دروس في الكفاية - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٧

ربما يوجب موافقته استحقاق المثوبة ؛ وذلك لأن الحكم ما لم يبلغ تلك المرتبة لم يكن حقيقة بأمر ولا نهي ، ولا مخالفته عن عمد بعصيان ؛ بل كان (١) مما سكت الله عنه ، كما في الخبر ، فلاحظ وتدبر.

نعم ؛ في كونه (٢) بهذه المرتبة موردا للوظائف المقررة شرعا للجاهل إشكال لزوم

______________________________________________________

وعلى هذا : فالقطع لا يكون موضوعا للأثرين المذكورين ـ وهما ـ وجوب العمل على طبقه وكونه منجّزا للتكليف إلا إذا تعلق بمرتبة الفعلية.

وكيف كان ؛ فقد ظهر من جميع ما ذكر وجه تقييد المصنف الحكم بالفعلي في قوله : «إذا التفت إلى حكم فعلي واقعي أو ظاهري ...».

فالمتحصل : أن الحكم ما لم يبلغ مرتبة الفعلية لم يكن حقيقة بأمر ولا نهي ؛ إذا الحكم إنما يسمى أمرا أو نهيا حتى يدخل تحت قوله تعالى : ـ (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ـ إذا وصل مرتبة الفعلية. وأما إذا لم يبلغ مرتبة الفعلية : فلم يكن في موافقته ثواب ولا في مخالفته عقاب.

مثلا : لو علم بعض المسلمين في أول ظهور الإسلام بالمفسدة في الخمر وإنشاء المولى الحرمة ؛ ولكن لم يكن هناك زجر فعلي كان شربها غير موجب للعقاب.

قوله : «وإن كان ربما يوجب موافقته» أي : موافقة ما لم يصر فعليا وهو الإنشائي المحض «استحقاق المثوبة» إذا أتى به بعنوان كونه محبوبا للمولى ؛ لانطباق عنوان الانقياد عليه. فالمثوبة حينئذ مرتبة على مجرد الانقياد للمولى لا على نفس الفعل حتى يكون من الإطاعة الحقيقية ، فاستحقاق المثوبة يفترق عن استحقاق العقوبة.

وحاصل الفرق : أن موافقة الحكم غير الفعلي توجب استحقاق المثوبة ؛ ولكن مخالفته لا توجب استحقاق العقوبة. قوله : «لأن الحكم» تعليل لاختصاص حجية القطع بما إذا تعلق بالحكم الفعلي.

(١) أي : بل كان الحكم غير الفعلي مما سكت الله عنه ، كما في الخبر المروي عن أمير المؤمنين «عليه الصلاة والسلام» : «إن الله تعالى حدد حدودا فلا تعتدوها ، وفرض فرائض فلا تعصوها وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلفوها رحمة من الله لكم» ، فلاحظ وتدبر حتى تستفيد منه عدم العقوبة على مخالفة الحكم المسكوت عنه وإن كان العمل به ليس محرما بقرينة قوله : «عليه‌السلام» : «فلا تتكلفوها». وقوله «رحمة من الله لكم» كما في «الوصول إلى كفاية الأصول ، ج ٣ ، ص ٢٨٨».

(٢) أي : في الحكم والتكليف «بهذه المرتبة» أعني : الفعلية «موردا للوظائف المقررة

٢١

اجتماع الضدين أو المثلين ، على ما يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى ، مع ما هو التحقيق في دفعه في التوفيق بين الحكم الواقعي والظاهري فانتظر.

______________________________________________________

شرعا للجاهل» من الأمارات والأصول الشرعية «إشكال لزوم اجتماع الضدين أو المثلين» ، الأول : في صورة مخالفة الأمارات والأصول الشرعية للواقع ؛ كما إذا كان شرب التتن حراما في الواقع وأدت الأمارة إلى حليته أو تقتضي أصالة الحلية إباحته ، يلزم اجتماع الضدين وهو مستحيل.

والثاني : في صورة الموافقة ؛ بأن طابقت الأمارة أو الأصل مع الحكم الواقعي ؛ بأن كان شرب التتن في المثال المذكور حلالا في الواقع ، فيلزم اجتماع المثلين يعني : إباحة واقعية وإباحة ظاهرية ، ومن المعلوم : أن اجتماع المثلين مثل اجتماع الضدين في الاستحالة.

وكيف كان ؛ فقوله : «نعم» استدراك عما اختاره المصنف من جعل الأحكام التي هي متعلقات الأمارات والأصول فعلية ، فحينئذ : يلزم إشكال اجتماع الضدين أو المثلين كما عرفت.

وسيأتي التعرض لهذا الإشكال مع جوابه في أول بحث الظن في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري فانتظر.

هذا تمام الكلام في حجية القطع.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ الأمارات المعتبرة عقلا كحجية الظن الانسدادي بناء على الحكومة.

الأمارات المعتبرة شرعا كحجية خبر العادل مثلا.

٢ ـ خروج بحث أحكام القطع عن المسائل الأصولية ؛ لأن المسائل الأصولية على قسمين :

الأول : ما يصح جعلها كبرى للصغريات الوجدانية حتى تنتج الحكم الفرعي ؛ كالبحث عن حجية خبر الواحد مثلا.

الثاني : ما ينتهي إليه الفقيه في مقام العمل كالاستصحاب والبراءة ونحوهما.

والبحث عن أحكام القطع ليس من القسمين.

٣ ـ بحث القطع أشبه بمسائل الكلام ؛ وذلك لأنه من مسائل الكلام كون الله تعالى يثيب عباده على الطاعات ويعاقبهم على المعاصي ، ويبحث في القطع عن العقاب أو

٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الثواب على فعل المقطوع به أو تركه ، فيكون بحث القطع من المسائل الكلامية. وأما تعبير المصنف بالأشبهيّة : فلعله لأجل أن المسألة الكلامية ليست مطلق المسائل العقلية ؛ بل ما يرتبط بالعقائد ، وبحث القطع غير مرتبط بالعقائد.

٤ ـ وأما عدول المصنف عما في كلام الشيخ الأنصاري من التقسيم الثلاثي إلى التقسيم الثنائي أو إلى ثلاثي آخر فلوجوه :

الأول : لا يصح تقسيم المكلف الفعلي إلى القاطع والظان والشاك ؛ بل المكلف الفعلي إما قاطع بالحكم وإما ليس بقاطع ، فلا بد حينئذ من جعل التقسيم ثنائيا.

الوجه الثاني : أنه لا بد من تعميم الحكم للواقعي والظاهري ؛ لأن الحكم الظاهري الثابت في موارد الأمارات والأصول العملية يندرج في الحكم المقطوع به ، ولازم ذلك : كون المكلف قاطعا بالحكم الظاهري ، فهو إما قاطع بالحكم أو لا.

الوجه الثالث : هو وجه العدول عن تثليث الشيخ الأنصاري إلى تثليث آخر هو : أن تثليث الشيح مستلزم لتداخل موارد الأمارات والأصول العملية ، هذا بخلاف تثليث المصنف فإنه لا يلزم منه تداخل أصلا.

وكيف كان ؛ فالمصنف إنما نهج هذا النهج في التقسيم الثلاثي فرارا عن محذور التداخل الثابت في تثليث الشيخ «قدس‌سره».

٥ ـ أن القطع حجة بمعنى : وجوب العمل على وفقه ، وحجيته بهذا المعنى ذاتية غير قابلة للجعل إثباتا ونفيا ، سواء كانت ذاتية باب البرهان أو الإيساغوجي ؛ لأن ثبوت الذاتي بكلا المعنيين ضروري ، وسلبه مستحيل. ثم ما يطلق على القطع من الحجة هو الحجة بالمعنى اللغوي لا الحجة بالمعنى المنطقي أو الأصولي. والحجية بالمعنى اللغوي من الأحكام العقلية الصادرة من العقل في مورد القطع بحكم المولى ، فيترتب عليه ما تقدم من الأثرين وهما : وجوب العمل على طبق القطع وكونه منجزا للتكليف الفعلي فيما أصاب ، وعذرا فيما أخطأ عن قصور.

٦ ـ أن للحكم مراتب أربع : ١ ـ الاقتضاء ٢ ـ الإنشاء ٣ ـ الفعلية ٤ ـ التنجز.

ثم وجوب العمل بالقطع عقلا وقضاء الضرورة والوجدان باستحقاق العقوبة على المخالفة ، والمثوبة على الموافقة إنما هو فيما إذا تعلق القطع بالمرتبة الفعلية ؛ لا بما قبلها من المرتبة الاقتضائية أو الإنشائية ؛ لأن الحكم ما لم يبلغ مرتبة الفعلية لم يكن حقيقة بأمر ولا نهي ، فلا يكون في موافقته ثواب ولا في مخالفته عقاب.

٢٣

الأمر الثاني (١):

قد عرفت إنه لا شبهة في أن القطع يوجب استحقاق العقوبة على المخالفة ، والمثوبة على الموافقة في صورة الإصابة ، فهل يوجب استحقاقها في صورة عدم الإصابة على التجري بمخالفته ، واستحقاق المثوبة على الانقياد بموافقته ، أو لا يوجب شيئا؟

______________________________________________________

٧ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ الصحيح هو التقسيم الثنائي لا الثلاثي.

٢ ـ حجية القطع ذاتية غير قابلة للجعل لا إثباتا ولا نفيا.

٣ ـ أن للحكم مراتب أربع.

٤ ـ أن الأثر يترتب على القطع بالحكم إذا تعلق بالمرتبة الفعلية دون ما قبلها من المرتبة الاقتضائية أو الإنشائية.

في التجري

(١) الغرض من عقد هذا الأمر : التعرض لأمرين :

الأول : حكم مخالفة القطع غير المصيب وإنها هل توجب استحقاق العقوبة أم لا؟ وهذا هو المسمى بالتجري.

الثاني : حكم موافقة القطع غير المصيب ، وأنها هل توجب استحقاق المثوبة أم لا؟ وهو المسمى بالانقياد ، ولعل وجه تسمية هذا البحث بالتجري لا الانقياد هو : سهولة الأمر في ترتب الثواب على الانقياد ، دون استحقاق العقوبة على التجري ، حيث إنه محل الكلام والنقض والإبرام.

وقبل الخوض في البحث ينبغي بيان أمرين :

الأول : بيان الفرق بين التجري والمعصية من جهة ، وبين الانقياد والإطاعة من جهة أخرى.

الثاني : بيان جهات ثلاث في بحث التجري.

الجهة الأولى : كلامية. الثانية : أصولية. الثالثة : فقهية.

أما الأمر الأول : فنقول : إن التجري لغة وإن كان أعم من المعصية ؛ لأنه من الجرأة بمعنى : إرادة مخالفة المولى ، سواء كانت هناك في الواقع مخالفة أم لا ، فيكون شاملا للمعصية. هذا بخلاف الانقياد لغة : فإنه بمعنى : إرادة موافقة المولى ، سواء كانت هناك موافقة في الواقع أم لا. فيكون شاملا للإطاعة. هذا بحسب اللغة.

٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وأما بحسب الاصطلاح الأصولي : فيكون التجري مباينا للعصيان ، وكذلك يكون الانقياد مباينا للإطاعة.

وذلك أن التجري في الاصطلاح الأصولي هو : مخالفة القطع غير المصادف للواقع ، أو مخالفة مطلق الحجة غير المصادف للواقع. هذا بخلاف المعصية فإنها عبارة عن مخالفة القطع المصادف للواقع. وكذلك بالنسبة إلى الانقياد والإطاعة ، فالأول : هو موافقة القطع غير المصادف للواقع. والثاني : موافقة القطع المصادف للواقع.

هذا تمام الكلام في الأمر الأوّل.

وأما الأمر الثاني : فنقول : إن مسألة التجري يمكن تكون من المسائل الكلامية ، فيبحث فيها عن استحقاق المتجري للعقاب وعدم استحقاق له ، ويمكن أن تكون من المسائل الفقهية ، فيبحث فيها عن أن الفعل المتجري به هل يكون محرما أم لا؟

ويمكن أن تجعل من المسائل الأصولية ، فيبحث فيها عن أن التجري هل يوجب قبح الفعل المتجري به فيترتب عليه الحكم بالحرمة ، فتقع في طريق استنباط الحكم الشرعي ، فتكون من المسائل الأصولية.

إذا عرفت هذين الأمرين فيقع الكلام في بيان ما هو محل الكلام في المقام فيقال : إن الظاهر هو عدم الخلاف في حجية القطع ، بمعنى : صحة الاحتجاج من المكلف على الشارع في مورد الإطاعة والانقياد ، ومن الشارع على المكلف في مورد المعصية ، وإنما الخلاف في حجية القطع للشارع على المكلف في مورد التجري هل يكون قطعه هذا حجة حتى يعاقب المكلف على المخالفة أم لا؟

بمعنى : أنه كان للشارع أن يحتج به عليه ويعاقبه عند مخالفته لقطعه وإن كان جهلا مركبا. وهناك أقوال :

قال المصنف : إن التجري يوجب استحقاق العقوبة لانطباق عنوان الطغيان والتمرد عليه ، كما أشار إليه بقوله : «الحق أنه يوجبه لشهادة الوجدان بصحة مؤاخذته».

وقال الشيخ الأنصاري : إن التجري لا يقتضي شيئا سوى الكشف عن سوء سريرة الفاعل وخبث باطنه الذي لا يترتب عليه سوى اللوم.

وقيل : باقتضائه لاستحقاق العقوبة على مجرد العزم على العصيان محضا لا على الفعل المتجري به نظرا إلى أن التجري من المحرمات الجنانية لا الجوارحية.

قوله : «قد عرفت إنه لا شبهة في أن القطع يوجب استحقاق العقوبة على المخالفة».

٢٥

الحق : أنه (١) يوجبه ؛ لشهادة الوجدان بصحة مؤاخذته ، وذمه على تجريه ، وهتكه لحرمة مولاه ، وخروجه عن رسوم عبوديته ، وكونه بصدد الطغيان ، وعزمه على العصيان ، وصحة مثوبته ، ومدحه على قيامه بما هو قضية عبوديته ، من العزم على موافقته والبناء على إطاعته.

______________________________________________________

يعني : تقدم في الأمر الأول حيث قال : لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع ؛ إلى أن قال : «باستحقاق الذم والعقاب على مخالفته» ؛ ولكن ما سبق في الأمر الأول هو خصوص استحقاق العقاب على المخالفة ، دون استحقاق المثوبة على الموافقة. فعطف المصنف قوله : «والمثوبة على الموافقة» على قوله : يوجب استحقاق العقوبة على المخالفة مما لا يخلو عن مسامحة.

إلا أن يقال : أن المراد بما تقدم في الأمر الأول هو قوله «وإن كان ربما يوجب موافقته استحقاق المثوبة» فإنه يفهم منه ترتب استحقاق الثواب على القطع بالحكم الفعلي بالأولوية القطعية من استحقاقه على القطع بالحكم الإنشائي.

(١) أي : القطع يوجب الاستحقاق.

وحاصل ما أفاده المصنف في المقام : إنه لا فرق في استحقاق العقوبة عقلا على مخالفة القطع بين إصابته وخطئه ، وإن عصيان المولى والتجري الذي هو قصد مخالفته يرتضعان من ثدي واحد ؛ لكون المناط فيهما ـ وهو هتك حرمة المولى والعزم على عصيانه والخروج عن رسوم عبوديته ـ واحدا ، ضرورة : إن مجرد ترك الواقع لا يوجب ذما ولا عقوبة ما لم يكن عن إرادة العصيان والطغيان على المولى ، ولذا لا عقاب قطعا على ترك الواقع في مورد الشبهات البدوية المستند إلى ترخيص الشارع.

وكيف كان ؛ فتوضيح استحقاق المتجري للعقاب يتوقف على مقدمة وهي : إن للفعل الخارجي ـ مثل شرب الخمر ـ عناوين ثلاث :

الأول : عنوان الشرب من حيث هو شرب بلا إضافته إلى شيء.

الثاني : كون هذا الشرب مضافا إلى الخمر الذي هو مبغوض المولى. بحيث يصح أن يقال هذا شرب الخمر.

الثالث : كونه مخالفة لما نهاه الشارع عنه بعد تنجّزه عليه.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : إن مناط استحقاق العقاب ليس هو الأول ، ولا الثاني.

أما الأول : فلأن استحقاقه لو كان لصدق عنوان الشرب بما هو شرب للزم استحقاقه على شرب كل مائع وهو بديهي الفساد.

٢٦

وإن قلنا : بأنه لا يستحق مؤاخذة أو مثوبة ؛ ما لم يعزم على المخالفة أو الموافقة ، بمجرد سوء سريرته أو حسنها ، وإن كان مستحقا للوم أو المدح بما يستتبعانه (١) ، كسائر الصفات والأخلاق الذميمة أو الحسنة.

وبالجملة (٢) : ما دامت فيه صفة كامنة لا يستحق بها إلا مدحا أو لوما ، وإنما يستحق الجزاء بالمثوبة أو العقوبة مضافا إلى أحدهما (٣) ، إذا صار بصدد الجري على

______________________________________________________

وأما الثاني : فلأنه لو كان الموجب لاستحقاق العقاب مجرد عنوان شرب الخمر للزم استحقاقه على شربه حال الجهل به أو الغفلة عنه ؛ كاستحقاقه على الشرب حال العلم والالتفات ، لصدق عنوان شرب الخمر في الجميع ، مع إنه ليس كذلك قطعا ، فتعيّن أن يكون المناط في استحقاق العقاب هو العنوان الثالث ـ أي : شرب الخمر المعلوم تعلق النهي به ـ إذ به يصير العبد خارجا عن رسوم العبودية ، ويكون بصدد الطغيان على مولاه ، ومن المعلوم : أن هذا المناط موجود في حق المتجري كوجوده في حق العاصي ، فإن المتجري أيضا في مقام الطغيان على مولاه وهتك حرمته ؛ لفرض اعتقاده جزما بأن ما يشربه هو الخمر المبغوض للمولى ؛ وإن صادف كونه خلا أو ماء ، فلا بد من القول باستحقاقه للعقاب لاشتراكه مع العاصي فيما هو الملاك لاستحقاق العقوبة ، هذا بالنسبة إلى التجري.

ويجري الكلام بعينه في الانقياد ، فإن الانقياد هو : العزم على موافقة المولى كالإطاعة وهو المناط في استحقاق المثوبة ، فهما مشتركان في المناط.

(١) الضمير راجع على «ما» الموصولة المقصود به العزم على الموافقة أو المخالفة. وضمير التثنية راجع على سوء السريرة أو حسنها والباء للسببية. يعني : إن سبب اللوم والمدح ليس نفس هاتين الصفتين ـ أعني : سوء السريرة وحسنها ـ بل ما يترتب عليهما من العزم على المخالفة وتمرد المولى ، والعزم على الموافقة والانقياد للمولى ؛ «كسائر الصفات والأخلاق الذميمة أو الحسنة» كالشجاعة والجبن والجود والبخل ، فإنها وإن كانت لا توجب ثوابا أو عقابا ، ولكنها موجبة للمدح والذم فيقال : «فلان كريم» في مقام المدح ، «أو بخيل» في مقام الذم.

(٢) هذا حاصل ما أفاده آنفا من عدم ترتب المثوبة أو العقوبة على مجرد سوء السريرة أو حسنها.

(٣) أي : المدح والذم. والضمير في «بها» و «طبقها» و «وفقها» راجع إلى الصفة الكامنة.

٢٧

طبقها والعمل على وفقها وجزم وعزم (١) ؛ وذلك (٢) لعدم صحة مؤاخذته بمجرد سوء سريرته من دون ذلك ، وحسنها معه ، كما يشهد به مراجعة الوجدان الحاكم بالاستقلال في مثل باب الإطاعة والعصيان ، وما يستتبعان من (٣) استحقاق النيران أو الجنان.

ولكن ذلك (٤) مع بقاء الفعل المتجرى به أو المنقاد به على ما هو عليه من الحسن

______________________________________________________

(١) هما من مقدمات الإرادة ، والجزم حكم القلب بأنه ينبغي صدور الفعل بدفع الموانع ، والعزم هو الميل السابق على الشوق المؤكد ، فالعزم مترتب على الجزم ، كما أن الجزم مترتب على التصديق بغاية الفعل ، والتصديق بالغاية مترتب على العلم بها ، كما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٤١».

(٢) تعليل لعدم صحة المؤاخذة بمجرد سوء السريرة وصحتها مع العزم على المخالفة وحاصله : أن الوجدان الذي هو الحاكم في باب الإطاعة والعصيان وتوابعهما يشهد بصحة المؤاخذة على العزم على المخالفة ، وعدم صحتها على مجرد سوء السريرة ، والمشار إليه في قوله : «من دون ذلك» هو العزم والضمير في «مؤاخذته» و «سريرته» راجع على العبد.

(٣) بيان للموصول في «وما يستتبعان» ، وضمير التثنية راجع على الإطاعة والعصيان.

وحاصل الكلام : أن استحقاق النيران والجنان مترتب على العصيان والإطاعة.

(٤) أي : الذي ذكرنا من كون التجري موجبا للعقاب والانقياد موجبا للثواب ، «مع بقاء الفعل المتجرى به أو المنقاد به على ما هو عليه ، قبل عروض عنواني التجري والانقياد عليه «من الحسن أو القبح والوجوب أو الحرمة واقعا» ، هذا إشارة إلى جهة كون مسألة التجري أصولية أو فقهية.

وأما الجهة الأصولية فهي : أن القطع بوجوب فعل أو حرمته هل يوجب حدوث مصلحة أو مفسدة فيه تقتضي وجوبه أو حرمته شرعا أم لا؟

ويقول المصنف : إن الفعل المتجرى به باق على ما كان عليه واقعا من المحبوبية أو المبغوضية بتعلقه به ، وليس كالضرر والاضطرار من العناوين المغيّرة للأحكام الأولية.

وعليه : فلا يصير شرب الماء مبغوضا للشارع بسبب القطع بخمريته ، كما لا يصير قتل ولد المولى محبوبا له بسبب علم العبد بكونه عدوّا للمولى.

وكذا يقال في الجهة الفقهية : إن تعلق القطع بالمحبوبية أو المبغوضية لا يوجب اتصاف

٢٨

أو القبح والوجوب أو الحرمة واقعا ، بلا حدوث تفاوت فيه بسبب تعلق القطع بغير ما هو عليه من الحكم والصفة ، ولا يغير (١) حسنه أو قبحه بجهة أصلا ، ضرورة (٢) : أن

______________________________________________________

الفعل بالوجوب أو الحرمة ، فالقطع بهما لا يؤثر في صفة الفعل المتجرى به واقعا من الحسن أو القبح ، ولا في حكمه الشرعي من الوجوب أو الحرمة.

(١) يعني : ولا يغيّر تعلق القطع بغير ما عليه الفعل المتجرى به من الحكم والصفة حسن الفعل المتجرى به أو قبحه أصلا.

(٢) هذا برهان لما ادعاه من عدم كون القطع مغيّرا لحسن الفعل وقبحه ، ولا لحكمه من الوجوب أو الحرمة أو غيرهما.

وحاصل ما أفاده يرجع إلى وجهين :

أحدهما : حكم الوجدان بعدم تأثير القطع في الحسن أو القبح والوجوب أو الحرمة ؛ إذ ليس القطع من الوجوه والاعتبارات الموجبة للحسن أو القبح عقلا ، وعدم كونه ملاكا للمحبوبية والمبغوضية شرعا ليغيّر الحكم الواقعي بسبب تعلق القطع بخلافه. وأما حكم الوجدان بذلك : فلما نجده من قبح قتل ابن المولى وإن قطع العبد بكونه عدوّا له ، وحسن قتل عدوّه وإن قطع العبد بأنه صديقه.

وثانيهما : ما أشار إليه بقوله : «مع أن الفعل المتجرى به».

وحاصله : أنه لو سلمنا كون عنوان «مقطوع المبغوضية» من العناوين المغيّرة للواقع وموجبا للقبح ؛ لكنه في خصوص المقام لا يصلح لتغيير الواقع ؛ وذلك لأن اتصاف فعل بالحسن أو القبح الفعليين منوط بالاختيار ـ وإن لم يكن اتصافه بالحسن أو القبح الاقتضائيين منوطا به ـ فإن الحسن والقبح من الأحكام العقلية المترتبة على العناوين والأفعال الاختيارية وهذا الشرط ـ أعني : الاختيار ـ مفقود هنا ؛ إذ العنوان الذي يتوهم كونه مقبحا هو القطع بالحكم كالحرمة أو الوجوب ، أو بالصفة كالقطع بخمرية مائع ، ومن المعلوم : أن القاطع لا يقصد ارتكاب الفعل إلا بعنوانه الواقعي ؛ لا بعنوان كونه مقطوعا به ، فإذا قطع بخمرية مائع وشربه فقد قصد شرب الخمر ولم يقصد شرب مقطوع الخمرية ، ومع انتفاء هذا القصد الكاشف عن عدم الاختيار لا يتصف هذا الشرب بالقبح ؛ لانتفاء مناط القبح فيه وهو قصد شرب معلوم الخمرية ؛ بل يمكن أن يقال : بانتفاء الالتفات إلى هذا العنوان الطارئ ـ أعني : معلوم الخمرية ـ بعد وضوح كون القطع كالمرآة طريقا محضا إلى متعلقه ، ومع عدم الالتفات إلى هذا العنوان يستحيل القصد إليه ، ومع امتناعه لا يتصور القصد المقوّم للاختيار.

٢٩

القطع بالحسن أو القبح لا يكون من الوجوه والاعتبارات التي بها يكون الحسن والقبح عقلا ولا ملاكا للمحبوبية والمبغوضية شرعا ، ضرورة : عدم تغير الفعل عما هو عليه من المبغوضية والمحبوبية للمولى ، بسبب قطع العبد بكونه محبوبا أو مبغوضا له ، فقتل ابن المولى لا يكاد يخرج عن كونه مبغوضا له ولو اعتقد العبد بأنه عدوه ، وكذا قتل عدوه مع القطع بأنه ابنه لا يخرج عن كونه محبوبا أبدا ، هذا مع (١) أن الفعل المتجرى به أو المنقاد بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب لا يكون اختياريا ، فإن (٢) القاطع لا يقصده إلا بما قطع أنه عليه من عنوانه الواقعي الاستقلالي لا بعنوانه الطارئ الآلي (٣) ؛ بل لا يكون (٤) غالبا بهذا العنوان مما يلتفت إليه ، فكيف يكون (٥) من جهات الحسن أو القبح عقلا ، ومن مناطات الوجوب أو الحرمة شرعا؟ ولا (٦) يكاد يكون صفة موجبة لذلك إلّا إذا كانت اختيارية.

______________________________________________________

وبالجملة : فلا يصلح عنوان «مقطوع المبغوضية» لأن يكون موجبا لقبح الفعل ؛ لكونه غير اختياري للفاعل المتجرّي على كل حال ؛ إما للغفلة عن عنوان «المقطوعيّة» ، وإما لعدم تعلق غرض عقلائي بقصد عنوان المقطوعية ، كما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ١٤٥».

(١) هذا إشارة إلى الوجه الثاني من الوجهين اللذين ذكرهما المصنف على ما اختاره من عدم كون القطع مغيّرا لحسن الفعل وقبحه ، وقد تقدم تفصيل ذلك فلا حاجة إلى الإعادة والتكرار.

(٢) تعليل لقوله : «لا يكون اختياريا» ، وقد عرفت بيان ذلك.

(٣) وهو كونه مقطوعا به كشرب معلوم الخمرية ، والتعبير بالآلية لأجل أن العلم آلة للحاظ متعلقه ، وطريق إليه في قبال لحاظه مستقلا ، وضمير بعنوانه راجع على الفعل المتجرى به أو المنقاد به.

(٤) أي : بل لا يكون الفعل المتجرى به أو المنقاد به بعنوانه الطارئ الآلي مما يلتفت إليه ، فلا يكون ارتكابه بهذا العنوان اختياريا له ، وقصد المصنف بذلك : إن انتفاء الاختيار غالبا لأحد أمرين : أحدهما : انتفاء القصد ، والآخر : انتفاء الالتفات ، وقد يكون من وجه واحد وهو انتفاء القصد.

(٥) أي : لا يكون الفعل المتجرى به أو المنقاد به بهذا العنوان الطارئ الآلي ـ مع كونه مغفولا عنه ـ من جهات الحسن أو القبح.

(٦) الواو للحال ، يعني : والحال أنه لا يكاد يكون صفة موجبة لذلك ـ أي : للحسن

٣٠

إن قلت : إذا لم يكن الفعل كذلك (١) ، فلا وجه لاستحقاق العقوبة على مخالفة القطع ، وهل كان العقاب عليها إلا عقابا على ما ليس بالاختيار؟

قلت (٢) : العقاب إنما يكون على قصد العصيان ، والعزم على الطغيان ؛ لا على

______________________________________________________

والقبح أو الوجوب والحرمة ـ إلا إذا كانت تلك الصفة اختيارية لا غير اختيارية كما في المقام ، حيث كان عنوان «المقطوع به» مغفولا عنه ، فلا يترتب عليه حسن ولا قبح ولا وجوب ولا حرمة لعدم كونه اختياريا.

فالمتحصل : إن القطع ليس من العناوين المحسّنة والمقبحة أوّلا ، وعلى تقدير تسليم كونه من تلك العناوين : ليس موجبا للحسن والقبح في خصوص المقام ؛ لعدم الالتفات إليه ، فلا يكون اختياريا حتى يكون محسنا أو مقبحا.

(١) أي : إذا لم يكن الفعل المتجرى به بما هو مقطوع الحرمة اختياريا لعدم الالتفات إلى هذا العنوان ، «فلا وجه لاستحقاق العقوبة على مخالفة القطع» ؛ لأن المائع المزعوم كونه خمرا بعنوان أنه مقطوع الخمرية ليس اختياريا حتى يوجب العقاب ، فحينئذ ليس العقاب على مخالفة القطع إلا عقابا على ما ليس بالاختيار ؛ إذ ما قصده من شرب الخمر لم يقع ، والذي وقع من شرب معلوم الخمرية لم يكن باختيار ، فلا يصح العقاب ، وعليه : فلا بدّ من رفع اليد عما تقدم من استحقاق العقوبة على الفعل المتجرى به ، أو الالتزام بصحة العقوبة على ما ليس باختياري. فهذا الإشكال ناظر إلى قوله : «ولا يكاد يكون صفة موجبة لذلك إلا إذا كانت اختيارية». وقد تقدم توضيح الإشكال.

وكيف كان ؛ فالالتزام بعدم كون الفعل المتجري به ـ بعنوان كونه معلوم الوجوب أو الحرمة ـ اختياريا وبقائه على ما هو عليه واقعا من الملاك ينافي ما اعترف به سابقا من استحقاق العقوبة عليه ؛ إذ من لوازم عدم اختيارية عنوان معلوم الحرمة أو الوجوب عدم استحقاق العقوبة على الفعل المتجرى به المتصف بهذا العنوان الغير الاختياري ، والمفروض أيضا : عدم كون الفعل بنفسه موجبا لاستحقاق العقوبة.

(٢) هذا دفع للإشكال فيقال في دفع هذا الإشكال : إنه وارد لو قلنا بأن العقاب على الفعل وليس كذلك حتى يقال بأن الفعل المتجرّى به ليس اختياريا لأجل الغفلة ، فكيف يوجب استحقاق العقوبة عليه؟

بل نقول : إن استحقاق العقوبة إنما هو على قصد المخالفة والطغيان والخروج عن رسوم العبودية ، فلا أساس لهذا الإشكال أصلا ؛ إذ لو كان الاستحقاق على نفس الفعل توجّه إشكال المنافاة المتقدم بيانه.

٣١

الفعل الصادر بهذا العنوان (١) بلا اختيار.

إن قلت (٢) : إن القصد والعزم إنما يكون من مبادئ الاختيار ، وهي ليست باختيارية ؛ وإلا لتسلسل.

قلت (٣): ـ مضافا إلى إن الاختيار وإن لم يكن بالاختيار ، إلا إن بعض مباديه غالبا

______________________________________________________

وأما إذا ترتب الاستحقاق على مجرّد القصد لم يلزم منافاة بين الاستحقاق وبين عدم اختيارية عنوان «معلوم الوجوب أو الحرمة» مثلا.

(١) أي : بعنوان أنه مقطوع حتى يقال : إنه «بلا اختيار» ، ولا يصح العقاب على الأمر الغير الاختياري.

(٢) وهذا الإشكال راجع على الجواب عن الإشكال السابق بتقريب : أنه لا بد أن يكون استحقاق العقوبة على نفس الفعل المتجرى به ؛ لا على قصد العصيان كما قلتم في الجواب عن الإشكال المتقدم ؛ لأن العقاب على قصد العصيان عقاب على أمر غير اختياري ، فإن القصد يكون أمرا غير اختياريّ بتقريب : أن القصد من مبادئ الفعل الاختياري الذي يتوقف على العزم والإرادة اللذين إن كانا اختياريين يجب أن يكونا مسبوقين بعزم وإرادة آخرين ، فيلزم الدور أو التسلسل ؛ إذ لو كانت الإرادة الثانية بالإرادة الأولى لزم الدور ، وإن كانت بالإرادة الثالثة والثالثة بالإرادة الرابعة إلى ما لا نهاية لزم التسلسل ، وكلاهما باطل.

وإن كانت الإرادة الثانية اضطرارية : لكانت الإرادة الأولى أيضا اضطرارية ؛ لأنهما مثلان وحكم الأمثال فيما يجوز ولا يجوز واحد ، ولازم ذلك : أن يكون العقاب بالآخرة على أمر غير اختياري.

فالنتيجة : أنه لا يصح العقاب على القصد ، كما في الجواب عن الإشكال.

(٣) وقد أجاب المصنف عن الإشكال المزبور بوجهين : أحدهما : حلي ، والآخر : نقضي.

وقد أشار إلى الوجه الأول بقوله : «مضافا». وحاصله : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٥٠» ـ أن الاختيار وإن لم يكن بجميع مباديه اختياريا ؛ لاستلزامه الدور أو التسلسل كما تقدم ، إلا إنه لما كان بعض مباديه اختياريا صحّت إناطة الثواب والعقاب به ، وتوضيحه : إن ما يرد على القلب قبل صدور الفعل في الخارج أمور :

الأول : حديث النفس ، وهو خطور العمل كشرب الخمر ويسمى بالخاطر.

الثاني : خطور فائدته.

٣٢

يكون وجوده بالاختيار ، للتمكن من عدمه بالتأمل فيما يترتب على ما عزم عليه من تبعة العقوبة واللوم والمذمة ـ يمكن أن يقال : إن حسن المؤاخذة والعقوبة إنما يكون من تبعة بعده عن سيده بتجرّيه عليه كما كان من تبعته بالعصيان في صورة المصادفة ، فكما أنه يوجب البعد عنه.

______________________________________________________

الثالث : التصديق بترتب تلك الفائدة عليه.

الرابع : هيجان الرغبة إلى ذلك الفعل ، وهو المسمى بالميل.

الخامس : الجزم وهو : حكم القلب بأن هذا الفعل مما ينبغي صدوره بدفع موانع وجوده أو رفعها عنه.

السادس : القصد ، وقد يعبر عنه بالعزم وهو : الميل أعني : عقد القلب على إمضاء صدور الفعل.

السابع : أمر النفس وتحريكها للعضلات ـ التي هي عوامل النفس ـ نحو صدور الفعل.

إذا عرفت هذه الأمور السبعة فاعلم : أن الأربعة الأولى بالترتيب ـ أعني : حديث النفس ، وتصور الفائدة ، والتصديق بترتبها ، والميل ـ ليست باختيارية. وأما الجزم والقصد فهما من حيث الاختيار والاضطرار مختلفان بحسب اختلاف حالات الإنسان في القدرة على الصرف والفسخ بسبب التأمل فبما يترتب عليه من التبعات ، وفي عدم القدرة على الفسخ لشدة ميله إلى الفعل بحيث لا يلتفت إلى تبعاته ، أو لا يعتني بها ، والمؤاخذة تحسن على الاختياري منه دون الاضطراري.

وبالجملة : فالمتجري والمنقاد إنما يعاقب ويثاب على بعض مقدمات الاختيار من القصد والجزم ؛ لا على نفس العمل.

فالمراد من بعض مبادئ الاختيار في قوله : «بعض مباديه» هو الجزم والقصد والتصديق بالفائدة.

قوله : «يمكن أن يقال» إشارة إلى الوجه الثاني وهو الجواب النقضي.

وحاصله : يرجع إلى منع قبح استحقاق العقاب على ما لا يرجع إلى الاختيار.

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن استحقاق العقوبة تارة : يكون لأجل المعصية ، وأخرى : لأجل بعد العبد عن مولاه الحقيقي وهو الله تعالى. وهذا البعد معلول للتجري كما هو معلول للمعصية الحقيقية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن حسن المؤاخذة في المعصية معلول للبعد الناشئ عن

٣٣

كذلك (١) لا غرو في أن يوجب حسن العقوبة ، فإنه وإن لم يكن باختياره ، إلا إنه بسوء سريرته وخبث باطنه بحسب نقصانه واقتضاء استعداده ذاتا وإمكانا.

______________________________________________________

العصيان الذي لا يكون اختياريا ؛ لأن العصيان عبارة عن المخالفة العمدية ، والعمد ليس باختياري ؛ بل الاختياري هو نفس المخالفة التي لا يترتب عليها استحقاق العقوبة ؛ وإلا لكان يترتب عليها استحقاق العقوبة في موارد الأصول العملية.

فالحاصل : أن استحقاق العقوبة إنما هو من تبعات بعد العبد عن مولاه ، وهذا البعد معلول للتجري كما هو معلول المعصية.

فالنتيجة : أن العقاب في كل من التجري والمعصية معلول للبعد الناشئ من إرادة المخالفة والطغيان ، وهي تنشأ من العزم المعلول للجزم الناشئ من الميل إلى القبح المعلول للشقاوة وهي سوء السريرة ، المستند إلى ذات العبد ، ومن المعلوم : أن الذاتيات ضرورية الثبوت للذات ، وبعد انتهاء الأمر إلى الذاتي ينقطع السؤال بلم ، فلا يقال : «إن الكافر لما ذا اختار الكفر» و «لم اختار العاصي المعصية» ، وكذا يقال في جانب الإطاعة والإيمان ، فإنّ كل ذلك لما كان منتهيا إلى الخصوصية الذاتية فلا مجال للسؤال عنه ؛ لأنه مساوق للسؤال عن «أن الإنسان لم صار ناطقا والحمار لم صار ناهقا» ، فكما لا مجال لمثل هذا السؤال ، فكذا في المقام لا مجال للسؤال عن اختيار الكفر والعصيان والإطاعة والإيمان ، وتقدم بسط الكلام في الجزء الأول في بحث اتحاد الطلب والإرادة فراجع.

قوله : «إن حسن المؤاخذة» : تقريب الجواب.

(١) أي : فكما أن التجري يوجب البعد عن السيد فكذلك «لا غرو ...» الخ ، يعني : لا عجب في أن يكون التجرّي موجبا لاستحقاق العقوبة وحسن المؤاخذة.

فالمتحصل من مجموع ما أفاده المصنف في المتن وحاشيته عليه : هو دفع الإشكال بوجهين :

أحدهما : النقض بالمعصية بمعنى : أن العقوبة في التجري كالعقوبة في المعصية من لوازم سوء السريرة الراجع على نقصان الذات الذي هو من الذاتيات التي لا تفارق الذوات ، وليس بالجعل ؛ لعدم جعل تأليفي بين الشيء وذاتياته ؛ كما تقدم في أوّل مباحث القطع ، فليس العقاب على ارتكاب المعاصي للتشفي المستحيل في حقه «تبارك وتعالى» ؛ بل لما يقتضيه ذات العاصي ، وإذا انتهى الأمر إلى ذاتي الشيء ارتفع الإشكال وانقطع السؤال بأنه لم اختار العاصي المعصية ...

وثانيهما : الحل ؛ لأن الاختيار وإن لم يكن بجميع مبادئه اختياريا إلا إنه اختياري ولو

٣٤

وإذا انتهى الأمر إليه (١) يرتفع الإشكال وينقطع السؤال بلم ، فإن الذاتيات ضروري (٢) الثبوت للذات ، وبذلك (٣) أيضا ينقطع السؤال عن أنه لم اختار الكافر والعاصي الكفر والعصيان والمطيع والمؤمن الإطاعة والإيمان؟ فإنه يساوق السؤال عن أن الحمار لم يكون ناهقا والإنسان لم يكون ناطقا (٤)؟

______________________________________________________

ببعض مباديه ، وهذا المقدار يكفي في رفع الإشكال المذكور.

(١) أي : إلى الذاتي.

(٢) الصواب : ضرورية الثبوت.

(٣) أي : بانتهاء الأمر إلى النقصان الذاتي ينقطع السؤال أيضا بأن المؤمن والمطيع والعاصي والكافر لم اختاروا الإيمان والإطاعة والكفر والعصيان ؛ لانتفاء الأمر في الجميع إلى الكمال والنقصان الذاتيين اللذين لا ينفكان عن الذات ؛ كناطقية الإنسان وناهقية الحمار ؛ ولكن هذا الكلام من المصنف «قدس‌سره» مناف لأصول مذهب أتباع أهل البيت القائلين بنفي الجبر والتفويض ، وإثبات الأمر بين الأمرين.

(٤) وفي هامش «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٥٤ ـ ٥٥» ـ ما لفظه :

«لا يخفى : أن مرجع ما ذكره دعويان لا يمكن الالتزام بشيء منهما.

الأولى : إن الفعل الصادر تجريا ليس بعنوان كونه مقطوع الحرمة اختياريا ؛ لأنه بهذا العنوان مغفول عنه.

الثانية : أن مناط استحقاق العقوبة ـ وهو العزم على التمرد والطغيان ـ غير اختياري ، لانتهائه إلى الشقاوة الذاتية التي لا تعلل.

وفي كلتا الدعويين ما لا يخفى ؛ إذ في الأولى : أن الملتفت إليه أولا وبالذات هو نفس القطع ، والالتفات إلى المقطوع به إنما يكون بواسطته ، فالقطع كالنور في كونه هو المرئي أولا وبالذات وأن الأشياء ترى بسببه ، ومع أصالته في إضاءة الأجسام كيف يغفل عنه؟ نعم ؛ لا بأس بإنكار الالتفات التفصيلي غالبا ؛ لكنه ليس إنكارا لأصل الالتفات ولو إجمالا ، بل الالتفات التفصيلي في بعض الموارد كالأحكام الشرعية مما لا يقبل الإنكار.

وبالجملة : فالفعل المتجرى به من جهة مصداقيته لهتك حرمة المولى قبيح عقلا ، ومنع قبحه لعدم كونه بعنوان مقطوع الحرمة اختياريا ، حيث إنه بهذا العنوان مغفول عنه غير سديد ؛ لما مر آنفا.

وفي الثانية : أن مناط استحقاق العقوبة هو نفس الفعل المتجرى به الذي هو فعل صادر

٣٥

وبالجملة : تفاوت أفراد الإنسان في القرب منه تعالى والبعد عنه ، سبب لاختلافها في استحقاق الجنّة ودرجاتها والنار ودركاتها ، وموجب لتفاوتها في نيل الشفاعة وعدم نيلها ، وتفاوتها في ذلك بالآخرة يكون ذاتيا ، والذاتي لا يعلل.

وإن قلت : على هذا (١) فلا فائدة في بعث الرسل وإنزال الكتب والوعظ والإنذار.

قلت : ذلك (٢) لينتفع به من حسن سريرته وطابت طينته لتكمل به نفسه ، ويخلص مع ربه أنسه ، ما كنّا لنهتدي لو لا أن هدانا الله ، قال الله «تبارك وتعالى» : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ

______________________________________________________

بإرادة الفاعل واختياره ؛ لما في نفسه من القيومية والقدرة على الفعل والترك ، فهذه الإرادة من أفعال النفس ، وقائمة بها نحو قيام صدوري ، فإن الله «تعالى شأنه» خلقها مختارة فيما تشاء من فعل شيء أو تركه ، وليس المراد بالإرادة هنا هو الشوق المؤكد التي هي صفة نفسانية قائمة بها قياما حلوليا وخارجة عن الاختيار ومنتهية إلى الشقاوة الذاتية.

والحاصل : أن مناط اختيارية الفعل هو صدوره عن إرادة ناشئة من قيومية النفس التي هي بحسب خلقتها قادرة على الفعل والترك ، ومتعلق التكاليف هو : الفعل الصادر عن هذه الإرادة ؛ لا الإرادة المنتهية إلى الشقاوة الذاتية كما ذكره المصنف «قدس‌سره» وأوقع نفسه الشريفة في حيص وبيص ، هذا.

مضافا إلى : «إن الإرادة المتوقفة على مباديها لا توجب خروج النفس عن قدرتها على كل من الفعل والترك ؛ بحيث يصدر الفعل قهرا كصدور الإحراق من النار ، بل قيومية النفس باقية أيضا ، غايته : أن هذه الإرادة تكون مرجحة للفعل على الترك ، فتختاره النفس لأجلها على الترك ، وقد لا تكون مرجحة له فلا تختاره ، فهذه الإرادة ـ بعد تسليم كونها مرادة هنا ـ لا تسلب قدرة النفس وفاعليتها كما هو ظاهر».

(١) أي : على الذي ذكرتم من أن الكفر والعصيان والإطاعة والإيمان من تبعات الذات ، «فلا فائدة في بعث الرسل ...» الخ ؛ إذ المؤمن والمطيع يؤمن بنفسه ويطيع ، كما أن النار تحرق بنفسها من غير حاجة إلى الإرشاد.

وبعبارة أخرى : يكون بعث الرسل وإنزال الكتب لغوا ؛ إذ المفروض : ذاتية الخبث والشقاوة ، والذاتي لا يزول ولا ينفك عن الذات ، فلا يؤثر إرسال الرسل في ارتفاع الذاتي.

(٢) أي : ما ذكر من بعث الرسل وإنزال الكتب لا يكون لغوا ، بل تترتب عليه فائدتان : إحداهما : انتفاع من حسنت سريرته به ، لتكمل به نفسه.

ثانيتهما : إتمام الحجة على من ساءت سريرته وخبثت طينته لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ؛ بل كان له الحجة البالغة ؛ كما أشار إليه بقوله : «وليكون حجة على

٣٦

الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)(*) ، وليكون حجة على من ساءت سريرته وخبثت طينته ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة كيلا يكون للناس على الله حجة ، بل كان له حجة بالغة.

ولا يخفى (١) : أن في الآيات والروايات ، شهادة على صحة ما حكم به الوجدان

______________________________________________________

من ساءت سريرته».

ويمكن أن يقال : بعدم ترتب الفائدة الثانية على بعث الرسل ؛ إذ المفروض : كون الشقاوة ذاتية ، والذاتيات ضرورية الثبوت للذات ، فيمتنع زوال الخبث الذاتي بإرسال الرسل ، فتنحصر فائدة البعث في انتفاع المؤمن ، وتلغو بالنسبة إلى الكافر والعاصي ، وهذا مخالف لضرورة من الدين.

إلا أن يقال : إن المراد بالذاتي هو المقتضي لا العلة التامة ، ومن المعلوم : أن الأثر يترتب على المقتضي عند عدم المانع ، ومع قدرة المكلف على إيجاد المانع ينتفع الكافر والفاسق أيضا ببعث الرسل ، فلا تلزم لغوية الفائدة الثانية.

(١) أي : يشهد ما في الآيات والروايات على صحة ما حكم به الوجدان من حرمة التجري والعقاب عليه ـ كحرمة المعصية والعقاب عليها ـ لوحدة المناط فيهما ، وهذا الكلام من المصنف إشارة إلى ما أفاده الشيخ الأنصاري في الرسائل من حرمة التجري بالقصد إلى المعصية حيث قال : «نعم ؛ لو كان التجري على المعصية بالقصد إلى المعصية فالمصرّح به في الأخبار الكثيرة العفو عنه ؛ وإن كان يظهر من أخبار أخر العقاب على القصد أيضا ...» (١) الخ ، وحاصل ما أفاده الشيخ «قدس‌سره» أن التجري على قسمين :

القسم الأول : هو التجري من حيث العمل.

القسم الثاني : هو التجري من حيث القصد ، وهنا طائفتان من الأخبار ، فالمصرّح به في طائفة منها : هو عدم العقاب ؛ إذ يكون مضمون هذه الطائفة : أن من قصد المعصية ثم لم يفعل لا يعاقب على قصده ، ومن قصد ثم عصى يعاقب عقابا واحدا.

وطائفة منها تدل على عقاب التجري بالقصد. ويذكرها الشيخ «قدس‌سره» واحدا بعد واحد إلى أن يقول : ويؤيده قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ)(٢) فلا بدّ أوّلا من ذكر هذه الطائفة من الأخبار مع توضيح دلالتها

__________________

(*) الذاريات : ٥٥.

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٦.

(٢) البقرة : ٢٨٤.

٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

على عقاب المتجري بالقصد ، ثم توضيح تأييدها بجملة من الآيات.

فأما الأخبار التي يظهر منها العقاب على القصد فمنها : قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» «نيّة الكافر شرّ من عمله» (١) فيقال في دلالة هذه الرواية على العقاب بالقصد : أن الشرّ من أفعل التفضيل يدل على الزيادة ، فمعناها : أن الكافر يعاقب بالمعصية عملا ، فإذا قصدها يعاقب بطريق أولى ، لأن نيّته شرّ من عمله.

ومنها : «إنما يحشر الناس على نياتهم» (٢) إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا ، فالنيّة توجب العقاب إن كانت شرا والثواب إن كانت خيرا».

ومنها : «ما ورد من تعليل خلود أهل النار في النار ، وخلود أهل الجنة في الجنة ، بعزم كل من الطائفتين على الثبات على ما كان عليه من المعصية والطاعة لو خلدوا في الدنيا» (٣) ، فالكفار عزموا الدوام على ما فعلوه في الدنيا لو خلدوا فيها ، وهذا العزم يوجب أن يكونوا مخلدين في النار.

ومنها : ما ورد من أنه إذا التقى المسلمان بسيفهما «فالقاتل والمقتول في النار» ، قيل : يا رسول الله ، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : «لأنه أراد قتل صاحبه» (٤) ، فالمقتول في النار لقصده القتل المحرم (٥). ونكتفي بهذا المقدار رعاية للاختصار.

فالحاصل من الجميع : أن قصد المعصية معصية. وأما الآيات المؤيّدة لهذه الأخبار فمنها : قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٦).

وجه التأييد : أن العذاب على حبّ شيء يؤيد العذاب على قصده ، ولا يدل عليه لضعف القصد عن الحبّ.

ومنها : قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ)(٧) ،

__________________

(١) الكافي ٢ : ٨٤ / ٢ ، الوسائل ١ : ٥ / ٩٥.

(٢) المحاسن ١ : ٢٦٢ / ١٢٥ ، الكافي ٥ : ٢٠ / جزء من ح ١ ، تهذيب الأحكام ٦ : ١٣٥ / جزء من ح ٢٢٨ ، الوسائل ١ : ٤٨ / ٨٧. (٤) البقرة : ٢٢٥.

(٣) المحاسن ٢ : ٣٣٠ / ٩٤ ، الكافي ٢ : ٨٥ / ٥ ، علل الشرائع ٢ : ٥٢٣ / ١ ، الوسائل ١ : ٥ / ٩٦.

(٤) علل الشرائع ٢ : ٤٦١ / ٤ ، الوسائل ١٥ : ١٤٨ / ٢٠١٨٤ ، مسند أحمد ٤ : ٤٠١ ، صحيح البخاري ١ : ١٣ ، صحيح مسلم ٨ : ١٧٠ ، كنز العمال ١٥ : ٢٦ / ٣٩٩١٦.

(٥) ذكر هذه الأمثلة الشيخ في فرائد الأصول ١ : ٤٥.

(٦) النور : ١٩.

(٧) البقرة : ٢٨٤.

٣٨

الحاكم على الإطلاق في باب الاستحقاق للعقوبة والمثوبة ، ومعه (١) لا حاجة إلى ما

______________________________________________________

يعني : إن تبدوا ما في أنفسكم أي : تظهروه بالعمل ، أو تخفوه يحاسبكم به الله ، بتقريب : أنه من المحتمل أن يكون المراد من الموصول العموم فيشمل القصد ، فيكون دليلا على المقام. ويحتمل أن يكون المراد منه خصوص الحسد أو الكفر مثلا فلا يرتبط بالمقام ، فلذا يكون مؤيدا لا دليلا.

ومنها : قوله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ)(١).

فالحاصل : أن في الآيات والروايات شهادة على صحة ما حكم به الوجدان من استحقاق المتجري للعقاب كاستحقاق العاصي له.

(١) أي : مع حكم الوجدان باستحقاق المتجري للعقاب كالعاصي ، وشهادة الآيات والروايات على صحة حكمه بذلك : «لا حاجة إلى ما استدل» ، والمستدل هو : المحقق السبزواري في الذخيرة ـ على ما حكي ـ حيث استدل على استحقاق المتجري للعقاب كالعاصي ؛ بالدليل العقلي الذي نقله الشيخ الأعظم عنه بقوله : «وقد يقرر دلالة العقل على ذلك بأنا إذا فرضنا ...» الخ.

قال المحقق السبزواري على ما في «الرسائل» (٢) : «بأنا إذا فرضنا شخصين قاطعين ؛ بأن قطع أحدهما بكون مائع معيّن خمرا ، وقطع الآخر بكون مائع آخر خمرا ، فشرباهما فاتفق مصادفة أحدهما للواقع ، ومخالفة الآخر» ؛ بأن يكون أحد المائعين خمرا واقعا والآخر خلا كذلك. وحينئذ : فإما أن يستحقا العقاب ، أو لا يستحقاه كلاهما ، أو يستحقه من صادف قطعه الواقع وهو شارب الخمر دون الآخر الذي هو شارب الخل مثلا «أو العكس» ، أي : يستحقه من لم يصادف قطعه الواقع ولا يستحقه من يصادف قطعه الواقع ، والصور منحصرة عقلا في أربع ، لدوران الأمر بين النفي والإثبات ، «ولا سبيل إلى الثاني» عقلا وهو عدم استحقاقهما ؛ لأن معناه : أن العاصي لا يعاقب ، وعدم استحقاق من يشرب الخمر للعقاب مخالف لضرورة من الدين ؛ بل هو تشجيع للعاصي على عصيانه.

وكذا لا سبيل إلى «الرابع» وهو : عدم استحقاق العقاب لمن شرب الخمر ، واستحقاقه لمن شرب المائع باعتقاد أنه خمر ، لأنه مستلزم لعقاب غير العاصي وعدم عقاب العاصي. هذا مضافا إلى ما تقدم في الثاني من كونه مخالفا لضرورة من الدين ، وتشجيعا للعاصي

__________________

(١) البقرة : ٢٢٥.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٨.

٣٩

استدل على استحقاق المتجري للعقاب بما حاصله : أنه لولاه مع استحقاق العاصي له يلزم إناطة استحقاق العقوبة بما هو خارج عن الاختيار ، من مصادفة قطعه الخارجة عن تحت قدرته واختياره مع بطلانه وفساده ؛ إذ (١) للخصم أن يقول : بأن استحقاق العاصي دونه (٢) إنما هو لتحقق سبب الاستحقاق فيه (٣) وهو (٤) مخالفته عن عمد

______________________________________________________

على عصيانه. ومنافيا لمقتضى العدل والحكمة.

و «الثالث» : وهو استحقاق من صادف قطعه الواقع للعقاب دون من لم يصادف قطعه الواقع ، وهذا أيضا باطل ؛ لاستلزامه العقاب بما هو خارج عن القدرة والاختيار وهو المصادفة ، والعقاب بأمر غير اختياري قبيح ومناف لمقتضى العدل ، فالمتعين هو الأول وهو : أن كليهما يستحق العقاب ، فتعيّن المصير إلى استحقاق كليهما له وهو المقصود.

وحاصل ما أفاده المصنف : أنه لا حاجة ـ مع حكم الوجدان والآيات والروايات باستحقاق المتجري للعقاب ـ إلى التشبّث بهذا الدليل العقلي الذي هو باطل في نفسه ، كما سيأتي بيانه.

(١) تعليل لقوله : «بطلانه وفساده» ، وهذا شروع في الجواب عن الدليل العقلي ، وقد أجاب عنه بوجهين ، أشار إلى أولهما بقوله : «إذ للخصم» وحاصله : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٦٤» ـ : أنه يمكن الالتزام باستحقاق من صادف قطعه الواقع للعقاب دون من لم يصادف ، يعني : أن العاصي يستحق العقوبة دون المتجري.

توضيحه : أن سبب استحقاق المؤاخذة مؤلف من أمرين :

أحدهما : قصد المخالفة والطغيان عن علم وعمد.

والآخر : مصادفة قطعة للواقع.

والأول أمر اختياري ، والثاني غير اختياري ، ولا ضير في استحقاقه للعقوبة ؛ إذ الأمر غير الاختياري الذي يمتنع إناطة استحقاق العقاب به هو ما يكون بتمامه غير اختياري لا جزؤه ، فإذا كان السبب مركبا من أمر اختياري وغيره فلا مانع منه ، ومن المعلوم : أن العلة في المعصية الحقيقية بكلا جزأيها متحققة ؛ بخلاف التجري ، فإن الجزء الثاني ـ وهو المصادفة ـ غير متحقق فيه ، وإن كان عدم تحقق فيه خارجا عن اختياره ، فلا وجه لاستحقاقه العقاب ، وعدم العقاب على أمر غير اختياري ـ وهو عدم المصادفة للواقع ـ لا قبح فيه ، فهذا الدليل العقلي قاصر عن إثبات استحقاق المتجري للعقاب.

(٢) أي : دون المتجري.

(٣) أي : دون المتجري.

(٤) أي : سبب الاستحقاق مخالفة العاصي عن عمد واختيار.

٤٠