دروس في الكفاية - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ثانيهما : خلو الواقع عن الحكم ، والمفروض : بطلانهما ، أما بطلان الأول : فلما قلنا : من عدم استتباع حجية الأمارة للحكم الشرعي.

وأما بطلان الثاني : فلوضوح : أن لكل واقعة حكما يشترك فيه العالم والجاهل. هذا تمام الكلام في منع الصغرى.

وأما منع الكبرى ـ وهي ما أشار إليه بقوله : ـ «أو غير باطل» فحاصله : أن تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة وإن كان يلزم من التعبد بالأمارة عند مخالفتها للواقع ، إلا إنه لا محذور فيه ، ولا يكون باطلا ؛ لأنه مع وجود المصلحة في التعبد بالأمارة يتدارك المصلحة الواقعية الفائتة ، أو المفسدة الملقى فيها ، نعم ؛ إذا لم يكن في التعبد بالأمارة مصلحة يتدارك بها المصلحة الفائتة أو المفسدة الملقى فيها كان المحذور المتقدم لازما.

وكيف كان ؛ فقد ذكر المصنف وجوها ثلاثة للتخلص عن المحاذير المتقدمة.

الوجه الأول : أن المجعول في مورد التعبد بالأمارة ليس حكما شرعيا تكليفيا ؛ بل المجعول هو الحجية من دون أن يكون هناك أيّ حكم ظاهري مجعول في موردها ، وأثر ذلك هو التنجيز والتعذير ، وعليه : فليس لدينا وجوبان ـ مثلا ـ أو وجوب وحرمة ولا مصلحة ولا مفسدة ولا إرادة وكراهة ؛ كي يلزم ما تقدم من المحذور الخطابي والملاكي معا ، أو المحذور الخطابي فقط ، أو الملاكي كذلك.

وأما محذور تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة : فيرتفع بوجود مصلحة في التعبد غالبة على مفسدة التفويت أو الإلقاء في المفسدة.

الوجه الثاني : أنه لو التزم بوجود حكم ظاهري تكليفي في موارد الأمارات ؛ إما بدعوى استتباع جعل الحجية لذلك ، أو بدعوى إنه لا معنى لجعل الحجية إلا جعل الحكم التكليفي ، بمعنى : أنها منتزعة عن الحكم التكليفي الظاهري ، فلا محذور أيضا وإن اجتمع الحكمان ، وذلك لأن الحكم الظاهري حكم طريقي ، بمعنى : أنه ناشئ عن مصلحة في نفسه أوجبت إنشاءه المستلزم للتنجيز والتعذير. والحكم الواقعي حكم فعلي ناشئ عن مصلحة في متعلقه.

ونظرا إلى اختلاف مركز المصلحتين في الحكمين لا يلزم اجتماع المثلين ولا اجتماع الضدين ؛ لأن تضاد الحكمين من جهة تضاد مبدئهما وهو الإرادة والكراهة والمصلحة والمفسدة ، والمفروض : أن ما فيه المصلحة في الحكم الظاهري نفس الحكم لا المتعلق الذي فيه المفسدة الموجبة للحكم الواقعي ، فمركز المصلحة والمفسدة مختلف ، وباختلافه

١٤١

عدم إصابته (١) ، كما هو شأن الحجة الغير المجعولة (٢) ، فلا يلزم (٣) اجتماع حكمين مثلين أو ضدين ، ولا طلب الضدين ، ولا اجتماع المفسدة والمصلحة ، ولا الكراهة والإرادة ، كما لا يخفى.

وأما تفويت (٤) مصلحة الواقع ، أو الإلقاء في مفسدته (٥) : فلا محذور فيه أصلا ، إذا كانت في التعبد به (٦) مصلحة غالبة على مفسدة التفويت أو الإلقاء.

______________________________________________________

يختلف متعلق الإرادة والكراهة ؛ إذ هما يتبعان المصلحة والمفسدة ، فلا تتعلق الإرادة بمتعلق الحكم الظاهري ؛ بل بنفس الحكم ؛ لأنه مركز المصلحة.

وأما نفس الحكمين بما هما إنشاءان ، مع قطع النظر عن مبدئهما فلا تضاد ولا تماثل بينهما ، فإن الإنشاء خفيف المئونة كما قيل.

الوجه الثالث : الالتزام بعدم كون الواقع فعليا تام الفعلية ومن جميع الجهات ، ببيان : أن الحكم الفعلي هو الحكم الواصل إلى مرحلة البعث والزجر ، وذلك إنما يكون إذا كانت على طبقة الإرادة والكراهة فعلا ، فيلتزم بأن إرادة الواقع معلقة على صورة عدم ثبوت الإذن على خلافه ، فإذا كان هناك إذن فعلي ـ كما في موارد أصالة الإباحة ـ لم يكن الحكم الواقعي فعليا من جميع الجهات ؛ إذ هو فعلي على تقدير ولم يتحقق التقدير لفرض ثبوت الإذن.

وكيف كان ؛ فالالتزام بعدم فعلية الواقع التامة لتعليقها على عدم الإذن يوجب عدم اجتماع الضدين ؛ لعدم الإرادة والكراهة في شيء واحد ، إذ الواقع ليس مرادا ، كما أنه ليس بذي مصلحة ملزمة فعلا ، فلا تنافي بين الحكمين حينئذ ، كما في «منتقى الأصول ، ج ٤ ، ص ١٤٣» مع توضيح وتصرف منّا.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) هذا الضمير وضميرا «مخالفته وموافقته» راجع إلى الطريق غير العلمي.

(٢) أي : القطع ، إذ حجيته ذاتية غير مجعولة ، كما عرفت في بحث القطع.

(٣) لما عرفت من عدم كون الحجية مستتبعة لأحكام تكليفية ، مع وضوح : أن منشأ الاجتماع المزبور هو جعل الحكم التكليفي في التعبد بالأمارات ، والمفروض عدمه.

(٤) هذا بيان لمنع الكبرى ، وقد عرفت توضيح ذلك ، فلا حاجة إلى الإعادة.

(٥) أي : مفسدة الواقع ، كما إذا أدت الأمارة إلى حلية شرب التتن ، مع فرض حرمته واقعا ، وضمر «فيه» راجع على ما ذكر من التفويت أو الإلقاء.

(٦) أي : بالطريق غير العلمي.

١٤٢

نعم ؛ لو قيل باستتباع (١) جعل الحجية للأحكام التكليفية أو بأنه لا معنى لجعلها إلا جعل تلك الأحكام ، فاجتماع حكمين وإن كان يلزم ، إلا إنهما ليسا بمثلين أو ضدين ؛ لأن أحدهما طريقي عن مصلحة في نفسه موجبة لإنشائه الموجب للتنجز ، أو

______________________________________________________

(١) إشارة إلى أحد القولين في باب حجية الأمارات اللذين بني عليهما إشكال اجتماع الحكمين. وقوله «نعم» استدراك على ما ذكره في الجواب عن الإشكال الأول والثاني من عدم لزوم المحذور الخطابي والملاكي ، والمقصود من هذا الاستدراك : الإشكال ثانيا على وقوع التعبد بالأمارات غير العلمية ؛ بلزوم محذور اجتماع حكمين مثلين أو ضدين أيضا ، وهذا الإشكال مبني على أحد وقولين. وتوضيحه : أن في باب حجية الأمارات غير العلمية قولين آخرين :

أولهما : أن الحجية التي هي من الأحكام الوضعية وإن كانت قابلة للجعل بنفسها ؛ لكنها مستتبعة لأحكام تكليفية ؛ كوجوب العمل بمؤدى الأمارة.

ثانيهما : أن الحجية غير مجعولة بنفسها ؛ ولكنها مجعولة بتبع جعل منشأ انتزاعها أعني : الأحكام التكليفية. وهو وجوب العمل كما هو مذهب الشيخ الأنصاري «قدس‌سره». فالحجية نظير الملكية في انتزاعها من جواز تصرف المالك في ماله وعدم جواز تصرف غيره فيه بدون إذنه ، وكانتزاع الزوجية من جواز الاستمتاع ووجوب الإنفاق وغيرهما من أحكامها ، فحجية الأمارات منتزعة من جعل الشارع المؤدى هو الواقع.

وبناء على كل من هذين القولين : يلزم اجتماع الحكمين المثلين أو الضدين ؛ وذلك لأن الأمارة غير العلمية إذا قامت على وجوب صلاة الجمعة مثلا ، وفرض وجوبها واقعا اجتمع فيها وجوبان ؛ أحدهما : وجوبها واقعا ، وثانيهما : وجوب مؤدى الطريق ، ومن المعلوم : أن اجتماع المثلين ممتنع كاجتماع الضدين فيما إذا فرض عدم وجوبها واقعا ، فلا يمكن التعبد بالطريق غير العلمي حذرا عن المحاذير المتقدمة.

وقد أجاب المصنف عن هذا الإشكال بما حاصله : إن الحكم على قسمين :

الأول : حقيقي ناش عن مصلحة أو مفسدة في متعلقه ، بناء على مذهب مشهور العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات.

الثاني : طريقي ناش عن مصلحة في نفس الحكم لا في متعلقه ؛ كالأوامر الامتحانية في عدم مصلحة في متعلقاتها. وحينئذ : فحيث إن الأمر الطريقي غير كاشف عن مصلحة في متعلقه ، ولا عن إرادة له ؛ بل المصلحة في جعل نفس الطريقية للأمارة ، والحكم الحقيقي كاشف عن المصلحة والمفسدة والإرادة والكراهة في نفس متعلقه ؛ لم

١٤٣

لصحة الاعتذار بمجرده من دون إرادة نفسانية ، أو كراهة كذلك (١) متعلقة (٢) بمتعلقه فيما يمكن هناك انقداحهما ، حيث (٣) إنه مع المصلحة أو المفسدة الملزمتين في فعل ،

______________________________________________________

يلزم اجتماع حكمين مثلين أو ضدين في مورد واحد ؛ إذ المفروض : إنه ليس في مورد الأمارات حكم حقيقي كاشف عن مصلحة أو مفسدة وإرادة أو كراهة حتى يلزم اجتماع في الخطابين والملاكين ؛ بل المصلحة أو المفسدة ، وكذا الإرادة أو الكراهة منحصرة في الحكم الواقعي.

والمتحصل : أنه لا يلزم محذور اجتماع المثلين أو الضدين في شيء من الخطاب والملاك على كلا القولين في باب حجية الأمارات غير العلمية ـ أي : القول بأن المجعول في بابها هو خصوص الحكم الوضعي أعني : الحجية دون الحكم التكليفي ، والقول بأن المجعول فيه هو الحكم التكليفي الطريقي ـ غاية الأمر : أنه حينئذ يلزم اجتماع حكمين حقيقي وطريقي ، ولا محذور فيه ، لكونهما نوعين مختلفين ، والممتنع إنما هو اجتماع فردين من نوع واحد ؛ كاجتماع الوجوبين الحقيقيين أو الطريقيين أو الفعليين أو الإنشائيين ، هذا ملخص ما أفاده المصنف ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٢٢٢» مع تلخيص وتوضيح منّا.

قوله : «أو بأنه لا معنى لجعلها ...» الخ إشارة إلى ثاني القولين اللذين بني عليهما إشكال الاجتماع. ويبتني هذا القول على إنكار الجعل في الوضعيات والالتزام بانتزاعها من الأحكام التكليفية.

(١) أي : نفسانية. والحاصل : أن الإرادة والكراهة والمصلحة والمفسدة مختصة بالحكم الواقعي ، دون الطريقي الظاهري الذي منه حجية الأمارات.

(٢) صفة «إرادة أو كراهة» ، يعني : جعل الحجية للأمارة لا يوجب إرادة ولا كراهة بالنسبة إلى متعلق الطريق وهو المؤدى ، فجعل الحجية لخبر الواحد الدال على وجوب صلاة الجمعة لا يوجب تعلق كراهة أو إرادة بنفس الوجوب.

(٣) تعليل لما ذكره بقوله : «فيما يمكن ...» الخ وضمير «أنه» للشأن ، ومقصوده : أن الإرادة والكراهة مفقودتان في الحكم الطريقي الظاهري ، وإنما تتحققان في الحكم الحقيقي ، فإذا قامت الأمارة على وجوب صلاة الجمعة ، فهذا الوجوب يدل على تعلق إرادة بها ناشئة من مصلحة في نفس وجوب الصلاة ؛ ولكن هذه الإرادة لا تتحقق في ذات الباري «تعالى شأنه» ؛ لتوقفها على مقدمات من خطور الشيء بالبال ، وتصوّر نفعه وميل النفس إليه ، وغيرها من مبادئ الإرادة الممتنعة في حقه تعالى.

١٤٤

وإن لم يحدث بسببها إرادة أو كراهة في المبدأ الأعلى (١) إلا إنه تعالى إذا أوحى بالحكم الشأني (٢) من قبل تلك المصلحة أو المفسدة إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» أو ألهم به الولي فلا محالة ينقدح في نفسه الشريفة بسببهما (٣) الإرادة أو الكراهة الموجبة للإنشاء بعثا أو زجرا ، بخلاف (٤) ما ليس هناك مصلحة أو مفسدة في المتعلق ؛ بل إنما كانت في نفس إنشاء الأمر به طريقيا (٥).

والآخر واقعي حقيقي عن مصلحة (٦) أو مفسدة في متعلقه موجبة لإرادته ، أو

______________________________________________________

تحصل الإرادة والكراهة في الحكم الحقيقي في المبادئ العالية ، وهي النفس المقدسة النبوية الولوية «صلوات الله وسلامه عليهما وآلهما الطاهرين» ، فإنه تتحقق الإرادة والكراهة فيهما ، وتترتبان على المصلحة والمفسدة الثابتتين في المتعلقات.

(١) لعدم كونه تعالى محلا للحوادث.

(٢) المراد من الحكم الشأني : هو الحكم الإنشائي ، وهو مرتبة من مراتب الحكم. وضمير «به» راجع على الحكم.

(٣) أي : بسبب المصلحة أو المفسدة تنقدح الإرادة أو الكراهة في نفس النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» أو الولي «عليه‌السلام» ؛ لأنهما يريدان ما يجعله الله على العباد من الواجبات ، ويكرهان المحرمات.

فيريد أن الواجب «بعثا» ، «أو» يكرهان الحرام «زجرا».

وكيف كان ؛ فإن الإرادة إن كانت بمعنى الشوق المؤكد : فهي ممتنعة في حقه تعالى ، وإن كانت عبارة عن العلم بالنفع كما هو ظاهر عبارة المحقق الطوسي في التجريد في الكيفيات النفسانية حيث قال فيها : «وهما ـ أي : الإرادة والكراهة ـ نوعان من العلم» ، فليست ممتنعة في الباري تعالى ، وظاهر المصنف «قدس‌سره» هنا : أن الإرادة هي العلم بالنفع والصلاح ، والكراهة هي بالضرر والفساد دون الشوق المؤكد ، وقد أثبت العلم المذكور له تعالى بقوله فيما سيأتي : «وإن لم يكن في المبدأ الأعلى إلا العلم بالمصلحة أو المفسدة».

(٤) أي : «بخلاف ما» أي : الحكم الطريقي الذي «ليس هناك مصلحة أو مفسدة» ، بمعنى : أن الإرادة والكراهة تحدثان في نفس النبي والولي عند وجود المصلحة والمفسدة في المتعلق ، ولا تحدثان إذا لم توجد المصلحة والمفسدة في المتعلق.

(٥) أي : طريق للتنجيز والإعذار ، فإنه ليس في نفس النبي والولي إرادة أو كراهة.

(٦) أي : ناشئ عن مصلحة أو مفسدة في متعلقه ، وهذا هو الحكم حقيقة في مقابل الطريقي الثابت للأمارة.

١٤٥

كراهته الموجبة لإنشائه (١) بعثا أو زجرا في بعض المبادئ العالية ، وإن لم يكن في المبدأ الأعلى إلا العلم بالمصلحة أو المفسدة ـ كما أشرنا ـ فلا يلزم أيضا اجتماع إرادة وكراهة ، وإنما لزم إنشاء حكم واقعي حقيقي بعثا وزجرا ، وإنشاء حكم آخر طريقي ، ولا مضادة بين الإنشاءين فيما إذا اختلفا (٢) ، ولا يكون من اجتماع المثلين المستحيل فيما اتفقا (٣) ، ولا إرادة ولا كراهة أصلا (٤) إلا بالنسبة إلى متعلق الحكم الواقعي ، فافهم (٥).

______________________________________________________

(١) هذا الضمير وضمير «متعلقه» راجعان إلى الحكم ، وضميرا إرادته وكراهته راجعان إلى المتعلق.

(٢) أي : الحكمان ؛ بأن كان الحكم الواقعي الحرمة والطريقي الوجوب ، فإنه لا بأس باجتماعهما لكونهما إنشائيين ، وإنما يلزم اجتماع الضدين فيما إذا كانا فعليين.

(٣) بأن كان كل من الحكم الواقعي والطريقي الوجوب ، فإنه ليس من اجتماع المثلين المستحيل ؛ لاختلاف الحكمين نسخا ؛ إذ المفروض : كون أحدهما واقعيا والآخر طريقيا ظاهريا.

(٤) أي : ولا إرادة ولا كراهة بالنسبة إلى الطريقي ، وإنما هما ثابتتان بالنسبة إلى متعلق الحكم الواقعي ؛ لأنه الحكم النفسي التابع للمصلحة والمفسدة المستتبعتين للإرادة والكراهة ، بخلاف الصوري الذي منه الطريقي ، فإنه في نفسه فاقد للمصلحة والمفسدة ، المستتبعتين للإرادة والكراهة ، المتوقفتين على مبادئ خاصة.

(٥) لعله إشارة إلى : أن ظاهر ما تقدم في دفع غائلة الاجتماع المذكور بقاء الحكم الواقعي على الفعلية الحتمية ، المستلزمة لانقداح الإرادة والكراهة في صورتي إصابة الأمارة وخطئها ، وحينئذ : يقع الإشكال في أنه يسوغ الإذن في خلافه ، فإن الحكم الطريقي إن كان هو الإباحة مثلا كان منافيا قطعا للحرمة أو الوجوب الحقيقي ، فمجرد الالتزام بالحكم الطريقي وإن كان يدفع غائلة اجتماع المثلين أو الضدين ؛ لكنه لا يدفع منافاة الإرادة أو الكراهة للإذن ؛ لأنه مساوق لعدمهما وإن كان صوريا. ولكن سيأتي من المصنف «قدس‌سره» دفع هذه المنافاة في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي فانتظر.

أو إشارة إلى ضعف قوله : «ولا إرادة ولا كراهة أصلا إلا بالنسبة إلى متعلق الحكم الواقعي.

وحاصل الضعف : أنه كما أن الحكم الواقعي يكون عن مصلحة نفسية في الفعل موجبة لإرادته ، أو عن مفسدة كذلك موجبة لكراهته ، فكذلك الحكم الظاهري الطريقي

١٤٦

نعم (١) ؛ يشكل الأمر في بعض الأصول العملية كأصالة الإباحة الشرعية ، فإن

______________________________________________________

أي : المقدمي يكون عن مصلحة غيرية في الفعل ، وهي الوصول إلى الواقعيات غالبا موجبة لإرادته أو كراهته ، فيجتمع حينئذ الإرادة والكراهة جميعا ، فلا يدفع إشكال لزوم اجتماع الإرادة والكراهة في مورد واحد.

(١) هذا استدراك على ما ذكره في دفع غائلة اجتماع الحكمين في الأمارات بجعل أحد الحكمين حقيقيا ، والآخر طريقيا.

وحاصل الاستدراك ـ على ما في «منتهى الدراية» ، ج ٤ ، ص ٢٢٩ ـ : أن ظاهر أدلة بعض الأصول العملية كقوله «عليه‌السلام» : «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه» جعل الإباحة الشرعية الواقعية ، وهي تنافي الحرمة الواقعية ، ويلزم اجتماع المثلين إذا كان الحكم هو الإباحة أيضا. وعليه : فلا يندفع محذور اجتماع الحكمين المتماثلين أو المتضادين في مثل أصالة الإباحة بما دفع به في حجية الأمارات.

ولتوضيح ذلك يقال : إن الإباحة على قسمين :

أحدهما : الإباحة الاقتضائية ، وهي الإباحة الناشئة عن مصلحة في متعلق الإباحة أو نفسها.

ثانيهما : الإباحة اللااقتضائية ، وهي الإباحة الناشئة عن عدم المصلحة والمفسدة في المتعلق ؛ إذ لو كان فيه إحداهما كان الحكم الوجوب أو الحرمة إن كانت ملزمة ، أو الاستحباب أو الكراهة إن لم تكن ملزمة ، وغالب الإباحات الظاهرية ؛ بل تمامها من قبيل الأول ، والإباحات الواقعية من قبيل الثاني ، ولذا تتغير بالعناوين كالنذر وأخويه.

إذا عرفت هذين القسمين من الإباحة تعرف لزوم الإشكالات المتقدمة من اجتماع المثلين والضدين في الحكم بالإباحة ظاهرا ، وإن كانت لمصلحة في نفس الإباحة ، غاية الأمر : أن محذور الإباحة الناشئة عن عدم المقتضي في المتعلق أكثر من الإباحة الناشئة عن المصلحة في نفس الإباحة ؛ إذ الإباحة الناشئة عن عدم المصلحة والمفسدة في المتعلق تستلزم اجتماع الضدين في الحكم ؛ لتضاد الوجوب أو الحرمة للإباحة ، وكذا في مبادئ الحكم من الإرادة والكراهة والمصلحة والمفسدة ، لكشف الإباحة عن عدم الإرادة والكرامة ، وعن عدم المصلحة والمفسدة وهذا بخلاف الإباحة الاقتضائية الناشئة عن مصلحة في نفس الإباحة ، فإن محذورها أقل من الإباحة اللااقتضائية ؛ إذ يلزم حينئذ اجتماع الضدين في الحكم والإرادة والكراهة ، دون المصلحة والمفسدة لكشف الإباحة الاقتضائية عن عدمهما ، فإشكال الإباحة الاقتضائية أقل من محذور الإباحة الناشئة عن

١٤٧

الإذن في الإقدام والاقتحام ينافي (١) المنع فعلا كما فيما صادف الحرام ؛ وإن كان الإذن فيه (٢) لأجل مصلحة فيه ؛ لا لأجل عدم مصلحة أو مفسدة ملزمة في المأذون فيه.

______________________________________________________

عدم المصلحة والمفسدة في المأذون فيه ؛ لكن أقلية المحذور لا توجب ارتفاع اجتماع الضدين.

والحاصل : أن الالتزام بكون الإباحة المجعولة في أصالة الإباحة من الإباحة الناشئة عن مصلحة في نفس الإباحة ؛ لا عن عدم المصلحة والمفسدة في المأذون فيه لا يدفع الإشكال ، وإن كان أقل محذورا من الإباحة الناشئة عن عدم المصلحة والمفسدة في المتعلق.

(١) يعني : فإن الإذن في الإقدام بجعل الإباحة الظاهرية ينافي الحرمة الواقعية الفعلية ، وهذه المنافاة لا تختص بالإباحة الظاهرية ؛ بل هي ثابتة مطلقا ، سواء كان الإذن لمصلحة في نفس الإباحة ، أم كان لعدم مصلحة أو مفسدة في المتعلق.

نعم ؛ محذور المنافاة في الإباحة الاقتضائية أكثر من الإباحة اللااقتضائية ؛ وذلك لأن التضاد بين الحكم الواقعي ـ وهو الحرمة ـ وبين الإباحة الظاهرية لا تختص بالخطاب ؛ بل يسري إلى الملاك أيضا ؛ لوقوع التضاد بين مفسدة الحرمة الواقعية ومصلحة الإباحة الظاهرية.

هذا يتناقض ما تقدم من كون محذور الإباحة الاقتضائية أقل من اللااقتضائية راجع «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٢٣٠ ـ ٢٣١».

(٢) أي : كان الإذن في الفعل لأجل مصلحة في الإذن. هذا إشارة إلى القسم الأول من الإباحة ، كما أن قوله : «لا لأجل عدم مصلحة ...» الخ. إشارة إلى القسم الثاني من الإباحة.

بقي الكلام في وجه تخصيص الإشكال ببعض الأصول العملية ، ولعل وجه ذلك : أن مثل الاستصحاب وقاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ وأشباه ذلك من الأصول العلمية ـ التي لها نظر إلى الواقع ـ يمكن الالتزام فيها بجعل أحكام ظاهرية طريقية كما في الأمارات عينا ، فيكون حالها كحال الأمارات من حيث جريان الجواب الثاني فيها حرفا بحرف ، وهذا بخلاف مثل قاعدة الحل وأصل البراءة ونحوهما مما لا نظر له إلى الواقع أصلا ، فيختص الإشكال به دون ما له نظر إلى الواقع.

١٤٨

فلا محيص (١) في مثله (٢) إلا عن الالتزام بعدم انقداح الإرادة أيضا كما في المبدأ الأعلى ؛ لكنه لا يوجب الالتزام بعدم كون التكليف الواقعي بفعلي ، بمعنى : كونه على صفة ونحو لو علم به المكلف لتنجز عليه ؛ كسائر التكاليف الفعلية التي تتنجز بسبب القطع بها ، وكونه فعليا إنما يوجب البعث أو الزجر في النفس النبوية أو الولوية ؛ فيما إذا لم ينقدح فيها الإذن لأجل مصلحة فيه.

______________________________________________________

(١) هذا هو الجواب الثالث عن محذور اجتماع الحكمين ، أو طلب الضدين ، وهو جواب عن محذور الاجتماع في جميع الأحكام الظاهرية ، سواء ثبتت بالأمارة أم بالأصل.

(٢) أي : في مثل بعض الأصول ، وأشار بقوله : «في مثله» إلى جريان الوجه الذي سيذكره في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ـ في غير أصالة الإباحة ؛ بل كل حكم ظاهري نفسي ، سواء كان في الأمارات على القول به ، أم في غيرها كالاستصحاب على ما يظهر منه «قدس‌سره» في باب الاستصحاب من التزامه بجعل الحكم المماثل.

وكيف كان ؛ فمحصل مرامه في هذا الجمع هو إنكار انقداح الإرادة والكراهة في بعض المبادئ العالية ، وتوقفه على عدم الإذن لمصلحة فيه ؛ لما عرفت : من أنه على تقدير انقداحهما يلزم اجتماع النقيضين ، فضلا عن اجتماع الضدين في نفس الحكمين ؛ لتضاد الإباحة مع الحرمة أو الكراهة ، ومناقضة الإرادة أو الكراهة مع الإباحة لعدمهما المنكشف بالإباحة الظاهرية. وبالجملة : فلا بعث ولا زجر في الحكم الواقعي ولا تنجز له أيضا ، وفعليته ـ أي : تنجزه ـ معلقة على قيام الأمارة عليه.

وأما الحكم الظاهري : فهو فعلي حتمي ، فيجمع بين الحكم الواقعي والظاهري بأن كلا الحكمين فعلي ، غاية الأمر : أن الواقعي فعلي تعليقي ، والظاهري فعلي حتمي ، ولا مضادة بينهما ؛ لاختلاف رتبتهما ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٢٣١».

وكيف كان ؛ فقوله : «فلا محيص في مثله إلا عن الالتزام» إشارة إلى الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري الذي يجري في موارد الأصول والأمارات على حد سواء ، وحاصله : عدم كون الأحكام الواقعية فعلية ، فلا تكون معها إرادة أو كراهة كما أشار إليه بقوله : «بعدم انقداح الإرادة أو الكراهة في بعض المبادئ العالية» كالنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» والولي «عليه‌السلام» «أيضا ، كما في المبدأ الأعلى» كالله تعالى ، فلا يلزم اجتماع إرادة وكراهة ، ولا إيجاب وتحريم واقعيين. وبهذا يرتفع الإشكال في الجمع بين الأصول والأمارات وبين الأحكام الواقعية المنافية لهما.

١٤٩

فانقدح (١) بما ذكرنا : إنه لا يلزم الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي في مورد

______________________________________________________

قوله : «لكنه لا يوجب الالتزام ...» الخ دفع لما ربما يتوهم ، فلا بد من تقريب التوهم ، وثانيا من توضيح دفعه.

وأما تقريب التوهم : فيقال : إنه إذا لم يكن الحكم الواقعي فعليا بل كان إنشائيا محضا : فاللازم هو القول بعدم تنجزه بقيام الأمارة عليه ؛ إذ الواقعي الفعلي يتنجز بالأمارة لا الواقعي الإنشائي ، فليس هنا إلا حكم واحد وهو الحكم الظاهري ، فلا معنى للجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.

وبعبارة أخرى : أن الالتزام بعدم وجود الإرادة والكراهة في المبادئ العالية يوجب الالتزام بعدم فعلية الحكم الواقعي ؛ لغرض : أنه لم تتعلق الإرادة أو الكراهة به ، وإذا لم يصر الحكم الواقعي فعليا انهدم أساس الجمع المذكور ؛ لانحصار الحكم في الظاهري فقط.

والحاصل : أن ما أفاده المصنف بقوله : بعدم انقداح الإرادة أو الكراهة صار منشأ لتوهم عدم فعلية الحكم الواقعي ، فأورد عليه بعدم وجود حكمين فعليين حينئذ حتى يجمع بينهما بما ذكره المصنف «قدس‌سره» ؛ بل ليس هنا إلا الحكم الظاهري الذي هو مقتضى الأمارة أو الأصل.

وأما توضيح الدفع فحاصله : إن الفعلية على قسمين :

الأول : الفعلية المنجزة ، وهي بالنسبة إلى الحكم الذي قامت الحجة من علم أو علمي عليه.

الثاني : الفعلية المعلقة ، وهي بالنسبة إلى الحكم الذي كان بنحو لو علم به لتنجز ، والمراد بالفعلية في المقام : هو المعنى الثاني ، فالحكم الواقعي يكون فعليا معلقا ، ولا منافاة بينه وبين الحكم الظاهري الذي هو فعلي منجز بأمارة أو أصل.

وكيف كان ؛ فإن وصول الحكم الواقعي إلى مرتبة الفعلية بالمعنى الثاني لا يستلزم البعث أو الزجر مطلقا ؛ بل إنما يستلزمهما فيما إذا لم ينقدح في النفس النبوية أو الولوية الإذن في الإقدام لأجل مصلحة في نفس الإذن فيه ، فإذا انقدح الإذن في نفسهما المقدسة ، فلا تتحقق فعلية الحكم بمعنى إيجابها للبعث والزجر ؛ إذ الإذن مانع عنهما. كما أشار إليه بقوله : «وكونه فعليا إنما يوجب ...» الخ.

(١) أي : ظهر بما ذكرناه ـ في دفع الإشكالات الواردة على التعبد بالأمارات غير العلمية والأصول العملية ، وفي مقام الجمع بين الحكمين الواقعي والظاهري من حمل

١٥٠

الأصول والأمارات فعليا ؛ كي يشكل تارة : بعدم لزوم الإتيان حينئذ بما قامت الأمارة على وجوبه ، ضرورة : عدم لزوم امتثال الأحكام الإنشائية ما لم تصر فعلية ، ولم تبلغ مرتبة البعث والزجر ، ولزوم الإتيان به مما لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان.

______________________________________________________

الحكم الواقعي على الفعلي التعليقي ، الذي لو علم به لتنجز ، والظاهري على الفعلي التنجيزي ـ أنه لا يلزم من التعبد بالأمارات غير العلمية الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي في مورد الأصول والأمارات فعليا ، والالتزام بأنه شأني ؛ كما أفاده الشيخ الأنصاري في الرسائل في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي بقوله : «الثاني : أن يكون الحكم الفعلي تابعا لهذه الأمارة ... إلى أن قال ... فالحكم الواقعي فعلي في حق غير الظان بخلافه ، وشأني في حقه ...». «دروس في الرسائل ، ج ١ ، ص ١١٧».

والحاصل : إن مراد المصنف من نفي فعلية الحكم الواقعي ليس نفي الفعلية بكلا معنييها المتقدمين ، والالتزام بالشأنية كما ذكره الشيخ «قدس‌سره» ؛ بل مراد المصنف من نفي الفعلية : نفي الفعلية التنجيزية ، وإثبات الفعلية التعليقية ، وهي بمعنى لو علم به لتنجز.

والمتحصل : أن ما أفاده الشيخ «قدس‌سره» من حمل الأحكام الواقعية على الإنشائية يستلزم ورود إشكالين عليه ، أشار إلى أولهما بقوله : «تارة : بعدم لزوم الإتيان ...» الخ. وإلى ثانيهما : بقوله : «وأخرى : بأنه ...» الخ.

وحاصل الإشكال الأول : أن لازم الإنشائية عدم لزوم امتثال مؤديات الأمارات ؛ إذ المفروض : كون مؤدياتها أحكاما إنشائية ، ومن المعلوم : أن الحكم الإنشائي لا يجب عقلا امتثاله إذا علم به ، فضلا عما إذا قامت عليه الأمارة غير العلمية ، ومن البديهي خلافه ؛ للزوم امتثال مؤديات الأمارات.

وأما الإشكال الثاني فحاصله : احتمال اجتماع المتنافيين ، حيث إن المحتمل فعلية الحكم الواقعي الذي يكون في مورد الأصل أو الأمارة ، والمفروض : فعلية الحكم الظاهري أيضا ، فيلزم اجتماع الحكمين الفعليين المتنافيين ، واحتمال المتنافيين كالقطع بثبوتهما محال. ولازم هذا الإشكال : عدم جواز الرجوع إلى الأمارات والأصول إلا مع القطع بعدم فعلية الحكم الثابت في موردهما ، ودعوى هذا القطع مما لا وجه لها ؛ لاحتمال تمامية مقتضى الحكم وعدم مانع له ؛ إذ لا إحاطة لنا بمقتضيات الأحكام وموانعها ، فاحتمال وجود المقتضي وعدم المانع بالنسبة إلى الحكم الواقعي المساوق لفعليته لا دافع له ، ومعه لا يمكن الرجوع إلى الأمارات والأصول ؛ وذلك لاحتمال اجتماع الحكمين الفعليين المتنافيين ، وهو في الاستحالة كالقطع بثبوتهما.

١٥١

لا يقال : لا مجال لهذا الإشكال (١) ، لو قيل بأنها كانت قبل أداء الأمارة إليها إنشائية ؛ لأنها (٢) بذلك تصير فعلية ، تبلغ تلك المرتبة.

فإنه (٣) يقال : لا يكاد يحرز بسبب قيام الأمارة المعتبرة على حكم إنشائي لا

______________________________________________________

قوله : «ضرورة» تعليل لقوله : «بعدم لزوم».

(١) أي : لا مجال لإشكال عدم لزوم الإتيان بما قامت الأمارة على وجوبه ، يعني : لا مجال للإشكال الأول على الشيخ الأنصاري ، بتقريب : أن هذا الإشكال ـ بناء على إنشائية الأحكام الواقعية ـ مبني على بقائها على الإنشائية ، حتى بعد قيام الأمارات عليها.

وأما بناء على أن قيام الأمارات سبب لوصولها إلى مرتبة الفعلية ؛ فلا وجه للإشكال المزبور ؛ لصيرورتها بواسطة الأمارة فعلية ، فلا يتوجه إشكال عدم لزوم امتثال مؤديات الأمارات على مبنى إنشائية الأحكام الواقعية ؛ كما يستفاد من كلام الشيخ «قدس‌سره».

(٢) تعليل لقوله : «لا مجال لهذا الإشكال» ، والضمائر في «لأنها ، بأنها ، إليها» راجعة على الأحكام الواقعية.

(٣) دفع للإشكال المذكور وحاصله : أن موضوع الفعلية ـ على ما ذكره المستشكل من أنه الحكم الإنشائي المتصف بكونه مؤدى الأمارة ـ مؤلف من الإنشائية والوصف المزبور ، ومن المعلوم : توقف أثر المركب على وجود جميع أجزائه كالاستيلاء غير المأذون فيه الموضوع للضمان ، فما لم يحرز الموضوع بتمام أجزائه بالوجدان أو بالتعبد أو بالاختلاف لم يترتب عليه الأثر. وفي المقام كذلك ، فإنه لا يترتب أثر الفعلية على الحكم الإنشائي الذي أدت إليه الأمارة ، وذلك لانتفاء إحراز الموضوع وجدانا وتعبدا ، أما وجدانا : فلأن إصابة الأمارة غير معلومة ، فلا يعلم أن مؤداها هو الحكم الإنشائي. وأما تعبدا ؛ فلأن دليل حجية الأمارة لا يقتضي إلا التعبد بوجود مؤداه ، وأن مؤداها هو الواقع ، فلا يتكلف إلا تنزيل المحكي بالأمارة منزلة الواقع ، ولا يمكن أن يتكفل الجزء الثاني من الموضوع ، وهو كون هذا الحكم الإنشائي المحكي مؤدى الأمارة ، وذلك لأن اتصاف المحكي بهذا الوصف متأخر عن قيام الأمارة عليه ، فلو فرض تقدمه على قيام الأمارة عليه ـ لفرض أنه جزء الموضوع ، والموضوع بجميع أجزائه مقدم على الحكم ـ لزم الدور كما هو واضح.

ومنه يظهر : عدم إحراز جزأي الموضوع بالاختلاف ، بأن يحرز أحدهما بالوجدان والآخر بالتعبد ؛ وذلك لأن المحرز وجدانا إن كان نفس الحكم كالوجوب ؛ فلا مجال

١٥٢

حقيقة ولا تعبدا إلا حكم إنشائي لا حكم إنشائي أدت إليه الأمارة ، أما حقيقة : فواضح ، وأما تعبدا : فلأن قصارى ما هو قضية حجية الأمارة كون مؤداها هو الواقع تعبدا ؛ لا الواقع (١) الذي أدت إليه الأمارة ، فافهم (٢).

اللهم إلا أن يقال (٣) : إن الدليل على تنزيل المؤدى منزلة الواقع الذي صار مؤدى

______________________________________________________

حينئذ لحجية الأمارة ؛ إذ لا شك في الواقع حتى يحرز بالتعبد. وإن كان قيد الحكم الواقعي ـ أعني : مؤدى الأمارة ـ فلا يتصور كونه مؤدى الأمارة بالوجدان ؛ إذ هذا الإحراز منوط بإحراز الواقع ؛ إذ لا يعقل إحراز القيد وجدانا مع عدم إحراز نفس المقيد أعني : الواقع كذلك ، وحيث إن نفس المقيد لم يحرز ؛ إذ لو كان محرزا لم يبق مجال لحجية الأمارة كما تقدم ، فلا يعقل إحراز قيده فقط كما لا يخفى.

وبالجملة : فلا يمكن تكفل دليل التعبد لإحراز قيد الحكم الإنشائي ، وهو اتصافه بكونه مؤدى الأمارة.

نعم ؛ لو فرض دليل آخر غير دليل حجية الأمارات يدل على اعتبار قيام الأمارة في فعلية الأحكام الإنشائية ، فيصير الحكم الذي قامت عليه الأمارة فعليا لوجود القيد ـ أعني : قيام الأمارة بالوجدان ـ لكن ذلك الدليل مفقود. «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٢٣٨».

قوله : «حكم» في «إلا حكم» نائب فاعل «يحرز» ، وقوله : «لا حقيقة ولا تعبدا» قيد لقوله : «يحرز».

(١) يعني : أن الأمارة تؤدي إلى الواقع بما هو واقع ؛ لا الواقع المتصف بكونه مؤدى الأمارة ، لأن الأمارة لا تزيد على العلم الوجداني ، فإن العلم يتعلق بنفس الواقع لا الواقع بعنوان كونه معلوما.

والمتحصل : إن ما نحن فيه كالماء الكر حيث لا يكون مطهرا إلا أن يتحقق جزءاه ـ المائية والكرية ـ إما علما أو تنزيلا وتعبدا ، أو بالاختلاف حتى يتحقق كونه مطهرا ، فإذا لم يثبت أحدهما لا حقيقة ولا تعبدا لم يثبت كونه مطهرا.

(٢) لعله إشارة إلى : أنه لو فرض إمكان دلالة دليل غير الأمارة على كون مؤداها هو الواقع المتصف بكونه مؤدى الأمارة ؛ لم يكف ذلك أيضا في الحكم بالفعلية ؛ لأن الحكم بها منوط بدلالة دليل على هذا الوصف ، ولم يثبت ، فالقول بصيرورة الأحكام الإنشائية فعلية بمجرد قيام الأمارة عليها خال عن الدليل.

(٣) وحاصل الكلام في المقام : أن دليل تنزيل المؤدى منزلة الواقع كاف في ثبوت

١٥٣

لها هو دليل الحجية بدلالة الاقتضاء ؛ لكنه لا يكاد يتم إلا إذا لم يكن للأحكام بمرتبتها الإنشائية أثر أصلا ؛ وإلا لم تكن لتلك الدلالة مجال ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

الجزءين ؛ إذ ما تقتضيه أدلة اعتبار الأمارة وإن كان تنزيل مؤداها منزلة الواقع وهو الإنشائي المحض لا منزلة الواقع الذي أدت إليه الأمارة ، ولكن بدلالة الاقتضاء وصون كلام الحكيم من اللغوية لا بد من حمل دليل الحجية على تنزيل المؤدى منزلة الواقع الذي أدت إليه الأمارة أي : منزلة الأحكام الفعلية ؛ لا منزلة الواقع الصرف ، وهو الإنشائي المحض ؛ كي يكون التنزيل بلا ثمرة وفائدة ، بعد عدم وجوب الإتيان بالأحكام الإنشائية المحضة ، فيكون غرض المصنف من هذا الكلام : تصحيح ما أنكره ـ من عدم تكفل دليل التنزيل لإثبات كون مؤدى الأمارة هو الحكم الإنشائي الموصوف بكونه مؤدى الأمارة ـ بدلالة الاقتضاء.

بمعنى : أن نفس دليل حجية الأمارة يوجب اتصاف مؤداها بالوصف المذكور ـ وهو كونه مؤدى الأمارة ـ بدلالة الاقتضاء ، بمعنى : أن دليل اعتبار الأمارة لو لم يثبت الوصف المذكور ، وهو كونه مؤدى الأمارة ـ لزم لغويته ، لعدم ترتب الأثر إلا على الحكم الإنشائي المتصف بالوصف المزبور ، فصون كلام الحكيم عن اللغوية يقتضي اتصاف الحكم الإنشائي بوصف كونه مؤدى الأمارة.

فالمتحصل : أنه لو نزل المولى جزأ من مركب منزلة الواقع يعلم منه أنه نزل الجزء الآخر أيضا ؛ وإلا كان تنزيله الأول لغوا. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تصحيح ما أنكره المصنف.

ولكن أورد عليه المصنف بقوله : «لكنه لا يكاد يتم» ، وحاصل الإيراد : أن دلالة الاقتضاء إنما تتم وتثبت الفعلية إذا لم يكن للأحكام الإنشائية أثرا أصلا. وأما إذا كان لها أثر ـ ولو بملاحظة العنوان الثانوي كالنذر ونحوه ـ فلا يبقى مجال لدلالة الاقتضاء ؛ لعدم لزوم اللغوية حينئذ لكفاية مثل هذا الأثر في الحجية.

وكيف كان ؛ فقد علم مما ذكرنا إلى الآن : أنه لا يلزم من الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي في مورد الأصول والأمارات فعليا ؛ كي يشكل تارة : بعدم لزوم الإتيان بمؤدى الأمارة لأنه غير فعلي ، وقد عرفت تفصيل الكلام فيه. وتارة «أخرى : بأنه كيف» ، وقد تقدم توضيح الكلام فيه أيضا ، فلا حاجة إلى الإعادة.

قوله : «وإلا لم يكن» إشارة إلى عدم اللغوية مع الأثر ، يعني : وإن كان للأحكام

١٥٤

وأخرى (١) : بأنه كيف يكون التوفيق (٢) بذلك؟ مع احتمال أحكام فعلية بعثية أو زجرية في موارد الطرق والأصول العملية المتكفلة لأحكام فعلية ، ضرورة : أنه كما لا يمكن القطع بثبوت المتنافيين ، كذلك لا يمكن احتماله.

فلا (٣) يصح التوفيق بين الحكمين بالالتزام ؛ كون الحكم الواقعي الذي يكون في مورد الطرق والأصول العملية إنشائيا غير فعلي.

كما لا يصح (٤) التوفيق بأن الحكمين ليسا في مرتبة واحدة ؛ بل في مرتبتين ، ضرورة : تأخر الحكم الظاهري عن الواقعي بمرتبتين.

______________________________________________________

بمرتبتها الإنشائية أثر كالنذر ونحوه ـ بأن يقول : «إن قامت الأمارة على إنشائية حكم. فلله علي أن أتصدق بدرهم». فلا يبقى مجال لدلالة الاقتضاء أصلا.

(١) عطف على قوله : «تارة بعدم لزوم الإتيان حينئذ» ، وإشارة إلى ثاني الإشكالين الواردين على جعل الأحكام الواقعية إنشائية. وقد تقدم توضيحه فلا حاجة إلى الإعادة.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «الوصول إلى كفاية الأصول».

(٢) أي : التوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي «بذلك» الذي ذكرتم من كون الحكم الواقعي إنشائيا ، والحكم الظاهري فعليا ، «مع احتمال» كون «أحكام» واقعية «فعلية بعثية» في الأوامر ، «أو زجرية» في النواهي ؛ إذ ما ذكرتم من احتمال كون الأحكام الواقعية إنشائية لا يكفي في رفع المنافاة ؛ إذ كما يحتمل كونها إنشائية يحتمل كونها فعلية «في موارد الطرق والأصول العملية المتكفلة لأحكام» ظاهرية «فعلية» ، فيلزم حينئذ ـ ولو احتمالا ـ اجتماع حكمين فعليين متنافيين ، واحتمال اجتماع المتنافيين محال كالقطع به.

قوله : «ضرورة» تعليل للإنكار المستفاد من قوله : «كيف يكون» وحاصل التعليل : «ضرورة أنه» يبقى حينئذ احتمال التنافي ، ومن المعلوم : أن احتمال التنافي في الاستحالة كالقطع به. فكما لا يمكن الثاني فكذلك لا يمكن الأول.

(٣) هذه نتيجة ما ذكره من عدم لزوم الالتزام بما أفاده الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» في إمكان التعبد بالأمارات غير العلمية ؛ لورود الإشكالين السابقين عليه ، يعني : فبعد توجه هذين الإشكالين عليه لا يصح ما ذكره «قدس‌سره» في الجمع بين الحكمين الواقعي والظاهري بالتزام كون الحكم الواقعي إنشائيا غير فعلي في مورد الطرق والأمارات غير العلمية والأصول العملية.

(٤) هذا إشارة إلى جمع آخر بين الحكم الواقعي والظاهري قد ينسب إلى السيد المحقق المسدد السيد محمد الأصفهاني «قدس‌سره» ، ويظهر أيضا من كلمات الشيخ

١٥٥

وذلك (١) لا يكاد يجدي ، فإن الحكم الظاهري وإن لم يكن في تمام مراتب الواقعي ؛ إلا إنه يكون في مرتبته أيضا ، وعلى تقدير المنافاة لزم اجتماع المتنافيين في

______________________________________________________

«قدس‌سره» في أول مبحث البراءة ، وأول مبحث التعادل والترجيح فراجع ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٢٤٤».

وهذا الجمع في قبال الجمعين المزبورين ، وتوضيحه : أن محذور اجتماع المتنافيين مختص بما إذا كانا في رتبة واحدة ، دون ما إذا كانا في رتبتين كما في المقام.

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : الفرق بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري من حيث الموضوع ، وهو أن موضوع الحكم الواقعي هو نفس الشيء بعنوانه الأولي ، مع الغض عن تعلق العلم أو الجهل به ، وموضوع الحكم الظاهري هو الشيء بوصف أنه مشكوك في حكمه الواقعي ، وحينئذ : فالحكم الظاهري متأخر عن الشك في الحكم الواقعي تأخّر الحكم عن الموضوع ، والشك في الحكم الواقعي متأخر أيضا عن نفس الحكم الواقعي تأخّر العارض عن المعروض والوصف عن الموصوف ، فيكون الحكم الظاهري متأخرا عن الحكم الواقعي بمرتبتين : الأولى : تأخره عن موضوع ، والأخرى : تأخر موضوعه ـ وهو الشك ـ عن الحكم الواقعي الذي هو متعلق الشك ، ولا محذور في اجتماع حكمين فعليين مع تعدد رتبتهما.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه يصح التوفيق بين الحكمين الواقعي والظاهري إذا كانا في رتبتين ؛ إذ لا يلزم محذور اجتماع حكمين فعليين مع تعدد رتبتهما.

(١) أي : الجمع المذكور غير صحيح ؛ إذ هو لا يكاد يجدي في رفع المنافاة بين الحكم الواقعي والظاهري ، وذلك لإن الحكم الظاهري وإن كان متأخرا عن الواقعي بمرتبتين ، وليس هو في مرتبته ؛ ولكن الحكم الواقعي موجود محفوظ في مرتبة الحكم الظاهري لوضوح : أنه لا يكاد يضمحل الحكم الواقعي المشترك بين الكل بمجرد الشك فيه وقيام الأمارة أو الأصل على خلافه ، فإذا تحقق الحكم الظاهري بقيام الأمارة أو الأصل على خلاف الحكم الواقعي ، وكان الحكم الواقعي محفوظا في مرتبته ورتبته لزم اجتماع الضدين من إيجاب وتحريم أو ندب وكراهة وهكذا.

وبعبارة واضحة : إن الحكم الظاهري ـ لمكان تأخر موضوعه عن الحكم الواقعي ـ وإن لم يكن مع الواقعي في جميع المراتب ؛ لكن الحكم الواقعي يكون معه في رتبة الشك ؛ إذ المفروض : إطلاق الحكم الواقعي ووجوده في كلتا صورتي العلم والجهل به ، وإلا لزم التصويب لو اختص الحكم الواقعي بالعالم به ، ففي هذه المرتبة يجتمع الحكمان المتنافيان ،

١٥٦

هذه المرتبة (١) ، فتأمل فيما ذكرنا من التحقيق في التوفيق (٢) ، فإنه دقيق وبالتأمل حقيق.

ثالثها (٣) : أن الأصل فيما لا يعلم اعتباره ـ بالخصوص ـ شرعا ، ولا يحرز التعبد به

______________________________________________________

فهذا الجمع لا يرفع محذور اجتماع الحكمين المتنافيين لوجود الحكم الواقعي في مرتبة الحكم الظاهري أيضا ، أي : كما أنه موجود قبل رتبة الحكم الظاهري.

(١) أي : في مرتبة الحكم الظاهري.

(٢) أي : بين الحكم الواقعي والظاهري ، «فإنه دقيق وبالتأمل حقيق».

المتحصل من جميع ما أفاده المصنف في المقام : انه لا يلزم ـ من حجية الأمارات غير العلمية ـ محذور أصلا لا اجتماع المثلين ولا الضدين ، ولا تفويت مصلحة ؛ إذ معنى حجية الأمارة الغير العلمية عند المصنف هو : التنجيز عند الإصابة والتعذير عند المخالفة ، وليس هناك حكم إلا الحكم الواقعي حتى يلزم اجتماع المثلين أو الضدين.

وأما بناء على القول باستتباع الحجية لجعل الحكم الظاهري : فاجتماع الحكمين الواقعي والظاهري وإن كان يلزم إلا إنهما ليسا بمثلين ولا بضدين ؛ لأن الحكم حقيقة الذي ناش عن مصلحة أو مفسدة إرادة أو كراهة ليس إلا الحكم الواقعي ، ويعتبر الحكم المفاد بلسان الأمارة حكما صوريا لا تأصل له ، ولم ينبعث عن مصلحة أو مفسدة في متعلقه ، وإنما انبعث عن مصلحة في نفس إنشائه ؛ كالأوامر الامتحانية ، ولم تتعلق عليه إرادة ولا كراهة ، فلا مماثلة ولا مضادة بينه وبين الحكم الواقعي حتى يلزم اجتماع المثلين أو الضدين ، ولا إرادة ولا كراهة بالنسبة إليه حتى يلزم اجتماعهما.

هذا لبّ ما أفاده المصنف في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ؛ بناء على القول بكون حجية الأمارة الغير العلمية مستتبعة لجعل الحكم. وهناك وجوه وأقوال للجمع بين الحكم الواقعي والظاهري تركناها تجنبا عن التطويل الممل.

مقتضى الأصل فيما شك في اعتباره

(٣) أي : الثالث من الأمور التي ينبغي تقديمها قبل الخوض في الأمارات في بيان الأصل الذي هو المرجع عند الشك في حجية الأمارة الغير العلمية ، يعني : بعد أن أثبت في الأمرين الأولين إمكان حجية الأمارة ذاتا ووقوعا ، صار بصدد بيان مقتضى الأصل عند الشك في الحجية ، فالمقصود من عقد هذا الأمر الثالث هو : بيان مقتضى الأصل فيما إذا شك في اعتبار الظن شرعا ، فإن الأمارة الظنية قد يعلم بحجيتها ، وقد يعلم بعدم حجيتها ، وقد يشك في حجيتها. ومحل الكلام هو ما إذا وقع الشك في اعتبارها ، فهل

١٥٧

واقعا عدم حجيته جزما ، بمعنى : عدم ترتب الآثار المرغوبة من الحجية عليه (١) قطعا ، فإنها (٢) لا تكاد تترتب إلا على ما اتصف بالحجية فعلا ، ولا يكاد يكون الاتصاف بها (٣) إلا إذا أحرز التعبد به وجعله (٤) طريقا متبعا ، ...

______________________________________________________

الأصل حجيتها أو عدم حجيتها؟

يقول المصنف «قدس‌سره» : إن الأصل عدم حجيتها ، بمعنى : أنه بمجرد أن نشك في حجية أمارة ثبوتا يقطع بعدم حجيتها إثباتا أي : لا يترتب عليها آثار الحجية في مقام الإثبات ، وذلك لأن آثار الحجية من المنجزية عند الإصابة والعذرية عند الخطأ ، وحكم العقل بوجوب المتابعة لا تكاد تترتب إلا على ما اتصف بالحجية الفعلية ، أي : المحرزة بالعلم في مقام الإثبات ، لا على ما اتصف بمطلق الحجية ولو ثبوتا وإن لم يعلم بها إثباتا.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : إن الحجية شرعا على قسمين :

أحدهما : الحجية الإنشائية.

الثاني : الحجية الفعلية وهي العلم بالحجية الإنشائية.

ثم الآثار الشرعية أو العقلية على قسمين :

قسم : يترتب على نفس وجود الشيء واقعا ، علم به العبد أم لم يعلم ؛ كحرمة شرب الخمر ، حيث تترتب على الخمر الموجود ، سواء علم به المكلف أم لم يعلم.

وقسم : يترتب على وجوده العلمي أي : بوصف كونه معلوما مثل آثار الحجية حيث تترتب على الحجية الفعلية المعلومة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه يكفي في عدم الحجية الشك في الحجية وعدم العلم بها ، ولازم ذلك : عدم الحاجة في إثبات عدم ترتب آثار الحجية على الأمارة المشكوكة حجيتها إلى إجراء أصالة عدم الحجية ؛ بل لا يعقل إجراؤها ؛ لاستلزامها إحراز ما هو المحرز وجدانا بالتعبد. وهو محال لكونه بمثابة تحصيل ما هو حاصل.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) هذا الضمير وضمير «حجيته» راجعان إلى الموصول في «ما لا يعلم» ، فالحجية الفعلية تتوقف على العلم بها ، وأما الإنشائية : فلا تتوقف على العلم بها.

(٢) أي : فإن الآثار المرغوبة ، وهذا تعليل لقوله : «عدم ترتب».

(٣) أي : بالحجية بمعنى : إن الآثار المرغوبة لا تترتب إلا على ما ثبت حجيته فعلا ، ولا تثبت الحجية الفعلية إلا بعد إحراز التعبد به وجعله طريقا متبعا.

(٤) عطف تفسيري ل «التعبد» ، وضميره وضمير «به» راجعان على الموصول ، المراد به

١٥٨

ضرورة (١) : أنه بدونه (٢) لا يصح المؤاخذة على مخالفة التكليف بمجرد إصابته ، ولا يكون (٣) عذرا لدى مخالفته مع عدمها ، ولا يكون (٤) مخالفته تجرّيا ، ولا يكون موافقته بما هي موافقة انقيادا ؛ وإن كانت بما هي محتملة لموافقة الواقع كذلك (٥) إذا

______________________________________________________

الأمارة الغير العلمية يعني : أن موضوع آثار الحجية مؤلف من أمرين : أحدهما : إنشاء الحجية والتعبد بالأمارة ، والآخر : إحراز هذا الإنشاء ، والمراد بالآثار المترتبة على الحجية الفعلية التي لا تنفك عنها هي : المنجزية والمؤمنية ، فإن العقل ما لم يحرز حجية الطريق لا يحكم بصحة المؤاخذة على مخالفته ، ولا كونه عذرا ومؤمنا له.

(١) تعليل لكون موضوع آثار الحجة هو الحجة المعلومة.

(٢) أي : بدون إحراز التعبد بالظن «لا يصح المؤاخذة على مخالفة التكليف بمجرد إصابته» أي : إصابة ما لم يعلم اعتباره ، يعني : أن العقل لا يحكم بحسن المؤاخذة على مخالفة الواقع بمجرد كون الطريق المعتبر مصيبا له ، مع عدم إحراز العبد اعتباره ، وغرضه : أن الحجية الإنشائية المحضة لا يترتب عليها أثر من صحة المؤاخذة إن كان الطريق مصيبا ، وكونه مؤمنا وعذرا إن كان مخطئا.

(٣) عطف على «لا يصح» ، وهذا أثر آخر للأمارة المعتبرة ، أي وضرورة أنه لا يكون الطريق الذي لم يحرز التعبد به عذرا عند مخالفة العبد للتكليف في صورة عدم إصابة ذلك الطريق ، مثلا : إذا قامت أمارة غير معتبرة على عدم وجوب صلاة الجمعة ، مع فرض وجوبها واقعا ، واعتمد عليها العبد في ترك صلاة الجمعة ، فإن هذه الأمارة غير المعتبرة لا توجب عذرا للعبد في ترك الواقع.

(٤) عطف على «لا يصح» ، وهذا أيضا أثر آخر للأمارة المعتبرة ، أي : ولا يكون مخالفة ما لم يعلم اعتباره تجريا ، لإناطة صدق التجري على مخالفة ما هو حجة عنده ، والمفروض في المقام : عدم إحراز حجية هذا الطريق فلا يكون مخالفته تجريا.

(٥) أي : انقيادا ، يعني : إن كانت موافقة الطريق غير المعتبر برجاء ، موافقته للواقع انقيادا ، مثلا : لو كان في الواقع الشهرة حجة ؛ لكن لم يعلم المكلف حجيتها. ثم قامت الشهرة على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، فدعا المكلف برجاء مصادفة الواقع ـ والحال أنها لم تصادف الواقع ـ كان هذا العمل انقيادا إذا وقعت الموافقة للشهرة في المثال «برجاء إصابته» الواقع.

هذا بخلاف ما إذا علم حجية الشهرة ، فإنه يجب عليه متابعتها وإن كانت في الواقع أدت إلى وجوب ما ليس في الواقع واجبا.

١٥٩

وقعت برجاء إصابته ، فمع الشك في التعبد به يقطع بعدم حجيته وعدم ترتيب شيء من الآثار عليه (١) للقطع (٢) بانتفاء الموضوع معه ، ولعمري هذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان.

وأما صحة الالتزام (٣) بما أدى إليه من الأحكام ، وصحة نسبته إليه تعالى : فليسا

______________________________________________________

(١) هذا الضمير وضمائر «إصابته وحجيته» راجعة على الموصول في «ما لا يعلم». وقوله : «فمع الشك» نتيجة ما ذكره من كون موضوع آثار الحجة هو الحجة الفعلية ، وأنه يقطع بانتفائها بالشك في الحجية ؛ لما عرفت : من بداهة انتفاء الحكم بارتفاع الموضوع كلا أو بعضا.

(٢) تعليل لقوله : «يقطع بعدم حجيته» ، وضمير «معه» راجع إلى الشك ، يعني : حيث كان موضوع الحجية مؤلفا من التعبد والعلم به ، فإذا شك في التعبد فقد انتفى العلم الذي هو جزء موضوع الحجية ، ولا فرق في القطع بانتفاء الموضوع بين ارتفاع تمام الموضوع وجزئه. والمشار إليه في قوله : «هذا» هو عدم ترتب آثار الحجة على مشكوك الحجية «واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان». هذا الكلام تعريض بالشيخ الأنصاري «قدس‌سره» حيث إنه تمسك لإثبات عدم جواز ترتيب آثار الحجة على مشكوك الحجية بالأدلة الأربعة حيث قال ما هذا لفظه : «فنقول : التعبد بالظن الذي لم يدل على اعتباره دليل محرم بالأدلة الأربعة» ، فراجع «دروس في الرسائل ج ١ ، ص ٢٢٢».

(٣) ردّ على الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» ، فلا بد أولا من بيان ما أفاده الشيخ «قدس‌سره» في المقام ؛ كي يتضح ما أورده المصنف عليه.

وحاصل ما أفاده الشيخ في المقام : أنه جعل الأصل فيما لا يعلم اعتباره من الظن حرمة التعبد به حيث قال : «التعبد بالظن الذي لم يدل دليل على أن التعبد به محرم بالأدلة الأربعة».

ثم استنتج من الأدلة الأربعة : حرمة الالتزام بما أدت إليه الأمارة ، وحرمة إسناده إليه تعالى ؛ لأنهما أثران شرعيان يترتبان على مشكوك الحجية ، كما أن جوازهما أثر شرعي مترتب على معلوم الحجية.

فصحة الالتزام بما أدى إليه الظن من الأحكام ، وصحة نسبته إليه تعالى من آثار الحجية ؛ بأن يقال : إنه لا يصح الالتزام بشيء ولا نسبته إلى الله تعالى ؛ إلا إذا ثبت كونه حجة ، فما لم تثبت حجيته لا يصح الالتزام به ، ولا نسبته إليه تعالى هذا خلاصة ما

١٦٠