دروس في الكفاية - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٧

المنقول إليه بما أخبر (١) به لو علم به ، ومن حيث السبب يثبت به كل مقدار كان إخباره بالتواتر دالا عليه ، كما إذا أخبر به على التفصيل ، فربما لا يكون إلا دون حد التواتر (٢) ، فلا بد في معاملته معه معاملته من لحوق مقدارا آخر من الأخبار يبلغ المجموع ذاك الحدّ.

نعم (٣) ؛ لو كان هناك أثر للخبر المتواتر في الجملة ـ ولو عند المخبر ـ لوجب ترتيبه

______________________________________________________

وكان الحد المعتبر في تحقق التواتر عند المنقول إليه إخبار عشرة أشخاص أيضا ؛ كان ما نقله الناقل سببا تاما فهو حجة ، ولو فرض في المثال : أن الحد المعتبر عند المنقول إليه في تحقق التواتر خمسة عشر شخصا كان ما نقله الناقل سببا ناقصا ، فلا يكون حجة ؛ بل لا بد من ضم إخبار خمسة أشخاص آخرين إليه ؛ ليتحقق السبب التام عند المنقول إليه ، ويحصل له العلم بالمسبب.

(١) بصيغة المجهول. ونائب الفاعل ضمير راجع على المنقول إليه ، والمراد بالموصول : المسبب ، وضمير «به» في «لو علم به» راجع على المقدار ، يعني : لو علم المنقول إليه بذلك المقدار الذي نقل إليه ، وكان كافيا في حصول القطع برأي الإمام «عليه‌السلام» ، فهذا التواتر حجة ، وإن لم يكن ذلك المقدار الذي أخبر به الناقل كافيا في حصول القطع بالمسبب ؛ لو علم به المنقول إليه : لم يكن هذا التواتر حجة ؛ بل لا بد من ضم ما يتم به السبب التام إليه.

(٢) عند المنقول إليه ؛ كما لو كان الناقل يعتقد حصول التواتر بإخبار عشرة أشخاص ، والمنقول إليه لا يرى حصول التواتر بأقل من العشرين ، «فلا بد من معاملته» أي المنقول إليه «معه» أي : مع المقدار المنقول بعنوان التواتر ، وهو دون حد التواتر عنده «معاملته» أي : الخبر المنقول تفصيلا من ضم ولحوق مقدار آخر من الأخبار ، حتى يبلغ المجموع حد التواتر الموجب للعلم ؛ بأن ضم إلى المنقول الذي يكون مرآة لإخبار عشرة أشخاص إخبار عشرة آخرين ، حتى يفيد العلم عند المنقول إليه.

(٣) استدراك على ما ذكره من عدم ثبوت التواتر ، وعدم ترتب الأثر عليه إذا كان نقل الأخبار إجمالا دون حد التواتر عند المنقول إليه.

وحاصله : أنه إذا فرض أن أثرا شرعيا مترتب على التواتر في الجملة ، أي : ولو عند الناقل ، وجب ترتيب هذا الأثر الشرعي على هذا المتواتر ؛ إذ المفروض : كونه متواترا عند الناقل ؛ وإن لم يكن متواترا عند المنقول إليه.

٢٤١

عليه (١) ؛ ولو لم يدل على ما بحدّ التواتر من (٢) المقدار.

______________________________________________________

(١) أي : لوجب ترتيب الأثر على الخبر المتواتر في الجملة.

(٢) بيان للموصول في قوله : «ما بحد التواتر» يعني : ولو لم يدل هذا المقدار المنقول على المقدار المعتبر في التواتر عند المنقول إليه ؛ كما إذا فرض أن حد التواتر عند الناقل إخبار عشرة أشخاص ، وعند المنقول إليه إخبار عشرين شخصا.

وهناك كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ بيان محل الكلام في الإجماع : يتوقف على مقدمة وهي : إن الإجماع على قسمين :

١ ـ المحصل. ٢ ـ المنقول.

ثم المنقول على أقسام : المنقول بالتواتر ، والمنقول بخبر الواحد المقرون بالقرينة على الصدق ، والمنقول بخبر الواحد المجرد عن القرينة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن محل الكلام هو الإجماع المنقول بخبر الواحد المجرد عن القرينة ، ثم المناط في حجية الإجماع عند الإمامية هو : قول المعصوم «عليه‌السلام» ، ولما كان الإجماع كاشفا عنه كان حجة ؛ لكونه حينئذ من مصاديق خبر الواحد الحاكي عن قول المعصوم «عليه‌السلام».

٢ ـ أقسام الإجماع : باعتبار كونه كاشفا عن قول المعصوم «عليه‌السلام» :

الأول : الإجماع الدخولي ؛ بأن يعلم بدخول الإمام في المجمعين ؛ وإن لم يعرف بعينه وشخصه.

الثاني : الإجماع اللطفي ، المبني على قاعدة اللطف ، التي يستكشف بها قول المعصوم «عليه‌السلام» ؛ إذ لو كان الإجماع مخالفا للواقع لكان على الإمام إظهار الحق ؛ ولو بإلقاء الخلاف بينهم.

الثالث : الإجماع الحدسي ، وهو العلم بقول الإمام من طريق الحدس.

الرابع : الإجماع التشرّفي ، وهو تشرّف بعض الأكابر بمحضر الإمام في زمان الغيبة ، ذلك بأن يأخذ منه بعض المسائل المشكلة ثم ينقلها بعنوان الإجماع خوفا من التكذيب ، وقد أشار المصنف إلى هذه الأقسام في المتن.

٣ ـ اختلاف الألفاظ الحاكية للإجماع : لأن نقل الإجماع قد يكون بلفظ ظاهر في

٢٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

نقل السبب والمسبب معا ؛ كما إذا قال ناقل الإجماع : أجمع المسلمون عامة ، مما ظاهره إرادة الإمام «عليه‌السلام» معهم ، وقد اشتهر هذا القسم بنقل السبب والمسبب.

وقد يكون لفظ الإجماع ظاهرا في نقل السبب فقط ؛ كما إذا قال ناقل الإجماع :

أجمع علماؤنا أو أصحابنا أو نحوهما مما ظاهره من عدا الإمام «عليه‌السلام» ، ولكل من هذين القسمين أقسام ثلاثة تأتي الإشارة إليها في كلام المصنف «قدس‌سره».

٤ ـ في بيان ما هو الحجة من أقسام الإجماع المنقول بأدلة حجية خبر الواحد ، نظرا إلى كونه من أفراده ومصاديقه ، فتشمله أدلة اعتباره.

وملخص الكلام في المقام : إن نقل الإجماع باعتبار كل من السبب والمسبب معا أو السبب فقط على أقسام :

الأول : أن ناقل الإجماع ينقل السبب والمسبب جميعا عن حسّ ؛ كالإجماع الدخولي ، وهذا القسم حجة نظرا إلى كونه من مصاديق خبر الواحد.

الثاني : ينقل السبب والمسبب جميعا ؛ ولكن المسبب ليس عن حس ؛ بل بملازمة ثابتة عند الناقل والمنقول إليه جميعا. وهذا القسم أيضا حجة.

الثالث : ينقل السبب والمسبب جميعا ، والمسبب ليس عن حس ؛ بل بملازمة ثابتة عند الناقل دون المنقول إليه ، وهذا القسم اعتباره محل إشكال بل منع ؛ لأنه إخبار عن حدس ، فلا تشمله أدلة حجية خبر الواحد.

الرابع : ينقل السبب فقط عن حسّ ، وكان السبب تاما بنظر الناقل والمنقول إليه جميعا ، وهذا القسم حجة كالقسمين الأوليين.

الخامس : ينقل السبب فقط عن حسّ ، ولكن ليس تاما بنظر المنقول إليه. وحكم هذا القسم أن يضم المنقول إليه ما يتم به السبب إليه حتى يترتب على المجموع لازمه العادي ، وهو قول الإمام «عليه‌السلام».

السادس : ينقل السبب فقط ؛ لكن كان نقله عن حدس ، وحكم هذا القسم : أن يؤخذ بالمتيقن من هذا القسم ، وهو اتفاق مشاهير الفقهاء ، ثم يضم إليه ما بقى من أقوال العلماء ؛ ليتم به السبب ، ويحكم بثبوت اللازم وهو قول الإمام «عليه‌السلام».

فالمتحصل من الجميع : إنه لو دل لفظ الإجماع على اتفاق : يكون تمام السبب لقول الإمام «عليه‌السلام» أخذ به ؛ وإلا فيضم إليه مما حصله المنقول إليه مقدارا يوجب سببيته للكشف عن رأي الإمام.

٢٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

٥ ـ تلخص مما ذكرناه أمران :

أحدهما : أن الإجماع المنقول من حيث حكايته عن رأي الإمام «عليه‌السلام» تضمنا أو التزاما يكون حجة ؛ كخبر الواحد ، بشرط أن يكون المنقول إليه ممن يرى الملازمة بين رأيه «عليه‌السلام» وبين ما نقله الناقل من الأقوال إجمالا ، فأدلة حجية خبر الواحد تشمل الإجماع المنقول في هاتين الصورتين ، فينقسم بأقسام خبر الواحد من الصحيح والحسن والموثق والمسند والمرسل.

وثانيهما : نقل الإجماع وحكايته من حيث السبب يكون مثل نقل الأقوال تفصيلا في الاعتبار والحجية ، فإن كان سببا تاما ـ ولو مع ما ينضم إليه من الأقوال والأمارات ـ كان المجموع كالمحصل في الحجية ؛ وإلا فلا يكون حجة.

٦ ـ بطلان الطرق المتقدمة لاستكشاف قول الإمام «عليه‌السلام» أعني : قاعدة اللطف ، الحدس ، الدخول ، التشرف.

أما بطلان قاعدة اللطف : فلأن القاعدة مختصة بالأمور الاعتقادية ، ولا تجري في الأحكام الفرعية.

وأما بطلان الحدس : فلأن الملازمة الاتفاقية الناشئة عن الحدس غير مسلمة.

وأما الإجماع الدخولي والتشرفي : فبطلانهما واضح ؛ إذ كل منهما نادر بل معدوم ، ومجرد احتمالهما لا يجدي في حجية الإجماع ؛ لعدم كشفه عن رأي الإمام «عليه‌السلام».

٧ ـ في تعارض الإجماعات المنقولة : كما إذا قام إجماع على وجوب شيء ، وإجماع آخر على استحباب ذلك الشيء ، وإجماع ثالث على إباحته ، فهذه الإجماعات متعارضة من جهة تضاد متعلقاتها ، وفي الحقيقة يكون التعارض في المسبب دون السبب ؛ لأن التعارض هو تنافي مدلولي الدليلين ثبوتا ؛ بحيث لا يمكن اجتماعهما في نفس الأمر ؛ كوجوب صلاة الجمعة وحرمتها ؛ إذ لا يمكن تعدد رأيه «عليه‌السلام» في واقعة واحدة.

وأما بحسب السبب : فلا تعارض في البين ؛ لاحتمال صدق كلا النقلين ، فلا يتحقق التعارض بين النقلين.

٨ ـ في نقل التواتر :

وحاصل الكلام في المقام : أن الحديث في نقل التواتر كالحديث في نقل الإجماع

٢٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

في عدم كونه مشمولا لأدلة حجية خبر الواحد من حيث المسبب ؛ لأنه نقل قول المعصوم عن حدس.

وأما من حيث السبب : فإنه حجة بالمقدار الذي يدل عليه نقل التواتر ، من كونه تمام السبب أو جزئه ، فينضم إليه ما يتم به السبب عند المنقول إليه.

نعم ؛ لو كان الأثر الشرعي أثرا للتواتر في الجملة لكان مترتبا على مطلق التواتر ؛ ولو عند الناقل.

٩ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ عدم حجية الإجماع المنقول بخبر الواحد ؛ لبطلان الطرق التي يستكشف بها قول الإمام «عليه‌السلام».

٢ ـ عدم ثبوت التواتر بنقل التواتر.

٢٤٥
٢٤٦

فصل

مما قيل باعتباره بالخصوص (١) : الشهرة في الفتوى ، ولا يساعده دليل.

وتوهم (٢) دلالة أدلة حجية خبر الواحد عليه بالفحوى ؛ لكون الظن الذي تفيده

______________________________________________________

في الشهرة الفتوائية

(١) أي : بعنوانه الخاص ؛ لا باعتبار كونه مفيدا للظن.

وقبل الخوض في البحث لا بد من بيان وتحرير ما هو محل الكلام في المقام ، وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : إن الشهرة على أقسام :

الأول : الشهرة بحسب اللغة والعرف تكون بمعنى الظهور والبروز ، كما يقال : شهر فلان سيفه.

الثاني : الهرة العملية ، كعمل كثير من الفقهاء برواية من الروايات.

الثالث : الشهرة في الرواية ؛ بأن تكون الرواية مشهورة بين الأصحاب ، المبحوث عنها في باب الترجيح.

الرابع : الشهرة في الفتوى أعني : اشتهار الفتوى بحكم بين الفقهاء.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن المراد بالشهرة في المقام هي الشهرة في الفتوى ؛ لا الشهرة في الرواية ، ولا الشهرة العملية ، ولا اللغوية. والمقصود من حجيتها : حجيتها بعنوانها الخاص بدليل خاص ؛ لا بدليل الانسداد.

ثم البحث عن حجية الشهرة إنما هو في طول البحث عن حجية الإجماع بخبر الواحد ؛ إذ مع نفي حجية الإجماع لا مجال للالتزام بحجية الشهرة ؛ لأن الشهرة هي اتفاق الجل ، والإجماع هو اتفاق الكل ، فلا مجال لحجية اتفاق الجل ، مع عدم حجية اتفاق الكل.

(٢) وقد استدل المتوهم على حجية الشهرة في الفتوى بأمرين :

الأول : الأولوية ، وهي ما أشار إليه بقوله : «بالفحوى».

الثاني : الرواية ، وهي ما أشار إليه بقوله : «دلالة المشهورة ...» الخ.

أما توضيح الأمر الأول فيتوقف على مقدمة وهي : أن الظن الحاصل من الشهرة أقوى

٢٤٧

أقوى مما يفيده الخبر فيه (١) ما لا يخفى ، ضرورة : عدم دلالتها على كون مناط اعتباره

______________________________________________________

من الظن الحاصل من الخبر ، هذا أولا. وثانيا : أن مناط حجية الخبر هو الظن.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن أدلة حجية خبر الواحد تدل بالأولوية على اعتبار الشهرة ؛ لما عرفت من : أن الظن الحاصل منها أقوى من الظن الحاصل منه ، فتكون هي أولى بالاعتبار منه.

(١) خبر لقوله : «وتوهم» ، ودفع له. وتوضيحه يتوقف على مقدمة وهي : أن الاستدلال بالأولوية المذكورة موقوف على أمور :

منها : أن يكون المناط لحجية خبر الواحد هو الظن.

ومنها : أنه لا بد من القطع بأن مناط اعتبار خبر الواحد هو الظن ، ولا يكفي الظن بكون مناط الحجية هو الظن.

ومنها : أن يكون الظن الحاصل من الشهرة أقوى من الظن الحاصل من الخبر.

ومنها : أن يكون هذا المناط علّة للجعل لا حكمة له ؛ إذ لو كان حكمة له لم يتعد منه إلى غيره ؛ لما قيل : من عدم اطّراد الحكمة ، بخلاف العلة ، فإن الحكم يدور مدارها وجودا وعدما. فإذا انتفى أحد هذه الأمور ينتفى الحكم بحجية الشهرة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الاستدلال المذكور غير صحيح ؛ وذلك لانتفاء الأمرين من الأمور المذكورة وهما الأمر الأول والثاني.

أما انتفاء الأمر الأول ـ وهو كون مناط الحجية في خبر الواحد هو الظن ـ فحاصله : منع كون مناط الحجية هو الظن ؛ بل يمكن أن يكون اعتباره من باب التعبد فقط أو الظن النوعي دون الظن الفعلي ؛ إذ لم يحصل القطع بأن المناط في اعتبار الخبر هو الظن ، فأدلة اعتبار خبر الواحد لا دلالة لها على أن المناط في حجيته ذلك ، فلا بد من استنباط هذه العلة من الخارج ، كما أشار إليه بقوله : «غايته تنقيح ذلك بالظن» أي : غاية الأمر : تنقيح المناط بالظن ، فتنقيح المناط ظني بمعنى : إنّا نظن أن وجه اعتبار خبر الواحد حصول الظن الفعلي منه ، «وهو» أي : هذا التنقيح الظني «لا يوجب إلا الظن بأنها» أي : الشهرة «أولى بالاعتبار» من خبر الواحد ، «ولا اعتبار به» أي : ولا اعتبار بالظن بالأولوية ؛ بل لا بد من القطع بالأولوية ، فإن الظن لا يغني من الحق شيئا ، فالنتيجة : أنه لا اعتبار بهذا المناط المظنون.

هذا تمام الكلام في انتفاء الأمر الأول.

٢٤٨

إفادته الظن ، غايته تنقيح ذلك بالظن ، وهو لا يوجب إلا الظن بأنها أولى بالاعتبار ، ولا اعتبار به ، مع أن دعوى القطع بأنه ليس بمناط غير مجازفة (١).

______________________________________________________

(١) إشارة على انتفاء الأمر الثاني ـ وهو القطع بأن مناط اعتبار الخبر هو الظن.

وحاصل الكلام : إنّا نقطع بعدم كون مناط اعتبار الخبر هو الظن ؛ إذ لو كان المناط الظن لزم دوران الحجية مداره ، وليس الأمر كذلك ، وذلك لحصول الظن من غير الخبر أيضا ؛ كفتوى الفقيه الموجبة لظن فقيه آخر بالحكم الشرعي ، مع أنها ليست حجة عليه حتى لتكون سندا له على الحكم الشرعي ، وكعدم حصول الظن من الخبر أحيانا ، مع كونه حجة.

والانفكاك بين الظن والحجية كاشف عن عدم كون مناط اعتبار الخبر هو الظن.

قوله : «غير مجازفة» خبر «دعوى». ووجه عدم المجازفة : ما عرفته من تخلف الحجية عن الظن. هذا تمام الكلام في الجواب عن الدليل الأول للقائل بحجية الشهرة.

وقد أشار إلى الوجه الثاني ـ وهو الاستدلال بالرواية ـ بقوله : «وأضعف منه توهم دلالة المشهورة والمقبولة عليه» ، يعني : وأضعف من الوجه الأول ـ وهو الاستدلال بالأولوية ـ توهم دلالة الرواية على اعتبار الشهرة في الفتوى.

فلا بد أولا : من تقريب الاستدلال بالرواية على حجية الشهرة ، وثانيا : من الجواب عنه.

فنقول : إن هناك روايتين استدل بهما على حجية الشهرة.

الأولى : المشهورة. والثانية : المقبولة.

أما الرواية الأولى : فهي المروية في غوالي اللآلئ عن العلامة ، مرفوعة إلى زرارة قال : «سألت أبا جعفر «عليه‌السلام» فقلت : جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ؟ قال «عليه‌السلام» : «خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر ...» (١) الحديث.

وتقريب الاستدلال بها يتوقف على مقدمة : وهي أن المراد بالموصول وهو «ما» في «خذ بما اشتهر» مطلق المشهور ، سواء كان في الرواية كما هو مورد الرواية ، أو في الفتوى ، ولازم هذا التعميم في الموصول : هو وجوب الأخذ بكل شيء مشهور.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن معنى الرواية حينئذ هو : خذ بكل شيء مشهور بين أصحابك ، ومن المعلوم : أن الشهرة في الفتوى من مصاديق الشيء المشهور ، فيجب الأخذ بها ، وهو المطلوب.

__________________

(١) عوالي اللآلي ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩ ، بحار الأنوار ٢ : ٢٤٥ / ٥٧.

٢٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وأما الرواية الثانية : فهي الرواية المقبولة التي تلقاها الأصحاب بالقبول ، وهي ما رواه المشايخ الثلاثة ، عن عمر بن حنظلة ، الواردة في الروايتين المتعارضتين ، قال «عليه‌السلام» : ـ بعد فرض السائل تساوي الراويين في العدالة ـ «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به ، المجمع عليه بين أصحابك ، فيؤخذ به ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإن المجمع عليه لا ريب فيه ...» الحديث.

والاستدلال بهذه الرواية الواردة في تعارض القضاءين ، الناشئ عن تعارض الروايتين على حجية الشهرة في الفتوى يحتاج إلى بيان أمور :

منها : فرض إحدى الروايتين اللتين استند إليهما الحاكمان المتعارضان في الحكم مشهورة ، والأخرى شاذة.

ومنها : إثبات كون المراد من المجمع عليه المذكور في الموضعين من المقبولة هو المشهور ؛ لا الإجماع الحقيقي.

ومنها : بيان ما يدل على أن المراد من المجمع عليه في الموضعين هو المشهور ؛ لا الإجماع الاصطلاحي.

إذا عرفت هذه الأمور فاعلم : أن الأمر الأول يكون ثابتا حيث قال الإمام «عليه‌السلام» : «فيؤخذ به ، ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور» ، ففرض الإمام «عليه‌السلام» إحدى الروايتين مجمعا عليها ومشهورة ، ثم حكم بوجوب الأخذ بها وترك ما ليس كذلك.

ثم الأمر الثاني ـ أيضا ـ يكون ثابتا ؛ لأن المراد من المجمع عليه في الموضعين : هو المشهور ؛ لا المجمع عليه الحقيقي حتى لا يرتبط بالمقام.

وأما الأمر الثالث ـ وهو بيان الدليل والشاهد على كون المراد من المجمع عليه هو المشهور ؛ لا المجمع عليه الاصطلاحي ـ فنقول : هناك شاهدان على أن المراد بالمجمع عليه هو المشهور.

الشاهد الأول : هو إطلاق المشهور على المجمع عليه ، حيث قال «عليه‌السلام» : «ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور» ، فسلب الشهرة عما يكون مقابلا للمجمع عليه ـ وهو الشاذ ـ يكون أقوى شاهد على أن المراد منه هو المشهور ؛ وإلا كان المناسب أن يقول : ويترك الشاذ الذي ليس بمجمع عليه.

الشاهد الثاني : هو المستفاد من مفهوم التعليل ، حيث علل الإمام «عليه‌السلام»

٢٥٠

وأضعف منه : توهّم دلالة المشهورة والمقبولة عليه ؛ لوضوح (١) : أن المراد بالموصول

______________________________________________________

الحكم بوجوب الأخذ بالمجمع عليه بقوله : «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» ، فيكون مفهومه : ثبوت الريب في مقابله أعني : الشاذ.

ومن المعلوم : أن ما فيه ريب يكون مقابلا للمشهور ؛ لا المجمع عليه الحقيقي ؛ لأن مقابله مما لا ريب في بطلانه أصلا ؛ إذ الإجماع يكون مقطوع الصحة ، فيكون مقابله مقطوع البطلان. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال بالرواية على حجية الشهرة.

(١) تعليل لقوله : «وأضعف منه» ، وجواب عن الاستدلال بالرواية على حجية الشهرة الفتوائية.

وحاصل الجواب عن الاستدلال بالروايتين هو : منع الإطلاق فيهما ؛ لأن المراد بالمشهور والمجمع عليه في المرفوعة والمقبولة : هو خصوص الرواية. وذلك لوجهين :

أحدهما : مشترك بينهما والآخر : مختص بكل واحد منهما.

وأما الوجه المشترك فهو : التبادر الناشئ عن السؤال عن حكم تعارض الخبرين والروايتين ، فيكون المراد من الجواب : ما هو المشهور من الرواية ، بقرينة السؤال ؛ ليكون الجواب مطابقا للسؤال ، كما هو الظاهر من قولك : «ما كان الاجتماع فيه أكثر» جوابا عن السؤال «بأي المسجدين أحب إليك؟».

فالسؤال عن حكم تعارض الروايتين في المرفوعة والمقبولة قرينة على أن المراد من الشهرة في الروايتين هو خصوص الرواية المشهورة ؛ لا كل مشهور.

وأما الوجه المختص بالمرفوعة فهو فرض السائل الشهرة في كلا الخبرين ، حيث قال : «يا سيدي إنهما مشهوران». ومن المعلوم : أن الشهرة في الفتوى لا يعقل تحققها في طرفي المسألة.

وأما الشهرة في الرواية : فهي مما يمكن اتصاف الروايتين المتعارضتين بها ؛ لأن المراد منها فيها : هو اتفاق المحدثين جميعا أو أكثر على تدوين الرواية في كتب الأحاديث ، فلا مانع من تحقق الشهرة في كلتا الروايتين المتعارضتين ، بمعنى : تدوينهم إياهما في كتب الأحاديث.

وكيف كان ؛ ففرض السائل الشهرة في الطرفين يكون شاهدا على أن المراد من المشهور هو خصوص الشهرة في الرواية ، فلا ترتبط بالمقام أصلا.

وأما الوجه المختص بالمقبولة : فللتصريح بذلك بقوله «عليه‌السلام» : «من روايتهم

٢٥١

في قوله : في الأولى : «خذ بما اشتهر بين أصحابك» ، وفي الثانية : «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به ، المجمع عليه بين أصحابك ، فيؤخذ به» هو الرواية لا ما يعم الفتوى ، كما هو أوضح من أن يخفى.

نعم (١) ؛ بناء على حجية الخبر ببناء العقلاء ، لا يبعد دعوى عدم اختصاص بنائهم على حجيته ؛ بل على حجية كل أمارة مفيدة للظن أو الاطمئنان ؛ لكن دون إثبات ذلك (٢) خرط القتاد.

______________________________________________________

عنا» ، فهذا المقطع من الرواية صريح بأن المراد بالمجمع عليه بأي معنى كان هو خصوص الرواية.

فالمتبادر من قوله «عليه‌السلام» : «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» هو الرواية التي تكون معروفة بين الأصحاب ، ويترك ما لا يعرفه إلا الشاذ.

وأما وجه أضعفية التمسك بالروايتين من التمسك بالأولوية ـ بناء على أن مورد الاستدلال فيهما هو إطلاق الموصول ـ فواضح ؛ إذ مناط الاستدلال حينئذ : هو جعل الموصول كل مشهور وهو خارج عن طريقة أبناء المحاورة في الاستظهار ؛ لما عرفت : من وجود قرينة على أن المراد بالموصول هو خصوص الرواية.

وهذا بخلاف الفحوى ومفهوم الموافقة ؛ إذ حجية المفهوم الموافق مما لا كلام فيه ، غاية الأمر : منع إناطة حجية الخبر بالظن.

(١) هذا استدراك على ما تقدم من توهم الاستدلال بفحوى أدلة حجية الخبر على اعتبار الشهرة الفتوائية.

وتوضيحه : أنه ـ بناء على أن يستند في حجية خبر الواحد إلى بناء العقلاء ـ لا تبعد دعوى حجية الشهرة وغيرها ، وعدم اختصاص بنائهم على اعتبار خبر الواحد ، حيث إن منشأ حجية الخبر عندهم هو إحراز الواقع الذي تعلق غرضهم بحفظه ، ومن المعلوم : أن ملاك التحفظ على الواقع لا يختص بإحرازه بالخبر ؛ بل هو موجود في كل ما يكون طريقا إليه من الظن بجميع مراتبه ، أو خصوص الاطمئناني منه.

فكل ما يوجب إحراز الواقع ـ ولو ظنا ـ يكون حجة ، فمرجع هذا الوجه إلى دعوى الملازمة بين حجية الخبر ببناء العقلاء ، وبين حجية الشهرة وغيرها مما يوجب الوصول إلى الواقع مطلقا ، خبرا كان أو شهرة أو غيرهما ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٤٠٢» مع تصرف منا.

(٢) يعني : دون إثبات عدم اختصاص بناء العقلاء على الحجية بالخبر خرط القتاد.

٢٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وبعبارة أخرى : إثبات عموم بناء العقلاء لكل أمارة ظنية أصعب من خرط القتاد.

فالمتحصل من الجميع : أن وجه حجية الشهرة أحد الأمور المذكورة ؛ ولكن شيئا منها لا يصلح للاستناد إليه ؛ لما عرفت : من المناقشة والإشكال في الجميع.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص في أمور :

١ ـ المقصود من الشهرة المبحوث عنها : هي الشهرة الفتوائية أعني : اشتهار الفتوى بحكم بين الفقهاء ؛ لا الشهرة الروائية ، التي هي اشتهار الرواية بين الأصحاب المبحوث عنها في باب الترجيح.

٢ ـ فقد توهم اعتبار الشهرة واستدل على حجيتها بوجوه :

الأول : دلالة أدلة حجية خبر الواحد على حجيتها بالفحوى ؛ إذ ملاك حجية الخبر ـ وهو الظن ـ موجود في الشهرة بنحو أقوى.

الثاني : مرفوعة زرارة حيث قال : قلت : جعلت فداك يأتي منكم الخبران المتعارضان فبأيهما نعمل؟ قال «عليه‌السلام» : «خذ بما اشتهر بين أصحابك» ، فإن مقتضى عموم الموصول : لزوم الأخذ بكل مشهور خبرا كان أو فتوى.

الثالث : مقبولة ابن حنظلة حيث جاء فيها : «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك ، فيؤخذ به ، ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإن المجمع عليه لا ريب فيه» ، تمسكا بعموم التعليل ، بضميمة أن المراد بالمجمع عليه هو المشهور لإطلاق المشهور عليه ، ولازم ذلك : هو الأخذ بمطلق المشهور.

٣ ـ الجواب عن هذه الوجوه :

فقد أجاب المصنف عن هذه الوجوه :

أما الوجه الأول : فقد أجاب المصنف عنه أولا بأنه لا دليل على كون ملاك حجية خبر الواحد هو الظن ، نعم ؛ ذلك مظنون ولا دليل على حجية مثل هذا الظن.

وثانيا : أنه يمكن القطع بعدم كون الملاك هو الظن ، ودعوى القطع على ذلك غير مجازفة ، لوضوح : أن كثيرا من الموارد التي يثبت كون الخبر فيها حجة لا يفيد الظن.

وأما الجواب عن الاستدلال بالمرفوعة : فلأن الظاهر كون المراد من الموصول في

٢٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

قوله : «خذ بما اشتهر» هو خصوص الرواية المشهورة لا مطلق المشهور. ومن هنا ظهر الجواب عن الاستدلال بالمقبولة ، حيث إن المراد بالمجمع عليه فيها بأي معنى كان هو خصوص الرواية.

رأي المصنف «قدس‌سره» :

هو عدم حجية الشهرة الفتوائية.

٢٥٤

فصل

المشهور بين الأصحاب : حجية خبر الواحد في الجملة (١) بالخصوص ، ولا يخفى :

______________________________________________________

في حجية خبر الواحد

(١) أي : بنحو الإيجاب الجزئي ، في مقابل السلب الكلي بدليل خاص في مقابل حجيته بدليل الانسداد.

وقبل الدخول في البحث لا بد من تحرير محل النزاع ، وتوضيح ذلك يتوقف على تقديم أمور من باب المقدمة :

الأول : أن المراد في خبر الواحد هو ما يكون مقابلا للمتواتر ، أعني : ما لا يفيد العلم بالمخبر به ذاتا ، ولا يكون مقطوع الصدور ، في مقابل ما يفيد العلم بالمخبر به ذاتا من جهة كثرة المخبرين ، فيكون مقطوع الصدور.

ثم الواحد وصف للراوي لا للخبر أي : ما يكون راويه واحدا ، فتعريف «خبر» باللام بأن يقال : الخبر الواحد المشعر بكون الواحد صفة للخبر يكون غلطا وغير صحيح ؛ لأن الخبر الواحد ـ حينئذ ـ يكون في مقابل الاثنين فزائدا ، لا في مقابل المتواتر ، الذي يكون راويه الكثير.

فالحاصل : أن المراد من خبر الواحد في مقابل المتواتر ، فخرج بقوله : ـ خبر الواحد ـ المتواتر.

الثاني : أن ما هو الخارج عن الأصل ـ أعني : عدم حجية الظن ـ هو خبر الواحد في الجملة ، أعني : على نحو موجبة جزئية ، في مقابل سالبة كلية. فالخارج عن الأصل هو صنف خاص ، وهو خبر العادل على قول ، وخبر الثقة على قول آخر ، وهكذا.

الثالث : أن البحث عن حجية خبر الواحد يكون من أهم المسائل الأصولية ؛ إذ غالب الأحكام وأجزاء العبادات وشرائطها إنما تثبت بأخبار الآحاد ، ثم دخول هذا البحث في علم الأصول واضح على قول المصنف ـ وهو عدم حصر موضوع علم الأصول بالأدلة الأربعة ـ وأما على القول بانحصاره فيها : فيشكل في كون البحث عن حجية خبر الواحد من المسائل الأصولية ؛ لأن البحث عن حجيته حينئذ : لم يكن عن أحوال الأدلة

٢٥٥

أن هذه المسألة من أهم المسائل الأصولية ، وقد عرفت في أوّل الكتاب (١) : أن الملاك في الأصولية : صحة وقوع نتيجة المسألة في طريق الاستنباط ، ولو لم يكن البحث فيها عن الأدلة الأربعة ؛ وإن اشتهر في ألسنة الفحول كون الموضوع في علم الأصول هي الأدلة.

______________________________________________________

الأربعة ؛ بل عن أحوال حاكي السنة وهو خبر الراوي ، كقول زرارة مثلا ، لا عن أحوال نفس السنة وهو قول المعصوم أو فعله أو تقريره.

إذا عرفت هذه الأمور من باب المقدمة فاعلم : أن محل النزاع هو البحث عن حجية خبر الواحد ، الذي يكون في مقابل المتواتر على نحو الإيجاب الجزئي ، في مقابل السلب الكلي بدليل خاص في مقابل حجيته بدليل الانسداد ، فتكون مسألة خبر الواحد من أهم المسائل الأصولية ؛ إذ الملاك في أصولية المسألة عند المصنف «قدس‌سره» صحة وقوع نتيجة البحث في طريق الاستنباط ؛ وإن لم يكن البحث فيها عن أحوال الأدلة الأربعة.

(١) أي : في بيان موضوع علم الأصول حيث قال : «إن موضوع علم الأصول هو الكلي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتتة ؛ لا خصوص الأدلة الأربعة بما هي أدلة ؛ بل ولا بما هي هي».

وتوضيح الكلام في المقام : يتوقف على مقدمة وهي : بيان منشأ الاختلاف في تعيين موضوع علم الأصول فنقول : إن منشأ الاختلاف في موضوع علم الأصول أنه لم يرد في بيان موضوع علم الأصول آية ولا رواية ، وما قيل في ذلك فروض وتصورات.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه قد وقع البحث والنزاع بين الأعلام في موضوع علم الأصول. فهناك أقوال :

الأول : أن موضوع علم الأصول هو : خصوص الأدلة الأربعة بما هي أدلة كما عليه المشهور ، واختاره المحقق القمي «قدس‌سره».

الثاني : أن موضوع علم الأصول هي : ذوات الأدلة الأربعة كما عليه صاحب الفصول.

الثالث : ما ذهب إليه المصنف «قدس‌سره» من عدم اختصاص موضوع علم الأصول بالأدلة الأربعة ؛ كي يجب أن تكون المسألة الأصولية باحثة عن أحوالها وعوارضها ؛ بل إنه الكلي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتتة ، والملاك في كون المسألة أصولية أن تقع نتيجتها في طريق الاستنباط ، والمراد بالاستنباط هو : استخراج الأحكام الكلية الفرعية من أدلتها المعهودة ، دون الأحكام الجزئية التي يستنبطها العامي من المسائل

٢٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الفرعية التي استنبطها الفقيه ؛ كحرمة شرب الخمر مثلا ، فإن العامي يستنبط حكم الخمر الشخصي من قول المجتهد : «كل خمر حرام».

وكيف كان ؛ فقد يرد على ما هو المشهور ـ من جعل موضوع علم الأصول خصوص الأدلة الأربعة بما هي أدلة ـ إشكالان ، وعلى ما ذهب إليه صاحب الفصول من أن موضوعه هي ذوات الأدلة الأربعة إشكال واحد.

أما الإشكال الأول على المشهور : فلأن دليلية الأدلة الأربعة على قول المشهور جزء الموضوع ؛ إذ المفروض : هو جعل موضوع علم الأصول هي الأدلة الأربعة بوصف كونها أدلة ، فالبحث عن حجية خبر الواحد معناه : هو البحث عن أنه دليل أم لا؟ أعني : هل الدليلية ثابتة له أم لا؟ وحيث إن وصف الدليلية جزء الموضوع حسب الفرض ، فالبحث عن وجود جزء الموضوع كالبحث عن وجود نفس الموضوع داخل في المبادئ لا في المسائل.

وقد أجاب صاحب الفصول عن هذا الإشكال بجعله موضوع علم الأصول ذوات الأدلة الأربعة ، فتندرج مسألة حجية خبر الواحد في المسائل الأصولية ؛ إذ الموضوع حينئذ : هو نفس خبر الواحد مثلا ، فيكون البحث عن حجيته بحثا عن عوارضه بمفاد «كان» الناقصة ، بمعنى : أن خبر الواحد الذي هو دليل من الأدلة الأربعة هل يكون حجة أم لا؟

وأما الإشكال الثاني على قول المشهور ـ وهو الإشكال على قول صاحب الفصول ـ فلأن البحث عن حجية خبر الواحد على ما هو مختار الفصول ، وعن دليلية خبر الواحد على ما هو المشهور ليس بحثا عن أحوال السنة وعوارضها لأنها عبارة عن قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، وخبر الواحد ـ على تقدير حجيته أو دليليته ـ يكون حاكيا عن السنة ، لا نفس السنة ، ومن المعلوم : أن الحاكي غير المحكي ، والبحث عن عوارض الحاكي ليس بحثا عن عوارض المحكي ، أعني : السنة التي هي من الأدلة الأربعة ، فلا يكون البحث عن حجية خبر الواحد من المسائل الأصولية.

وقد أشار إليه بقوله : «وأن الملاك في الأصولية صحة وقوع نتيجة المسألة في طريق الاستنباط ، ولو لم يكن البحث فيها عن الأدلة الأربعة» ، فيكون هذا الكلام من المصنف «قدس‌سره» تعريضا بمن جعل موضوع علم الأصول خصوص الأدلة الأربعة ، سواء كانت بما هي أدلة كما عليه المشهور ، أم ذواتها كما عليه صاحب الفصول.

٢٥٧

وعليه (١) : لا يكاد يفيد في ذلك ـ أي : كون هذه المسألة أصولية ـ تجشم دعوى

______________________________________________________

وحاصل التعريض : أنه بناء على جعل موضوعه خصوص الأدلة الأربعة يلزم خروج مسألة حجية خبر الواحد عن مسائل علم الأصول ـ كما عرفت ـ مع أنها من أهم مسائله ، فلا بد دفعا لهذا الإشكال من رفع اليد عما اشتهر من جعل الموضوع خصوص الأدلة الأربعة ، والبناء على كون الموضوع كليا منطبقا على موضوعات المسائل ، ومتحدا معها اتحاد الكلي مع أفراده ، فكل قضية لها دخل في الاستنباط يكون موضوعها متحدا مع موضوع علم الأصول ، وإن لم يعرف باسم مخصوص وعنوان خاص ، وبعد جعل الموضوع كليا منطبقا على موضوعات المسائل كما هو رأي المصنف «قدس‌سره» يندفع الإشكال عن مسألة حجية خبر الواحد ؛ إذ مسألة خبر الواحد حينئذ تكون من المسائل الأصولية ؛ إذ لها دخل في الاستنباط.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) أي : على ما هو المشهور من كون موضوع الأصول خصوص الأدلة الأربعة بما هي أدلة ؛ «لا يكاد يفيد في ذلك» أي : في كون هذه المسألة من المسائل الأصولية ما ارتكبه في الفصول من «تجشم دعوى أن البحث عن دليلية الدليل بحث عن أحوال الدليل».

وحاصل جواب الفصول عن الإشكال الوارد على قول المشهور : أن هذا الإشكال إنما يلزم إذا جعل موضوع علم الأصول الأدلة الأربعة بوصف كونها أدلة وليس كذلك ؛ بل البحث في هذا العلم عن ذوات الأدلة الأربعة ، حتى يكون البحث عن حجية خبر الواحد من هذه الأدلة الأربعة بحثا عن العوارض ، بمفاد «كان» الناقصة ، بمعنى : أن خبر الواحد الذي هو دليل من الأدلة الأربعة هل يكون حجة أم لا؟ فتندرج مسألة حجية خبر الواحد في المسائل الأصولية ؛ ولكن لا يفيد ما ارتكبه صاحب الفصول من التجشم في كون حجية خبر الواحد من المسائل الأصولية ؛ بل يرد عليه :

أولا : أنه خلاف ظاهر كلام العلماء ، حيث يجعلون الأدلة الأربعة بما هي أدلة ، لا بما هي هي ـ موضوع علم الأصول.

وثانيا : أنه جواب عن أحد الإشكالين على قول المشهور ـ وهو الإشكال الأول ـ ويبقى الإشكال الثاني على حاله.

وحاصل الإشكال الثاني : أن ما ارتكبه صاحب الفصول لإدراج مسألة حجية خبر الواحد في المسائل الأصولية بالتقريب المتقدم غير مفيد ؛ لما عرفت : من أنه بعد تسليم أن

٢٥٨

أن البحث عن دليلية الدليل بحث عن أحوال الدليل ، ضرورة (١) : إن البحث في

______________________________________________________

الموضوع ذوات الأدلة ليس البحث عن حجية خبر الواحد بحثا عن عوارض الأدلة الأربعة.

أما عدم كونه عن الثلاثة غير السنة : فواضح. وأما عدم كونه من السنة : فلما عرفت من أن السنة هي قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، وخبر الواحد على تقدير حجيته يكون حاكيا عن السنة ، فلا يكون البحث عن حجية خبر الواحد بحثا عن عوارض السنة ؛ كي تكون مسألة خبر الواحد من المسائل الأصولية.

(١) تعليل لقوله : «لا يكاد يفيد» ، وإيراد على الفصول. وقد تقدم توضيح الإيراد.

وبعد ما فرغ المصنف عن جواب صاحب الفصول ، وعن الإشكال عليه أشار إلى جواب الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» عن الإشكال الوارد على قول المشهور بقوله : «كما لا يفيد عليه» ـ أي : بناء على أن موضوع علم الأصول خصوص الأدلة الأربعة ـ ما ذكره الشيخ الأنصاري من «تجشم دعوى أن مرجع هذه المسألة ...» الخ ، فلا بد أولا : من بيان جواب الشيخ الأنصاري ، وثانيا : من بيان ما يرد عليه.

وأما جواب الشيخ الأنصاري عن الإشكال الوارد على قول المشهور : فحاصله : أنه بناء على مذهب المشهور لا يلزم خروج بحث حجية خبر الواحد عن المسائل الأصولية ، ودخوله في المبادئ ؛ لأن البحث عن حجية خبر الواحد حينئذ : بحث عن عوارض السنة ؛ إذ معنى «أن خبر الواحد حجة أم لا؟» أنه هل تثبت السنة ـ وهو قول المعصوم ، أو فعله ، أو تقريره ـ بخبر الواحد أم لا؟

ومن المعلوم : أن ثبوت السنة به وعدم ثبوتها من حالات السنة وعوارضها ، فيكون البحث عن حجية خبر الواحد بحثا أصوليا ، فلا يلزم ـ من جعل موضوع علم الأصول الأدلة الأربعة بما هي أدلة كما عليه المشهور ـ خروج مسألة حجية خبر الواحد عن مسائل علم الأصول ؛ إلا إن هذا التجشم كتجشم صاحب الفصول لا يفيد في دفع الإشكال عن قول المشهور.

وأما ما يرد على جواب الشيخ الأنصاري : فقد أشار إليه بقوله : «فإن التعبد بثبوتها» ، هذا تعليل لقوله : «كما لا يكاد يفيد ...» الخ ، وجواب عن مختار الشيخ الأنصاري في دفع الإشكال عن المشهور.

وكيف كان ؛ فقد أجاب المصنف عما أفاده الشيخ الأنصاري بوجهين :

الأول : ما أشار إليه بقوله : «فإن التعبد ...» الخ. والثاني : ما أشار إليه بقوله : «مع أنه لازم ...» الخ.

٢٥٩

المسألة ليس عن دليلية الدليل ؛ بل عن حجية الخبر الحاكي عنها ، كما لا يكاد يفيد عليه تجشم دعوى أن مرجع هذه المسألة إلى أن السنة ـ وهي قول الحجة أو فعله أو تقريره ـ هل تثبت بخبر الواحد ، أو لا تثبت إلا بما يفيد القطع من التواتر أو القرينة؟

فإن التعبد بثبوتها مع الشك فيها لدى الإخبار بها ليس من عوارضها ؛ بل من عوارض مشكوكها (١) ، كما لا يخفى.

مع أنه (٢) لازم لما يبحث عنه في المسألة من (٣) حجية الخبر ، والمبحوث عنه في

______________________________________________________

أما توضيح الوجه الأول : فإن ضابط المسألة الأصولية كغيرها ـ وهو ما يكون نفس محمول المسألة من عوارض موضوع العلم ؛ وإلا فلا يكون من مسائله ـ لا ينطبق على مسألة حجية خبر الواحد ؛ وذلك لأن البحث عن ثبوت السنة بالخبر بحث عن عوارض السنة المشكوكة ؛ لا عن نفس السنة الواقعية ، فقولنا : «هل خبر الواحد حجة أم لا؟» معناه : أنه هل تثبت السنة المشكوكة بخبر الواحد أم لا؟ ومن المعلوم : أن موضوع علم الأصول هو السنة الواقعية لا المشكوكة ، وحينئذ : فما يكون من الأدلة ـ وهو السنة الواقعية ـ لا يكون حجية الخبر من عوارضه ، وما يكون حجية الخبر من عوارضه ـ وهو السنة المشكوكة ـ لا يكون من الأدلة ، فلا يكون البحث عن حجية الخبر بحثا عن عوارض موضوع علم الأصول ، حتى يكون من مسائله.

(١) هذا الضمير والضمائر الأربعة المتقدمة راجعة على السنة.

(٢) أي : مع أن التعبد بثبوت السنة لازم لما هو المبحوث عنه وهو الحجية ، والملاك الذي تعد به المسألة من مسائل العلم هو : كون نفس المبحوث عنه من عوارض الموضوع ، لا أن يكون لازمه من العوارض.

وتوضيح هذا الوجه الثاني : أن الضابط في كون قضية من مسائل علم هو : أن يكون نفس المبحوث عنه ـ أعني : المحمول في تلك القضية ـ من عوارض موضوع العلم ، فلا تعد تلك القضية من مسائل العلم إذا كان لازم محمولها من عوارض موضوع العلم ، فإذا كان هناك قضية ، وكان لازم محمولها من عوارض موضوع العلم لم تعد تلك القضية من مسائل ذلك العلم ، والمقام كذلك ، فإن المبحوث عنه هو حجية الخبر ومن لوازمها ثبوت السنة ، فليس ثبوت السنة بالخبر في مسألة حجية الخبر نفس المبحوث عنه ، وإنما هو من لوازمه.

(٣) بيان للموصول في «لما يبحث» ، وضمير «عنه» راجع على الموصول ، يعني : أن التعبد بثبوت السنة لازم لحجية الخبر الذي يبحث عنه في هذه المسألة.

٢٦٠