دروس في الكفاية - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

القربة والإطاعة ، فالفرق بينهما : أن الغرض من الأول : هو مجرد تحقق المأمور به كيف اتفق. هذا بخلاف الثاني ، فإن الغرض منه لا يحصل إلا بإتيان الواجب بقصد القربة والإطاعة.

ومنها : أن المكلف تارة : يتمكن من الامتثال التفصيلي ، وأخرى : لا يتمكن منه.

ومنها : أن الاحتياط في كل منهما تارة : يحتاج إلى التكرار ، وأخرى : لا يكون كذلك.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن محل الكلام هو الامتثال الإجمالي المعبّر عنه بالاحتياط ، فيما إذا تمكن المكلف من الامتثال التفصيلي ، وكان الاحتياط مستلزما للتكرار ، وكان الواجب تعبديا.

وأما إذا لم يتمكن المكلف من الامتثال التفصيلي ، وكان الواجب توصليا ولم يكن الاحتياط محتاجا إلى التكرار : فلا إشكال في سقوط التكليف بالامتثال الإجمالي.

وحاصل الكلام في المقام : أنه مع التمكن من تحصيل العلم التفصيلي بالامتثال هل يكفي العلم الإجمالي بالامتثال ؛ بأن يحتاط في أطراف العلم الإجمالي أم لا؟ فإذا علم مثلا بوجوب أحد الأمرين إما الظهر وإما الجمعة في الشبهة الحكمية ، أو بوجوب الصلاة إلى إحدى الجهات الأربع عند اشتباه القبلة في الشبهة الموضوعية ، فهل يكفي العلم الإجمالي بالامتثال بإتيان كل من الظهر والجمعة في المثال الأول ، أو بإتيان الصلاة إلى كل من الجهات الأربع في المثال الثاني ، مع التمكن من تحصيل العلم التفصيلي بالامتثال باستعلام الحال ؛ إما بالفحص والتتبع ، أو بالسؤال عن الموضوع ومعرفة الواجب بعينه على التفصيل والإتيان به بخصوصه ، أم لا يكفي إلا عند تعذر العلم التفصيلي به.

توضيح بعض العبارات قوله : «فلا إشكال فيه في التوصليات» ، يعني : فلا إشكال في سقوط التكليف بالامتثال الإجمالي في التوصليات ، وهي التي يكون المطلوب فيها نفس وجودها في الخارج بأي داع كان ؛ إذ الغرض من التوصلي يحصل بمجرد حصوله في الخارج كيفما اتفق ، سواء علم حين الإتيان به أنه هو الواجب بخصوصه أم لم يعلم ، قصد الإطاعة أم لم يقصد ، توقف على التكرار أم لا.

«وأما في العباديات» : ففيها موضعان للكلام : الأول : في الاحتياط الذي لا يحتاج إلى التكرار. والثاني : في الاحتياط الذي يحتاج إلى التكرار. وقد أشار إلى الموضع الأول : بقوله : «وأما في العبادات : فكذلك فيما لا يحتاج إلى التكرار ...» بمعنى : أن

١٢١

العباديات : فكذلك فيما لا يحتاج إلى التكرار ، كما إذا تردد أمر عبادة بين الأقل والأكثر ؛ لعدم الإخلال بشيء مما يعتبر أو يحتمل اعتباره في حصول الفرض منها. مما لا يمكن أن يؤخذ فيها ، فإنه نشأ من قبل الأمر بها ؛ كقصد الإطاعة والوجه والتمييز

______________________________________________________

الاحتياط في العبادات إذا لم يتوقف على التكرار فلا إشكال في سقوط التكليف به ، كما إذا ترددت العبادة ـ كالصلاة ـ بين عشرة أجزاء وتسعة ، فإن الاحتياط فيها يتحقق بإتيان عشرة ، ولا يتوقف على التكرار ، ويسقط التكليف به ، سواء كان المشكوك فيه جزءا أم شرطا. فالمشار إليه في قوله : «فكذلك» هو نفي الإشكال عن سقوط التكليف بالاحتياط «فيما لا يحتاج إلى التكرار». قوله : «لعدم الإخلال ...» الخ تعليل لمشروعية الاحتياط في العبادات إذا لم يتوقف على التكرار ، وعدم الإشكال في سقوط التكليف به.

وحاصل الكلام في المقام : أنه إذا أتى بالأكثر ، فلا يقدح ذلك في الامتثال وسقوط الأمر ؛ لعدم كونه موجبا للإخلال بما يعتبر قطعا في حصول الغرض من العبادة من القيود التي لا يعقل أن تؤخذ في نفس العبادة ، كقصد القربة والوجه ، والتمييز ، لتأخرها عن الأمر ولنشوئها عنه ، فكيف يمكن أخذها في موضوع الأمر؟

نعم ؛ يكون الاحتياط مخلا بقصد الجزئية أو الشرطية بالنسبة إلى المشكوك فيه ؛ إلا إن دخل قصدها في حصول الغرض من العبادة في غاية الضعف والسقوط. وعلى هذا : فلا إشكال في مشروعية الاحتياط في العبادات فيما لا يلزم منه التكرار كما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ١٨٧» مع توضيح وتصرف منّا.

قوله : «فإنه نشأ» تعليل لقوله : «لا يمكن أن يؤخذ».

قوله : «كقصد الإطاعة» مثال لما يعتبر قطعا في حصول الغرض من العبادة ، ولا يمكن أخذه في نفس العبادة. «والوجه والتمييز» مثالان لما يحتمل اعتباره في حصول الغرض منها ، مع عدم إمكان أخذهما في نفس العبادة.

قوله : «فيما إذا أتى بالأكثر» متعلق بقوله : «لعدم الإخلال».

وحاصل الكلام : أن الاحتياط في العبادة ـ إذا لم يلزم منه تكرار ـ لا مانع عنه أصلا ؛ لأنه ليس مخلا بشيء مما يعتبر في نفس العبادة من الأجزاء والشرائط ، إذ المفروض : الإتيان بتمامها ضرورة : إمكان قصد القربة وإمكان قصد الوجه والتمييز أيضا ، وما يلزم إخلاله كقصد جزئية المشكوك فيه لا يكون موجبا للإخلال في نفس العبادة ، كما أشار إليه بقوله : «ولا يكون إخلال».

١٢٢

فيما إذا أتى بالأكثر ، ولا يكون إخلال حينئذ إلا لعدم إتيان ما احتمل جزئيته على تقديرها بقصدها ، واحتمال دخل قصدها (١) في حصول الغرض ضعيف (٢) في الغاية ، وسخيف إلى النهاية.

______________________________________________________

(١) أي : الجزئية. هذا دفع توهّم بتقريب : أن دخل قصد جزئية المشكوك فيه في حصول الغرض على فرض جزئيته واقعا مانع عن الامتثال الاحتياطي بإتيان الأكثر ؛ لكونه مخلا بالقصد المزبور ومفوّتا له.

(٢) دفع للتوهّم المذكور وحاصله : أن احتمال دخل قصد الجزئية في حصول الغرض في غاية الوهن ، فالإخلال بقصد الجزئية لا يضر بالاحتياط أصلا. والوجه في وهن احتمال دخل قصد الجزئية في حصول الغرض هو : عدم الدليل على دخله في معلوم الجزئية ، فضلا عن محتملها ؛ بل الدليل قائم على عدم اعتباره ؛ لاقتضاء الإطلاقات المقامية لعدم الاعتبار ، فقصد مشكوك الجزئية أو الشرطية حينئذ يكون تشريعا محرما.

وعلى فرض تسليم قصد الجزئية : فهو مختص بمعلوم الجزئية ، وأما مع الجهل بها فلا دليل على اعتباره فيه ؛ إذ لا إطلاق في دليله ، والمتيقن منه هو صورة العلم بها. هذا تمام الكلام في الموضع الأول ، وهو ما لا يكون الاحتياط مستلزما للتكرار.

وبقى الكلام في الموضع الثاني ، وهو ما يكون الاحتياط مستلزما للتكرار. وقد أشار إليه بقوله : «وأما فيما احتاج إلى التكرار فربما يشكل ...» الخ ، وفي هذا الموضوع الثاني : جهتان :

الأولى : في الامتثال الاحتياطي مع التمكن من الامتثال التفصيلي.

الثانية : في الامتثال الإجمالي ، مع عدم التمكن من الإطاعة العلمية ، وهي ما سيأتي الكلام فيها.

وأما الجهة الأولى : ـ كالصلاة إلى جهتين أو أزيد في اشتباه القبلة ، أو تمييز الثوب الطاهر عن المتنجس في اشتباه الثوب الطاهر بالمتنجّس ـ فقد استشكل فيها بوجوه ثلاثة :

الأول : أن الاحتياط المستلزم للتكرار مخلّ بقصد الوجه ـ وهو الوجوب ، إذ يجب على المكلف أن يقصد الوجوب في الواجبات والندب في المندوبات ـ حيث إنه حين الإتيان بكل واحدة من الصلاتين لا يعلم بوجوبها حتى يقصد الوجوب ؛ بل كل منهما محتمل الوجوب ، فلا يمكن قصد الوجوب بالنسبة إلى واحدة منهما بعينها ، مع أن قصد الوجوب دخيل في تحقق الامتثال حسب الفرض ، ولا فرق في ذلك بين كون الاحتياط

١٢٣

وأما فيما احتاج إلى التكرار ؛ فربما يشكل من جهة الإخلال بالوجه تارة ، وبالتمييز أخرى ، وكونه لعبا وعبثا ثالثة.

وأنت (١) خبير بعدم الإخلال بالوجه بوجه في الإتيان مثلا بالصلاتين المشتملتين

______________________________________________________

المستلزم للتكرار في الشبهات الموضوعية كالمثالين المذكورين ونظائرهما ، وبين كونه في الشبهات الحكمية ؛ كدوران الوظيفة في بعض الموارد بين القصر والإتمام ، مع التمكن في الجميع من إزالة الشبهة والامتثال العلمي التفصيلي كما هو المفروض ، فالنتيجة هي : عدم جواز الاحتياط ؛ لأنه مفوّت لقصد الوجه.

الثاني : أن تكرار العبادة بالاحتياط يوجب الإخلال بالتمييز وهو إحراز عنوان المأمور به الواقعي ؛ بأن يميز الواجب عن غيره.

والمعلوم في مورد التكرار : هو عدم العلم بكون هذا المأتي به هو المأمور به الواقعي ؛ بحيث ينطبق عليه عنوان المأمور به الواقعي ، ويكون هذا المأتي به مصداقه ، فالتمييز كقصد الوجه يفوت في الامتثال الإجمالي المعبّر عنه بالاحتياط.

الثالث : أن التكرار لعب وعبث بأمر المولى ، ولا يكون إطاعة له بنظر العقلاء فالمحتاط بتكرار العبادة يعد لاعبا بأمر المولى عند العقلاء ؛ إذ الواجب ـ في الأمثلة المذكورة ـ صلاة واحدة فلا وجه لتكرارها. وهناك وجوه لم يذكرها المصنف ، واكتفينا بما ذكره المصنف رعاية للاختصار.

(١) هذا شروع في رد الوجوه الثلاثة المذكورة في كلام المصنف «قدس‌سره».

وحاصل الكلام في ردّ الوجه الأول : أنه لا يلزم من التكرار إخلال بقصد الوجه حيث إن الداعي إلى فعل كل واحد واحد من المحتملين ، أو المحتملات هو : الأمر المتعلق بالواجب ، فإتيانه بكل منهما أو منها منبعث عن ذلك الأمر ، فلا محالة يكون قاصدا للواجب ، فقصد الوجه ـ أعني : الوجوب ـ موجود قطعا وحينئذ : فيقصد الوجوب بنحو الغاية تارة : بأن ينوي «أصلي صلاة الظهر لوجوبها» ، وبنحو الوصف أخرى : بأن يقصد «أصلي الصلاة الواجبة» ، وعلى كلا التقديرين ليس التكرار مخلا بقصد الوجه.

نعم ؛ يكون التكرار مخلا بالتمييز ؛ لعدم تمييزه للمأمور به عن غيره ، لأن احتمال انطباق المأمور به على كل واحد من المحتملين أو المحتملات موجود ؛ ولكن عدم التمييز ليس مخلا بالإطاعة ومانعا عن صدق الامتثال ؛ إذ لا دليل على اعتباره ، كما أشار إليه بقوله : «واحتمال اعتباره أيضا في غاية الضعف».

وحاصل ردّ اعتبار التمييز : أن إخلال الاحتياط بالتمييز وإن كان مسلما ، لكنه غير

١٢٤

على الواجب لوجوبه ، غاية الأمر : أنه لا تعيين له (١) ولا تمييز ، فالإخلال إنما يكون به ، واحتمال اعتباره أيضا في غاية الضعف ، لعدم (٢) عين منه ولا اثر في الأخبار ، مع أنه

______________________________________________________

قادح ؛ لأن احتمال اعتباره ضعيف جدا كضعف اعتبار قصد الوجه.

قوله : «لوجوبه» متعلق بقوله ، الإتيان ، وتقريب لجعل قصد الوجه غاية.

(١) أي : لا تعيين للمأمور به «ولا تمييز».

وحاصل الكلام : أنه لا إشكال من جهة قصد الوجه ؛ بل الإشكال يكون من جهة التمييز ؛ لعدم تمييز المأمور به عن غيره؟ والمراد من عدم تعيّن المأمور به الواقعي وعدم تميزه عند المكلف وإن كان له تعيّن وتميّز في الواقع.

(٢) تعليل لقوله : «في غاية الضعف».

وحاصل الكلام في المقام : أن المصنف قد ذكر لضعف اعتبار التمييز وجهين :

أحدهما : قوله : «في غاية الضعف» حيث إنه خبر لقوله : «واحتمال اعتباره» بتقريب : أن تمييز المأمور به غير لازم على المكلف حين الامتثال ؛ وذلك لعدم الدليل على اعتباره في الأخبار.

وثانيهما : قوله : «مع أنه مما يغفل عنه غالبا» ، وتوضيحه يتوقف على مقدمة وهي : إن الشيء الذي يكون له دخل في الغرض على قسمين : تارة : يكون مما هو مركوز في أذهان عامة الناس ، وأخرى : لا يكون كذلك ، بل مما يغفل عنه العامة ، فإن كان من قبيل الأول لم يلزم على المتكلم بيانه لكفاية تنبّه العامة له وارتكازه لديهم في عدم فوات الغرض ، فيصح الاعتماد على هذا الارتكاز ، وعدم تعرض المتكلم لبيانه نظير اعتبار السلامة في البيع ؛ فإنه مرتكز عند المتعاقدين ، ولذا لا يصرح به في العقد ويكتفي في اعتبارها على هذا الارتكاز.

وإن كان من قبيل الثاني : لزم على المتكلم بيانه ، وإلا لأخل بغرضه ؛ إذ ليس هنا ارتكاز يعقد عليه عند عدم بيانه.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن التمييز من القسم الثاني ، لغفلة عامة الناس عن دخله في الغرض ، فلو كان دخيلا فيه لزم التنبيه عليه وإلا لأخل بالغرض اللازم استيفائه ، وقد عرفت الإشارة إلى خلوّ الأخبار عن اعتبار التمييز ، فيحصل العلم حينئذ بعدم دخله في الغرض. هذا تمام الكلام في رد الوجه الثاني.

بقي الكلام في ردّ الوجه الثالث ، وهو كون التكرار لعبا بأمر المولى وقد ردّ المصنف هذا الوجه بوجوه :

١٢٥

مما يغفل عنه غالبا ، وفي مثله لا بد من التنبيه على اعتباره ودخله في الغرض ، وإلا لأخل بالغرض كما نبهنا عليه سابقا.

وأما (١) كون التكرار لعبا وعبثا : فمع أنه ربما يكون لداع عقلائي ، إنما يضر إذا كان لعبا بأمر المولى (٢) ، لا في كيفية إطاعته (٣) بعد حصول الداعي إليها (٤) ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

الأول : أن التكرار مطلقا لا يكون لعبا بأمر المولى ؛ بل التكرار الكثير يكون لعبا بأمر المولى كالصلاة إلى أكثر من أربع جهات في اشتباه القبلة.

الثاني : أن التكرار يمكن أن يكون لداع عقلائي يخرجه عن اللغوية والعبث ، كما إذا كان تحصيل العلم التفصيلي موجبا لمشقة أو مستلزما لمنّة ؛ بحيث يكون التكرار أهون من تحملهما ، فيكرر الصلاة لذلك ، أو نحوه من الأغراض العقلائية المخرجة لتكرير العبادة عن اللغوية والعبث ، فلا يكون التكرار عبثا ولعبا بأمر المولى بعد انبعاث العبد عن أمره بالنسبة إلى جميع الأفراد.

الثالث : أن عدم صدق الإطاعة مع فرض اللعب بأمر المولى والاستهزاء به لا يختص بصورة التكرار ؛ بل لا يصح المأتي به ولا يكون مجزيا حتى مع العلم التفصيلي بالمأمور به ، أو عدم استلزام الاحتياط للتكرار ؛ كدوران المأمور به بين الأقل والأكثر إذا أتى به مستهزئا ولاعبا بالأمر.

وبعبارة واضحة : أنه إذا كان أصل العمل منبعثا عن أمر المولى ، ولم يكن له داع سواه غاية الأمر : أنه لاعب في طريق الإطاعة وكيفيتها ، لا في نفس الإطاعة التي هي عبارة عن الانبعاث المترتب على بعث المولى ، فالعبث في هذه المرتبة ليس قادحا في تحقق الإطاعة.

فالمتحصل : أن التكرار ليس عبثا أولا ، لإمكان اقترانه بغرض عقلائي ، وعلى تقديره ليس عبثا في نفس الإطاعة ثانيا ؛ بل إنما هو كيفيتها ، وهو غير قادح.

قوله : «وإلا لأخل بالغرض كما نبهنا عليه سابقا» يعني : وإن لم ينبه عليه لأخل بالفرض ، كما نبهنا على لزوم التنبيه على ما يغفل عنه عامة الناس مع دخله في الغرض في بحث التعبدي والتوصلي.

(١) شروع في ردّ الوجه الثالث وقد تقدم توضيح ذلك ، فلا حاجة إلى الإعادة.

(٢) أي : اللعب بأمر المولى هو الاستهزاء به ، فالداعي إلى الفعل حينئذ شيطاني لا رحماني.

(٣) أي : إطاعة الأمر ، والضمير في «إذا كان» راجع على التكرار.

(٤) أي : إلى الطاعة ، والمراد بالداعي إلى الطاعة هو الأمر.

١٢٦

هذا (١) كله في قبال ما إذا تمكن من القطع تفصيلا بالامتثال. وأما إذا لم يتمكن إلا من الظن به كذلك (٢) فلا إشكال في تقديمه على الامتثال الظني ؛ لو لم يقم دليل على اعتباره إلا فيما إذا لم يتمكن منه.

______________________________________________________

(١) أي : هذا كله بيان حكم الامتثال الإجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي ، وبه تم الكلام في الجهة الأولى.

وأما مع عدم التمكن من تحصيل العلم التفصيلي بالامتثال ، ودوران الأمر بين الامتثال الظني التفصيلي وبين الامتثال القطعي الإجمالي ، فيقع الكلام حينئذ في تقديم أحدهما على الآخر.

(٢) أي : إذا لم يتمكن المكلف إلا من الظن بالامتثال تفصيلا ، وهذا شروع في الجهة الثانية وهي : جواز الاحتياط عند تعذر الامتثال العلمي التفصيلي ؛ ولكن يتمكن المكلف من الامتثال الظني التفصيلي

وأما حاصل ما أفاده المصنف في الامتثال الظني التفصيلي : فله صور وشقوق. وذلك فإن ذلك الظن إما ظن خاص ـ وهو ما ثبت اعتباره بدليل خاص ـ وإما ظن مطلق ـ وهو ما ثبت اعتباره بدليل الانسداد ـ وكل منهما على قسمين ؛ لأن الظن الخاص قد يكون معتبرا بشرط عدم التمكن من الامتثال العلمي الإجمالي أي : الاحتياط ، وقد يكون معتبرا مطلقا يعني : مع التمكن من الاحتياط ، والظن المطلق الثابت اعتباره بدليل الانسداد قد يبنى على أن من مقدمات دليل اعتباره هو عدم وجوب الاحتياط ، وقد يبنى على أن من مقدمات دليل اعتباره هو عدم جواز الاحتياط ، فالصور والشقوق حينئذ أربعة :

الأولى : الظن الخاص المشروط اعتباره بعدم التمكن من الاحتياط ، ولا إشكال حينئذ في عدم جواز الامتثال الظني إذا تمكن من الامتثال العلمي الإجمالي ، ووجوب تقديمه على الامتثال الظني ؛ لعدم اعتباره حسب الفرض.

الثانية : الظن الخاص المعتبر مطلقا حتى مع التمكن من الامتثال العلمي الإجمالي ؛ بأن يكون مقتضى دليل اعتباره حجيته في عرض الاحتياط ورتبته ، ولا إشكال في جواز الاجتزاء بكل من الامتثال الظني والاحتياطي حينئذ.

الثالثة : الظن المطلق ، مع البناء على أن من مقدماته عدم وجوب الاحتياط ، ولا إشكال أيضا في جواز الاجتزاء بالامتثال الظني في عرض الامتثال العلمي الإجمالي ، كما في الصورة الثانية ؛ لأن الظن المطلق حينئذ كالظن الخاص المعتبر مطلقا في جواز كل من الامتثال الظني والاحتياطي.

١٢٧

وأما لو قام (١) على اعتباره مطلقا : فلا إشكال في الاجتزاء بالظن ، كما لا إشكال في الاجتزاء بالامتثال الإجمالي في قبال الظني بالظن المطلق المعتبر بدليل الانسداد ، بناء على أن يكون من مقدماته عدم وجوب الاحتياط. وأما لو كان من مقدماته بطلانه لاستلزامه (٢) العسر المخل بالنظام ، أو لأنه (٣) ليس من وجوه الطاعة والعبادة ؛

______________________________________________________

الرابعة : الظن المطلق مع البناء على أن من مقدماته عدم جواز الاحتياط ؛ لاستلزامه العسر والحرج ، أو أنه ليس طاعة بل هو لعب بأمر المولى فيما إذا توقف على التكرار ، ولا إشكال هنا في تعين الامتثال الظني التفصيلي ، لبطلان الاحتياط حسب الفرض. وعلى هذه الصورة الرابعة يبتني بطلان عبادة تارك طريقي الاحتياط والتقليد ؛ إذ لا يوجب الاحتياط سقوط الأمر لما عرفت من عدم كونه امتثالا ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ١٩٩» مع توضيح منّا.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «الوصول إلى كفاية الأصول».

(١) أي : لو قام الدليل على اعتبار الظن مطلقا ، حتى مع إمكان الامتثال القطعي الإجمالي ، وهذا مقابل لقوله : «لو لم يقم ...» الخ ، وذلك مثل خبر الواحد والظواهر وخبر العدلين ونحوها ، «فلا إشكال في الاجتزاء» بالامتثال الإجمالي ، فيصلي الظهر والجمعة ، كما يصح الاجتزاء بالظن التفصيلي بأن يأخذ بدليل وجوب الجمعة ، فيصلي صلاة الجمعة يومها فقط.

«كما لا إشكال في الاجتزاء بالامتثال الإجمالي في قبال» الامتثال «الظني بالظن المطلق المعتبر بدليل الانسداد» ، مقابل الظن الخاص المعتبر بالأدلة الخاصة ، «بناء على أن يكون من مقدماته» أي : من مقدمات دليل الانسداد «عدم وجوب الاحتياط» ، فيختار إما الامتثال الظني الانسدادي ، أو العلمي الإجمالي ؛ إذ الاحتياط ليس بواجب عليه ؛ لا أنه ليس بجائز له. هذا ما تقدمت الإشارة إليه في الصورة الثالثة.

(٢) أي : لاستلزام الاحتياط العسر المخل بالنظام. هذا أحد الوجوه التي يستدل بها على بطلان الاحتياط في العبادات ، وهو يعم ما لو كان مستلزما للتكرار ، وما لم يكن كذلك. كما سيأتي التعرض له مفصلا في مبحث الاشتغال إن شاء الله تعالى.

(٣) أي : لأن الاحتياط ، وهو عطف على قوله : «لاستلزامه» وهذا وجه آخر لبطلان الاحتياط ، وحاصله : عدم كون الاحتياط من وجوه الطاعة ؛ إما لحكم العقل بذلك لفوات التمييز ، أو قصد الوجه أو كليهما ، وإما لحكم الشرع بعدم كون الاحتياط من وجوه الطاعة ؛ لما ادّعي من الإجماع على عدم مشروعية الامتثال الاحتمالي والرجائي.

١٢٨

بل هو نحو لعب (١) وعبث بأمر المولى فيما إذا كان بالتكرار كما توهم (٢) ، فالمتعين هو التنزل عن القطع تفصيلا إلى الظن كذلك (٣).

وعليه (٤) : فلا مناص عن الذهاب إلى بطلان عبادة تارك طريقي التقليد والاجتهاد ؛ وإن احتاط فيها (٥) كما لا يخفى.

هذا بعض الكلام في القطع مما (٦) يناسب المقام ، ويأتي بعضه الآخر (٧) في البراءة والاشتغال ، فيقع المقال فيما هو المهم من عقد هذا المقصد وهو (٨) بيان ما قيل

______________________________________________________

(١) أي : هذا الوجه مختص بالاحتياط المتوقف على التكرار.

(٢) أي : كما توهّم عدم جواز الاحتياط.

(٣) أي : تفصيلا. قوله : «فالمتعين» جواب «أما لو كان» :

وحاصل الكلام : أنه لو كان من مقدمات دليل الانسداد بطلان الاحتياط فالمتعين هو التنزل عن القطع تفصيلا إلى الظن تفصيلا ، بمعنى : أنه لا واسطة بينهما ، إذ المفروض : بطلان الامتثال الاحتياطي ، فالمتعين هو الامتثال الظني ؛ إذ يدور الأمر بين الامتثال العلمي التفصيلي ، وبين الامتثال الظني كذلك ، فإن تمكن المكلف من الامتثال التفصيلي العلمي فهو ، وإن لم يتمكن وجب الامتثال التفصيلي الظني ، ولا يجوز له الامتثال الإجمالي العلمي.

(٤) أي : بناء على عدم جواز الامتثال العلمي الإجمالي ، والتنزل عن القطع التفصيلي إلى الظن التفصيلي ـ لبطلان الاحتياط ـ «فلا مناص عن الذهاب ...» الخ.

(٥) أي : في العبادات ، لفرض بطلان الاحتياط.

(٦) أي : من المباحث المتعلقة بتنجيز العلم الإجمالي ؛ لما عرفت : من أن المناسب لمبحث القطع هو البحث عن تنجيزه بنحو العلّية أو الاقتضاء ، أو عدم تنجيزه مطلقا كما مر تفصيل ذلك.

(٧) أي : المراد بالبعض الآخر هو المباحث المتعلقة بجريان الأصل وعدمه في أطراف العلم الإجمالي ، فإن المناسب لهذه المباحث هو المقصد المتكفل لأحكام الشك ، فعلى القول بالاقتضاء : يبحث في أصل البراءة عن وجود المانع عن جريان البراءة في أطراف العلم الإجمالي وعدمه ، وعلى القول بالعلية يبحث في أصل الاشتغال عن عدم جريان الأصول ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٢٠٢».

(٨) أي : المهم والمشار إليه في قوله : «ذلك» ما هو المهم أي : قبل الخوض فيما هو المهم «ينبغي تقديم أمور».

١٢٩

باعتباره من الأمارات ، أو صح أن يقال ، وقبل الخوض في ذلك ينبغي تقديم أمور :

أحدها (١) : أنه لا ريب في أن الأمارة الغير العلمية ليست كالقطع ، فيكون الحجيّة من لوازمها ومقتضياتها بنحو العلية ؛ بل مطلقا ، وأنّ ثبوتها (٢) لها محتاج إلى جعل أو ثبوت مقدمات وطروء حالات موجبة لاقتضائها الحجية عقلا ، بناء على تقرير مقدمات الانسداد بنحو الحكومة ، وذلك (٣) لوضوح : عدم اقتضاء غير القطع

______________________________________________________

في عدم اقتضاء الأمارة غير العلمية للحجية ذاتا

(١) المقصود من عقد هذا الأمر الأول : هو بيان أن الأمارة الغير العلمية ليست الحجية من لوازمها ـ كما في القطع ـ لا بنحو العلية ولا بنحو الاقتضاء ؛ بل إنها ممكنة الثبوت لها.

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن إقامة البرهان على إثبات محمول لموضوع إنما تتم إذا لم يكن ذلك من لوازم الموضوع أي : لم يكن ثبوته له ضروريا ، وكذلك لم يكن المحمول ممتنع الثبوت للموضوع ، ضرورة : عدم صحة إقامة البرهان في هاتين الصورتين ؛ إذ في الصورة الأولى لا حاجة إلى البرهان ؛ لفرض : كون المحمول من لوازم الموضوع التي لا تنفك عنه ، فإقامة البرهان على ثبوته للموضوع من قبيل تحصيل الحاصل ، وهو محال.

وفي الصورة الثانية : لا يمكن الحمل ؛ لفقدان مصحّح الحمل ـ وهو الاتحاد الوجودي بينهما ـ بعد فرض امتناع ثبوته له.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الأمارة غير العلمية ليست علة تامة للحجية ـ كما في القطع ـ ولا مقتضية لها ؛ إذ لا كشف تاما لها عن الواقع ؛ بل الحجية ممكنة الثبوت لها ذاتا ، وحينئذ فلا بدّ في ثبوت اعتبارها من جعل الحجية لها شرعا ؛ كجعل الحجية لخبر الواحد أو الإجماع المنقول ، أو من حصول مقدمات توجب الحجية لها كالظن المطلق إما عقلا بناء على تمامية مقدمات الانسداد على تقرير الحكومة ، وإما شرعا بناء على تماميتها بنحو الكشف كما سيأتي ؛ فانتظر.

قوله : «بل مطلقا» إضراب عن قوله : «بنحو العلية» يعني : أن الأمارة لا تكون مقتضية للحجية ؛ لا بنحو العلية التامة ، ولا بنحو الاقتضاء.

(٢) أي : أن ثبوت الحجية للأمارة غير العلمية «محتاج إلى جعل ...» الخ ، هذا إشارة إلى أن الحجية ممكنة الثبوت للأمارة ، وليست ضرورية لها.

(٣) أي : ما ذكرنا من الأمارات ليست كالقطع في الحجية ، «لوضوح : عدم اقتضاء

١٣٠

للحجية بدون ذلك ثبوتا (١) بلا خلاف ، ولا سقوطا (٢) وإن كان ربّما يظهر فيه من بعض المحققين : الخلاف والاكتفاء بالظن بالفراغ (٣) ، ولعله (٤) لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل ، فتأمل (٥).

______________________________________________________

غير القطع للحجية بدون ذلك» أي : بدون الجعل أو ثبوت مقدمات. فيكون قوله : «لوضوح» تعليلا لما ذكره من عدم كون الأمارات علة تامة للحجية ، ولا مقتضية لها ، وحاصله : أن الوجدان وبناء العقلاء شاهدان على عدم حجية الظن ومنجزيته ، وعدم كون العبد تحت الخطر لو خالف ظنه كما هو واضح.

(١) أي : في مقام إثبات التكليف ، بمعنى : أنه لا يثبت التكليف بالظن «بلا خلاف» من أحد.

(٢) أي : في مقام امتثال التكليف وسقوطه ، فلا يكفي الظن بفراغ الذمة ، «وإن كان ربما يظهر فيه» أي : في سقوط التكليف بالظن «من بعض المحققين» ؛ كالمحقق الخوانساري أو البهبهاني على ما قيل.

(٣) فإذا علم بوجوب صلاة الظهر عليه ثم ظن بإتيانها لا يجب الإتيان بها ثانيا.

(٤) أي : ولعل الاكتفاء بالظن ، وهذا توجيه للاكتفاء بالظن في مرحلة الفراغ وحاصله : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٢٠٦» ـ أن المقام من صغريات قاعدة دفع الضرر المحتمل ، ببيان : أن عدم الاكتفاء بالظن بالفراغ ملازم لاحتمال بقاء التكليف وعدم سقوطه ، وبقاؤه مستلزم للضرر على مخالفته ، ودفع الضرر المحتمل لازم ، فعدم الاكتفاء بالظن بالفراغ لازم ؛ ولكن حيث ثبت عدم لزوم دفع الضرر المحتمل فلا تجب مراعاة احتمال بقاء التكليف ؛ حتى لا يكتفى بالظن بالفراغ ؛ بل يكتفى به.

وبعبارة أخرى : لو كان دفع الضرر المحتمل واجبا لم يجز الاكتفاء بالظن بالفراغ عن التكليف ؛ لاحتمال بقائه المستلزم للضرر على مخالفته ؛ لكن دفع الضرر المحتمل غير لازم ، فعدم جواز الاكتفاء بالظن بالفراغ غير ثابت ، فيجوز الاكتفاء به وهو المطلوب.

(٥) لعله إشارة إلى أن هذه القاعدة لا تثبت ما أراده ذلك البعض ؛ من اقتضاء الظن للحجية ، وجواز الاكتفاء به في مرحلة الفراغ ؛ إذ التعليل بقاعدة عدم لزوم دفع الضرر المحتمل تعليل بما هو خارج عن مقام الذات ، والمدعى اقتضاء الظن ذاتا للحجية المستلزمة لجواز الاكتفاء به في مرحلة الفراغ ؛ لا اقتضاؤها لها بما هو خارج عن ذاته ، فلا يصلح عدم لزوم دفع الضرر المحتمل لأن يكون علة لاقتضاء الأمارات ذاتا ـ كما عبر به بعض ـ للحجية.

١٣١

ثانيها (١) : في بيان إمكان (٢) التعبد بالأمارة الغير العلمية شرعا وعدم لزوم محال

______________________________________________________

أو إشارة إلى عدم صغروية الفراغ لتلك القاعدة ؛ إذ موردها هو الشك في ثبوت التكليف لا سقوطه الذي يكون المرجع فيه قاعدة الاشتغال ، فدعوى اقتضاء الأمارة ذاتا للحجية في مرحلة الفراغ في غير محلها ؛ بل المرجع عند الشك في الفراغ قاعدة الاشتغال.

وفي بعض الحواشي ما لفظه : «ولعل وجه التأمل أن اكتفاء بعض المحققين بالظن بالفراغ نظرا إلى عدم لزوم دفع الضرر المحتمل غير مربوط هو بحجية الظن في مقام السقوط ، فإن شأن الحجة أن يقطع معها بعدم الضرر لا أنه يحتمل معها الضرر ، ولا يجب دفعه بحكم العقل ، وهذا أيضا واضح».

في إمكان التعبد بالأمارة الغير العلمية

(١) المقصود من عقد هذا الأمر الثاني ـ بطوله ـ : هو بيان إمكان التعبد بما سوى العلم وجعله طريقا للوصول إلى الواقع كما في الأمارات الظنية ، أو جعله وظيفة مضروبة للجاهل يعمل بها في ظرف الشك والحيرة كما في الأصول العملية.

(٢) وقبل الخوض في البحث تفصيلا لا بد من بيان ما هو المراد بالإمكان في محل الكلام فنقول : إن الإمكان وإن كان له معان كثيرة ـ كما في شرح المنظومة ـ إلا إن ما هو المناسب في المقام أحد معان ثلاثة :

١ ـ الإمكان الذاتي في مقابل الامتناع الذاتي ، وهو من صفات الماهية بمعنى : سلب الضرورة عن الطرفين ، أو عن الطرف المقابل ؛ كإمكان الإنسان في مقابل امتناعه كامتناع اجتماع الضدين أو النقيضين.

٢ ـ الإمكان الوقوعي في مقابل الامتناع الوقوعي ، بمعنى : ما لا يلزم من وقوعه محال في مقابل الامتناع الوقوعي ، وهو ما يلزم من وقوعه محال خارجا ، كما يظهر من دليل ابن قبة.

٣ ـ الإمكان الاحتمالي ، بمعنى : عدم الجزم بامتناع الشيء بمجرد سماعه ، وهو الذي أشار إليه الشيخ الرئيس في كلامه : «كل ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه واضح البرهان».

والفرق بين المعاني الثلاثة واضح ؛ حيث إن المراد من الأول : ملاحظة نفس ماهية الشيء وسلب الضرورة من الطرفين ، أو من الطرف المخالف ، وإنه مما لا يجب ولا يمتنع وجوده.

١٣٢

منه (١) عقلا ، في قبال دعوى استحالته (٢) للزومه ، وليس الإمكان بهذا المعنى (٣) ؛ بل مطلقا أصلا متبعا عند العقلاء في مقام احتمال ما يقابله من الامتناع ؛ لمنع كون سيرتهم على ترتيب آثار الإمكان عند الشك فيه ، ومنع حجيتها ـ لو سلم ثبوتها ـ

______________________________________________________

والمراد من الثاني : ما لم يترتب على وقوعه محذور عقلي وإن كان في حد ذاته ممكنا.

والمراد بالثالث : هو احتمال الإمكان والامتناع ، فالإمكان هناك بمعنى : نفس الاحتمال أي : احتمال وجوده واحتمال امتناعه ، وعدم القضاء بشيء من الطرفين حتى يتبين الحال ولو بالدليل والبرهان.

إذا عرفت هذه المعاني للإمكان فاعلم : أن المراد بالإمكان في المقام هو الإمكان بالمعنى الثاني ؛ إذ لا شك في أنه ليس الإمكان بالمعنى الثالث محلا للنزاع ؛ لما عرفت :

من أنه ليس أزيد من عدم القضاء بشيء من الطرفين حتى يتضح الحال ، ومثل ذلك لا يليق أن يقع موردا للنزاع والجدال.

كما أن الإمكان بالمعنى الأول ليس بأمر خفي حتى يقع فيه النزاع ، بداهة : قابلية الظن للأمر بالاتباع ، وليس كاجتماع الضدين أو النقيضين اللذين يقتضيان الامتناع بالذات ، وليس التعبد بالظن ممتنعا بالذات بشهادة الخصم إمكانه عند انسداد باب العلم.

(١) أي : من التعبد بالظن.

(٢) أي : استحالة التعبد بالظن ؛ للزوم المحال من التعبد به على ما نسب إلى ابن قبة.

والحاصل : أن الإمكان المتنازع فيه هو الإمكان الوقوعي ؛ إذ لا مجال لتوهم أن التعبد بالظن ممتنع ذاتي كشريك الباري.

فالمتحصل : أن المحال على قسمين :

محال ذاتي : كاجتماع الضدين مثلا ، ومحال وقوعي كما يظهر من ابن قبة ، فإنه قد ادعى عدم الإمكان الوقوعي ، فابن قبة والمشهور يتفقان في دعوى الإمكان الذاتي لحجية الأمارات غير العلمية ، ويختلفان في أن المشهور يدعون الإمكان الوقوعي لها أيضا ، وابن قبة يدعي الامتناع الوقوعي لها ؛ لما تخيله من ترتب محال أو باطل على التعبد بالأمارات.

(٣) أي : الوقوعي «بل مطلقا» ، يعني : سواء كان ذاتيا أم وقوعيا.

أي : ليس الإمكان بمعنى عدم لزوم محال منه وهو الإمكان الوقوعي ؛ بل مطلقا ولو بمعنى الإمكان الذاتي أصلا متبعا عند العقلاء ؛ بحيث إذا شكّوا في إمكان شيء بأحد

١٣٣

لعدم قيام دليل قطعي على اعتبارها ، والظن به لو كان ، فالكلام الآن في إمكان التعبد

______________________________________________________

المعنيين بنوا على إمكانه بذاك المعنى ، وهذا الكلام في الحقيقة تعريض ؛ بل ردّ على الشيخ الأنصاري «قدس‌سره».

فلا بد أولا : من بيان ما أفاده الشيخ الأنصاري «قدس‌سره».

وثانيا : من ذكر ما أفاده المصنف في ردّه.

وأما ما أفاده الشيخ «قدس‌سره» فقال ـ بعد ذكره استدلال المشهور على الإمكان «بأنّا نقطع بأنه لا يلزم من التعبد به محال» ـ ما هذا لفظه : «وفي هذا التقرير نظر ؛ إذ القطع بعدم لزوم المحال في الواقع موقوف على إحاطة العقل بجميع الجهات المحسنة والمقبحة ، وعلمه بانتفائها ، وهو غير حاصل فيما نحن فيه ، فالأولى أن يقرّر هكذا : إنا لا نجد في عقولنا بعد التأمل ما يوجب الاستحالة ، وهذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان» ، وظاهر كلامه هذا : أن الإمكان أصل متبع عند العقلاء عند الشك في إمكان شيء وامتناعه ، فجعل الشيخ «قدس‌سره» الأصل عند الشك في الإمكان هو الإمكان ، وحكم بأن طريقة العقلاء هو الحكم بإمكان الشيء الذي لا يجدون وجها على استحالته».

هذا بيان ما أفاده الشيخ الأنصاري «قدس‌سره».

وقد أورد عليه المصنف «قدس‌سره» بوجوه :

الأول : هو المنع من ثبوت سيرة العقلاء على ترتيب آثار الإمكان عند الشك في إمكان شيء وامتناعه. وهذا ما أشار إليه بقوله : «لمنع كون سيرتهم على ترتيب آثار الإمكان عند الشك فيه».

هذا مضافا إلى أنه لو ثبت ما نسبه إلى العقلاء لكان ذلك في مورد الإمكان الاحتمالي ، وقد عرفت : أنه خارج عن مورد البحث ، وما هو محل الكلام هو الإمكان بالمعنى الثاني ـ أعني : الإمكان الوقوعي ـ وليس هنا أصل عقلائي.

فالمتحصل : أن النزاع في الإمكان بالمعنى الثاني ، ولا يثبت إلا بالبرهان لا بالأصل العقلائي.

الثاني : منع حجية سيرة العقلاء على تقدير ثبوتها. بمعنى : أن السيرة ـ على تقدير ثبوتها ـ لا اعتبار لها ؛ لعدم دليل قطعي على حجيتها ، والظن باعتبارها لا يكفي في الحجية ؛ لأن الشأن في اعتبار الظن ، فلا يمكن إثبات حجية الظن بالظن بالحجية لاستلزامه الدور. هذا ما أشار إليه بقوله : «ومنع حجيتها لو سلم ثبوتها».

١٣٤

بها وامتناعه ، فما ظنّك به؟ لكن دليل وقوع التعبد بها من طرق إثبات إمكانه ، حيث يستكشف به عدم ترتب محال من تال باطل فيمتنع مطلقا ، أو على الحكيم (١) تعالى ، فلا حاجة معه في دعوى الوقوع إلى إثبات الإمكان ، وبدونه لا فائدة في إثباته ، كما هو واضح.

______________________________________________________

الثالث : ما حاصله : أنه مع فعلية التعبد لا حاجة إلى البحث عن الإمكان ، كما لا فائدة في إمكان إثبات التعبد بالظن بدون دليل الوقوع ، لوضوح : أن الأثر العملي مترتب على فعلية التعبد ؛ لا على مجرد إمكانه. هذا ما أشار إليه بقوله : «فلا حاجة معه».

وكيف كان ؛ فالمتحصل : أن الصحيح في مقام الاستدلال على الإمكان أن يستدل عليه بوقوع التعبد بالأمارات الغير العلمية شرعا ؛ لأن وقوع الشيء أقوى الدليل على إمكانه كما لا يخفى ؛ لا بما استدل به المشهور ؛ كي يرد عليه ما أورده الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» ، ولا بما استدل به الشيخ الأنصاري ؛ كي يرد عليه ما أورده المصنف «قدس‌سره». قال الأستاذ السيد الخوئي «قدس‌سره» ما هذا لفظه : «وأما ما أورده في الكفاية من الوجوه الثلاثة : فكلها مبتنية على أن يكون مراد الشيخ «قدس‌سره» من بناء العقلاء على الإمكان بناءهم على ذلك مطلقا ؛ ولكن المحتمل بل المطمئن به أن يكون مراده هو البناء على ذلك عند قيام دليل ظني معتبر عليه ، فإذا اقتضى ظهور كلام المولى حجية ظن ، وشككنا في إمكان ذلك فالعقلاء لا يعتنون باحتمال الاستحالة في رفع اليد عن العمل بالظهور ، فما لم يثبت استحالة شيء كان ظهور كلام المولى حجة فيه ، وهذا نظير ما إذا أمر المولى بوجوب إكرام العلماء ، وشككنا في أن إكرام العالم الفاسق ذو مصلحة ليكون الحكم بوجوبه ممكنا من الشارع الحكيم ، أو أنه ليس فيه مصلحة ليكون ذلك مستحيلا ، فهل يشك أحد في لزوم الأخذ بظهور كلام المولى حينئذ وعدم الاعتناء باحتمال الاستحالة؟ وهذا الذي ذكرناه في بيان كلام الشيخ هو المناسب للبحث عنه في المقام فإنه هو الذي يترتب عليه الأثر العملي ، وعلى ذلك فلا يرد شيء بما أورد عليه في الكفاية» كما في «دراسات في علم الأصول ، ج ٣ ، ص ١٠٦».

(١) كما إذا كان اللازم محالا عرضيا كقبحه عقلا ، نظير تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة ، فإن صدور القبيح من الحكيم تعالى محال لمنافاته لحكمته ، فدليل فعلية التعبد كاشف عن عدم المحال بقسميه.

«وبدونه لا فائدة في إثباته» أي : بدون الوقوع لا فائدة في إثبات الإمكان ؛ إذ مجرده لا يدل على الوقوع.

١٣٥

وقد انقدح بذلك (١) : ما في دعوى شيخنا العلامة «أعلى الله مقامه» من كون الإمكان عند العقلاء مع احتمال الامتناع أصلا.

والإمكان (٢) في كلام الشيخ الرئيس : «كلما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه واضح البرهان» ، بمعنى الاحتمال المقابل للقطع والإيقان ، ومن الواضح : أن لا موطن له (٣) إلا الوجدان ، فهو المرجع ......

______________________________________________________

(١) أي : وقد ظهر بما تقدم من الإشكال على السيرة من عدم تمامية الاستدلال على إمكان المشكوك إمكانه بالسيرة العقلائية ، «ما في دعوى شيخنا العلامة من كون الإمكان عند العقلاء مع احتمال الامتناع أصلا» أي : ليس الإمكان أصلا ؛ بل إثباته يحتاج إلى الدليل والبرهان.

(٢) دفع لما يتوهم من أن كلام الشيخ الرئيس دليل على ما ادعاه الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» من الحكم بالإمكان عند الشك ، وأنه طريق يسلكه العقلاء ، فكلام الشيخ الرئيس دال على أن الأصل فيما شك في إمكانه هو الإمكان حتى يثبت امتناعه بالبرهان.

وحاصل الدفع : أن الإمكان في كلام الشيخ الرئيس ليس بمعنى الإمكان الذاتي ولا الوقوعي ، حتى يكون هذا الكلام دليلا على أن الأصل المتبع عند العقلاء ـ لو سلّم ـ هو الإمكان بأحد هذين المعنيين ، أما أنه ليس بمعنى الإمكان الذاتي : فلأن الإمكان الذاتي مما لا نزاع فيه فيما نحن فيه ، مع أنه بمجرده لا يفيد الوقوع الذي هو محل البحث.

وأما أنه ليس بمعنى الإمكان الوقوعي حتى يكون أصلا متبعا يستند إليه في المقام : فلأنه لو كان بمعنى الإمكان الوقوعي لما احتاج المشهور القائلون بإمكان التعبد إلى التمسك في وقوعه ؛ بما سيأتي من الأدلة ، بل الإمكان في كلام الشيخ الرئيس بمعنى الاحتمال المقابل للقطع الشامل لجميع أقسام الممكن ، فمعنى كلام الشيخ الرئيس : «كلما قرع سمعك من الغرائب» فاحتمل أنت وقوعه في الخارج على طبق ما قرع سمعك ؛ ما لم يمنعك واضح البرهان لا أنه كلما قرع سمعك من الغرائب فاحكم بأنه أمر ممكن مع الشك في إمكانه ثبوتا.

(٣) أي : لا موطن للإمكان بمعنى الاحتمال «إلا الوجدان» ، والأمر الوجداني لا يقع محلا للنزاع ، فالإمكان بمعنى الاحتمال من الأمور الوجدانية غير المحتاجة إلى إقامة برهان ، ولعل هذا الكلام دفع لما ربما يتوهم في المقام ، فلا بد أولا من تقريب التوهم ، وثانيا من توضيح دفعه.

١٣٦

فيه (١) بلا بيّنة ولا برهان.

وكيف كان (٢) ؛ فما قيل أو يمكن (٣) أن يقال في بيان ما يلزم التعبّد بغير العلم من المحال ، أو الباطل ولو لم يكن بمحال أمور :

أحدها (٤) : اجتماع المثلين من إيجابين أو تحريمين مثلا فيما أصاب ، أو ضدين من

______________________________________________________

وأما تقريب التوهم فيقال : إن حمل الإمكان في كلام الشيخ الرئيس على الاحتمال لا ينافي كونه أصلا في المقام ؛ لاحتمال أن يكون مورد النزاع بين ابن قبة والمشهور في التعبد بالأمارات وعدمه هو الاحتمال بمعنى : أن ابن قبة يكون مدعيا لعدم احتمال التعبد بغير العلم ، والمشهور يكونون مدعين لاحتماله.

وأما توضيح الدفع : فإن الإمكان بمعنى الاحتمال أمر وجداني غير قابل للإنكار حتى يحتاج في إثباته إلى إقامة بيّنة وبرهان ، مع أن المشهور أقاموا البرهان على ذلك ، فيعلم أن مرادهم بالإمكان ليس هو الاحتمال.

(١) يعني : أن الوجدان هو المرجع في الإمكان بمعنى الاحتمال.

توضيح العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(٢) أي : سواء كان الإمكان بمعنى الاحتمال ، أو بمعنى الإمكان الوقوعي.

(٣) هذا شروع في بيان ما استدل به على امتناع وقوع التعبد بالأمارات غير العلمية ، وأنه يترتب عليه محاذير ، وقد ذكر منها ثلاثة أوجه ؛ لأن ما يترتب عليه إما محذور خطابي وملاكي معا ، أو خطابي فقط ، أو ملاكي فقط.

والمراد بالمحذور الخطابي هو : اجتماع الحكمين المتماثلين أو المتضادين في محلّ واحد ؛ كاجتماع وجوبين أو وجوب وحرمة في موضوع واحد.

والمراد بالمحذور الملاكي : أن يكون التنافي بين نفس الملاكين أعني : ما يكون مبدأ للحكم ومتقدما عليه تقدّم العلة على المعلول ؛ كالمصلحة والمفسدة.

(٤) وحاصل ما أفاده المصنف في هذا الوجه من امتناع التعبد بالطريق غير العلمي هو : ترتب المحذور الخطابي والملاكي معا عليه ، أما الأول ـ وهو المحذور الخطابي ـ : فلاستلزامه اجتماع المثلين فيما إذا أدت الأمارة إلى الحكم المماثل للحكم الواقعي ، نظير أدائها إلى الوجوب أو الحرمة أو الإباحة مثلا ، مع كون الحكم الواقعي مثل مؤدى الأمارة ، فيلزم اجتماع المثلين من الوجوبين أو الحرمتين أو الإباحتين ؛ كطهارة العصير العنبي بعد الغليان واقعا مع قيام الأمارة عليها أيضا.

واجتماع الضدين من الوجوب والحرمة ، أو الوجوب والإباحة فيما إذا أدت الأمارة

١٣٧

إيجاب ـ وتحري (١) ، ومن إرادة وكراهة ، ومصلحة ومفسدة ملزمتين (٢) بلا كسر وانكسار في البين فيما أخطأ ، أو التصويب (٣) ، وأن لا يكون هناك غير مؤديات الأمارات أحكام.

ثانيها (٤) : طلب الضدين فيما إذا أخطأ ، وأدى إلى وجوب ضد ....

______________________________________________________

إلى الحكم المخالف للحكم الواقعي ؛ كما إذا فرض وجوب الاستعاذة قبل القراءة واقعا ، مع قيام الأمارة على استحبابها.

وأما الثاني ـ وهو المحذور الملاكي ـ : فللزوم اجتماع الضدين من الإرادة والكراهة فيما أخطأت الأمارة ؛ لنشوء الأمر عن الإرادة ، والحرمة عن الكراهة ، ومن المصلحة والمفسدة المؤثرتين في الإرادة والكراهة فيما إذا لم يكن بينهما كسر وانكسار ؛ إذ معهما لا يكون كل من الإرادة والكراهة متصفة بالملزمية حتى يتحقق التضاد بينهما ؛ لعدم تأثير كل منهما بالاستقلال في الإرادة والكراهة حتى تحدث إرادة بالاستقلال أو كراهة كذلك ؛ بل تتحقق إحداهما ، فلا يحصل التضاد بينهما ؛ لصيرورة الحكم على طبق ما هو الغالب منهما ، وهو ـ أي تحقق إحداهما ـ خلاف المفروض ؛ إذ الفرض : وجود الإرادة والكراهة المستقلتين اللتين هما تابعتان للمصلحة والمفسدة الملزمتين ، اللتين يكون اجتماعهما من اجتماع الضدين.

وبالجملة : ففي صورة الخطأ يلزم اجتماع الضدين في كل من الخطاب والملاك.

(١) إشارة إلى المحذور الخطابي.

(٢) إشارة إلى المحذور الملاكي.

(٣) عطف على قوله : «اجتماع المثلين» يعني : أن ما ذكرنا من اجتماع المثلين أو الضدين مبني على كون الحكم الواقعي الموافق لمؤدى الأمارة أو المخالف له محفوظا وباقيا على حاله.

وأما بناء على عدم محفوظا بل منقلبا إلى ما تؤدي إليه الأمارة ، فيلزم التصويب وانحصار الحكم في مؤديات الأمارات ، ومن المعلوم : أن التصويب إما محال وإما باطل كما قرر في محله.

قوله : «وأن لا يكون هناك ...» الخ تفسير للتصويب.

(٤) أي : ثاني الأمور المترتبة على التعبد بغير العلم طلب الضدين ، وهو نظير قيام الأمارة على وجوب صلاة الجمعة ، مع كون الواجب الواقعي هو الظهر بعد فرض التضاد ـ ولو شرعا ـ بين الظهر والجمعة ، وطلب الضدين إما محال إن قلنا بسراية التضاد من

١٣٨

الواجب (١).

ثالثها (٢) : تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة فيما (٣) أدى إلى عدم وجوب ما هو واجب ، أو عدم حرمة ما هو حرام ، وكونه (٤) محكوما بسائر الأحكام.

______________________________________________________

المطلوب إلى نفس الطلب ، فلا يمكن انقداح الإرادتين المتعلقتين بالمتضادين في نفس المولى ، فهو من قبيل اجتماع الإرادة والكراهة.

وإن قلنا بعدم السراية ـ كما قيل ـ كان قبيحا بالعرض ؛ لعدم قدرة العبد على الانبعاث عنهما.

وإن شئت فقل : إن طلب الضدين يكون من باب التزاحم لا التعارض على ما تقرر في محله من ضابط التعارض والتزاحم.

وقد ظهر من هذا البيان : الفرق بين هذا الوجه وسابقه ، حيث إن متعلق التكليف في هذا الوجه متعدد كصلاتي الظهر والجمعة. بخلاف الوجه الأول ، فإن المتعلق فيه واحد كاجتماع الوجوب والحرمة على فعل واحد ، كما إذا فرض حرمة شرب التتن واقعا ، وقامت الأمارة على حليته.

(١) كما إذا قامت الأمارة أو الأصل العملي على وجوب صلاة الجمعة ، وقد أخطأت الأمارة أو خالف الأصل مع الواقع ، وكان الواجب واقعا الظهر لزم وجوب الضدين شرعا أحدهما : ظاهري والآخر : واقعي ؛ إذ ليس الواجب إلا أحدهما.

(٢) أي : ثالث الأمور اللازمة من التعبد بغير العلم هو فوات المصلحة ، أو الإلقاء في المفسدة. والأول : كما إذا أدت الأمارة إلى عدم وجوب صلاة الجمعة يومها مع فرض وجوبها واقعا ، فلزم من جعل هذه الأمارة المخطئة تفويت المصلحة على المكلف ، فإن التعبد بها حينئذ موجب لفوات مصلحة الوجوب عن المكلف. والثاني ـ وهو الوقوع في المفسدة ـ : فيما إذا أدت الأمارة إلى عدم حرمتها في زمان الغيبة ، وكانت في الواقع حراما ، فلزم من جعل هذه الأمارة المخطئة إلقاء المكلف في المفسدة ، وكل منهما باطل قبيح يمتنع صدوره عن الحكيم ولو عرضا لا ذاتا ؛ لمنافاته لحكمته. فهذا المحذور الملاكي وإن لم يكن بمحال كاجتماع الضدين ؛ إلا إنه قبيح على الحكيم كما عرفت.

(٣) أي : فيما إذا أدت الأمارة إلى عدم وجوب ما هو واجب. هذا إشارة إلى مثال تفويت المصلحة ، كما أن قوله : «أو عدم حرمة ما هو حرام» إشارة إلى مثال الإلقاء في المفسدة.

(٤) أي : كون مؤدى الأمارة يعني : أن الأمارة لم تؤدي إلى وجوب ما هو واجب

١٣٩

والجواب (١) : أن ما ادّعي لزومه إما غير لازم أو غير باطل ؛ وذلك لأن التعبد بطريق غير علمي إنما هو بجعل حجيته ، والحجية المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفية بحسب ما أدى إليه الطريق ؛ بل إنما تكون موجبة لتنجز التكليف به إذا أصاب ، وصحة الاعتذار به إذا أخطأ ، ولكون مخالفته وموافقته تجريا وانقيادا ، مع

______________________________________________________

واقعا ، أو إلى حرمة ما هو حرام كذلك ؛ بل أدت إلى كون مؤداها محكوما بسائر الأحكام كما عرفت في المثالين المذكورين. والأولى أن يقول هكذا : «وكونه محكوما بغير الوجوب أو الحرمة من سائر الأحكام».

(١) وهناك أجوبة كثيرة ؛ لكن نكتفي بما أجاب به المصنف رعاية للاختصار.

وما أجاب به المصنف هو بين ما لا يلزم ؛ وإن كان باطلا ، وبين ما ليس بباطل وإن كان لازما ، فاللازم منه غير باطل ، والباطل منه غير لازم.

أما الباطل الغير اللازم : فهو اجتماع المثلين أو الضدين. وأما اللازم الغير الباطل : فهو تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة. هذا مجمل الكلام في الجواب.

وأما توضيح ذلك : فلأن ما أفاده المصنف في الجواب عن المحاذير المتقدمة إما راجع على منع الصغرى وهي لزوم ما ادّعي لزومه ؛ كاجتماع المثلين أو الضدين ، وإليه أشار بقوله ـ «إن ما ادّعي لزومه إما غير لازم» وإما راجع على منع الكبرى ـ وهي بطلان اللازم ـ وإليه أشار بقوله : «أو غير باطل».

وأما منع الصغرى : فلأن الحجية من الاعتبارات القابلة للجعل كالملكية والزوجية ونحوهما ، ومعنى جعلها ترتيب آثار الحجية الذاتية ـ وهي العلم ـ من التنجيز والتعذير على الأمارة غير العلمية التي صارت حجة بالتعبد ، وليس معنى جعل الحجية جعل الحكم التكليفي لمؤدى الأمارة ، حتى يلزم اجتماع المثلين عند الإصابة أو الضدين عند المخالفة بمعنى : أنه إذا قام خبر الواحد على وجوب صلاة الجمعة كان معنى حجيته تنجيز الواقع عند الإصابة ، وتعذير المكلف عند المخالفة لا أن معنى حجيته وجوب صلاة الجمعة حتى يلزم اجتماع المثلين فيما إذا كانت واجبة واقعا ، أو الضدين فيما إذا لم تكن واجبة واقعا.

وعليه : فليس في مورد الأمارة المعتبرة حكم غير الحكم الواقعي حتى يلزم اجتماع المثلين في صورة توافقهما ، أو اجتماع الضدين في صورة تخالفهما.

ومن هنا ظهر : عدم لزوم التصويب أيضا ؛ إذ لزومه يتوقف على ثبوت أمرين : أحدهما : كون مؤدى الأمارة حكما مجعولا.

١٤٠