دروس في الكفاية - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٧

كيف يمكن الحكم بوجوب التصديق الذي ليس إلا بمعنى وجوب ترتيب ما للمخبر به

______________________________________________________

اختلافها هو : قضية واحدة ، وهي «صدق العادل» ، ثم هذه القضية تنحل إلى حكم وهو : الوجوب ، وموضوع وهو : تصديق العادل ، ولا إشكال فيما إذا كان خبر العادل بلا واسطة ، ويترتب عليه أثر شرعي ؛ إذ معنى وجوب التصديق هو : ترتب الأثر الشرعي الثابت في المرتبة السابقة عن هذا الحكم على المخبر به بخبر العادل ؛ إذ لو لم يكن له أثر شرعي كذلك كانت حجيته لغوا ، فإذا أخبر العادل مثلا بعدالة زيد يترتب على المخبر به وهو عدالة زيد الأثر الشرعي ، الثابت قبل الإخبار بالعدالة ، وهو جواز الاقتداء به ، وصحة الطلاق عنده ، فوجوب تصديق العادل في إخباره عن عدالة زيد لا بد أن يكون بلحاظ الأثر الشرعي الثابت شرعا ، مع قطع النظر عن الحكم بوجوب التصديق ؛ كما في المثال المذكور.

وحينئذ : فوجوب التصديق المستفاد من دليل حجية الخبر حكم والمخبر به وهو عدالة زيد موضوع ، وجواز الاقتداء أو الطلاق عنده أثر شرعي ، فلا يرد عليه إشكال أصلا ؛ إذ لا يلزم اتحاد الحكم مع الأثر ، ولا اتحاد الحكم والموضوع. إذ في المثال المذكور : وجوب التصديق المستفاد من دليل حجية الخبر حكم ، والمخبر به وهو عدالة زيد ، وأثره الشرعي وهو جوار الاقتداء به موضوع ، ومن المعلوم : لزوم تغاير كل حكم مع موضوعه ، وعدم إمكان اتحادهما.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه إذا لم يكن في مورد أثر شرعي للخبر إلا نفس وجوب التصديق الثابت بدليل حجية الخبر ـ كما هو الحال في الخبر إذا كان مع واسطة أو وسائط ـ لم يمكن ترتيب هذا الأثر على وجوب تصديق المخبر ؛ لأنه يلزم اتحاد الحكم والموضوع ؛ إذ يلزم أن يكون وجوب التصديق بلحاظ وجوب التصديق ، وهذا معنى اتحاد الحكم والموضوع ، مع أنه يعتبر تغايرهما كما عرفت.

وكيف كان ؛ فيلزم اتحاد الحكم والموضوع فيما إذا كان الخبر مع الواسطة أو الوسائط ، وذلك إذا أخبر الشيخ عن المفيد ، والمفيد عن الصدوق ، والصدوق عن الصفار ، والصفار عن الإمام «عليه‌السلام» لم يترتب على المخبر به أعني : إخبار المفيد سوى وجوب التصديق ؛ لأن نفس السنة ـ وهو قول الإمام «عليه‌السلام» ـ أثر للخبر الأخير الذي يكون بلا واسطة وهو خبر الصفار مثلا ، وحينئذ : فوجوب تصديق خبر الشيخ بمقتضى أدلة الحجية حكم ، ونفس خبر الشيخ والمخبر به وهو خبر المفيد وأثره الشرعي ـ وهو وجوب تصديقه ـ موضوع ؛ إذ المفروض : وجوب تصديق خبر المفيد أيضا بمقتضى

٢٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

أدلة الحجية ، وأنه لا أثر لوجوب تصديق الشيخ سوى تصديق المفيد ، فيلزم اتحاد الحكم والموضوع ؛ إذ موضوع الحكم هو : تصديق العادل المقيد بكونه بلحاظ أثر ، وهو ليس إلا وجوب التصديق ، فيلزم ما ذكرنا من اتحاد الحكم والموضوع وهو باطل ؛ بل محال ؛ لكونه مستلزما لتقدم الحكم على الموضوع المستلزم لتقدم الشيء على نفسه. هذا تمام الكلام في الإشكال الأول.

الوجه الثاني : ما أشار إليه بقوله : «إنه لا مجال بعد اندفاع الإشكال بذلك للإشكال ...» الخ ، وهو لزوم إيجاد الموضوع بالحكم مع أنه لا بد من وجود الموضوع قبل الحكم ؛ لئلا يلزم تقدم الحكم على الموضوع.

توضيح ذلك من طريق الاستدلال بالقياس الاستثنائي بأن يقال : لو شمل دليل الحجية ـ أي : صدق العادل ـ الواسطة لزم تقدم الحكم على موضوعه ، والتالي باطل ، فالمقدم مثله.

بيان الملازمة : أن خبر المفيد في المثال المذكور يتحقق بسبب وجوب تصديق خبر الشيخ عن المفيد ، ثم يصير خبر المفيد عن الصدوق موضوعا لوجوب التصديق بعد تحققه به ، فيكون الحكم سببا ومحققا لموضوعه ، فيلزم كونه متقدما على الموضوع ، حتى يكون سببا لتحققه وهو نفس تقدم الحكم على الموضوع ، وهو تال باطل ، وبطلانه لا يحتاج إلى بيان ، إذ الحكم يجب أن يكون متأخرا عن الموضوع تأخر المعلول عن علته ، فيكون تقدمه على الموضوع مستلزما لتقدم الشيء على نفسه وهو محال باطل.

وهناك وجه ثالث ، وهو : لزوم اتحاد الحكم والأثر ؛ إذا لو شمل دليل الحجية خبر الشيخ عن المفيد لكان معناه : وجوب ترتب الأثر على ما أخبر به الشيخ وهو خبر المفيد ، والمفروض : أنه ليس هناك أثر سوى وجوب تصديق المفيد ، فيلزم اتحاد الحكم والأثر وهو باطل ؛ لما عرفت من أن الأثر الشرعي يجب أن يكون موجودا قبل الحكم بوجوب التصديق ؛ ليكون الحكم لأجل ذلك الأثر ، وليس هناك أثر شرعي في سلسلة الرواة ؛ إلا للخبر الأخير وهو خبر الصفار عن الإمام «عليه‌السلام» بوجوب شيء أو حرمته.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى «الدراية».

قوله : «بواسطة» خطأ ، والصواب أن يقال : «بواسطتين أو وسائط» ؛ وذلك لأن مناط الإشكال في أخبار الوسائط ، وهو عدم الأثر الذي هو موضوع دليل الاعتبار ـ مفقود في خبر الواسطة كزرارة الراوي عن الإمام «عليه‌السلام» ؛ لأنه إذا نقل زرارة كلامه «عليه

٢٨٢

من الأثر الشرعي بلحاظ نفس هذا الوجوب ، فيما (١) كان المخبر به خبر العدل أو عدالة المخبر؟ لأنه (٢) وإن كان أثرا شرعيا لهما ، إلا إنه (٣) بنفس الحكم في مثل الآية بوجوب تصديق خبر العدل حسب الفرض.

نعم (٤) ؛ لو أنشئ هذا الحكم ثانيا ؛ فلا بأس في أن يكون بلحاظه أيضا ، حيث إنه

______________________________________________________

السلام» للصفار مثلا ، فيكون لخبر زرارة أثر شرعي ، وهو قول الإمام «عليه‌السلام» ، فيشمله دليل اعتبار خبر الواحد بلا تكلف ، كسائر الموضوعات ذوات الآثار.

إلا أن يقال : إن المراد هو الواسطة بين الراوي عن الإمام «عليه‌السلام» وبيننا ؛ لا بينه «عليه‌السلام» وبيننا.

(١) متعلق بالحكم في قوله : «كيف يمكن الحكم؟» أي : كيف يمكن الحكم بوجوب التصديق بلحاظ نفس هذا الوجوب في مورد يكون المخبر به خبر العدل أو عدالة الراوي؟

وبعبارة أخرى : إذا كان المخبر به خبر عدل كالمفيد ، أو عدالة مخبر ، فلا يمكن ترتيب هذا الأثر عليه ، بمعنى : الحكم بوجوب تصديق هذا الخبر ـ الثابت هذا الوجوب بنفس دليل وجوب تصديق الخبر ـ وذلك كخبر الصدوق الثابت بقول المفيد للشيخ ، حيث قال الشيخ : «حدثني المفيد» ، فإن المخبر به هو قول المفيد : «حدثني الصدوق» ، وهذا خبر عدل لا أثر له إلا وجوب التصديق الثابت ، هذا الوجوب بنفس دليل وجوب تصديق المخبر وهو الشيخ «قدس‌سره».

«أو عدالة المخبر» ، كما إذا أخبر معلوم العدالة بعدالة بعض المؤرخين كصاحب ناسخ التواريخ ، أو أبي مخنف أو نحوهما ، فإن عدالة أمثالهما لا أثر لها إلا وجوب التصديق والبناء على صدقهم في نقلهم.

(٢) أي : لأن وجوب تصديق خبر العدل وإن كان أثرا شرعيا لخبر العدل وعدالة المخبر ، إلا إنه ثابت بنفس الحكم بوجوب تصديق خبر العدل.

(٣) أي : إلا إن وجوب التصديق ثابت بسبب نفس الحكم بوجوب تصديق خبر العدل ، المستفاد من أدلة الحجية.

والمتحصل : أنه يلزم أن يكون وجوب التصديق موضوعا وحكما ، وهذا هو معنى اتحاد الحكم والموضوع.

(٤) استدراك على لزوم اتحاد الحكم والموضوع.

وحاصل الاستدراك : أن محذور وحدة الحكم والموضوع يندفع فيما إذا تعدد

٢٨٣

صار أثرا بجعل آخر ، فلا يلزم اتحاد الحكم والموضوع ، بخلاف ما إذا لم يكن هناك إلا جعل واحد ، فتدبر.

______________________________________________________

الإنشاء ، حيث إن وجوب التصديق الذي أنشئ أولا يصير موضوعا للوجوب المنشأ ثانيا ، فلا يلزم اتحاد الحكم والموضوع. نعم ، يلزم اتحادهما نوعا وهو غير قادح.

ولإثبات اختلاف الحكم عن الموضوع ثلاثة طرق :

١ ـ بالقضية الخارجية : بأن يكون «صدق العادل» قضية خارجية ، بتقريب : أنه ينشأ وجوب التصديق لخبر الشيخ ، حيث قال : «حدثني المفيد» ، فيقال : «صدق العادل» أعني : الشيخ ، ثم ينشأ وجوب التصديق لخبر المفيد عن الصدوق ، فيقال : «صدق العادل» أعنى : المفيد ، ثم ينشأ وجوب التصديق لخبر الصدوق فيقال : «صدق العادل» أعني : الصدوق إلى آخر السلسلة ، فلا يلزم اتحاد الحكم والموضوع لتعدد كل منهما ؛ إذ كل حكم لاحق يكون أثرا وموضوعا للحكم السابق ؛ لأن الحكم السابق إنما هو بلحاظ الحكم اللاحق ، فوجوب تصديق خبر الشيخ إنما هو بلحاظ ترتب وجوب التصديق على ما هو المخبر به بخبره ، وهو خبر المفيد. وهكذا.

٢ ـ بالقضية الحقيقية : بأن يكون «صدق العادل» قضية حقيقية ، بتقريب : أن الموضوع في القضية الحقيقية هو مفروض الوجود في طول الزمان ، فمعنى «صدق العادل» «كلما وجد خبر وكان مخبره عادلا وجب تصديقه» ، فينحل الحكم ـ وهو : وجوب التصديق ـ إلى أحكام متعددة بمقدار تعدد موضوعاتها ، فهناك وجوبات متعددة بعدد الأخبار وهي الوسائط ، فيثبت بوجوب تصديق الشيخ ما أخبره المفيد ، فيصير خبر المفيد موضوعا لوجوب التصديق ، ويثبت بوجوب تصديق المفيد ما أخبره الصدوق ، فيصير خبر الصدوق موضوعا لوجوب التصديق. وهكذا إلى أن ينتهي إلى قول المعصوم «عليه‌السلام» ، حيث يترتب الحكم الشرعي على وجوب تصديق الخبر الأخير ، وهو خبر الصفار عن الإمام «عليه‌السلام».

٣ ـ بالقضية الطبيعية : بأن يكون «صدق العادل» قضية طبيعية ؛ بأن يكون الملحوظ في كل من الموضوع والأثر هو الطبيعة أعني طبيعة الأثر وطبيعة الخبر ، فيكون الملحوظ موضوعا لوجوب التصديق هو طبيعة الأثر المتقدمة رتبة على الوجوب المدلول عليه بأدلة الحجية ومنها : آية النبأ. فإذا صارت الطبيعة موضوع الأثر سرى حكمها ـ وهو موضوعيتها للحكم بوجوب التصديق ـ إلى أفرادها التي منها نفس وجوب التصديق ، فليس الملحوظ موضوعا فرد الطبيعة ـ أعني : نفس وجوب التصديق ـ حتى يتحد

٢٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الموضوع والحكم ، فالمتقدم هو الطبيعة ، والمتأخر هو الفرد.

فقضية «صدق العادل» نظير «كل خبري صادق» ، فإن هذه القضية طبيعية شاملة لنفس هذه الجملة أيضا ؛ إذ المراد ب «كل خبري» طبيعة الخبر ، ومن المعلوم : شمولها لنفس هذه القضية كشمولها لسائر إخباراته.

والحاصل : أن إشكال اتحاد الحكم والموضوع إنما يلزم إذا جعل «صدق العادل» قضية خارجية واحدة ، ترتب الحكم الواحد فيها على خصوص أفراد الموضوع الموجودة في الخارج فعلا بلحاظ نفس ذلك الحكم.

وأما إذا جعل قضية حقيقية : ترتب الحكم فيها على طبيعة الموضوع ـ ومنها يسري إلى أفرادها الخارجية المحققة أو المقدرة ـ فلا يلزم الإشكال المذكور. هذا ما أشار إليه بقوله : «ويمكن الذب عن الإشكال». الصواب أن يقال : ويمكن دفع الإشكال ؛ لأن الذب عن الشيء هو حفظه والدفع عنه ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٤٥٨».

بقي الكلام في الجواب عن إشكال كون الحكم مثبتا ومحققا لموضوعه.

توضيح ذلك بعد مقدمة : وهي أن ثبوت الحكم لفرد من العام تارة : يكون واسطة في الثبوت لفرد آخر منه ، وأخرى : يكون واسطة في الإثبات.

والأول : مثل قول القائل بعد إخباره بألف خبر : «كل خبري صادق» ، فيشمل هذا الخبر كل ما أخبره قبله ، ولا يشمل نفسه ؛ لأن الحكم فيه وهو «صادق» يكون واسطة في الثبوت لهذا الخبر ، أي : يكون علة له ؛ إذ الخبر المركب من الموضوع والمحمول لا يتحقق إلا بهما معا ؛ لا بالموضوع فقط ، فلا بد من ضم المحمول وهو «صادق» ، فيلزم من شموله نفسه تقدم الشيء على نفسه.

الثاني : ما إذا كان الحكم لبعض الأفراد واسطة في الإثبات لفرد آخر ـ كما نحن فيه ، حيث يكون ثبوت الحكم لخبر الشيخ سببا للعلم بفردية خبر المفيد ـ لكان شاملا لفرد آخر أيضا.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إن ثبوت الحكم ـ أعني : وجوب التصديق ـ لخبر الشيخ يكون سببا للعلم بفردية خبر المفيد من دون أن يكون سببا لفرديته وتحققه في الواقع ، ويكون الواسطة في الإثبات لا في الثبوت ، فلا يلزم من شمول الحكم خبر المفيد محذور إيجاد الموضوع بالحكم ؛ إذ خبر المفيد يكون ثابتا في الواقع ، مع قطع النظر عن الحكم بوجوب تصديق خبر الشيخ ، فيكون الموضوع ـ وهو خبر المفيد ـ ثابتا في الواقع

٢٨٥

ويمكن الذب (١) عن الإشكال : بأنه إنما يلزم إذا لم يكن القضية طبيعية ، والحكم فيها بلحاظ طبيعة الأثر ؛ بل بلحاظ أفراده ، وإلا (٢) فالحكم بوجوب التصديق يسري إليه سراية (٣) حكم الطبيعة إلى أفراده (٤) ، بلا محذور لزوم اتحاد الحكم والموضوع.

هذا مضافا إلى القطع (٥) بتحقق ما هو المناط في سائر الآثار في هذا الأثر ـ أي :

______________________________________________________

قبل الحكم ، فلا يلزم كون الحكم مثبتا للموضوع.

قوله : «فتدبر» لعله إشارة إلى أن الإشكال إنما هو في الإنشاء الأول ؛ إذ لا مصحح له بعد فرض عدم أثر للخبر إلا نفس وجوب التصديق الجائي من قبل مثل الآية ؛ وإلا فلو فرض صحته فلا مانع من شمول الوجوب الثاني له ، وبه يندفع إشكال تولد الموضوع من الحكم بالنسبة إلى خبر الواسطة والخبر الحاكي عنه ، ضرورة : أن وجوب تصديق خبر الشيخ حينئذ غير وجوب تصديق الخبر المحكي به ، فلا يلزم الاتحاد ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٤٥٨».

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) هذا جواب عن إشكال لزوم اتحاد الحكم والموضوع.

وحاصل ما أجاب به عنه : أن الأثر الشرعي الملحوظ موضوعا لوجوب التصديق ومصححا له إن كان مصاديق الأثر وأفراده ، توجه الإشكال المذكور ؛ إذ لا يمكن أن يكون وجوب التصديق بلحاظ نفسه ؛ لأن هذا الوجوب الشخصي الملحوظ موضوعا لا يتأتى إلا من قبل نفسه ، فكيف يمكن أن يؤخذ هذا الوجوب موضوعا وحكما لنفسه؟ وإن كان هو طبيعة الأثر فلا يرد الإشكال كما عرفت توضيح ذلك.

(٢) أي : وإن لم يكن الحكم بوجوب التصديق بلحاظ أفراد الأثر ـ بل كان بلحاظ الطبيعة ـ لم يلزم إشكال اتحاد الحكم والموضوع.

(٣) مفعول مطلق نوعي لقوله : يسري ، وضمير «إليه» راجع على الأثر المراد به الحكم بوجوب التصديق ، وحاصله : أنه يسري حكم طبيعة وجوب التصديق إلى أفراد وجوب التصديق سراية حكم الطبيعة إلى أفرادها ، يعني : أن كل فرد من أفراد وجوب التصديق يصير موضوعا لوجوب تصديق العادل ؛ لسراية حكم الطبيعة ـ وهو الموضوعية ـ إلى أفرادها ، وهي الآثار التي يكون وجوب التصديق منها.

(٤) الأولى تأنيث الضمير لرجوعه إلى «الطبيعة».

(٥) هذا هو الوجه الثاني من وجوه الجواب عن الإشكال المذكور حسب ما هو ظاهر كلام المصنف.

٢٨٦

وجوب التصديق ـ بعد تحققه (١) بهذا الخطاب ؛ وإن كان (٢) لا يمكن أن يكون ملحوظا لأجل المحذور ، وإلى عدم (٣) القول بالفصل بينه (٤) وبين سائر الآثار ، في وجوب الترتيب لدى الإخبار بموضوع ، صار أثره الشرعي وجوب التصديق وهو (٥) خبر العدل ولو (٦) بنفس الحكم في الآية. فافهم (٧).

______________________________________________________

وتوضيحه : أن المناط في شمول دليل الاعتبار للخبر هو كون الخبر ذا أثر شرعي ، من دون تفاوت بين كون ذلك الأثر وجوب التصديق أو غيره ، غاية الأمر : أن دليل الاعتبار لا يشمل الأثر الأول ـ أعني : وجوب التصديق ـ لفظا ؛ للزوم محذور الاتحاد ، ولكن يشمله مناطا ، ومن المناط يستكشف تعدد الإنشاء كاستكشافه من كون القضية طبيعية ؛ كما هو مقتضى الوجه الأول ، ومن المعلوم : أن المناط في شمول دليل اعتبار خبر العادل لخبره كونه ذا أثر شرعي.

(١) أي : بعد تحقق الأثر ـ وهو وجوب التصديق ـ بآية النبأ الدالة على اعتبار خبر العادل.

(٢) وإن كان لا يمكن أن يكون الأثر ـ وهو وجوب التصديق ـ ملحوظا وشاملا لوجوب التصديق لفظا ؛ لأجل محذور اتحاد الحكم والموضوع ؛ ولكن يشمله مناطا كما عرفت.

(٣) إشارة إلى الوجه الثالث من وجوه الجواب عن الإشكال.

وحاصله : أنه لم يوجد قول بالفصل بين وجوب التصديق وبين غيره من الآثار في وجوب ترتيبه على خبر العادل ، فيجب ترتيب كل أثر شرعي على خبره ؛ وإن كان هو وجوب تصديقه.

(٤) أي : بين الأثر المذكور ـ وهو وجوب التصديق ـ وبين سائر الآثار ؛ كجواز الائتمام وتحمل الشهادة وقبولها عند أدائها ، وغيرها من آثار العدالة.

(٥) أي : الموضوع الذي صار أثره الشرعي وجوب التصديق هو خبر العدل.

(٦) قيد ل «صار أثره» ، أي : لو كانت صيرورة أثره الشرعي وجوب التصديق بسبب نفس وجوب التصديق ، المستفاد من الآية الشريفة ، فوجوب التصديق الذي صار موضوعا يكون نظير جواز الائتمام بالعادل في موضوعيته ؛ لوجوب تصديق العادل الذي أخبر بعدالة زيد ، ولا فرق في وجوب ترتيب هذه الآثار بين أثر وأثر آخر.

(٧) لعله إشارة إلى أن عدم القول بالفصل راجع على الإجماع ، والإجماع ، غير حجة في المقام ؛ لاحتمال كون مدركه أحد الوجهين المتقدمين أو العلم به ، فلا يكون دليلا على حدة.

٢٨٧

ولا يخفى : أنه لا مجال بعد اندفاع الإشكال بذلك (١) للإشكال (٢) في خصوص الوسائط (٣) من الأخبار ؛ كخبر الصفار المحكي بخبر المفيد مثلا ، بأنه (٤) لا يكاد يكون خبرا تعبدا إلا بنفس الحكم بوجوب تصديق العادل الشامل للمفيد.

فكيف (٥) يكون هذا الحكم المحقق لخبر الصفار تعبدا مثلا حكما له .....

______________________________________________________

وبعبارة أخرى : أن الإجماع إذا كان مدركيا لا يكون حجة. أو إشارة إلى أن أدلة الحجية أعني : «صدق العادل» يدل على وجوب ترتيب الأثر الشرعي ، الثابت للمخبر به الواقعي قبل هذا الأثر ، أعني : وجوب تصديق العادل لا ترتيب هذا الأثر.

(١) أي : بما ذكر من الوجوه الثلاثة المتقدمة في دفع الإشكال.

(٢) «للإشكال» متعلق بقوله «لا مجال».

(٣) يعني : ـ بعد دفع الإشكال المذكور عن الأخبار الواسطة بجميع مراتبها ـ لا مجال لإيراده على خصوص الوسائط ، دون مبدأ سلسلة السند ومنتهاها ؛ بأن يقال : إن الإشكال لا يرد على مبدأ السلسلة كالشيخ الطوسي «قدس‌سره» ؛ لأنه يخبرنا عن حس ، ولا على منتهاها كالصفار لترتب الأثر الشرعي ـ وهو حكم الإمام «عليه‌السلام» ـ عليه ؛ بل يرد على ما بين المبدأ والمنتهى ، فهو مختص بالوسائط ، وهم ما بين من روى عن الإمام «عليه‌السلام» كالصفار مثلا ، وبين الشيخ الطوسي «قدس‌سره» ، فإن ثبوت خبر المفيد وغيره إنما هو بالتعبد ـ أي بوجوب تصديق خبر الشيخ ـ فيتحد الحكم والموضوع ، كما أنه لا أثر له غير وجوب التصديق الآتي من قبل الآية الشريفة.

(٤) متعلق ب «للإشكال» وبيان له ، وضميره راجع على خبر الصفار.

وحاصل الإشكال : أن أدلة الحجية ـ كالآية ونحوها ـ لا تشمل الخبر مع الواسطة ؛ إذ بوجوب تصديق الشيخ المستفاد من «صدق العادل» ـ المدلول عليه بآية النبأ ـ يثبت «حدثني المفيد» تعبدا ، فهذه الجملة ـ أعني : «حدثني المفيد» قد تولدت من «صدق العادل» ، فهي متأخرة عنه ، فلا يمكن أن يشملها «صدق العادل» ؛ لأن مقتضى شموله لها ترتبه عليها ، وهو يقتضي تقدمها عليه ؛ لأنها تكون بمنزلة الموضوع للحكم المستفاد من «صدق العادل» ، والموضوع مقدم رتبة على الحكم ، فلو شمل «صدق العادل» المستفاد من الآية الأخبار الواسطة لزم تقدم الحكم على الموضوع ، ومن المعلوم : استحالته ؛ لتأخر الحكم عن الموضوع رتبة.

(٥) هذا هو منشأ الإشكال ، وهو استحالة تولد الموضوع ـ أعني نفس خبر العدل كخبر المفيد ـ من الحكم ، أعني : وجوب التصديق ، فالإشكال حينئذ يكون من جهة

٢٨٨

أيضا (١) ، وذلك (٢) لأنه إذا كان خبر العدل ذا أثر شرعي حقيقة بحكم الآية وجب ترتيب أثره عليه عند إخبار العدل به ، كسائر ذوات الآثار من الموضوعات ، لما عرفت : من شمول مثل الآية للخبر الحاكي للخبر بنحو (٣) القضية الطبيعية ، أو لشمول الحكم فيها له مناطا (٤) ؛ وإن لم يشمله لفظا ، أو لعدم القول بالفصل (٥) ، فتأمل جيدا.

ومنها : آية النفر ، قال الله «تبارك وتعالى» : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ

______________________________________________________

علّية الحكم لوجود الموضوع ولو تعبدا ، وما يتولد منه الموضوع كيف يكون حكما له؟ وبعبارة أخرى : كيف يكون «صدق العادل» حكما لما يتولد هو منه وهو «حدثني المفيد»؟

(١) يعني : ككونه محققا لموضوعيته ، وبتعبير آخر : وجوب التصديق ـ الذي يحقق خبرية خبر الصفار مثلا ويجعله موضوعا ـ لا يمكن أن يكون بنفسه حكما له أيضا ، وحق العبارة أن تكون هكذا : «المحقق لخبر الصفار مثلا حكما له تعبدا أيضا».

(٢) تعليل لقوله : «لا مجال» ، ودفع للإشكال المزبور على خصوص الوسائط وحاصله : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٤٦٤» ـ أن ما تقدم من الوجوه الثلاثة في الجواب عن الإشكال المزبور جار بعينه هنا ؛ لأن منشأ الإشكال هو لحاظ أفراد الأثر موضوعا لوجوب التصديق ، دون ما إذا كان الملحوظ طبيعة الأثر ، فإذا لوحظت طبيعة الأثر موضوعا لم يرد الإشكال ؛ لأن طبيعة الأثر لا تكون ناشئة من نفس الحكم بوجوب التصديق ، حتى يلزم محذور اتحاد الحكم والموضوع.

كما أننا نقطع بعدم الفرق بين الآثار الأخرى المترتبة على ما أخبر به العادل ، وبين هذا الأثر أعني : وجوب التصديق. هذا مضافا إلى عدم القول بالفصل في ترتيب الآثار بين أثر وأثر آخر.

(٣) متعلق بقوله : «الحاكي». والمراد بالخبر هنا : «صدق العادل» المستفاد من آية النبأ.

(٤) أي : شمول الحكم في الآية للخبر الحاكي مناطا ؛ وإن لم يشمل الخبر الحاكي لفظا كما هو مقتضى الوجه الثاني.

(٥) كما هو مقتضى الوجه الثالث. وحاصل عدم القول بالفصل : أنه كل من قال بحجية أحدهما قال بحجية الآخر ، فالتفكيك بينهما بأن يكون الخبر بدون الواسطة حجة ، والخبر مع الواسطة ليس حجة خرق للإجماع المركب.

٢٨٩

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ بيان أمرين أحدهما : شأن نزول الآية. قال الطبرسي «قدس‌سره» : نزلت الآية في الوليد بن عقبة ، بعثه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في جباية صدقات بني المصطلق ، فخرجوا يتلقونه فرحا به ، فظن أنهم هموا بقتله ، فرجع إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقال : إنهم منعوا صدقاتهم ، وكان الأمر بخلافه ، فغضب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهمّ أن يغزوهم ، فنزلت الآية.

وثانيهما بيان محل النزاع في مفهوم الشرط فيقال : إن للشرط مفهوم إذا لم يكن مسوقا لبيان تحقق الموضوع ؛ بأن يكون الموضوع في القضية الشرطية باقيا عند انتفاء الشرط ، مثل : «إن جاءك زيد فأكرمه».

هذا بخلاف الشرط المسوق لبيان تحقق الموضوع مثل : «إن رزقت ولدا فاختنه» ، فلا مفهوم له ، فمحل النزاع هو القسم الأول لا القسم الثاني.

٢ ـ تقريب الاستدلال بمفهوم الشرط على حجية خبر الواحد هو : أن يكون الموضوع هو النبأ المفروض وجوده على نحو القضية الحقيقية ، والشرط مجيء الفاسق به ، والجزاء وجوب التبين ، فلا يكون الشرط حينئذ مسوقا لبيان تحقق الموضوع ؛ إذ لا ينتفي الموضوع عند انتفاء الشرط. فلا يرد عليه ما قيل : من أن الشرط في هذه القضية الشرطية لبيان تحقق الموضوع.

هذا بخلاف ما إذا كان الموضوع هو نبأ الفاسق كما هو المشهور ، فلا مفهوم له لكونه مسوقا لبيان تحقق الموضوع.

«فافهم» لعله إشارة إلى عدم صحة الترديد بين عدم مفهوم للشرط ـ حين كونه لبيان تحقق الموضوع ـ وبين كون مفهومه السالبة بانتفاء الموضوع ؛ بل المتعين هو عدم المفهوم للشرط.

ويمكن أن يكون للشرط مفهوم حتى على فرض كونه مسوقا لبيان تحقق الموضوع بأن يقال : إن وجوب التبين منحصر في خبر الفاسق ، فينتفي عند وجود موضوع آخر وهو خبر العادل.

«فتدبر» لعله إشارة إلى أن الظاهر من القضية الشرطية المسوقة لبيان تحقق الموضوع هو : بيان الموضوع فقط ، فتكون بمنزلة الجملة اللقبية في عدم دلالتها على المفهوم.

٢٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

٣ ـ الإشكال على مفهوم آية النبأ : بعموم التعليل فيقال في تقريب الإشكال : إن المفهوم في الآية الشريفة على تقدير ثبوته وإن كان دالا على حجية خبر الواحد الغير المفيد للعلم ؛ إلا أنه معارض لعموم التعليل أعني : قوله تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) ، فإن مقتضى عموم التعليل عدم حجية الخبر الذي لا يؤمن من الوقوع في الندم من العمل به ؛ ولو كان المخبر عادلا ؛ لأن الجهالة بمعنى : عدم العلم بالواقع مشترك بين خبري العادل والفاسق ، وعموم التعليل يقدم على المفهوم ؛ لكونه أقوى منه لأجل كونه منطوقا ، والمنطوق أقوى من المفهوم.

وحاصل الجواب عن هذا الإشكال : هو أن مبنى الإشكال المذكور على أن تكون الجهالة بمعنى : عدم العلم بالواقع المشترك بين خبري العادل والفاسق ، وأما إذا كانت الجهالة بمعنى السفاهة ، وفعل ما لا ينبغي صدوره عن العاقل : فلا يرد الإشكال ؛ لأن العمل بخبر العادل ليس عن سفاهة ، فلا يجب التبين ، فيكون حجة من دون التبين ، والعمل بخبر الفاسق من دون التبين يكون عن سفاهة ، فلا يجوز من دون التبين.

٤ ـ إشكال عدم شمول أدلة حجية أخبار الآحاد للروايات الحاكية لقول الإمام «عليه‌السلام» بواسطتين أو وسائط : بتقريب : أن قصارى مفاد أدلة الحجية على اختلافها هي قضية واحدة ، وهي : «صدق العادل» ، فيلزم اتحاد الحكم والموضوع في الوسائط ؛ إذ يلزم أن يكون وجوب التصديق بلحاظ وجوب التصديق ، فإذا أخبر الشيخ عن المفيد ، والمفيد عن الصدوق ، والصدوق عن الصفار ، والصفار عن الإمام «عليه‌السلام» لم يترتب على المخبر به بخبر الشيخ ـ وهو خبر المفيد ـ سوى وجوب التصديق ؛ لأن قول الإمام وهو السنة أثر للخبر الأخير ، وحينئذ : فوجوب تصديق خبر الشيخ بمقتضى «صدق العادل» حكم ، ونفس خبر الشيخ والمخبر به ـ وهو خبر المفيد ـ وأثره الشرعي ـ وهو وجوب تصديقه ـ موضوع ، فيلزم اتحاد الحكم والموضوع ، وهو باطل لكونه مستلزما لتقدم الشيء على نفسه.

٥ ـ إشكال لزوم إيجاد الموضوع بالحكم : لأن خبر المفيد إنما يتحقق بوجوب تصديق خبر الشيخ ، ثم يصير موضوعا لوجوب التصديق ، وليس هذا إلا إثبات الموضوع بالحكم.

والجواب عن كلا الإشكالين حاصل بعد فرض «صدق العادل» قضية حقيقية ، التي يكون موضوعها مقدر الوجود ، فالحكم فيها ينحل إلى أحكام متعددة بمقدار عدد

٢٩١

طائِفَةٌ)(*) الآية ، وربما يستدل بها (١) من وجوه :

أحدها : إن كلمة «لعل» وإن كانت مستعملة على التحقيق في معناه الحقيقي ، وهو الترجي الإيقاعي الإنشائي ، إلّا إن الداعي إليه حيث يستحيل في حقه تعالى أن

______________________________________________________

الوسائط ، فهناك وجوبات متعددة ، فمع تعدد كل من الحكم والموضوع لا يلزم اتحاد الحكم والموضوع ، ولا إيجاد الموضوع بالحكم.

وإن شئت فقل في الجواب عن الإشكال الثاني وهو إيجاد الموضوع بالحكم : بأن خبر الشيخ واسطة في الإثبات بالنسبة إلى خبر المفيد ، يعني : سبب للعلم به ولا واسطة في الثبوت ، أي : علة ثبوته ووجوده في الواقع ؛ إذ خبر المفيد موجود في الواقع قبل الحكم.

٦ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

عدم تمامية الاستدلال بمفهوم آية النبأ على حجية خبر الواحد للإشكال عليه. وما ذكره المصنف من وجوه الجواب لا يتجاوز عن الفرض والتقدير.

في آية النفر

(١) أي : يستدل بآية النفر من وجوه.

والاستدلال بهذه الآية الشريفة يتوقف على أمور :

منها : أن يكون المراد من النفر : النفر إلى طلب العلم ، وتعلّم الأحكام الشرعية ؛ لا النفر إلى الجهاد.

ومنها : أن يكون المراد من الإنذار : إنذار كل واحد من النافرين قومه ؛ لا إنذار مجموعهم ـ مجموع القوم ـ حتى يقال : إن إخبار المجموع للمجموع يفيد العلم ، فيخرج عن محل الكلام.

ومنها : أن يكون المراد من الحذر : الحذر العملي لا مجرد الخوف النفساني ، بمعنى : وجوب التحذر والعمل على كل شخص عقيب إنذار كل منذر ، سواء حصل من قوله العلم أم لا ، فيثبت حجية قول المنذر.

ومنها : أن يكون الحذر بالمعنى المذكور واجبا عند إنذار المنذر. وتحقق هذه الأمور غير الأمر الأخير واضح.

أما الأمر الأول : فقد صرح به بعض المفسرين ، حيث قال : إن المراد بالنفر : هو النفر إلى طلب تعلّم الأحكام الشرعية.

__________________

(*) التوبة : ١٢٢.

٢٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وأما الثاني : فلأن تقابل الجمع بالجمع ظاهر في التوزيع ، أي : تقسيم الأفراد على الأفراد ، فمثلا : إذا جاء أمر لألف رجل مسلم بقتل ألف رجل كافر : كان معناه أن كل رجل مسلم يقتل كافرا ، فيكون معنى قوله تعالى : (لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) أي : لينذر كل واحد من النافرين قومه ، كما هو مقتضى العادة ؛ لأن النافرين للتفقه بعد تعلّم الأحكام لا يجتمعون عادة في محل واحد ليرشدوا الناس مجتمعين ؛ بل يذهب كل واحد منهم إلى ما يخصه من البلد والوطن ، ثم يرشد من حوله من الناس.

وأما الأمر الثالث : فلأن ظاهر الحذر : هو أخذ المأمن من الهلكة والعقوبة ، وهو العمل لا مجرد الخوف النفساني ، فيكون المراد من الحذر : هو العمل ، وإنما الكلام في الأمر الرابع ، وهو إثبات وجوب الحذر ، وقد أشار إليه بقوله : أحدها ، ثانيها ، ثالثها.

وحاصل الكلام في المقام : أن إثبات وجوب الحذر يمكن بأحد وجوه :

الوجه الأول : من جهة كلمة «لعل».

الوجه الثاني : من جهة لزوم لغوية وجوب الإنذار لو لا وجوب الحذر.

الوجه الثالث : من جهة جعل الحذر غاية للواجب.

وأما توضيح الوجه الأول : فيتوقف على مقدمة وهي : إن كلمة «لعل» فيها قولان :

الأول : ـ وهو المشهور ـ أنها حقيقة في إنشاء الترجي الحقيقي ، الذي معناه : إظهار الرغبة في الشيء مع الجهل بمستقبله ، وعدم القدرة عليه فعلا ، وهذا المعنى مستحيل في حقه تعالى.

الثاني : ـ وهو مختار المصنف ـ أنها حقيقة في الترجي الإيقاعي الإنشائي ، غاية الأمر : الاختلاف في مرحلة الداعي بمعنى : أن الداعي قد يكون هو الترجي الحقيقي ، وقد يكون هو محبوبية العمل.

وأما إذا وقعت كلمة «لعل» في كلامه تعالى : فيستحيل أن يكون الداعي هو الترجي الحقيقي ، فلا بد من أن يكون الداعي هو المحبوبية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن كلمة «لعل» الواردة في آخر الآية في قوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) لا يمكن أن يراد بها الترجي الحقيقي على كلا القولين ؛ لما عرفت من : استحالته على الله تعالى ، فيراد بها الدلالة على محبوبية العمل ، فكلمة «لعل» حينئذ : تكون مستعملة بداعي محبوبية التحذر.

وإذا ثبتت محبوبية التحذر : ثبت وجوبه شرعا وعقلا.

٢٩٣

يكون هو الترجي الحقيقي ، كان هو محبوبية التحذر عند الإنذار ، وإذا ثبت محبوبيته ثبت وجوبه شرعا ؛ لعدم الفصل ، وعقلا لوجوبه مع وجود ما يقتضيه عدم حسنه ؛ بل عدم إمكانه بدونه.

ثانيها (١) : أنه لما وجب الإنذار لكونه غاية للنفر الواجب ، كما هو قضية (لو لا) التحضيضية ، وجب التحذر ؛ وإلا لغى وجوبه.

______________________________________________________

«أما شرعا» : فللإجماع المركب ، فإن كل من قال بمحبوبيته قال بوجوبه ؛ لأن الأمة بين من لا يجوّز العمل بخبر الواحد أصلا ، وبين من يجوّزه ويلتزم بوجوبه ، فالقول بجواز العمل به ورجحانه دون وجوبه قول بالفصل وخرق للإجماع المركب.

«وأما عقلا» : فلأنه لا معنى لحسن الحذر ورجحانه ؛ لأنه إما أن يكون هناك مقتض للعقاب أو لا ، فإن كان مقتض للعقاب : وجب الحذر وإلا لم يحسن أصلا ؛ بل لا يمكن الحذر بدون المقتضي أصلا. وهذا التقريب مشترك بين من يذهب إلى أن «لعل» موضوعة للترجي الحقيقي ، كما هو ظاهر المشهور ، وبين من يذهب إلى أنها موضوعة للترجي الإيقاعي الإنشائي ؛ إلا إن الداعي هنا هو مجرد المحبوبية وكيف كان ؛ فالنتيجة هي وجوب الحذر بمعنى العمل بقول المنذر. هذا تمام الكلام في الوجه الأول.

وأما الوجه الثاني : فلأن النفر واجب بمقتضى كلمة «لو لا» التحضيضية ، فإن التحضيض هو الطلب بعث وإزعاج ؛ لأن حروف التحضيض ـ وهي لو لا ، لو ما ، هلّا ـ إذا دخلت على المضارع أفادت طلب الفعل والحث والترغيب عليه ، وإذا دخلت على الماضي ـ كما في الآية ـ أفادت الذم والتوبيخ على تركه ، ومن المعلوم : إنه لا يحسن الذم والتوبيخ على ترك شيء إلا أن يكون واجبا ، فلا بد من أن يكون النفر واجبا لتوجه الذم على تركه ، فإذا وجب النفر وجب الإنذار ؛ لكونه غاية للنفر الواجب.

وإذا وجب الإنذار وجب التحذر والقبول من المنذر ؛ وإلا لغى وجوب الإنذار ، فالحاصل هو : وجوب الحذر.

(١) أي : ثاني تلك الوجوه التي استدل بها على حجية خبر الواحد من الآية الكريمة وقد ذكرنا توضيح ذلك ، فلا حاجة إلى التكرار والإعادة.

وأما الوجه الثالث : فلأن التحذر قد جعل غاية للإنذار في الآية الكريمة وهو واجب ، وغاية الواجب واجبة ، فيكون التحذر واجبا.

«والفرق» بين هذا الوجه وسابقه : أن في الوجه السابق أثبت المستدل وجوب الإنذار لكونه غاية للنفر الواجب ، وأثبت وجوب الحذر للملازمة بين وجوب الإنذار ووجوب

٢٩٤

ثالثها (١) : أنه جعل غاية للإنذار الواجب وغاية الواجب واجبة ويشكل (٢) الوجه

______________________________________________________

التحذر والقبول ؛ وإلا لغى وجوب الإنذار.

وفي هذا الوجه قد أثبت وجوب الإنذار لكونه غاية للنفر الواجب ، وأثبت وجوب التحذر أيضا ؛ لكونه غاية للإنذار الواجب.

(١) أي : ثالث وجوه الاستدلال بآية النفر ، وقد عرفت توضيح ذلك. وحاصل ما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٤٧٠» من الفرق بين هذه الوجوه الثلاثة : أن الوجه الأول : ناظر إلى دعوى الملازمة بين محبوبية الحذر عند الإنذار ، وبين وجوبه شرعا وعقلا.

والثاني : ناظر إلى لزوم لغوية وجوب الإنذار لو لم يجب الحذر.

والثالث : إلى دعوى الملازمة بين وجوب الإنذار ووجوب الحذر ؛ لكونه غاية للإنذار ؛ كوجوب نفس الإنذار لكونه غاية للنفر الواجب.

وهذه الثلاثة ذكرها المصنف ثم استشكل فيها.

(٢) توضيح الإشكال يتوقف على مقدمة وهي : أن الوجه الأول لإثبات وجوب الحذر يرجع إلى شقين :

الشق الأول : هو التلازم بين محبوبية الحذر وحسنه ، وبين وجوبه عقلا.

والشق الثاني : هو التلازم بينهما شرعا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الملازمة العقلية بينهما لا تكون ثابتة مطلقا ؛ بل إذا كان الحذر عن العقوبة لا عن الملاك أعني : فوت المصلحة أو الابتلاء بالمفسدة ؛ لأن الحذر عن العقوبة إنما هو لوجود المقتضي له وهو تنجز التكليف بقيام حجة على ثبوته ، سواء كان علما أو علميا.

وأما إذا كان الحذر عن ملاك التكليف : فالملازمة بين حسن الحذر ووجوبه عقلا ممنوعة ؛ وذلك لعدم العقوبة عند عدم تنجز التكليف ؛ لكون العقوبة حينئذ بلا بيان ؛ إذ لا دليل على وجوب الحذر عن مجرد الملاكات من دون مطالبة المولى لها وإن كان حسنا ؛ بل مقتضى البراءة العقلية في الشبهات البدوية عدم وجوب الحذر ولو علم العبد بالملاك ؛ إذ مجرد علمه بالملاك لا يوجب الإتيان بما فيه الملاك.

وكيف كان ؛ فمجرد حسن الحذر لا يلازم عقلا وجوبه ؛ لكونه لازما أعم ، ضرورة : حسن الحذر في الشبهات البدوية ، مع عدم وجوب الحذر فيها قطعا.

هذا تمام الكلام في ردّ الشق الأول ، وهي الملازمة العقلية بين حسن الحذر ووجوبه.

وأما ، رد الشق الثاني : وهي الملازمة بينهما شرعا ، وهي عدم الفصل بين حسن الحذر

٢٩٥

الأول ، بأن التحذر لرجاء إدراك الواقع ، وعدم الوقوع في محذور مخالفته (١) من (٢) فوت المصلحة ، أو الوقوع في المفسدة حسن (٣) ، وليس (٤) بواجب فيما لم يكن هناك حجة على التكليف ، ولم يثبت هاهنا (٥) عدم الفصل ، غايته (٦) : عدم القول بالفصل.

والوجه (٧) الثاني والثالث بعدم انحصار فائدة الإنذار بإيجاب التحذر تعبدا ؛

______________________________________________________

ووجوبه : فعدم الفصل بين حسن الحذر ووجوبه غير ثابت فيما لم يقم حجة على التكليف ، فإن الثابت في المقام عدم القول بالفصل لا عدم الفصل في الواقع ؛ إذ لعل في الواقع فصل لم يقل به أحد.

وكيف كان ؛ فدعوى الملازمة الشرعية بين حسن الحذر وبين وجوبه كدعوى الملازمة العقلية بينهما ممنوعة جدا ، فحينئذ : يكون الحذر ـ على تقدير عدم حجية قول المحذر ـ حسنا من دون أن يكون واجبا. هذا تمام الكلام في الإشكال في الوجه الأول.

(١) أي : مخالفة الواقع.

(٢) بيان ل «محذور».

(٣) خبر لقوله : «بأن التحذر ...».

(٤) أي : وليس التحذر بواجب ؛ إذا لم يكن هناك حجة على التكليف كموارد البراءة ؛ لجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان بلا مانع.

(٥) أي : في صورة عدم قيام الحجة على التكليف. وهذا إشارة إلى نفي الملازمة الشرعية بين حسن الحذر ووجوبه ، واختصاص الملازمة بموارد قيام الحجة على التكليف.

(٦) أي : غاية الأمر أو غاية ما ثبت هو : عدم القول بالفصل ، وغرضه : أن المجدي في ثبوت الملازمة الشرعية بين حسن الحذر في صورة عدم الحجة على التكليف ، وبين وجوبه هو الإجماع على عدم الفصل ، وليس ذلك ثابتا في المقام ؛ بل الثابت فيه هو : عدم القول بالفصل ، وهو غير مفيد ؛ إذ ليس ذلك إجماعا بل المجدي هو : ثبوت عدم الفصل.

وكيف كان ؛ فالمحصل من الإجماع غير حاصل ، والمنقول منه غير تام ؛ بل لا يكون حجة خصوصا فيما إذا كان محتمل الاستناد.

(٧) عطف على الوجه الأول أي : ويشكل الوجه الثاني والثالث.

وحاصل الإشكال : أن الملازمة بين وجوب الإنذار ووجوب الحذر في الجملة ؛ وإن كانت مسلمة ، ولكنها بين وجوب الإنذار ووجوب الحذر مطلقا تعبدا ، ولو لم يحصل العلم من قول المنذر ليكون مساوقا لحجية خبر الواحد ممنوعة ؛ إذ لا تنحصر فائدة الإنذار

٢٩٦

لعدم (١) إطلاق يقتضي وجوبه على الإطلاق (٢) ، ضرورة (٣) : أن الآية مسوقة لبيان

______________________________________________________

بالتحذر تعبدا ، ولعل وجوب الإنذار لأجل أن يكثر المنذرون ، فيحصل العلم من قولهم للمنذرين ـ بالفتح ـ فيعملون بعلمهم لا بقول المنذرين ـ بالكسر ـ تعبدا.

فالمتحصل : أنه لا تنحصر فائدة الإنذار بوجوب التحذر تعبدا ولو لم يحصل العلم ؛ بل يمكن أن تكون فائدته هو حصول التحذر ووجوبه عند حصول العلم بالمنذر به ، فيختص وجوب العمل بقول المنذر بما إذا أفاد العلم هذا الإشكال مخصوص بالوجه الثاني ، فإن المستدل لم يستدل في الوجه الثالث بالملازمة بين وجوب الإنذار ووجوب الحذر ؛ لئلا يكون الإنذار لغوا.

وما ذكرنا من ترتب الفائدة عليه عند حصول العلم يكفي في عدم لغوية وجوب الإنذار.

وأما في الوجه الثالث : فقد استدلّ لوجوب الحذر بكونه غاية للإنذار الواجب ، وغاية الواجب واجبة.

ويقال في تقريب الإشكال عليه : أنه لا إطلاق يقتضي وجوب التحذر مطلقا أي : سواء حصل العلم أم لا ؛ إذ ليس المتكلم في مقام بيان غايتية الحذر ، كي يتمسك بإطلاق الكلام من هذه الجهة ؛ بل في مقام بيان وجوب النفر ، فلا ينفع في إثبات الإطلاق في الغاية ؛ إذ انعقاد مقدمات الإطلاق من جهة لا ينفع في إثباته من جهة أخرى ؛ إذ من المحتمل أن تكون الغاية هو الحذر عند حصول العلم.

هذا مع وجود القرينة على التقييد بحصول العلم ؛ إذ الإنذار المطلوب هو الإنذار بأمور الدين التي تعلمها بواسطة النفر ، فإذا لم يعرف المنذر ـ بالفتح ـ أن الإنذار وقع بالأمور الدينية من المنذر ـ بالكسر ـ لم يجب الحذر.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) تعليل لعدم الانحصار وضمير «وجوبه» راجع على «التحذر».

(٢) يعني : سواء أفاد العلم أم لا حتى يدل على حجية خبر الواحد غير العلمي.

(٣) تعليل لنفي الإطلاق ، وإشارة إلى دفع توهم.

أما التوهم : فهو أن إطلاق الآية يقتضي عدم اختصاص وجوب الحذر بصورة إفادة الإنذار العلم ، فيجب العمل بقول المنذر مطلقا ـ يعني : سواء حصل العلم بقوله للمنذر ـ بالفتح ـ أم لا.

وأما الدفع : فهو أنه لا إطلاق للآية من هذه الجهة ، حتى يدل على حجية قول المنذر

٢٩٧

وجوب النفر ؛ لا لبيان غايتية التحذر (١) ، ولعل وجوبه كان مشروطا بما إذا أفاد العلم لو لم نقل (٢) بكونه مشروطا به ، فإن النفر (٢) إنما يكون لأجل التفقه ، وتعلّم معالم الدين ، ومعرفة ما جاء به سيد المرسلين «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» كي ينذروا بها المتخلفين أو النافرين ، على الوجهين (٤) في تفسير الآية ؛ لكي يحذروا (٥) إذا أنذروا

______________________________________________________

مطلقا ؛ إذ الآية غير مسوقة لبيان غائية التحذر ، حتى يكون لها إطلاق من هذه الجهة ؛ بل مسوقة لبيان وجوب النفر ، ومن المعلوم : أنه مع عدم إحراز الإطلاق من جهة لا يمكن التمسك به من تلك الجهة كما قرر في محله ، فلعل وجوب الحذر كان مشروطا بما إذا أفاد الإنذار العلم كما هو واضح.

(١) كي يجب التحذر مطلقا حتى في صورة عدم حصول العلم بصدق المنذر.

(٢) هذا إشكال ثان على الاستدلال بالآية ، تعرض له الشيخ الأعظم أيضا.

ومحصل هذا الإشكال : إحراز عدم الإطلاق في الآية ، وظهورها في اشتراط وجوب الحذر بإفادة الإنذار للعلم.

توضيحه : أن ظاهر الآية هو الإنذار بما تفقهوا فيه من معالم الدين ، فلا بد أن يكون وجوب الحذر مترتبا على هذا النحو من الإنذار ، فما لم يحرز أن الإنذار إنذار بما تفقهوا فيه لم يجب الحذر ، ولا يجوز الحكم بوجوبه ـ عند الشك في أنه إنذار بما تفقهوا فيه أم لا ـ تمسكا بهذه الآية ، لأنه حينئذ تمسّك بها مع الشك في الموضوع ، وهو غير جائز على ما حرر في محله.

وبالجملة : فمقتضى هذا التقريب اشتراط وجوب العمل بقول المنذر بما إذا علم المنذر ـ بالفتح ـ أن المنذر ـ بالكسر ـ أنذر بما علمه من الأحكام الشرعية ، ومع الشك فيه لا يجب التحذر ؛ لعدم إحراز موضوعه. وضمير «كونه» في قوله : «لو لم نقل بكونه مشروطا به» راجع على التحذر يعني : لو لم نقل بكون التحذر مشروطا بما أفاد العلم.

(٣) بيان لاستظهار كيفية اشتراط وجوب التحذر بإفادة الإنذار العلم.

(٤) متعلق بمحذوف ـ أي : كائنا هذا الترديد بين المتخلفين أو النافرين على الوجهين في تفسير الآية ـ والوجهان أحدهما : إن المتفقهين (رَجَعُوا) هم النافرون. والآخر إن المتفقهين هم المتخلفون ، فعلى الأول : يرجع ضمير (يتفقّهون) ، و (لينذروا) ، (رجعوا)» إلى النافرين ، وضمير (إليهم) ، (لعلّهم) إلى المتخلفين ، وعلى الثاني ، ينعكس الأمر إلا في (رجعوا).

(٥) أي : يحذر المتخلفون بناء على الوجه الأول ، ويحذر النافرون بناء على الوجه

٢٩٨

بها ، وقضيته (١) إنما هو وجوب الحذر عند إحراز أن الإنذار بها (٢) كما لا يخفى.

ثم أنه أشكل (٣) أيضا : بأن الآية لو سلم دلالتها على وجوب الحذر مطلقا ، فلا

______________________________________________________

الثاني ، وضمير «بها» راجع إلى معالم الدين.

(١) أي : ومقتضى كون وجوب النفر لأجل التفقه في الدين أنه لا بد من إحراز أن الإنذار كان بما تفقهوا فيه من معالم الدين حتى يجب التحذر ، وليس هذا إلا اشتراط وجوب التحذر بحصول العلم بأن الإنذار إنذار بمعالم الدين.

(٢) خبر «أن الإنذار» ، وضميره راجع إلى معالم الدين.

(٣) هذا إشكال على أصل الاستدلال بالآية بتقاريبها الثلاثة.

وتوضيحه ، يتوقف على مقدمة وهي : الفرق بين الإنذار والإخبار ، وحاصله : أن الإنذار عبارة عن الإخبار المشتمل على التخويف ، المتوقف على فهم معنى للكلام ؛ كي يخوف به ، فالإنذار هو الإبلاغ مع التخويف كما في صحاح اللغة (١). هذا بخلاف الإخبار والحكاية من الراوي ، فإنه عبارة عن نقل الرواية إلى غيره ، من دون إنذار وتخويف.

ثم الإبلاغ مع التخويف يرجع إلى الاجتهاد والاستنباط ؛ إذ لو لم يفهم من الخبر حكما تحريميا أو وجوبيا لم يخوف عليه ، فيختص بالمجتهد والواعظ ، حيث صح أن يقال على وجه الافتاء أو الإرشاد : «يا أيها الناس اتقوا الله في شر الخمر ، فإنه محرم يوجب استحقاق العقاب» ، أو يقال : «من لم يصلّ كان جزاؤه جهنم».

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الآية المباركة لا تصلح لإثبات حجية الخبر من حيث كونه خبرا ، وإن سلمنا وجوب التحذر مطلقا ، وإن لم يفد الإنذار علم المنذر ـ بالفتح ـ بصدق المنذر بالكسر ـ وذلك لأن شأن الراوي نقل الرواية إلى غيره ، من دون إنذار وتخويف ، والآية إنما تثبت حجية الخبر فيما إذا كان مع التخويف.

ومن المعلوم : أن التوعيد والتخويف شأن الواعظ الذي وظيفته الإرشاد ، وشأن المجتهد بالنسبة إلى العوام ، فالآية لا تدل على اعتبار الخبر بما هو خبر ؛ بل تدل على اعتباره بما هو إنذار.

فالأولى : الاستدلال بها على اعتبار الفتوى والوعظ والإرشاد ، فالتخوف والتحذر يجب على المقلدين عقيب الإفتاء من المجتهدين ، وعلى المتعظين والمسترشدين عقيب الوعظ والإرشاد.

__________________

(١) انظر : الصحاح ٢ : ٨٢٥ ـ نذر ، الفروق اللغوية : ٧٨ / ٣١٠ ، لسان العرب ٥ : ٢٠٣ ـ نذر ، مختار الصحاح : ٣٣٥ ـ نذر.

٢٩٩

دلالة على حجية الخبر بما هو خبر ، حيث إنه ليس شأن الراوي إلا الإخبار بما تحمله ؛ لا التخويف والإنذار ، إنما هو شأن المرشد أو المجتهد بالنسبة إلى المسترشد أو المقلد.

قلت (١) : لا يذهب عليك أنه ليس حال الرواة في الصدر الأول في نقل ما تحملوا من النبي «صلى الله عليه وعلى أهل بيته الكرام» أو الإمام «عليه‌السلام» من الأحكام إلى الأنام ، إلا كحال نقلة الفتاوى إلى العوام.

ولا شبهة في أنه يصح منهم التخويف في مقام الإبلاغ والإنذار والتحذير بالبلاغ ، فكذا من الرواة (٢) ، فالآية لو فرض دلالتها على حجية نقل الراوي إذا كان مع التخويف كان نقله حجة بدونه (٣) أيضا ؛ لعدم الفصل بينهما (٤) جزما ، فافهم (٥).

______________________________________________________

(١) جواب عن الإشكال المتقدم وحاصله : أن الرواة في الصدر الأول كانوا ممن يفهمون معاني الكلمات الصادرة عن المعصومين «عليهم‌السلام» ، نظير نقلة الفتاوى في هذا العصر ، فكما يصح التخويف من نقلة الفتاوي ، فكذلك يصح من نقلة الروايات ، فإذا كان نقل الرواية مع التخويف حجة كان نقلها بدونه حجة أيضا ؛ لعدم القول بالفصل بينهما ، فنقل الرواية يصير حجة مطلقا ، سواء كان مع التخويف أو بدونه وهو المطلوب.

قوله : «كحال» خبر «ليس» ، «ومن الأحكام» بيان للموصول في «ما تحملوا» ، يعني : أن نقلة الروايات لا يخرجون عن كونهم نقلة ؛ كعدم خروج نقلة الفتاوى عن عنوان النقلة بسبب الإنذار.

(٢) أي : من غير الصدر الأول ، وضمير «منهم» راجع إلى نقلة الفتاوى.

(٣) أي : بدون التخويف ، و «أيضا» يعني : ككونه حجة مع التخويف.

(٤) أي : بين نقل الراوي مع التخويف ، ونقله بدون التخويف.

(٥) لعله إشارة إلى إن مقوّم الحجية إذا كان هو الإنذار بمدلول الخبر ، مع النظر وإعمال الفكر ، فلا مجال لتسرية الحكم إلى الخبر من حيث كونه خبرا لاختلاف الموضوع ، نعم ؛ إن كان التخويف ظرفا للحجية لا مقوّما لها : فلا بأس بدعوى عدم الفصل بينهما ، أو إشارة إلى أن التخويف أعم من أن يكون بالدلالة المطابقية أو الالتزامية ، مثلا : إذا نقل الراوي أن الإمام «عليه‌السلام» قال : «تجب صلاة الجمعة» أو «يحرم شرب المسكر» فإن هذا النقل واجد للإنذار بالدلالة الالتزامية ؛ لأن الإخبار عن الملزوم ـ وهو الوجوب أو الحرمة ـ إخبار التزاما عن اللازم ، وهو استحقاق العقوبة على المخالفة ؛ لكنه أخص من المدعى ، وهو حجية الخبر مطلقا ، سواء كان مفاده حكما إلزاميا

٣٠٠