليه علمي (٢) بمقدار المعلوم إجمالا ؛ بل بمقدار (٣)

______________________________________________________

وقبل ذكر هذا المطلب الثالث نذكر توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

قوله : «ولا مانع كذلك» أي : عقلا أو شرعا.

(١) غرضه : أن عدم المانع العقلي أو الشرعي من إجراء الأصول النافية موقوف على عدم انحلال العلم الإجمالي الكبير بثبوت مقدار من التكاليف بالعلم التفصيلي الحاصل من الأخبار المتواترة والضرورة والإجماع القطعي بضميمة الأصول المثبتة ، أو انحلاله بثبوت مقدار من التكاليف بالأمارات المعتبرة مع الأصول المثبتة ؛ إذ مع انحلال العلم الإجمالي الكبير لا يبقى علم إجمالي حتى يلزم من جريان الأصول النافية في باقي أطرافه محذور عقلي وهو المخالفة القطعية الكثيرة ، أو شرعي وهو مخالفة الإجماع على وجوب الاحتياط ؛ إذ مع الانحلال المزبور لا يثبت إجماع حتى تحرم مخالفته.

كما لا سبيل حينئذ إلى العلم باهتمام الشارع بالتكاليف حتى يستكشف به وجوب الاحتياط شرعا.

(٢) المراد به هنا : العلمي الوافي ببعض الأحكام ، بحيث لا يؤثر في انحلال العلم الإجمالي بالأحكام إلا بعد ضم ما يثبت بالأصول المثبتة إليه ، وعليه : فلا يتوهم منافاة قوله : «أو نهض عليه علمي» ؛ لما ذكره في المقدمة الثانية من مقدمات دليل الانسداد من انسداد باب العلم والعلمي.

وجه عدم المنافاة : أن المقصود بانسداد باب العلمي في تلك المقدمة : هو العلمي الوافي بمعظم الأحكام ؛ بحيث لا يلزم من إجراء البراءة في الموارد الباقية محذور المخالفة القطعية ، بخلاف العلمي هنا ، فإن المقصود به ـ كما عرفت ـ وفاؤه بمعظم الأحكام بضميمة الأصول المثبتة ، لا بمجرده.

(٣) عطف على «بمقدار» ، وإضراب عن اعتبار كون موارد الأصول المثبتة للتكليف بمقدار أطراف العلم الإجمالي في انتفاء المانع العقلي أو الشرعي عن إجراء الأصول النافية ، ويريد بهذا الإضراب : أنه لا مانع عقلا أو شرعا عن إجراء الأصول النافية حتى لو لم تكن موارد الأصول المثبتة بمقدار أطراف العلم الإجمالي أيضا ؛ بأن كانت أقل منها ، بحيث لم يكن مع هذا المقدار الأقل مجال لاستكشاف إيجاب الاحتياط ، فالمناط في

٣٩٣

لم يكن معه (١) مجال لاستكشاف إيجاب الاحتياط وإن لم يكن (٢) بذاك المقدار ، ومن الواضح : أنه يختلف (٣) باختلاف الأشخاص والأحوال.

______________________________________________________

انتفاء المانع عن إجراء الأصول النافية هو عدم استكشاف إيجاب الاحتياط ؛ لا عدم كون المعلوم بمقدار جميع الأطراف.

وبعبارة أخرى : أن إجراء الأصول النافية وعدم وجوب الاحتياط قد يكون لأجل انحلال العلم الإجمالي بالظفر بمقدار جميع الأطراف المعلوم بالإجمال علما ، أو علميا مع الأصول المثبتة ، وقد يكون لأجل قيام الأمارات والأصول على أكثر أطراف المعلوم بالإجمال ، كما إذا فرضنا أن أطرافه عشرة ، واستفيد حكم ثمانية منها بالأمارات المعتبرة والأصول المثبتة ، ولم يعلم حكم الطرفين الباقيين ، فإنه لا مانع من إجراء الأصول النافية للتكليف بالنسبة إليهما ، ولا يمكن استكشاف إيجاب الاحتياط فيهما من الإجماع أو العلم باهتمام الشارع.

(١) أي : مع هذا المقدار غير الوافي بجميع الأطراف.

(٢) أي : وإن لم يكن هذا المقدار المعلوم بمقدار جميع الأطراف ؛ بل كان وافيا بمعظم الأطراف.

(٣) أي : يختلف ذلك المقدار باختلاف الأشخاص والأحوال.

أما الاختلاف باختلاف الأشخاص : فرب شخص كان ما علمه تفصيلا ، أو نهض عليه علمي هو بمقدار كثير لو انضم إلى موارد الأصول المثبتة ، لانحل العلم الإجمالي بالتكاليف من أصله ، ولم يبق له مانع عن الأصول النافية أصلا ، بخلاف شخص آخر ، وهكذا قد يتفق الاختلاف باختلاف الأحوال والأزمات ، فربّ حال وزمان أمكن فيه تحصيل العلم التفصيلي أو العلمي بمقدار لو انضم إلى الأصول المثبتة لانحل العلم الإجمالي بالتكاليف من أصله ، بخلاف حال آخر.

وبعبارة أخرى : أنّ الشخص المتتبع لموارد السنة العارف بالطرق الحديثية ربما تتوفر عنده العلميّات ، بخلاف غير المتتبع وغير العارف ، فإن العلمي يقل عنده لاتّهامه الروايات بالضعف سندا أو دلالة ، حيث لا يجد نفسه وثوقا بها ، وهكذا بالنسبة إلى الأحوال التي تقترن بوجود أهل الفضل والمعرفة تعين وتساعد صاحبها على تفهم ما لا يستطيعه من يكون في حال فاقدة لأهل الفن والمعرفة.

وهذا التفاوت مما يوجب التفاوت في كمية موارد الأصول المثبتة ، وما يعلم بالتفصيل

٣٩٤

وقد ظهر بذلك (١) : أن العلم الإجمالي بالتكليف ربما ينحل ببركة جريان الأصول المثبتة وتلك الضميمة ، فلا موجب حينئذ (٢) للاحتياط عقلا ولا شرعا. أصلا ، كما لا يخفى.

كما ظهر أنه لو لم ينحل بذلك (٣) كان خصوص موارد الأصول النافية مطلقا ولو

______________________________________________________

أو ينهض دليل علمي عليه ففي الأحوال المساعدة وعند العارفين والماهرين قد تكثر الأدلة ، فينحل العلم الإجمالي.

وفي عكس ذلك قد تقل الأدلة ؛ إذ لا تتوفر له العلميّات ولا العلم التفصيلي ، فلا ينحل العلم الإجمالي.

(١) أي : قد ظهر بذلك الذي ذكرنا من كفاية المقدار المحصل من الأحكام بالعلم والعلمي والأصول المثبتة : «أن العلم الإجمالي بالتكاليف» في المظنونات والمشكوكات والموهومات «ربما ينحل ببركة جريان الأصول المثبتة ، وتلك الضميمة» ، وهي العلم والعلمي ، وغرضه : أنّه إذا كان المقدار الثابت من الأحكام ـ بالأصول المثبتة وغيرها ـ بمقدار المعلوم بالإجمال انحل العلم الإجمالي.

(٢) أي : حين انحلال العلم الإجمالي لا موجب للاحتياط لا عقلا ولا شرعا ، أما الاحتياط عقلا ، فلأن موجبه هو العلم الإجمالي ، والمفروض : انحلاله ، وأما الاحتياط شرعا ، فلأنه مع ثبوت هذا المقدار من الأحكام لا إجماع على الاحتياط ، ولا علم باهتمام الشارع يحرز به وجوبه شرعا.

(٣) يعني : كما ظهر مما تقدم في أول المقدمة الرابعة في قوله : «وأما فيما لا يوجب فمحل نظر ، بل منع .. الخ ، أنه لو لم ينحل العلم الإجمالي بالأصول المثبتة ، وتلك الضميمة «كان خصوص موارد الأصول النافية مطلقا ..» .. الخ.

وبالجملة : ففي صورة عدم الانحلال يجب الاحتياط بمقتضى حجية العلم الإجمالي في موارد الأصول النافية. أما الأصول المثبتة فهي موافقة لقاعدة الاحتياط.

ولا يخفى : أن هذا تعريض بالمشهور القائلين : بأن نتيجة مقدمات الانسداد وجوب العمل بالظن وترك الاحتياط في المشكوكات والموهومات.

وحاصل التعريض : أنه لو لم ينحل العلم الإجمالي يجب الاحتياط عقلا ، ولا يرفع اليد عنه إلا بمقدار يرفع اختلال النظام أو العسر ، فإنّ الضرورات تتقدر بقدرها ، فإن ارتفع الاختلال أو العسر بترك الاحتياط في بعض الموهومات اقتصر على ذلك ، فلا وجه لترك الاحتياط في البعض الآخر من الموهومات فضلا عن تمام المشكوكات.

٣٩٥

من مظنونات عدم التكليف (١) محلا للاحتياط فعلا ، ويرفع اليد عنه (٢) فيها كلا أو بعضا ، بمقدار رفع الاختلال أو رفع العسر ـ على ما عرفت ـ لا محتملات (٣) التكليف مطلقا.

______________________________________________________

وبالجملة : فالمدار رفع العسر ، وعليه : فلا بد في موارد الأصول النافية من الاحتياط ، وإن كان احتمال التكليف فيها موهوما جدا فضلا عن كون التكليف فيها مشكوكا أو مظنونا ، ولا يرتفع الاحتياط في شيء منها إلا بمقدار الاختلال أو العسر.

(١) أي : حتى لو ظن بعدم التكليف فضلا عما لو شك فيه أو توهم عدمه «محلا للاحتياط فعلا» ، لأن الاحتياط وظيفة العالم الإجمالي. نعم ؛ إنما لا يجوز الاحتياط في الموارد التي يوجب الاحتياط فيها اختلال النظام أو العسر.

قوله : «مطلقا» أي : سواء كان مظنونا أو مشكوكا أو موهوما ، يعني : إذا لم ينحل العلم الإجمالي وجب الاحتياط في جميع الموارد التي يحتمل فيها التكليف ولو بالاحتمال الموهوم ، بحيث كان عدم التكليف الإلزامي فيها مظنونا ، فضلا عما إذا كان مشكوك التكليف أو مظنونه. هذا بناء على كون النسخة «عدم التكليف» ، وفي بعض النسخ : «مظنونات التكليف» بإسقاط كلمة «عدم» ليناسب الإتيان بكلمة «لو» فتكون كلمة «لو» للإشارة إلى الفرد الخفي من وجوب الاحتياط مطلقا ، فإن الظن أقوى الاحتمالات ، فلا حاجة إلى بيان وجوب الاحتياط في المظنونات بكلمة «لو».

قوله : «فعلا» أي : حين عدم الانحلال.

(٢) أي : عن الاحتياط «فيها» ، أي : في موارد الأصول النافية.

(٣) عطف على «خصوص موارد الأصول النافية» ، يعني : أن محل الاحتياط ـ حين عدم انحلال العلم الإجمالي ـ هو خصوص موارد الأصول النافية لا جميع محتملات التكليف مطلقا ، يعني : حتى في موارد الأصول المثبتة له ، كما أن رفع اليد عن الاحتياط في موارد الأصول النافية محلا للاحتياط ، والمناط في رفع اليد عنه حينئذ : هو لزوم العسر أو اختلال النظام ، فلو لم يرفع العسر أو الاختلال إلا بترك الاحتياط رأسا تركنا العمل به مطلقا ، يعني : حتى في مظنونات التكليف ، كما أنّه لو ارتفع العسر أو الاختلال برفع اليد عنه في بعض الموارد ، تركنا العمل به كذلك وعملنا به في الباقي وإن كان مشكوك التكليف أو موهومه.

هذا تمام الكلام في المطلب الثاني من مطالب المقدمة الرابعة.

٣٩٦

وأمّا الرجوع إلى فتوى العالم (١) : فلا يكاد يجوز ، ضرورة : أنه (٢) لا يجوز إلّا للجاهل لا للفاضل الذي يرى خطأ من يدعي انفتاح باب العلم أو العلمي ، فهل يكون رجوعه إليه بنظره (٣) إلا من قبيل رجوع الفاضل إلى الجاهل؟

وأما المقدمة الخامسة (٤) ، فلاستقلال العقل بها ، وأنه لا يجوز التنزل ـ بعد عدم

______________________________________________________

وبقي الكلام في المطلب الثالث وهو المطلب الآخر ، وقد أشار إليه بقوله : «وأما الرجوع إلى فتوى العالم» .. الخ.

(١) وحاصل ما أفاده المصنف في المطلب الثالث : أن رجوع الانسدادي إلى المجتهد الانفتاحي باطل ؛ إذ رجوعه إلى الانفتاحي تقليد له ، وهو من باب رجوع الجاهل إلى العالم ، وليس المقام منه حتى يشمله دليل جواز التقليد ، «ضرورة : أن الانسدادي يعتقد بخطإ الانفتاحي ، وأن مستنده غير صالح للاعتماد عليه ، فالانفتاحي جاهل بنظر الانسدادي ، وليس رجوعه إليه من رجوع الجاهل إلى العالم حتى يشمله دليله ؛ بل من رجوع الفاضل إلى الجاهل ، فيبطل رجوع الانسدادي إليه.

(٢) أي : أن الرجوع إلى العالم لا يجوز إلا للجاهل ، وليس رجوع الانسدادي إلى الانفتاحي من رجوع الجاهل إلى العالم ؛ بل من رجوع العالم إلى الجاهل ، وهو غير جائز.

(٣) أي : فهل يكون رجوع الانسدادي إلى من يدعي انفتاح باب العلم أو العلمي إلّا من رجوع الفاضل إلى الجاهل؟ فالاستفهام للإنكار ، يعني : لا يكن رجوعه إليه إلّا من باب رجوع الفاضل إلى الجاهل.

(٤) وحاصل ما أفاده المصنف «قدس‌سره» : هو تسليم المقدمة الخامسة ، وهي كون ترجيح المرجوح على الراجح قبيحا ، وذلك لاستقبال العقل بها وأنه لا يجوز التنزل من الإطاعة الظنية إلى الإطاعة الشكية والوهمية بعد عدم التمكن من الإطاعة العلمية ؛ وذلك لبداهة مرجوحيتهما بالنسبة إليها.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة : وهي أن مراتب الإطاعة هي أربعة :

الأولى : العلمية التفصيلية.

الثانية : العلمية الإجمالية. المعبّر عنها بالاحتياط.

الثالثة : الظنية ، وهي أن يأتي المكلف بما يظن أنه المكلف به.

الرابعة : الإطاعة الاحتمالية من الشكية والوهمية ، وهي التي لا توجب شيئا من العلم أو الظن بامتثال التكليف.

٣٩٧

التمكن من الإطاعة العلمية أو عدم وجوبها ـ إلا إلى الإطاعة الظنية دون الشكية أو الوهمية ، لبداهة (١) مرجوحيّتهما بالإضافة إليها ، وقبح (٢) ترجيح المرجوح على الراجح ؛ لكنك عرفت : عدم وصول النوبة إلى الإطاعة الاحتمالية ، مع (٣) دوران

______________________________________________________

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن فقدان المرتبة الأولى والثانية. واضح ، وأمّا فقدان المرتبة الأولى ؛ فلأن المفروض : هو انسداد باب العلم بالأحكام. وأما فقدان المرتبة الثانية : فلعدم وجوب الاحتياط ؛ بل عدم جوازه ؛ لما عرفت من كونه موجبا لاختلال النظام أو العسر.

ومن المعلوم أنه بعد فقدان المرتبتين المذكورتين تصل النوبة إلى المرتبة الثالثة ، وهي الإطاعة الظنية دون الاحتمالية ؛ لمرجوحيتها بالنسبة إلى الامتثال الظني فتقديمها عليه قبيح ؛ لأنه ترجيح المرجوح على الراجح ، فالمقدمة الخامسة وإن كانت مسلمة في نفسها إلّا إنه لا تصل النوبة إلى دوران الأمر بين الإطاعة الظنية والاحتمالية إلّا بعد عدم انحلال العلم الإجمالي الكبير ، أعني : العلم الإجمالي بوجود التكاليف الإلزامية بين الوقائع المظنونة والمشكوكة والموهومة ؛ حتى يكون ـ بسبب عدم انحلاله مقتضيا للاحتياط التام ؛ لكن لمّا لم يكن الاحتياط التام ممكنا أو لم يكن واجبا يرفع اليد عنه بالاحتياط في بعض الأطراف فيدور الأمر ـ في الامتثال ـ بين الأطراف المظنونة وبين المشكوكة والموهومة ، فيقال : لا تصل النوبة إلى الأطراف المشكوكة والموهومة ما دامت المظنونة موجودة ؛ لئلا يلزم ترجيح المرجوح على الراجح.

وأمّا بناء على انحلال العلم الإجمالي الكبير ـ بسبب العلم الإجمالي بصدور روايات كاشفة عن أحكام إلزامية موجودة في الكتب المعبّرة ـ فلا مجال للأطراف الاحتمالية ؛ إذ لا تصل النوبة إليها ؛ بل يجب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي الثاني أي الصغير ، ولا وجه لرفع اليد عن هذا الاحتياط ؛ لعدم لزوم عسر منه فضلا عن اختلال النظام.

(١) تعليل لقوله : «لا يجوز التنزّل».

(٢) بالجر عطف على «بداهة» أي : لقبح ترجيح المرجوح على الراجح.

(٣) يعني : وعدم دوران الأمر ، فالأولى تبديل «مع» ب «وعدم» ليكون معطوفا على «عدم وصول».

وكيف كان ، فتوضيح ما استدركه بقوله : «ولكنك عرفت» عن تسليم المقدمة الخامسة : أن المقدمة الخامسة وإن كانت هي مسلمة لا ريب فيها ، وذلك لاستقلال العقل بها.

وأنه لا يجوز التنزل بعد عدم التمكن من الإطاعة العلمية أو عدم وجوبها إلّا إلى الإطاعة الظنية دون الشكية والوهمية ؛ ولكنك عرفت عدم وصول النوبة ، إلى الإطاعة

٣٩٨

الأمر بين الظنية والشكية والوهمية من جهة (١) ما أوردناه على المقدمة الأولى من انحلال العلم الإجمالي بما في أخبار الكتب المعتبرة ، وقضيته الاحتياط بالالتزام عملا (٢) بما فيها من التكاليف ، ولا بأس به (٣) حيث لا يلزم منه عسر فضلا عما يوجب اختلال النظام.

______________________________________________________

الاحتمالية كي تقدم الظنية على الشكية والوهمية ؛ وذلك لما أورده المصنف على المقدمة الأولى من انحلال العلم الإجمالي الكبير الموجود في مجموع المشتبهات إلى العلم الإجمالي الصغير الموجود في خصوص أخبار الكتب المعتبرة ، وأن الاحتياط فيها مما لا يوجب العسر فضلا عن اختلال النظام ؛ بل «وما أورده» على المقدمة الرابعة أيضا على المطلب الثاني منها ، وهو عدم جواز الرجوع في كل مسألة إلى الأصل العملي المناسب لها ـ من جواز الرجوع إلى الأصول العملية مطلقا ولو كانت نافية إذا كان العلم الإجمالي بالتكاليف الشرعية منحلا من جهة كون موارد الأصول المثبتة ، مع ما علم تفصيلا أو نهض عليه الظن الخاص بمقدار المعلوم بالإجمال من التكاليف ؛ وإلا فيرجع إلى الأصول المثبتة فقط ، وكان حينئذ خصوص موارد الأصول النافية محلا للاحتياط لا موارد الأصول العملية مطلقا ولو كانت مثبتة.

(١) تعليل لقوله : «عدم وصول النوبة ...» .. الخ.

(٢) قيد لقوله : «الالتزام» ، يعني : أن مقتضى الانحلال هو الاحتياط بالالتزام بالعمل بما فيها من التكاليف.

وقد تحصل مما ذكرنا : أن الأمر لا ينتهي إلى الدوران بين الإطاعة الظنية والشكية والوهمية ، بعد ما عرفت من بطلان المقدمة الأولى بسبب انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير ، وأطرافه هي الأخبار ولو كان احتمال التكليف فيها موهوما ، ولا مانع حينئذ من الرجوع إلى الأصول النافية في غير مورد الأخبار ، ولو كان التكليف فيها مظنونا.

وقاعدة قبح ترجيح المرجوح على الراجح أجنبية عن المقام ، إذ موردها دوران الأمر بين الأخذ بالمرجوح والأخذ بالراجح بحيث لا يمكن الجمع بينهما ، فيقع التزاحم بينهما ، ومن المعلوم أنه بعد فرض انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم إجمالا بصدور روايات متضمنة لأحكامه تعالى لا دوران أصلا ، إذ المعين هو الاحتياط في خصوص الأخبار دون سائر الأمارات ولو أفادت الظن بالتكليف.

(٣) أي : بالاحتياط التام في أطراف العلم الإجمالي الصغير ، وهي الأخبار كما تقدم في بيان المقدمة الأولى.

٣٩٩

وما أوردناه (١) على المقدمة الرابعة من جواز الرجوع إلى الأصول مطلقا ، ولو كان نافية ؛ لوجود المقتضي وفقد المانع عنه لو كان التكليف في موارد الأصول المثبتة وما علم منه تفصيلا ، أو نهض عليه دليل معتبر بمقدار (٢) المعلوم بالإجمال ، وإلّا (٣) فإلى الأصول المثبتة وحدها ، وحينئذ (٤) كان خصوص موارد الأصول النافية محلا لحكومة

______________________________________________________

وضمير «منه» راجع إلى الاحتياط التام.

(١) عطف على قوله : «وما أوردناه على المقدمة».

وتوضيح ذلك ـ على ما في «منتهى الدراية» ج ٤ ص ٦٠٩ ـ : أن الدوران بين الإطاعة الظنية وما دونها موقوف على تماميّة المقدمات ، والمفروض : عدم تماميّتها ؛ لما عرفت : من بطلان المقدمة الأولى بالانحلال ، وبطلان المقدمة الرابعة ؛ بما عرفت من جواز الرجوع إلى الأصول مطلقا من المثبتة والنافية ؛ لوجود المقتضي له من حكم العقل إن كات عقلية ، وعموم النقل إن كات شرعية.

وعدم المانع منه ؛ على تقدير انحلال العلم الإجمالي بالأصول المثبتة ، والعلم التفصيلي أو العلمي ، كما إذا كان ذلك المقدار الثابت من الأحكام بها بمقدار المعلوم بالإجمال. وعلى تقدير عدم انحلاله بذلك تجري الأصول المثبتة فقط.

ويجب الاحتياط بمقتضى العلم الإجمالي في موارد الأصول النافية ، فإن كان الاحتياط في جميعها موجبا للعسر ، فيؤخذ به في المظنونات ، ويرفع اليد عنه في غيرها لئلا يلزم ترجيح المرجوح على الراجح.

(٢) خبر «كان». وقوله : «ما علم» عطف على «التكاليف».

وقوله : «منه» بيان للموصول في «ما علم» المراد به التكليف.

وضميرا «منه ، عليه» راجعان إلى التكليف.

وقوله : «نهض» عطف على «علم» أي : ما علم أو نهض.

(٣) أي : وإن لم يكن المقدار الثابت من الأحكام بالأصول المثبتة وغيرها بمقدار المعلوم بالإجمال ، جاز الرجوع إلى الأصول المثبتة فقط ، ويرجع في موارد الأصول النافية إلى الاحتياط ، فيجب الاحتياط في جميعها إن لم يكن مستلزما للحرج ؛ وإلّا رفع اليد عنه بمقدار رفع الحرج ، ووجب في الباقي.

ومن المعلوم : تعين الاحتياط حينئذ في المظنونات ، وعدم وصول النوبة إلى المشكوكات والموهومات ؛ لقبح ترجيح المرجوح على الراجع.

(٤) أي : وحين الرجوع إلى الأصول المثبتة فقط «كان خصوص ...» .. الخ.

٤٠٠