دروس في الكفاية - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

عن جريانها كان عدم جريانها مستندا إلى ذلك المانع لا إلى وجوب الالتزام.

٥ ـ الإشكال على ما ذكره الشيخ الأنصاري في المقام ؛ من دفع محذور عدم الالتزام بالحكم الواقعي في دوران الأمر بين المحذورين بوسيلة الأصول العملية الجارية ، فتخرج هذه الأصول مجراها عن موضوع الحكم ففي المرأة المردّدة بين من حرم وطيها بالحلف وبين وجب وطيها به تجري أصالة عدم تعلق الحلف بوطيها ، وعدم تعلقه في ترك وطيها ، وتخرج المرأة عن موضوع حكمي التحريم والوجوب ، فينتفي الحكم بوجوب الالتزام بانتفاء موضوعه.

وحاصل إشكال المصنف عليه : أن إجراء الأصول لا يكاد يدفع محذور عدم الالتزام بالحكم الواقعي ؛ لأن جريان الأصل مستلزم للدور ؛ لأن جريان الأصل يتوقف على عدم المحذور ، وعدم المحذور يتوقف على جريان الأصل.

٦ ـ ويمكن أن يقال في دفع الدور المذكور : إن للدور المذكور مجال إذا كان حكم العقل بلزوم الالتزام منجزا غير معلق على شيء.

وأما إذا كان حكم العقل بلزوم الموافقة الالتزامية معلقا على عدم مانع ؛ كالترخيص من الشارع في ارتكاب أطراف العلم الإجمالي ، فيرتفع محذور عدم الالتزام ببركة الأصول بدون لزوم الدور ؛ لأن الأصول حينئذ ترفع موضوع حكم العقل بلزوم الالتزام ؛ إذ موضوع حكم العقل معلق على عدم جريان الأصل.

إلا إن الشأن في جواز جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي ؛ لعدم شمول أدلة الأصول أطراف العلم الإجمالي ؛ «للزوم التناقض في مدلولها» ، بتقريب : أنه لو شمل قوله «عليه‌السلام» : «كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه» لأطراف العلم الإجمالي بأن كان كل من المشتبهين داخلا في صدر الرواية ؛ ـ لكونه مشكوك الحرمة ـ لزم أن يكون كل منهما حلالا للشك في حرمته وحراما للعلم الإجمالي بالحرمة ، فيشمله الصدر والذيل فيلزم التناقض.

٧ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ عدم وجوب الموافقة الالتزامية.

٢ ـ بناء على وجوب الموافقة الالتزامية وجبت الموافقة الالتزامية ؛ حتى مع عدم لزوم الموافقة العملية ، كما في دوران الأمر بين المحذورين.

٣ ـ جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي كما في تعليقته على الكتاب.

١٠١

الأمر السادس (١):

لا تفاوت في نظر العقل أصلا فيما يترتب على القطع من الآثار عقلا ، بين أن يكون حاصلا بنحو متعارف ، ومن سبب ينبغي حصوله منه ، أو غير متعارف لا ينبغي

______________________________________________________

في قطع القطّاع

(١) المقصود من عقد هذا الأمر السادس : هو التنبيه على أمرين :

أحدهما : أنه لا فرق في حجية القطع الطريقي المحض بين قطع القطاع وبين غيره.

ثانيهما : أنه لا فرق في حجية القطع الطريقي بين الحاصل من المقدمات العقلية وبين غيره.

وقبل الخوض في البحث عن حال قطع القطاع لا بد من تحرير محل النزاع ، وتعيين ما هو المراد من القطاع.

فنقول : إن للقطّاع معنيين :

أحدهما : هو المعنى المبالغي ؛ لأن القطاع صيغة مبالغة كضرّاب مثلا ، فيكون بمعنى كثير القطع ، كما تقتضيه صيغة المبالغة.

ثانيهما : بمعنى سريع القطع بمعنى : من يحصل له القطع من أسباب لا ينبغي حصوله منها ، يعني : من يحصل له القطع من الأسباب غير المتعارفة. وكلمة القطاع وإن كانت ظاهرة في المعنى الأول ؛ ولكن المراد منه في المقام هو المعنى الثاني.

إذا عرفت ما هو المراد من قطع القطاع فاعلم : أن المصنف يقول : لا تفاوت في نظر العقل فيما يترتب على القطع من الآثار عقلا ـ وهي التنجيز عند الإصابة والتعذير عند الخطأ ـ بين أن يكون القطع حاصلا من أسباب متعارفة ينبغي حصوله منها ، أو غير متعارفة لا ينبغي حصوله منها ؛ لأن العقل يحكم بوجوب متابعة القطع على كلا التقديرين.

فالقطع الطريقي المحض يكون حجة في نظر العقل ، من دون فرق في ذلك بين أسبابه المتعارفة وغيرها ؛ لأن المناط في ترتب آثار الحجية على القطع هو انكشاف الواقع تمام الانكشاف.

فالمتحصل : أن موضوع حكم العقل بالحجية هو مطلق العلم سواء حصل من سبب ينبغي حصوله منه لمتعارف الناس ، أم حصل من سبب لا ينبغي حصوله منه للمتعارف.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية» :

قوله : «عقلا» قيد «للآثار» والمراد بالآثار العقلية المترتبة على القطع : هي تنجيز

١٠٢

حصوله منه ؛ كما هو الحال غالبا في القطّاع ، ضرورة (١) : أن العقل يرى تنجز التكليف بالقطع الحاصل مما لا ينبغي حصوله ، وصحة مؤاخذة قاطعه على مخالفته ، وعدم صحة الاعتذار عنها بأنه حصل كذلك (٢) ، وعدم صحة المؤاخذة مع القطع بخلافه ، وعدم حسن الاحتجاج عليه بذلك ، ولو مع التفاته إلى كيفية حصوله.

______________________________________________________

التكليف وإيجابه المثوبة على الطاعة عند الإصابة ، وكونه عذرا عند الخطأ ، وسببيّته لاستحقاق العقوبة على المخالفة عند الإصابة.

وجه التقييد بقوله : «غالبا» : هو إمكان حصول القطع للقطاع من الأسباب المتعارفة ، التي ينبغي حصول القطع منها ، فيكون القطاع كغيره من القاطعين في أنه لا إشكال في حجية قطعه ، كعدم الإشكال في حجية قطع غيره.

(١) تعليل لقوله : «لا تفاوت» ، وحاصله : أن العقل الحاكم بحجية القطع لا يفرق في اعتباره بين أفراده وأسبابه ، فيرى تنجز التكليف بالقطع من أي سبب حصل ؛ إذ المناط في الحجية عند العقل هو انكشاف الواقع ، وهو حاصل للقطاع بحسب نظره كحصوله لغيره من القاطعين.

(٢) أي : حصل القطع من أمر لا ينبغي حصوله منه ، والحاصل : أن العقل يرى عدم صحة اعتذار العبد عن مخالفة القطع بكونه حاصلا من سبب غير متعارف ، فلو كان القطع الطريقي المعتبر خصوص ما يحصل من الأسباب المتعارفة لكان هذا الاعتذار صحيحا.

قوله : «وعدم صحة المؤاخذة» عطف على «تنجز التكليف» ، وهو أثر آخر من آثار حجية القطع الطريقي وحاصله : أن القطع إذا أخطأ كان عذرا في فوات الواقع ، وهذا الأثر مترتب على قطع القطاع.

قوله : «وعدم حسن الاحتجاج عليه بذلك» أيضا عطف على «تنجز التكليف» يعني : أن العقل يرى عدم صحة احتجاج المولى على القاطع العامل بقطعه الحاصل من سبب غير متعارف بأنك لما ذا عملت به مع حصوله من سبب غير متعارف؟ «ولو مع التفاته» أي : ولو مع التفات القاطع إلى كيفية حصول قطعه بأنه حصل من سبب غير متعارف ؛ لأن المناط في حجيته عقلا هو كشفه عن الواقع ، وهذا المناط موجود في قطع القطاع. هذا كله في قطع القطاع إذا أخذ طريقا إلى الحكم.

وأما إذا أخذ في موضوع الحكم فلا يكون حجة مطلقا ؛ بل إنه يتبع في اعتباره دليل ذلك الحكم الذي أخذ القطع في موضوعه. هذا ما أشار إليه بقوله : «نعم ربما يتفاوت الحال في القطع المأخوذ في الموضوع».

١٠٣

نعم ؛ ربما يتفاوت الحال (١) في القطع المأخوذ في الموضوع شرعا ، والمتبع في عمومه وخصوصه دلالة دليله (٢) في كل مورد ، فربما يدل على اختصاصه (٣) بقسم في مورد (٤) ، وعدم اختصاصه (٥) به في آخر على اختلاف (٦) الأدلة ، واختلاف

______________________________________________________

(١) أي : حال حجية القطع المأخوذ في الموضوع شرعا ، فقوله : «نعم ؛ ربما ...» الخ.

استدراك على ما ذكره من عدم التفاوت في حجية القطع في نظر العقل بين أسبابه المتعارفة وغيرها ، وحاصل الاستدراك : أنه قد يتفاوت حال حجية القطع المأخوذ في موضوع الحكم شرعا ، فلا يكون حجة مطلقا أي : من أي سبب حصل وإن كان سببا غير متعارف ؛ بل إنما يكون حجة إذا حصل من سبب متعارف أو على وجه مخصوص ، والمدار في عموم وخصوص سبب القطع الموجب لحجيته هو دلالة الدليل الذي أخذ القطع دخيلا في موضوع الحكم ؛ ولو كانت تلك الدلالة بمعونة القرائن التي منها مناسبة الحكم والموضوع.

(٢) أي : دليل الحكم. والضمير في عمومه وخصوصه راجع على السبب.

(٣) يعني : فربما يدل دليل الحكم على اختصاص الحكم بموضوع أخذ فيه القطع الحاصل من سبب خاص ، لا من كل سبب ، كما في العلم بالأحكام الشرعية ـ الناشئ من أدلة الفقه المعهودة ـ المأخوذ في موضوع جواز التقليد ، فإن مطلق العلم بالأحكام الشرعية ـ ولو من الرمل والجفر ـ ليس موضوعا لجواز التقليد ؛ بل الموضوع له هو القسم الخاص من القطع.

(٤) أي : في مورد جواز التقليد.

(٥) أي : وعدم اختصاص الحكم بالقطع الحاصل من سبب خاص في مورد آخر.

وحاصل الكلام في المقام : أنه ربما يدل دليل الحكم في مورد آخر على عدم اختصاص الحكم بموضوع أخذ فيه القطع الحاصل من سبب خاص ؛ بل يدل على ترتب الحكم على الموضوع الذي حصل القطع به من أي سبب كان كالعلم بالأحكام الشرعية ، فإنه موضوع لحرمة تقليد العالم بها لغيره ، فإن دليل الحرمة يدل على أن موضوعها هو العلم بالأحكام من أي سبب حصل ؛ إذ بعد فرض حصوله من أي سبب كان ليس العالم بها جاهلا حتى يجوز له التقليد ، والمفروض : أن القطع الطريقي المحض ـ من أي سبب حصل ـ حجة على نفس القاطع.

(٦) قيد لقوله : «فربما يدل ...» الخ.

فالمتحصل : أن القطع المأخوذ في الموضوع يتفاوت الحال فيه ، فقد يكون مطلق القطع

١٠٤

المقامات بحسب مناسبات الأحكام والموضوعات ، وغيرها (١) من الأمارات.

وبالجملة (٢) : القطع فيما كان موضوعا عقلا لا يكاد يتفاوت من حيث القاطع ، ولا من حيث المورد ، ولا من حيث السبب لا عقلا ـ وهو واضح ـ ولا شرعا ؛ لما عرفت : من أنه لا تناله يد الجعل نفيا ولا إثباتا.

وإن نسب (٣) إلى بعض الأخباريين أنه لا اعتبار بما إذا كان بمقدمات عقلية ؛ إلا إن

______________________________________________________

مأخوذا في موضوع الحكم ، وقد يكون القطع الخاص من جهة السبب أو من جهة شخص القاطع مأخوذا فيه. ومن يريد تفصيل ذلك فعليه الرجوع إلى الكتب المبسوطة.

(١) أي : وغير مناسبات الأحكام والموضوعات من الأمارات والقرائن التي يعتمد عليها في مقام استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها الشرعية فاختلاف المقامات في عموم القطع الموضوعي وخصوصه قد يعرف بمناسبات الأحكام والموضوعات ، وقد يعرف بغيرها من الأمارات كالقرائن الحالية والمقالية.

(٢) هذا تمهيد لبيان الأمر الثاني الذي تقدمت الإشارة إليه في أول البحث ، وهو حجية القطع الطريقي المحض مطلقا يعني : القطع الطريقي لا يكاد يتفاوت من حيث القاطع ولا من حيث المورد أي : الأمر المقطوع به ، ولا من حيث السبب الحاصل به القطع لا عقلا وهو واضح بعد ما تقدم من أن المنجزية والمعذرية أثران للقطع ، لا يكاد ينفكان عنه «ولا شرعا» بعد ما تقدم من أن القطع مما لا تناله يد الجعل لا نفيا ولا إثباتا. فالقطع الطريقي من أي سبب حصل وبأي مورد تعلق من الموضوع والحكم التكليفي والوضعي ولأي شخص تحقق يكون حجة عقلا وشرعا.

في القطع الحاصل من المقدمات العقلية

(٣) هذا شروع في الأمر الثاني من الأمرين اللذين قد انعقد هذا الأمر السادس للتنبيه عليهما ، وهو عدم التفاوت في حجية القطع الطريقي بين أن يكون حاصلا من المقدمات العقلية وغيرها.

نعم ؛ نسب إلى بعض الأخباريين كالأمين الاسترابادي والسيد الجزائري وصاحب الحدائق «قدس‌سرهم» : أنه لا اعتبار بما إذا كان القطع حاصلا من مقدمات عقلية ؛ ولكن هذه النسبة غير ثابتة ؛ إذ «مراجعة كلماتهم لا تساعد على هذه النسبة».

وحاصل ما أفاده المصنف في كذب النسبة هو : أن كلماتهم التي لا تساعد على النسبة إما ناظرة إلى منع الملازمة بين حكم العقل والشرع ، فيكون ردا على القاعدة المشهورة أعني : «كلما حكم به العقل حكم به الشرع ، وكلما حكم به الشرع حكم به

١٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

العقل» ، فلا ملازمة بين حكم العقل بحسن شيء أو قبحه ، وبين حكم الشرع بوجوبه أو حرمته.

وإما في مقام عدم جواز الاستناد في الأحكام الشرعية إلى المقدمات العقلية ؛ لعدم إفادتها العلم. هذا مجمل الكلام في التوجهين اللذين يمكن حمل كلماتهم عليهما.

وأما التوجيه الأول : فقد ادعى المصنف صراحة كلام السيد الصدر المحكي عن شرح الوافية في ذلك ، بدعوى : أن مراده من كلامه هو : إن العقل لا يدرك ما هو العلة التامة للحكم الشرعي ؛ بل غايته أن يدرك بعض الجهات المقتضية له ، ومن المعلوم : عدم كفاية ذلك في العلم بالحكم الشرعي ؛ بل يتوقف ـ مضافا إلى ذلك ـ على العلم بعدم مانع من جعله شرعا ، ولازم ذلك : انتفاء الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.

وأما التوجيه الثاني : فحاصله : ـ على ما سيأتي تصريح المحدث الاسترابادي «قدس‌سره» ـ أن العقل وإن أمكن أن يدرك بمقدماته جميع الجهات المقتضية للحكم الشرعي ، لا أنها لا تفيد إلا الظن به دون القطع ، والظن مما لا يجوز الاعتماد عليه ، سواء حصل من المقدمات العقلية أو من غيرها. وهذان الكلامان لا ينافيان ما هو مورد البحث والكلام أعني : حجية القطع الطريقي المحض مطلقا أي : ولو فرض حصوله من مقدمات عقلية فلا يتم حينئذ ما نسب إلى الأخباريين من التفاوت بين أسباب القطع ؛ بأن لا يكون القطع الحاصل من المقدمات العقلية حجة ، واختصاص الحجية بالقطع الحاصل من الكتاب والسنة ، كما يظهر من عبارة المحدث الاسترابادي حيث قال : «الرابع : أن كل مسلك غير ذلك المسلك ـ يعني التمسك بكلامهم «عليهم‌السلام» ـ إنما يعتبر من حيث إفادته الظن بحكم الله تعالى ، وقد أثبتنا سابقا أنه لا اعتماد على الظن المتعلق بنفس أحكامه تعالى أو بنفيها».

وحاصل الكلام في المقام : أنه يدل على عدم جواز الاعتماد على الظن ، سواء حصل من المقدمات العقلية أم غيرها مواضع ثلاثة من كلامه.

وقد ذكر المصنف هذه المواضع.

الموضع الأول : قوله : «لا اعتماد على الظن المتعلق ...» الخ وما ذكره صريح في عدم اعتبار الظن في أحكامه «تبارك وتعالى» إثباتا ونفيا.

الموضع الثاني : قوله : «أنه لا يجوز الاعتماد على الدليل الظني في أحكامه تعالى».

الموضع الثالث : قوله : في فهرست فصول فوائده «الأول : في إبطال جواز التمسك

١٠٦

مراجعة كلماتهم لا تساعد على هذه النسبة ؛ بل تشهد بكذبها ، وأنها إنما تكون إما في مقام منع الملازمة بين حكم العقل بوجوب شيء ، وحكم الشرع بوجوبه ، كما ينادي به بأعلى صوته ما حكي عن السيد الصدر في باب الملازمة ، فراجع.

وإما في مقام عدم جواز الاعتماد على المقدمات العقلية ؛ لأنها لا تفيد إلا الظن ، كما هو صريح الشيخ المحدث الأمين الاسترابادي «رحمه‌الله» حيث قال ـ في جملة ما استدل به في فوائده على انحصار مدرك ما ليس من ضروريات الدين في السماع عن الصادقين «عليهم‌السلام» ـ : «الرابع : أن كل مسلك غير ذلك المسلك يعني : التمسك بكلامهم «عليهم الصلاة والسلام» إنما يعتبر من حيث إفادته الظن بحكم الله تعالى ، وقد أثبتنا سابقا أنه لا اعتماد على الظن المتعلق بنفس أحكامه تعالى أو بنفيها».

وقال في جملتها أيضا بعد ذكر ما تفطن بزعمه من الدقيقة ما هذا لفظه : «وإذا عرفت ما مهدناه من المقدمة الدقيقة الشريفة ، فنقول : إن تمسكنا بكلامهم «عليهم‌السلام» فقد عصمنا من الخطأ ، وإن تمسكنا بغيره لم نعصم عنه ومن المعلوم : أن العصمة عن الخطأ أمر مرغوب فيه شرعا وعقلا ، ألا ترى أن الإمامية استدلوا على وجوب العصمة بأنه لو لا العصمة للزم أمره تعالى عباده باتباع الخطأ ، وذلك الأمر محال ؛ لأنه قبيح ، وأنت إذا تأملت في هذا الدليل علمت أن مقتضاه أنه لا يجوز الاعتماد على الدليل الظني في أحكامه تعالى». انتهى موضع الحاجة من كلامه.

وما مهده من الدقيقة هو الذي نقله شيخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ في الرسالة وقال في فهرست فصولها أيضا : «الأول : في إبطال جواز التمسك بالاستنباطات الظنية في نفس أحكامه «تعالى شأنه» ، ووجوب التوقف عند فقد القطع (١) بحكم

______________________________________________________

بالاستنباطات الظنية في نفس أحكامه «تعالى شأنه» ...» (١) الخ.

(١) أي : مقتضى إطلاق القطع هو : اعتبار كل قطع تعلق بحكم الله تعالى ، سواء كان ناشئا من المقدمات العقلية أو من غيرها ، فالمستفاد من مجموع كلمات المحدث الاسترابادي : أنه كان في مقام إثبات عدم جواز الاعتماد على الظن في الأحكام الشرعية ، وأن عدم جواز الخوض في المقدمات العقلية لأجل عدم إفادتها إلا الظن الذي لا يجوز الركون إليه في الأحكام الإلهية ، وليس في مقام المنع عن حجية القطع بالحكم الشرعي الحاصل من المقدمات العقلية.

__________________

(١) الفوائد المدنية : ٣٢.

١٠٧

الله تعالى شأنه ، أو بحكم ورد عنهم (١) «عليهم‌السلام». انتهى.

وأنت ترى أن محل كلامه ، ومورد نقضه وإبرامه هو العقلي الغير المفيد للقطع ، وإنما همه إثبات عدم جواز اتباع غير النقل فيما لا قطع (٢).

وكيف كان (٣) ؛ فلزوم اتباع القطع مطلقا (٤) ، وصحة (٥) المؤاخذة على مخالفته

______________________________________________________

(١) أي : عن الأئمة المعصومين «عليهم‌السلام» ، ومن المعلوم : أن الحكم الذي ورد عنهم «عليهم‌السلام» هو أيضا حكم الله تعالى ، فلا معنى للعطف بكلمة أو إلا إن يقال : أن المراد بالأول هو حكم الله تعالى الثابت بالكتاب ، والمراد بالثاني : هو حكمه تعالى الثابت بالسنة.

(٢) كما هو ظاهر مواضع من كلامه. وصريح قوله : «ووجوب التوقف عند فقد القطع بحكم الله تعالى» ، فالمستفاد من مجموع كلماته هو : أنه في مقام منع حجية ما عدا القطع من غير النقل ، وليس بصدد التفصيل في حجية القطع بالحكم الشرعي بين ما يحصل من مقدمات عقلية وبين غيره ؛ بأن يقول بحجية الثاني دون الأول ؛ كي يتم التفصيل المنسوب إلى الأخباريين.

ويؤيد ذلك دليله الخامس حيث قال فيه : «إنه قد تواترت الأخبار عن الأئمة «عليهم‌السلام» بأن مراده تعالى من قوله : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ، ومن نظائرها من الآيات الشريفة : أنه يجب سؤالهم في كل ما لا نعلم» ، فإن هذا الكلام يشعر بعدم وجوب السؤال منهم «عليهم‌السلام» فيما علمناه ؛ ولو كان العلم حاصلا من مقدمات عقلية.

(٣) أي : سواء صحت نسبة التفصيل في حجية القطع إلى الأخباريين أم لا ، فالحق هو حجية القطع الطريقي مطلقا.

(٤) أي : من أي سبب حصل وفي أي مورد كان ولأي شخص حصل ، فلا فرق في حجية القطع بين قطع القطاع الحاصل من سبب لا ينبغي حصوله منه ، وبين غيره ، وكذا لا فرق في الحجية بين القطع الناشئ من المقدمات العقلية وبين غيره.

(٥) عطف على «لزوم» ، فيكون من آثار القطع عقلا كلزوم متابعة القطع ، ومن آثاره : كون العبد معذورا عند الخطأ ، وقد أشار إليه بقوله : «وكذا ترتب سائر آثاره عليه عقلا» ، فقوله : «عقلا» قيد ل «آثاره».

فحاصل الكلام في المقام : أن القطع الطريقي حجة عقلا مطلقا أي : سواء حصل من الأسباب المتعارفة وغيرها ، أو من المقدمات العقلية وغيرها ، ولأي شخص حصل وبأي مورد

١٠٨

عند إصابته ، وكذا ترتب سائر آثاره عليه عقلا بما لا يكاد يخفى على عاقل فضلا عن فاضل.

فلا بد فيما يوهم خلاف ذلك (١) في الشريعة من (٢) المنع عن حصول العلم التفصيلي بالحكم الفعلي ؛ لأجل منع بعض مقدماته الموجبة له ولو إجمالا (٣) ، فتدبر جيدا.

______________________________________________________

تعلق ، فلا بد فيما يوهم عدم حجية القطع الطريقي من الموارد التي تعرض لبعضها الشيخ الأعظم «قدس‌سره» في الرسائل ؛ من حمله على عدم حصول القطع التفصيلي بالحكم الفعلي حتى يكون حجة ، وإلا فحجية القطع كما عرفت من الأحكام العقلية المستقلة التي لا تقبل التخصيص كما قرر في محله ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ١٥٧».

(١) أي : خلاف اعتبار القطع مطلقا.

(٢) متعلق بقوله : «فلا بد» يعني : لا بد من المنع عن حصول القطع بالحكم الفعلي في الموارد الموهمة له.

(٣) يعني : ولو منعا إجماليا ؛ بأن يمنع العلم بالحكم الفعلي بمنع بعض ما له دخل في حصوله ؛ بأن يقال : إن شرط فعليته ـ وهو إما كذا وإما كذا ـ مفقود ، أو أن المانع عن فعليته ـ وهو إما كذا وإما كذا ـ موجود لأن العلم حاصل ، لكنه ليس بحجة ، فالمقدمة الممنوعة مرددة بين أمرين أو أمور ، وليست معينة ، وهذه التكلفات إنما هي لأجل عدم تعقل انفكاك الحجية العقلية عن القطع الطريقي ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ١٦٠».

وقد أضربنا عن تطويل الكلام في المقام رعاية للاختصار.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ المراد من قطع القطاع : ما يحصل من أسباب لا ينبغي حصوله منها لا بمعنى كثير القطع ، والمصنف يقول : بحجية القطع الطريقي مطلقا ، من دون فرق بين قطع القطاع وغيره ؛ لأن العقل يحكم بوجوب متابعة القطع على التقديرين ؛ إذ المناط في الحجية وترتب آثار الحجية على القطع هو : انكشاف الواقع به تمام الانكشاف ، وهذا المناط موجود في قطع القطاع. هذا فيما إذا كان القطع طريقيا محضا.

وأما القطع المأخوذ في الموضوع شرعا : فيتفاوت الحال فيه ، فلا يكون حجة مطلقا ؛ بل تابع لدليل الحكم الذي أخذ القطع في موضوعه.

فقد يكون المأخوذ في الموضوع مطلق القطع ، كما إذا كان الحكم عقليا ، وقد يكون

١٠٩

الأمر السابع (١):

أنه قد عرفت : كون القطع التفصيلي بالتكليف الفعلي علّة تامة لتنجزه لا تكاد تناله يد الجعل إثباتا أو نفيا.

______________________________________________________

المأخوذ في الموضوع هو الخاص سببا أو شخصا ؛ بأن يكون القطع حاصلا من سبب خاص أو لشخص خاص.

٢ ـ في القطع الحاصل من المقدمات العقلية : يقول المصنف : بعدم التفاوت في حجية القطع الطريقي المحض بين أن يكون حاصلا من المقدمات العقلية وغيرها.

نعم ؛ نسب إلى الأخباريين : أنه لا اعتبار بما إذا كان حاصلا من المقدمات العقلية ، ولكن هذه النسبة غير ثابتة ؛ لأن كلماتهم إما ناظرة إلى منع الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع بمعنى : أنه لا ملازمة بين حكم العقل بحسن شيء أو قبحه وبين حكم الشرع بوجوبه أو حرمته.

وإما في مقام عدم جواز الاستناد في الأحكام الشرعية إلى المقدمات العقلية ، كما يظهر هذا من مجموع كلمات المحدث الاسترابادي ؛ لأن المستفاد من كلماته : أنه كان في مقام إثبات عدم جواز الاعتماد على الظن في الأحكام الشرعية ، وأن المقدمات العقلية لا تفيد إلا الظن الذي لا يجوز الركون إليه في الأحكام الشرعية. وليس في مقام المنع عن حجية القطع بالحكم الشرعي الحاصل من المقدمات العقلية.

٣ ـ فلا بد فيما يوهم خلاف اعتبار القطع مطلقا في الشريعة من المنع عن حصول العلم التفصيلي بالحكم الفعلي ؛ لأجل منع بعض مقدماته الموجبة له ، واعتبار العلم الإجمالي محل كلام كما سيأتي في الأمر السابع. فانتظر.

٤ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ عدم الفرق في حجية القطع الطريقي بين قطع القطاع وغيره.

٢ ـ عدم الفرق في حجية القطع الطريقي بين حصوله من المقدمات العقلية وغيرها.

٣ ـ حجية القطع المأخوذ في موضوع الحكم تابع لدليل ذلك الحكم في العموم والخصوص والإطلاق والتقييد.

في العلم الإجمالي

(١) المقصود من هذا الأمر السابع : هو التكلم حول العلم الإجمالي. وفيه مقامان :

المقام الأول : في حجية العلم الإجمالي في إثبات التكليف ، بمعنى : كونه منجزا للتكليف كالعلم التفصيلي.

١١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

المقام الثاني : في اعتباره في مقام إسقاط التكليف ، بمعنى : إسقاط التكليف بالامتثال الإجمالي أي : الاحتياط بإتيان أطراف العلم الإجمالي. هذا مجمل الكلام في المقامين.

وقبل الخوض في تفصيل الكلام فيهما ينبغي بيان أمرين :

الأول : بيان ما هو المراد من العلم الإجمالي في المقام ، فنقول : إنّ المراد منه ليس العلم بالأفراد من العلم بالكلي ، كما يقول به المنطقيون ، وكذا ليس المراد من العلم الإجمالي العلم بالمعلول من العلم بالعلة كما يقول به الفلاسفة : ولا بمعنى الارتكازي الغير الملتفت إليه ؛ بل المراد به : ما هو المصطلح عند الأصوليين وذلك يتضح بعد مقدمة وهي : انّ التكليف يتوقف على أمرين :

أحدهما : ما يتعلق به التكليف الوجوبي كالصلاة ، أو التحريمي كالخمر مثلا.

وثانيهما : من يتوجه إليه التكليف ، وهو المكلف ، ثم أضف إلى هذين الأمرين نفس التكليف ، فهنا ثلاثة أمور : المتعلق ، المكلف ، التكليف.

ثم المكلف تارة : يعلم بالجميع ، وهذا العلم منه يسمّى بالعلم التفصيلي ، وأخرى : لا يعلم بشيء منها ، وهذا الجهل منه يسمى بالجهل البسيط ، وثالثة : يعلم ببعضها دون بعض.

فتارة : يعلم بالتكليف فقط مثل : من يرى المني في ثوب مشترك بينه وبين غيره ، فإنه يعلم بوجوب الغسل فقط ؛ لأن المكلف مردد بين شخصين كما أن المكلف به مردد بين غسل هذا أو غسل ذاك.

وأخرى : يعلم بالتكليف والمكلف ولا يعلم بمتعلق التكليف هل إنه صلاة الجمعة يومها أو صلاة الظهر؟

وثالثة : يعلم بالمكلف والمتعلق ، ولا يعلم بالتكليف ؛ كمن لا يعلم بأن حكم صلاة الجمعة هو الوجوب أو الحرمة؟.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن المراد من العلم الإجمالي : هو أن يكون المعلوم مرددا بين أمرين أو أكثر ، فيكون المعلوم مجملا.

ومن هنا ظهر : أن اتصاف العلم بالإجمال يكون من قبيل وصف الشيء بحال متعلقه ؛ لأن الإجمال في الحقيقة صفة للمعلوم لا للعلم.

الأمر الثاني : بيان الثمرة بين القولين : وهي جواز الاحتياط بترك الاجتهاد والتقليد على القول باعتبار العلم الإجمالي في المقامين ، أي : مقام إثبات التكليف ومقام إسقاطه ،

١١١

فهل القطع الإجمالي كذلك (١)؟

فيه إشكال (٢) ، لا يبعد أن يقال : إن التكليف حيث لم ينكشف به تمام الانكشاف ، وكانت مرتبة الحكم الظاهري معه محفوظة ، جاز الإذن من الشارع

______________________________________________________

وعدم جواز العمل بالاحتياط ووجوب الرجوع إلى الاجتهاد أو التقليد على القول بعدم اعتباره في المقامين.

(١) يعني : علّة تامة لتنجز التكليف كالعلم التفصيلي.

(٢) هذا إشارة إلى المقام الأول. وقد وقع الكلام بين الأعلام ، وهناك أقول متعددة :

منها : أنه علة تامة لتنجز التكليف كالعلم التفصيلي ، بلا فرق بين حرمة المخالفة ووجوب الموافقة.

ومنها : أنه علة تامة لحرمة المخالفة القطعية فقط ، وليس علة ولا مقتضيا لوجوب الموافقة القطعية.

ومنها : أنه كالشك البدوي فتجري في أطرافه أصالة البراءة ، كما يجري في الشبهة البدوية ، كما يظهر من العلامة المجلسي «قدس‌سره».

ومنها : أنه علة تامة لحرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة الاحتمالية.

ومنها : أنه يجب التخلص عن المشتبه بالقرعة كما نسب إلى السيد ابن طاوس ، مستدلا بعموم «القرعة لكل أمر مشكل».

ومنها : ما اختاره المصنف بقوله : «لا يبعد أن يقال ...» الخ ، من أن العلم الإجمالي مقتض بالنسبة إلى كل من وجوب الموافقة وحرمة المخالفة القطعيتين ، فلا ينافي الإذن في مخالفتهما ظاهرا. وتوضيح ما أفاده المصنف في وجهه يتوقف على أمور من باب المقدمة :

الأمر الأول : أن العلم لا يكون منجزا إلا إذا تعلق بحكم فعلي تام الفعلية من جميع الجهات.

الأمر الثاني : أن الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية إنما هو بالالتزام بأن الحكم الواقعي فعلي ؛ لكن لا من جميع الجهات الذي عبر عنه : بأنه لو علم به لصار فعليا وتنجز ، فيكون حينئذ كل من الأصل والأمارة مانعا عن فعلية الحكم الواقعي فيما إذا كان على خلاف الواقع. فإذا لم تقم الأمارة على الخلاف فقد ارتفع المانع فتتحقق الفعلية.

وكيف كان ؛ فمع وجود الأصل أو الأمارة على خلاف الواقع لا يكون الواقع فعليا

١١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

من جميع الجهات ، وإنما يكون فعليا من جهة دون جهة.

الأمر الثالث : أن مرتبة الحكم الظاهري ـ وهي الجهل بالواقع ـ محفوظة في موارد العلم الإجمالي ؛ إذ كل من الطرفين مشكوك الحكم ، فيكون موردا للأمارة وموضوعا للأصل لعدم انكشاف الواقع به تمام الانكشاف ، ويمكن حينئذ الإذن في مخالفة التكليف المعلوم بالإجمال ، ولا مانع من الترخيص إلا محذور منافاة الحكم الظاهري للحكم الواقعي ، وهذا التنافي لا يختص بالمقام ؛ بل يعم الشبهة غير المحصورة والشبهة البدوية ؛ إذ الإذن في الارتكاب مناف للحكم الواقعي ، وسيأتي عدم التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري في الجمع بينهما.

إذا عرفت هذه الأمور من باب المقدمة فيتضح لك ما ذهب إليه المصنف «قدس‌سره» ؛ من عدم كون العلم الإجمالي علة تامة للتنجيز ؛ بل هو مؤثر في التنجيز بنحو الاقتضاء ، بمعنى : أنه قابل للترخيص في أطرافه كلا أو بعضا ؛ إذ مع شمول دليل الأصل للطرفين وثبوت حكم ظاهري ـ كما هو مقتضى الأمر الثالث ـ لا يكون الحكم الواقعي المعلوم تام الفعلية ـ كما هو مقتضى الأمر الثاني ـ وعليه : فلا يكون العلم به منجزا ـ كما هو مقتضى الأمر الأول ـ.

فالمتحصل : أن العلم الإجمالي مقتض لتنجز التكليف ، وليس علة تامة له ، ولا كالشك بحيث لا يؤثر في التنجيز أصلا ؛ لكونه مؤثرا فيه بالوجدان مع عدم المانع ؛ بحيث تصح مؤاخذة العبد على مخالفة التكليف المعلوم بالإجمال.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح ما ذهب إليه المصنف ؛ من كون العلم الإجمالي مقتضيا لتنجز التكليف ، وقد تركنا تطويل الكلام في المقام رعاية للاختصار.

قوله : «جاز الإذن» جواب «حيث» في قوله : «حيث لم ينكشف».

قوله : «احتمالا» قيد «بمخالفته» وكذا قوله : «قطعا» ، يعني : جاز الإذن من الشارع بمخالفة التكليف احتمالا ، كما إذا أذن بارتكاب بعض الأطراف ؛ بل يجوز الإذن في ارتكاب جميع الأطراف الموجب لجواز المخالفة القطعية ، وهذه العبارة كالصريحة في نفي العلية التامة ، وأن العلم الإجمالي مقتض بالنسبة إلى كل من وجوب الموافقة وحرمة المخالفة القطعيتين.

وكيف كان ؛ فقوله : «وليس محذور مناقضة مع المقطوع إجمالا ...» الخ شروع في الجواب عن المناقضة فلا بد أولا من تقريب المناقضة ، وثانيا من توضيح الجواب عنها.

١١٣

بمخالفته احتمالا بل قطعا ، وليس محذور مناقضته مع المقطوع إجمالا إلا محذور مناقضة الحكم الظاهري مع الواقعي في الشبهة الغير المحصورة ؛ بل الشبهة البدوية ، ضرورة : عدم تفاوت في المناقضة بين التكليف الواقعي والإذن بالاقتحام في مخالفته

______________________________________________________

وأما تقريب التناقض : فلأنه لا يمكن الإذن من الشارع بالمخالفة ؛ وذلك لمنافاة إذن الشارع وترخيصه في ارتكاب أطراف العلم الإجمالي للحكم الواقعي المعلوم إجمالا ، كما إذا علم إجمالا حرمة أحد شيئين ، فإن الإذن في ارتكابهما ينافي الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال ؛ لأن المفروض : أن الشارع لم يرفع يده عن الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال.

فلو قال : يجب عليك اجتناب الخمر المشتبه بين الإناءين ويجوز لك شرب كليهما كان مناقضا ، وهو محال هذا غاية ما يمكن أن يقال : في تقريب المناقضة.

وأما توضيح الجواب عنها : فلأنه لا مانع من الترخيص والإذن إلا منافاة الحكم الظاهري للواقعي ، وقد تقدم إن هذا التنافي لا يختص بالمقام ؛ بل يعم الشبهة غير المحصورة والشبهة البدوية ؛ إذ الإذن في الارتكاب مناف للحكم الواقعي في جميع هذه الموارد.

وكيف كان ؛ فهذا الجواب يرجع إلى النقض بالترخيص في الشبهات الغير المحصورة والشبهات البدوية.

وحاصله : أن المناقضة هنا بين إذن الشارع في ارتكاب بعض الأطراف ، وبين العلم الإجمالي بالتكليف وجوبا أو حرمة بعينها موجودة بين الحكم الظاهري والواقعي في الشبهات الغير المحصورة والشبهات البدوية ، من غير تفاوت بين المقامين ، فإنه لو كان المشتبه بالشبهة البدوية مخالفا للواقع ـ مثل أن يكون مشكوك الطهارة نجسا ـ كان قاعدة «كل شيء لك نظيف» (١) الشاملة لهذا النجس مستلزما للتناقض ؛ لأن المولى لم يرفع اليد عن نجاسته ؛ لكونه بولا مثلا. ومع ذلك : أجاز في ارتكابه ، وكذا لو اشتبه النجس بين أفراد غير محصورة ، وأجاز المولى ارتكاب بعض الأطراف ، وكان في الواقع هذا الطرف الذي يرتكبه المكلف نجسا ، أو ارتكب جميع الأطراف تدريجا ـ على القول بجوازه ـ فإنه يوجب المناقضة ، فما يدفع به محذورها هناك يدفع به محذورها هنا.

__________________

(١) المستند إلى الرواية الطويلة التي رواها عمار الساباطي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : تهذيب الأحكام ١ : ٢٨٤ / ٨٣٢.

١١٤

بين الشبهات أصلا ، فما به التفصّي عن المحذور فيهما كان (١) به التفصي عنه في القطع به في الأطراف المحصورة أيضا (٢) كما لا يخفى ، وقد أشرنا إليه (٣) سابقا ويأتي (٤) إن شاء الله مفصلا.

نعم (٥) ؛ كان العلم الإجمالي كالتفصيلي في مجرد الاقتضاء لا في العلية التامة. فيوجب تنجز التكليف أيضا (٦) لو لم يمنع عنه مانع عقلا ، كما كان في أطراف كثيرة

______________________________________________________

(١) خبر قوله : «فما به التفصي» ، والمراد بالموصول هو الوجه الذي يجمع به بين الحكم الظاهري والواقعي.

(٢) قيد لقوله : «كان به التفصي».

(٣) أي : إلى ما به التفصي ، وقد تقدمت الإشارة إليه في أواخر الأمر الرابع ، حيث قال : «لا بأس باجتماع الحكم الواقعي الفعلي بذاك المعنى ...» الخ.

(٤) أي : يأتي في أوائل البحث عن حجية الأمارات ، وخلاصة الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري هو : حمل الحكم الواقعي على الفعلي التعليقي ، والظاهري على الفعلي الحتمي ، فلا تنافي حينئذ بين الحكمين ؛ بل هما من الخلافين اللذين يجتمعان.

(٥) هذا استدراك على ما ذكره من كون رتبة الحكم الظاهري محفوظة مع العلم الإجمالي ؛ لمحفوظيتها في الشبهة البدوية وغير المحصورة ، أنه يتراءى منه : كون العلم الإجمالي حينئذ كالشك البدوي ، فاستدرك على ذلك بقوله : «نعم» وحاصله : أن العلم الإجمالي ليس كالشك البدوي في عدم الاقتضاء للتنجيز ؛ بل هو مقتضى لتنجز التكليف بالنسبة إلى كل من وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة كذلك ، وهذا هو القول الذي اختاره المصنف هنا ، ولكن عدل عنه في بحث الاشتغال وفي حاشيته التي ستتلى عليك.

(٦) أي : كالعلم التفصيلي ، والضمير في «عنه» راجع على تنجز التكليف ، يعني : فيوجب العلم الإجمالي تنجز التكليف كالعلم التفصيلي ، بشرط عدم المانع عن تأثيره فيه ، ففي المقام يكون العلم الإجمالي مقتضيا لتنجز التكليف إن لم يكن هناك مانع عنه عقلا ؛ كعدم القدرة على الاحتياط ، كما في أطراف الشبهة غير المحصورة ، حيث إن عدم القدرة على الاحتياط فيها مانع عقلي عن تنجز التكليف.

فقوله : «كما كان في أطراف كثيرة» إشارة إلى وجود المانع العقلي عن تنجز التكليف بالعلم الإجمالي.

كما أن قوله : «كما فيما أذن الشارع في الاقتحام فيها» إشارة إلى المانع الشرعي

١١٥

غير محصورة ، أو شرعا كما فيما أذن الشارع في الاقتحام فيها كما هو (١) ظاهر «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه».

وبالجملة (٢) : قضية صحة المؤاخذة على مخالفته ، مع القطع به بين أطراف محصورة ، وعدم صحتها مع عدم حصرها ، أو مع الإذن في الاقتحام فيها هو كون القطع الإجمالي مقتضيا للتنجز لا علة تامة.

وأما احتمال (٣) أنه بنحو الاقتضاء بالنسبة إلى لزوم الموافقة القطعية وبنحو العلية

______________________________________________________

يعني : إذن الشارع في ارتكاب الأطراف مانع شرعا عن تنجز التكليف بالعلم الإجمالي. بمعنى : أن الشارع إذا أذن في الاقتحام في أطراف الشبهة المحصورة كان ذلك مانعا شرعيا عن تنجيز العلم الإجمالي ، فمنافاة الإذن في ارتكاب بعض الأطراف ، مع احتمال وجود الحكم الواقعي في المقام كمنافاة الإذن في الشبهة البدوية ، فالوجه الذي يدفع المنافاة هناك يدفعها في المقام أيضا.

(١) أي : الإذن في الاقتحام ؛ إذ ظاهر الرواية بقرينة قوله «عليه‌السلام» : «بعينه» ـ هو جواز ارتكاب الأطراف ؛ لعدم معرفة الحرام بعينه منها.

(٢) المقصود من هذا الكلام : إثبات كون العلم الإجمالي مقتضيا لتنجز التكليف بما يترتب عليه من اللوازم ؛ كعدم صحة المؤاخذة على المخالفة إذا لم تكن الأطراف منحصرة ، أو كانت محصورة ، ولكن أذن في الاقتحام فيها ، فتنجيز العلم الإجمالي معلق على عدم المانع عقلا أو شرعا ؛ فيكون مقتضيا للتنجيز ، لا علة تامة. وضمير «صحتها» راجع على المؤاخذة ، وضمير «حصرها» راجع على الأطراف. و «هو كون القطع» خبر لقوله : «قضية».

(٣) هذا إشارة إلى القول بالتفصيل في حجية العلم الإجمالي ، وحاصل التفصيل : أن حجية العلم الإجمالي بنحو الاقتضاء بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية وبنحو العلية التامة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية ، وقد ذكرنا هذا القول في ضمن نقل الأقوال ، والمصنف لم يتعرض إلا إلى قولين ، وتقدم الكلام فيما اختاره في المقام ، وهذا هو إشارة إلى قول آخر من تلك الأقوال ، وقد أشار المصنف إلى رد هذا القول بقوله : «فضعيف جدا» ، وحاصله : أنه لا وجه للتفصيل بين وجوب الموافقة القطعية وبين حرمة المخالفة كذلك ، بدعوى : الاقتضاء في الأولى والعلية في الثانية ؛ وذلك لأن محذور الإذن في ارتكاب جميع الأطراف ـ وهو التناقض بين الترخيص وبين التكليف المعلوم إجمالا الذي دعا الشيخ الأعظم وغيره إلى الالتزام بالعلية بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية ـ موجود

١١٦

بالنسبة إلى الموافقة الاحتمالية وترك المخالفة القطعية ، فضعيف جدا. ضرورة (١) : أن احتمال ثبوت المتناقضين كالقطع بثبوتهما في الاستحالة ، فلا (٢) يكون عدم القطع بذلك معهما موجبا لجواز الإذن في الاقتحام ؛ بل لو صح معهما الإذن في المخالفة

______________________________________________________

بعينه في الترخيص في بعض الأطراف أيضا ؛ لأن المعلوم بالإجمال إذا انطبق على مورد الإذن لزم التناقض أيضا ، غاية الأمر : أن التناقض في صورة الترخيص في جميع الأطراف قطعي ، وفي صورة الترخيص في بعضها احتمالي ، واحتمال صدور التناقض من العاقل ـ فضلا عن الحكيم ـ كالقطع بصدوره في استحالته ، فإذا جاز الإذن في ارتكاب بعض الأطراف جاز في الكل. وعليه : فيكون العلم الإجمالي مقتضيا مطلقا ، وبلا تفاوت بين الموافقة القطعية وبين حرمة المخالفة القطعية ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ١٨١» مع تلخيص منّا.

(١) تعليل لقوله : «فضعيف جدا» ، ثم المراد بالمتناقضين : الحكم المعلوم بالإجمال ، والحكم الظاهري الذي هو مقتضى الأصل يعني : أن احتمال ثبوت المتناقضين من حيث الاستحالة كالقطع بثبوت المتناقضين ، وذلك في الإذن في ارتكاب جميع الأطراف الموجب للإذن في المعصية القطعية ، فكما أن مناقضة الحكم الإلزامي المعلوم إجمالا للترخيص في جميع الأطراف ضرورية ، فكذلك مناقضته للترخيص في بعض الأطراف.

(٢) هذا متفرع على التساوي بين المناقضة القطعية وبين المناقضة الاحتمالية في الاستحالة.

وحاصل الكلام في المقام : أن مجرد عدم القطع بالمناقضة في الإذن بارتكاب بعض الأطراف لا يوجب جواز الإذن فيه ؛ بل يكون احتمال التناقض كالعلم به في الاستحالة ، فلا يجوز الإذن في ارتكاب شيء من الأطراف ، والمشار إليه في قوله : «بذلك» هو ثبوت المتناقضين ، وضمير «معهما» راجع على الموافقة الاحتمالية وترك المخالفة القطعية. وفي بعض النسخ «معها» ، فمرجع الضمير حينئذ : المناقضة الاحتمالية المستفادة من العبارة.

وكيف كان ؛ فلا فرق بين احتمال ثبوت المتناقضين اللازم من المخالفة الاحتمالية ، وبين القطع بثبوت المتناقضين اللازم من المخالفة القطعية في الاستحالة ؛ إذ كما نقطع بأن المولى لا يتناقض في حكمه كذلك لا نحتمل أن يتناقض المولى ؛ إذ التناقض المحتمل مثل التناقض المقطوع في الاستحالة ، فما كان مستلزما لاحتمال تناقض المولى ـ كالإذن في المخالفة الاحتمالية ـ مثل ما كان مستلزما للقطع بتناقض المولى كالإذن في المخالفة القطعية ـ مستحيل ، فقد تبيّن أن التناقض المحتمل كالتناقض المتيقن غير متصور صدوره

١١٧

الاحتمالية صح في القطعية أيضا فافهم (١).

ولا يخفى : أن المناسب (٢) للمقام هو البحث عن ذلك ، كما أن المناسب في باب البراءة والاشتغال بعد الفراغ هاهنا عن أن تأثيره في التنجز بنحو الاقتضاء لا العلية

______________________________________________________

عن المولى ، فالنتيجة أنهما من واد واحد ، فلا وجه للتفصيل.

(١) لعله إشارة إلى الفرق بين الإذن في بعض الأطراف ، وبين الإذن في جميع الأطراف ؛ والفرق بينهما لوجهين :

الأول : أن الإذن في جميع الأطراف إذن في المخالفة القطعية ، فلا يقع موردا لتصديق العبد لما يرى من المناقضة ، هذا بخلاف الإذن في بعض الأطراف ، حيث إنه إذن في المخالفة الاحتمالية ، فيمكن تصديق العبد جواز المخالفة الاحتمالية ؛ لاحتمال كون الواقع في الطرف الآخر.

الثاني : أن الإذن في ارتكاب بعض الأطراف يمكن أن يكون بنحو جعل البدل عن الواقع ؛ بأن يجعل الشارع الباقي ـ وهو البعض الآخر الذي لم يرتكبه المكلف ـ بدلا عن الحرام الواقعي ، كما هو مذهب من جوّز ارتكاب ما عدا ما يساوي مقدار الحرام الواقعي أو أزيد كالمحقق القمي «قدس‌سره» في القوانين ، فلا محذور فيه حينئذ ، وهذا بخلاف الإذن في جميع الأطراف ، فإن الإذن كذلك ينافي حفظ الواقع.

(٢) المقصود من هذا الكلام : بيان ما يناسب من بحث العلم الإجمالي للمقام ، الذي هو مقام البحث عن أحوال القطع ، وللمقام الذي يبحث عنه في باب البراءة والاشتغال.

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن للعلم الإجمالي كشف ناقص عن الواقع ، فيكون علما من جهة وجهلا من جهة أخرى ، فكل ما يعد من شئون كونه علما ينبغي البحث عنه في مبحث القطع ، وكل ما يعد من شئون كونه جهلا وشكا ينبغي البحث عنه في باب البراءة والاشتغال.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن المناسب للمقام هو البحث عن تأثير العلم الإجمالي في تنجز التكليف بنحو العلية التامة ، أو بنحو الاقتضاء ، أو عدم تأثيره فيه أصلا.

وعلى القول بتأثيره فيه بنحو العلية التامة مطلقا ـ يعني : بالنسبة إلى كل من وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة كذلك ـ لا يبقى مجال للبحث عنه في باب البراءة والاشتغال ؛ لكونه حينئذ كالقطع التفصيلي في عدم إمكان التعبد بشيء من الأصول معه ، وعلى القول بتأثيره فيه بنحو الاقتضاء ؛ بأن يكون قابلا لترخيص الشارع في أطرافه كلا أو بعضا ، فيبحث عنه في باب الاشتغال عن وجود المانع وعدمه ؛ إذ ورود الترخيص

١١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

شرعا مانع عن تأثير العلم الإجمالي في تنجزّ التكليف ، فلا بد من القول بالبراءة حينئذ ؛ لأن المانع مقتض للبراءة ، ومع عدم المانع لا بد من القول بالاشتغال والإتيان بجميع الأطراف.

وأما على القول بعدم تأثير العلم الإجمالي في تنجز التكليف أصلا ؛ بل إنه كالشك البدوي ، فمقتضى الأصل هو البراءة فقط.

وكيف كان ؛ فالمناسب للمقام ـ الذي هو مقام البحث عن أحوال القطع ـ هو البحث عن تأثير القطع في التنجيز بنحو العلية التامة ، المستلزم لوجوب الموافقة القطعية ، أو بنحو الاقتضاء المستلزم لحرمة المخالفة القطعية ؛ لا أن يجعل وجوب الموافقة القطعية في باب ـ أعني : باب الاشتغال والبراءة ـ وحرمة المخالفة القطعية في باب آخر ـ أعني : بحث القطع ـ كما صنعه الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» ، حيث جعل البحث في المقام في حرمة المخالفة القطعية ، وفي البراءة والاشتغال في وجوب الموافقة القطعية ، فما أفاده المصنف في المقام تعريض بالشيخ الأنصاري بوجهين :

الأول : أنه تكلم في العلم الإجمالي من مباحث القطع عن حرمة المخالفة القطعية وأوكل البحث عن وجوب الموافقة القطعية أو كفاية الموافقة الاحتمالية إلى مباحث الاشتغال. وحاصل تعريض المصنف به : أن المناسب هو البحث عن كل من حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة كذلك في مباحث القطع لرجوعهما إلى تنجيزه ، فلا وجه لتأخير البحث عن وجوب الموافقة القطعية وعدمه إلى البراءة والاشتغال اللذين موضوعهما الشك.

الثاني : أن الشيخ «قدس‌سره» تعرض لعلية العلم الإجمالي لكل من حرمة المخالفة ووجوب الموافقة القطعيتين في بحث الاشتغال ، حيث عقد للشبهة المحصورة مقامين : فقال : «أما المقام الأول : فالحق فيه عدم الجواز وحرمة المخالفة القطعية ، وحكي عن بعض جوازها ، لنا على ذلك وجود المقتضي للحرمة وعدم المانع عنها» (١).

وقال في المقام الثاني : «فالحق فيه وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين وفاقا للمشهور ...» (٢) الخ.

وحاصل التعريض به : أنهما من آثار العلم لا الشك ، فالمناسب هو البحث عنهما هنا

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢٠٠.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٢١٠.

١١٩

هو البحث عن ثبوت المانع شرعا أو عقلا ، وعدم ثبوته ، كما لا مجال بعد البناء على أنه بنحو العلية للبحث عنه هناك (١) أصلا كما لا يخفى. هذا (٢) بالنسبة إلى إثبات التكليف أو تنجزه به.

وأما سقوطه (٣) به بأن يوافقه إجمالا : فلا إشكال فيه في التوصليات ، وأما في

______________________________________________________

وما يناسب البحث عنه في الاشتغال هو التعرض لثبوت الترخيص عقلا أو شرعا في بعض الأطراف أو كلها ، بعد البناء على أن العلم الإجمالي مقتض لكلتا المرتبتين ، كما أنه لا وجه للبحث عن الترخيص بعد البناء على عليته التامة للتنجيز مطلقا.

فالمتحصل : أنه بناء على تأثير العلم الإجمالي بنحو الاقتضاء مطلقا يبحث في الاشتغال عن وجود المانع وعدمه ، وبناء على عدم تأثيره مطلقا يبحث في البراءة عن جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي.

وكيف كان ؛ فكل ما يعدّ من شئون العلم كاستحقاق العقوبة على مخالفته يناسب البحث عنه هنا ، وكل ما يعد من شئون الجهل ينبغي البحث عنه في باب البراءة والاشتغال.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في بيان مناسبة بحث العلم الإجمالي بالنسبة إلى المقامين.

ولكن ما ذكره المصنف من الفرق بين المقامين هو أنسب وأصحّ فتدبر.

(١) أي : في بحث البراءة والاشتغال.

(٢) أي : ما تقدم إلى هنا من كون العلم الإجمالي علة تامة أو مقتضيا إنما هو بالنسبة إلى إثبات التكليف وتنجزه به. وبقي الكلام في المقام الثاني ، وهو اعتبار العلم الإجمالي في مقام إسقاط التكليف به.

(٣) أي : سقوط التكليف بالعلم الإجمالي. هذا إشارة إلى المقام الثاني من الكلام في العلم الإجمالي.

في الامتثال الإجمالي

وقبل الخوض في البحث ينبغي بيان ما هو محل الكلام في المقام ، وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي بيان أمور :

منها : أن الواجب على قسمين :

أحدهما : هو الواجب التوصلي. وهو ما لا يتوقف امتثاله على قصد القربة ، ولا يحتاج سقوط التكليف فيه إلى قصد الإطاعة.

ثانيهما : هو الواجب التعبدي وهو ما يحتاج امتثاله وسقوط التكليف فيه إلى قصد

١٢٠