دروس في الكفاية - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٧

التكليف في مورد سائر الأمارات الغير المعتبرة ، ولازم ذلك : لزوم العلم على وفق جميع الأخبار المثبتة ، وجواز العمل على طبق النافي منها ، فيما إذا لم يكن في المسألة أصل مثبت له من قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب ، بناء على جريانه في أطراف ما

______________________________________________________

أي : للتكليف ؛ مثلا : لو قام خبر من الأخبار على نفي وجوب السورة وجزئيتها للصلاة ؛ في حال أن الأصل في المسألة يقتضي وجوبها وجزئيتها فرضا ؛ من باب لزوم الاشتغال في مقام الشك بعد إحراز التكليف ، ففي مثل هذا الفرض : هل يجوز لنا العمل على طبق الخبر النافي ، أو يجب علينا مراعاة قاعدة الاشتغال؟

ولا ريب أن الخبر النافي إذا ثبتت حجيته في نفسه بما أنه خبر صادر عن المعصوم «عليه‌السلام» : كان وجوده طاردا للأصل ؛ إذ لا يجري الأصل العملي مع وجود الدليل الاجتهادي ، لكن وجود الخبر النافي بين مجموعة الأخبار التي لا يعلم إلا بصدور بعضها الغير المعين لا يكون حجة ، ومقتضى العلم الإجمالي بصدور بعضها من الإمام «عليه‌السلام» هو لزوم الاحتياط فيما إذا كان الخبر مثبتا للتكليف ؛ لا نافيا له. فعلى هذا : لا يكون وجود الخبر النافي دليلا حتى يطرد الأصل ؛ لأن غير ثابت الحجية لا اعتبار به ، والعمل في مورده يكون على الأصل قطعا «من قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب ، بناء على جريانه» أي الاستصحاب ، يعني : أن جريان الاستصحاب المثبت للتكليف في المقام ، وتقديمه على الخبر النافي للحكم مبني على جريانه في أطراف العلم الإجمالي ـ إذا علم وجدانا بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف ، أو علم الانتقاض في بعضها تعبدا ، كما إذا قامت أمارة معتبرة عليه ـ فإذا بنينا على جريانه هناك جرى في المقام ، وثبت به التكليف السابق ، وقدم على الخبر النافي للتكليف ، وإلا لم يجر وبقي الخبر النافي للتكليف بلا معارض ، فيعمل به ، وحينئذ : فإذا علمنا إجمالا بصدور بعض الأخبار النافية للتكليف ، فقد علمنا إجمالا بانتقاض الحالة السابقة في بعض أطراف العلم الإجمالي المثبت له ، فعلى القول بجريان الاستصحاب المثبت للتكليف في تلك الأطراف ، مع العلم بانتقاض الحالة السابقة في بعضها ، أو قيام أمارة على الانتقاض : يجري الاستصحاب هنا ، ولا يجوز العمل بالخبر النافي.

وعلى القول بعدم الجريان : يختص جواز العمل بالنافي بما إذا لم يكن في مقابله قاعدة الاشتغال ، مثلا : إذا علمنا إجمالا بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة يومها ، ودلت رواية ـ من الروايات المعلوم صدور جملة منها ـ على نفي وجوب الجمعة لم يجز العمل بهذا الخبر النافي ؛ لوجود الأصل المثبت للتكليف وهو قاعدة الاشتغال المقتضية لوجوب

٣٤١

علم إجمالا بانتقاض الحالة السابقة في بعضها ، أو قيام أمارة معتبرة على انتقاضها

______________________________________________________

الجمعة ، فيجب الإتيان بكلتا صلاتي الظهر والجمعة ـ مع قطع النظر عن الإجماع على عدم وجوب أكثر من صلاة واحدة يوم الجمعة بعد الزوال وقبل صلاة العصر ـ.

وهكذا الكلام بالنسبة إلى الاستصحاب إن قلنا بجريانه ، فإنه لما علمنا إجمالا بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة يومها ، فلو دلت رواية من الروايات النافية التي علمنا بصدور جملة منها على نفي وجوب الجمعة ، فقد علمنا بها بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف ؛ للعلم الإجمالي بوجوب إحدى صلاتي الظهر أو الجمعة ، فمقتضى جريان الاستصحاب مع العلم بالانتقاض : وجوب الإتيان بكلتيهما بمقتضى الاستصحاب ، مع قطع النظر عن الإجماع على عدم وجوب الصلاتين معا وعدم جواز العمل بهذا الخبر النافي.

قوله : «ولازم ذلك» يعني : ولازم انحلال العلم الإجمالي الكبير إلى ما في الأخبار «لزوم العمل على وفق جميع الأخبار المثبتة». وهذا جواب عن ثالث إيرادات الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» على الدليل العقلي المذكور حيث قال : «وثالثا : أن مقتضى هذا الدليل : وجوب العمل بالخبر المقتضي للتكليف ؛ لأنه الذي يجب العمل به ، وأما الأخبار الصادرة النافية للتكليف : فلا يجب العمل بها ...» الخ.

وتوضيحه : أن مقتضى هذا الوجه العقلي : هو وجوب العمل بالخبر المثبت للتكليف فقط ؛ لأنه الذي يجب العمل به.

وأما الأخبار النافية للتكليف : فلا يجب العمل بها ؛ لأنا مكلفون بامتثال الأحكام الواقعية المعلومة إجمالا ، والمفروض : العلم بصدور مقدار من الأخبار واف بتلك الأحكام ، فيجب العمل امتثالا لتلك الأحكام ، وعليه : فلا موجب للعمل بالروايات النافية ، فهذا الدليل أخص من المدعى ؛ إذ المقصود : إثبات حجية الأخبار مطلقا سواء كانت مثبتة للتكليف أو نافية له.

وقد أجاب المصنف عنه بقوله : «ولازم ذلك» ، توضيحه : أن غرض المستدل إثبات وجوب العمل بالأخبار المثبتة ، وجواز العمل بالروايات النافية ؛ لا وجوب العمل بها ، فلا يرد عليه ما ذكره الشيخ ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٥٢٨».

والغرض من قوله «أصل مثبت له» هو : أن جواز العمل بالخبر النافي مشروط بعدم أصل مثبت للتكليف في مورده من قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب المثبت كما عرفت ذلك.

٣٤٢

فيه ، وإلا (١) لاختص عدم جواز العمل على وفق النافي بما إذا كان على خلاف قاعدة الاشتغال.

وفيه (٢) : أنه لا يكاد ينهض على حجية الخبر ؛ بحيث (٣) يقدم تخصيصا أو تقييدا أو ترجيحا على غيره ، من (٤) عموم أو إطلاق أو مثل مفهوم ، وإن ...

______________________________________________________

(١) أي : وإن لم يجر الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي ـ فيما إذا علم بانتقاض الحالة السابقة في بعضها ـ كان عدم جواز العمل بالخبر النافي للتكليف مختصا بما إذا كان على خلاف مقتضى قاعدة الاشتغال ؛ إذ المفروض حينئذ : أن الاستصحاب المثبت للتكليف غير جار حتى ينافي الخبر النافي.

(٢) أي : في هذا الدليل من الإشكال أن هذا الوجه من الدليل العقلي لا يفيد حجية الخبر بما هو خبر ؛ بل مقتضى هذا الدليل العقلي : هو لزوم العمل بالخبر المثبت للتكليف من باب الاحتياط ، فلا ينهض لإثبات حجية الخبر ؛ بحيث يقدم الخبر على العام تخصيصا ، وعلى المطلق تقييدا ، وعلى المفهوم ترجيحا ، وعلى الأصول العملية حكومة أو ورودا ؛ إذ المقصود من حجية الخبر : هو كونه دليلا متبعا في قبال الأصول اللفظية والعملية ، وهذا المعنى لا يثبت بالدليل المذكور.

وهذا الإيراد إشارة إلى الإيراد الثالث مما أورده الشيخ «قدس‌سره» على هذا الوجوه ، وقد ارتضاه المصنف فجعله ردا للدليل العقلي المذكور.

وحاصل الإيراد : أن مقتضى الدليل المذكور هو الأخذ بالأخبار احتياطا لا حجة ؛ لأنه مقتضى العلم الإجمالي ، ومن المعلوم : أن الأخذ بها من باب الاحتياط يختلف عن الأخذ بها من باب الحجية ، بمعنى : أن الأخذ من باب الاحتياط ينافي الأخذ بها من باب الحجية ، فإن الحجة تخصص وتقيد وتقدم على معارضها مع الرجحان والمزية ، بخلاف الأخذ بها احتياطا ، فإنه لا تترتب هذه الآثار عليه.

وكيف كان ؛ فهذا الوجه العقلي لا يقتضي حجية الأخبار التي هي المقصودة منه ؛ بل يقتضي الأخذ بها من باب الاحتياط.

(٣) بيان ل «حجية الخبر» ؛ إذ من شأن حجيته : تخصيص العموم به وتقييد الإطلاق ، وترجيحه على غيره عند التعارض مع وجود مزية فيه.

(٤) بيان ل «غيره» بنحو اللف والنشر المترتب. والتعبير بالمثل في قوله : «أو مثل مفهوم» إشارة إلى مطلق الدلالة الالتزامية ، فإن المفهوم أحد أقسامها ، فإن الخبر إذا كان الأخذ به من باب الاحتياط كان موردا بالدليل الاجتهادي ؛ كعموم الكتاب أو إطلاقه أو

٣٤٣

كان (١) يسلم عما أورد عليه من أن لازمه الاحتياط في سائر الأمارات ؛ لا في خصوص الروايات ؛ لما (٢) عرفت من انحلال العلم الإجمالي بينهما بما (٣) علم بين الأخبار بالخصوص ولو بالإجمال (٤) ، فتأمل (٥) جيدا.

______________________________________________________

مفهوم الآية ، ومعه كيف يمكن تخصيص العموم الكتابي مثلا ، أو تقييد إطلاقه بالخبر الذي يؤخذ به من باب الاحتياط؟

(١) أي : وإن كان هذا الوجه العقلي بالتقريب المتقدم من المصنف سليما عن أول إيرادات الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» ، حيث كان حاصل إيراده الأول هو : لزوم مراعاة الاحتياط في جميع الأمارات لا في الروايات فقط.

(٢) تعليل لقوله : «يسلم» ، يعني : وجه كون هذا الوجه سليما عن إيراد الشيخ «قدس‌سره» ما عرفت ؛ من انحلال العلم الإجمالي القائم على وجود أحكام «بينهما» ، أي : بين الأمارات والأخبار ، «بما علم بين الأخبار بالخصوص» ، فإنا قد بينا في الدليل السابق : أنه لو فرض تبين الأحكام الموجودة في الأخبار انحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي وشك بدوي. ومثل هذا يوجب عدم كون سائر الأمارات طرفا للعلم الإجمالي ؛ إذ لو كان طرفا له لزم عدم الانحلال بحصول أحكام قطعية بين الأخبار فقط ، ومع الانحلال لا تجب مراعاة الاحتياط في الأمارات حتى يرد هذا الإيراد أعني : عدم الاقتصار على العمل بالروايات احتياطا.

(٣) متعلق بقوله : «انحلال» ، يعني : ينحلّ العلم الإجمالي الكبير بما علم ثبوته من الأخبار ، فيختص الاحتياط بالنسبة إلى العمل بالأخبار للعلم الإجمالي ، ولا موجب له بالنسبة إلى سائر الأمارات ؛ وذلك لانتفاء العلم الإجمالي بالانحلال على ما هو المفروض.

(٤) قيد ل «علم» أي : ولو كانت الأخبار التي انحل بها العلم الإجمالي الكبير غير معلومة بالتفصيل ؛ بل كانت معلومة بنحو الإجمال ؛ لكن معلوميتها كذلك كافية أيضا في الانحلال ؛ لما مر في تقريب الدليل من عدم إناطة انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم التفصيلي بالأخبار الصادرة.

نعم ؛ انحلال العلم الإجمالي الصغير يتوقف على ذلك. هذا تمام الكلام في الوجه الأول من الوجوه العقلية على حجية خصوص الأخبار.

(٥) إشارة إلى دقة النظر بقرينة قوله : «جيدا».

٣٤٤

ثانيهما (١) : ما ذكره في الوافية ، مستدلا على حجية الأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة كالكتب الأربعة ، مع عمل جمع به من غير رد ظاهر ، وهو : «إنا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة ، سيما بالأصول الضرورية (٢) كالصلاة والزكاة والصوم والحج والمتاجر والأنكحة ونحوها (٣) ، مع أن جل أجزائها وشرائطها ، وموانعها (٤) إنما يثبت بالخبر غير القطعي ؛ بحيث نقطع بخروج حقائق هذه الأمور عن كونها هذه الأمور عند ترك العمل بخبر الواحد ، ومن أنكر (٥) فإنما ينكره باللسان

______________________________________________________

(١) أي : الثاني من الوجوه العقلية التي استدل بها على حجية الأخبار : «ما ذكره في» كتاب «الوافية مستدلا» به «على حجية الأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة كالكتب الأربعة» وهي : ١ ـ الكافي. ٢ ـ من لا يحضره الفقيه. ٣ ـ التهذيب. ٤ ـ الاستبصار.

وتقريب الاستدلال بهذا الوجه العقلي على حجية الأخبار : يتوقف على مقدمة وهي : أن هذا الدليل مركب من أمور :

الأول : إن في الشرع أمور ثابتة بضرورة من الدين من العبادات والمعاملات ؛ كالصلاة والصوم والحج والزكاة والأنكحة وغيرها.

الثاني : أن التكاليف والأحكام المتعلقة بهذه الأمور باقية إلى يوم القيامة.

الثالث : أن لها أجزاء وشرائط وموانع ، وجل هذه الأجزاء والشرائط والموانع تثبت بالأخبار غير القطعية ؛ بحيث لو اقتصر في معرفة أجزائها وشرائطها وموانعها على الكتاب العزيز والأخبار المتواترة لخرجت هذه الأمور عن حقائقها ؛ بحيث يصح سلبها عنها ؛ وذلك لقلة الأخبار القطعية الصدور وعدم كون الآيات غالبا إلا في مقام التشريع فقط.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه لا محيص عن العمل بالأخبار غير القطعية صدورا. هذا معنى حجية الأخبار.

(٢) والمراد بالأصول الضرورية : أمهات الأحكام الفرعية الثابتة بضرورة من الدين.

(٣) أي : من الأحكام الرئيسية في فقه الإسلام.

(٤) كالركوع والطهارة والحدث بالنسبة إلى الصلاة «إنما يثبت بالخبر غير القطعي». والضمير المؤنث في أجزائها وشرائطها وموانعها راجع إلى الأصول الضرورية.

(٥) يعني : ومن أنكر ما ذكرناه من خروج حقائق هذه الأمور عن كونها هذه الأمور ـ لو لم يعمل بأخبار الآحاد ـ فإنما ينكره بلسانه ، وقلبه مطمئن بالاعتقاد بصحة ما ذكرناه.

٣٤٥

وقلبه مطمئن بالإيمان» (*). انتهى (١).

وأورد عليه :

أولا (٢) : بأن العلم الإجمالي حاصل بوجود الأجزاء والشرائط بين جميع الأخبار ؛ لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره ، فاللازم حينئذ : إما الاحتياط ، أو العمل بكل ما دل على جزئية شيء أو شرطيته.

______________________________________________________

(١) أي : انتهى ما في كتاب الوافية من الدليل العقلي.

(٢) المورد هو : الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» في «الرسائل» ، فقد أورد على هذا الدليل بوجهين حيث قال «قدس‌سره» : «ويرد عليه أولا : أن العلم الإجمالي حاصل بوجود الأجزاء والشرائط بين جميع الأخبار ؛ لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره ، ومجرد وجود العلم الإجمالي في تلك الطائفة الخاصة لا يوجب خروج غيرها من أطراف العلم الإجمالي ...» الخ. إلى أن قال : «وثانيا : بأن قضيته إنما هو العمل بالأخبار المثبتة للجزئية أو الشرطية ، دون الأخبار النافية لهما» (١).

وحاصل الإيراد الأول ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٥٣٥» ـ : أن العلم الإجمالي بوجود الأجزاء والشرائط لا تنحصر أطرافه في الأخبار الواجدة لما ذكره من الشرطين أعني : كونها موجودة في الكتب المعتمد عليها عند الشيعة ، وكونها معمولا بها عندهم لا معرضا عنها ، لوجود هذا العلم الإجمالي أيضا في سائر الأخبار الفاقدة لهذين الشرطين ، فلا بد مع الإمكان من الاحتياط التام بالأخذ بكل خبر يدل على الجزئية أو الشرطية ؛ وإن لم يكن واجدا للشرطين المزبورين ، ومع عدم الإمكان من الاحتياط التام لكونه مخلا بالنظام ، أو موجبا للعسر لا بد من الأخذ بما يظن صدوره من الروايات ؛ على ما سيأتي في دليل الانسداد.

وحاصل الإيراد الثاني : أن هذا الدليل أخص من المدعى ؛ إذ مقتضاه هو العمل بالأخبار المثبتة للجزئية أو الشرطية ، دون الأخبار النافية لهما ؛ لأن الموجب للحجية كان هو العلم الإجمالي بالأخبار المتضمنة لبيان الجزئية أو الشرطية أو المانعية ، فأطراف العلم الإجمالي هو خصوص هذه الروايات المثبتة لها دون النافية ، مع وضوح : إن البحث عن حجية الخبر لا يختص بالأخبار المثبتة للتكاليف ، فيلزم أن يكون الدليل أخص من المدعى.

__________________

(*) الوافية في أصول الفقه : ١٥٩.

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٦١ ـ ٣٦٢.

٣٤٦

قلت (١) : يمكن أن يقال : إن العلم الإجمالي وإن كان حاصلا بين جميع الأخبار ، إلا إن العلم بوجود الأخبار الصادرة عنهم «عليهم‌السلام» بقدر الكفاية بين تلك الطائفة ، أو العلم باعتبار طائفة كذلك (٢) بينها (٣) يوجب انحلال ذاك العلم الإجمالي (٤) ، وصيرورة (٥) غيره خارجا عن طرف العلم كما مرت إليه الإشارة في تقريب الوجه الأول (٦).

______________________________________________________

(١) هذا دفع لإيراد الشيخ «قدس‌سره» على الوافية ، وحاصله : أن العلم الإجمالي بوجود الأجزاء والشرائط والموانع ؛ وإن كان حاصلا في بدو الأمر بين جميع الأخبار إلا إن العلم الإجمالي بوجود الأخبار الصادرة بقدر الكفاية. بين تلك الأخبار المشروطة ـ بما ذكره صاحب الوافية ـ مما يوجب انحلال ذلك العلم الإجمالي الكبير ، الذي تكون أطرافه جميع الأخبار ، إلى العلم الإجمالي الصغير الذي تكون أطرافه خصوص الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة المعمول بها ، وخروج غيرها عن أطراف العلم الإجمالي ، ولازم ذلك : هو وجوب العمل بتلك الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة عند الشيعة احتياطا.

(٢) أي : بقدر الكفاية ، والمراد بتلك الطائفة هي : المشروطة بالشرطين المذكورين.

(٣) أي : بين تلك الكتب المعتمدة.

(٤) أي : العلم الإجمالي الكبير الواسع النطاق ، الذي تكون أطرافه جميع الأخبار الواردة في الكتب المعتمدة وغيرها.

والظاهر عدم الفرق بين العلم بوجود الأخبار والعلم باعتبارها ، فالترديد في كلام المصنف لفظي ، فإنه لا يتفاوت الواقع العملي بين أن نقول : علمنا بوجود خبر صادر عن الإمام في غسل الجمعة ، أو نقول : علمنا باعتبار خبر ورد في غسل الجمعة.

وكيف كان ؛ فالعلم الإجمالي بوجود أخبار بقدر الكفاية في الكتب المعتمدة موجب لانحلال العلم الإجمالي ، الذي كان يشمل هذه الأخبار وغيرها.

(٥) عطف على «انحلال» ، وضمير «غيره» راجع إلى تلك الطائفة ، فالأولى تأنيث الضمير يعني : أن غير تلك الطائفة خارج عن أطراف العلم الإجمالي ، أو الضمير راجع إلى غير ما في الكتب المعتمدة ، فالمعنى : وصيرورة غير ما في الكتب المعتمدة «خارجا عن طرف العلم» على نحو الشبهة البدوية.

(٦) حيث قال : «إنه يعلم إجمالا بصدور كثير ... بمقدار واف بمعظم الفقه».

٣٤٧

اللهم إلا أن يمنع عن ذلك (١) ، وادّعي عدم الكفاية فيما علم بصدوره ، أو اعتباره من تلك الطائفة ، أو ادعي العلم بصدور أخبار أخر بين غيرها (٢) ، فتأمل (٣).

وثانيا (٤) : بأن قضيته إنما هو العمل بالأخبار المثبتة للجزئية أو الشرطية ، دون الأخبار النافية لهما.

والأولى (٥) : أن يورد عليه بأن قضيته إنما هو الاحتياط بالأخبار المثبتة ، فيما لم تقم

______________________________________________________

(١) أي : يمنع عن انحلال العلم الإجمالي بوجود هذا المقدار ، وغرضه : منع الانحلال إما بدعوى كون معلوم الصدور أو الحجية أقل من المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الكبير ، وإما بدعوى علم إجمالي آخر بصدور أخبار أخر غير هذه الأخبار المذكورة في الكتب المعتمدة ، فاللازم حينئذ : العمل بجميع الأخبار ، وعدم جواز الاكتفاء بتلك الطائفة ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٥٣٧».

(٢) أي : غير الأخبار الموجودة في الكتب الأربعة.

(٣) لعله إشارة إلى منع كون معلوم الصدور أو الاعتبار أقل من المعلوم بالعلم الإجمالي الكبير ، فالصواب ما أفاده من الانحلال بقوله : «قلت : يمكن أن يقال ...» الخ.

(٤) وقد تقدم توضيح هذا الإيراد الثاني فراجع.

(٥) أي : لما كان الإيراد الثاني على هذا الدليل العقلي غير وارد بالنسبة إلى الأخبار النافية ؛ عدل المصنف «قدس‌سره» في الرد عليه عنه إلى ما في المتن ، وحاصله : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٥٣٨» ـ أن الدليل العقلي غير تام في نفسه ، أما عدم تماميته بالنسبة إلى الأخبار المثبتة : فلأن العمل بها من باب الاحتياط ـ كما هو مقتضى العلم الإجمالي ـ إنما يتجه إذا لم يكن في مقابلها ما ينفي التكليف من عموم أو إطلاق ؛ إذ الاحتياط أصل ، والدليل مقدم عليه ، مثلا : إذا قامت البينة على طهارة إناء من الأواني التي علم إجمالا بنجاسة جملة منها ، فالاحتياط بالاجتناب عن الجميع إنما هو فيما لم تقم حجة على طهارة بعضها ، فلو قامت حجة على طهارة بعضها لم يجب الاحتياط بالاجتناب عن الجميع.

وبالجملة : فوجوب العمل بالخبر المثبت من باب الاحتياط مشروط بعدم قيام حجة على نفي التكليف في مورده ؛ ولو بلسان العموم أو الإطلاق ، فلو قامت حجة على نفي التكليف أخذ بها ، ولم يكن الخبر المثبت له مخصصا لعمومها أو مقيدا لإطلاقها حتى يؤخذ به ؛ إذ الأخذ بالخبر المثبت إنما هو من باب الاحتياط ـ كما تقدم ـ وما يدل عموما أو إطلاقا على نفي التكليف مقدم عليه ، وليس الأخذ بالخبر المثبت للتكليف من باب

٣٤٨

حجة معتبرة على نفيهما من عموم دليل أو إطلاقه ؛ لا الحجية بحيث يخصص أو يقيد بالمثبت منها (١) ، أو يعمل (٢) بالنافي في قبال حجة على الثبوت ، ولو كان أصلا (٣) كما لا يخفى.

ثالثها (٤) : ما أفاده بعض المحققين بما ملخصه : إنا نعلم بكوننا مكلفين بالرجوع إلى

______________________________________________________

الحجية حتى يعارض ما يدل على نفيه كي يخصص به عمومه ، أو يقيد إطلاقه ، هذا. وأما عدم تماميته بالنسبة إلى الأخبار النافية : فلأن جواز العمل بالنافي أيضا مشروط بما إذا لم يكن في مورده ما يثبت التكليف ولو كان أصلا كما تقدم.

(١) أي : من الأخبار التي ثبتت حجيتها بهذا الوجه العقلي.

(٢) عطف على قوله : «يخصص» يعني : إن مقتضى الدليل المزبور ليس هو الحجية حتى يخصص بالمثبت ، أو يعمل بالنافي في قبال حجة على ثبوت التكليف ؛ بل مقتضاه الاحتياط ، فوجوب العمل بالمثبت من باب الاحتياط منوط بعدم قيام حجة على نفي التكليف ، كما أن جواز العمل بالنافي موقوف على عدم قيام حجة على ثبوت التكليف في مورده ولو كان أصلا كما لا يخفى.

(٣) أي : لو كان تلك الحجة أصلا ؛ لأن الأصل مقدم عليه.

حاصل الكلام : أن هذا الدليل أخص من المدعى. وفي «منتهى الدراية» : الصواب إسقاط الواو من قوله : «ولو كان أصلا» ؛ لأن المقصود : إثبات العمل بالنافي من هذه الأخبار لو كان الحجة على الثبوت أصلا كالاستصحاب ؛ لوضوح : تقدم الخبر على الأصل العملي ؛ إذا لو كان المثبت خبرا لم يقدم الخبر النافي عليه ؛ بل يتعارضان ، ويجري عليهما أحكام التعارض ، فيختص تقديم الخبر النافي على المثبت بما إذا كان المثبت أصلا فقط.

(٤) أي : الثالث من الوجوه العقلية على حجية خبر الواحد : «ما أفاده بعض المحققين» وهو الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين ، وهذا الوجه وإن كان طويلا إلا إن المصنف لخصه بقوله : «أنا نعلم بكوننا مكلفين بالرجوع إلى الكتاب والسنة إلى يوم القيامة ، فإن تمكنّا من الرجوع إليهما على نحو يحصل العلم بالحكم أو ما بحكمه» أي : ما بحكم العلم ـ وهو الظن الخاص المعلوم اعتباره المعبر عنه بالعلمي ـ والمراد بالحكم : هو الحكم الواقعي ؛ لأنه مع العلم بالكتاب والسنة يحصل العلم بالحكم الواقعي ، أو يحصل الظن الخاص بالحكم الواقعي ، فإنه بمنزلة العلم به. وغرضه : أن الحكم الواقعي يحرز تارة : بالعلم ، وأخرى : بالظن الخاص الذي هو بمنزلة العلم وذلك كخبر الواحد.

٣٤٩

الكتاب والسنة إلى يوم القيامة ، فإن تمكنا من الرجوع إليهما على نحو يحصل العلم بالحكم أو ما بحكمه ، فلا بد من الرجوع إليهما كذلك ؛ وإلا (١) فلا محيص عن الرجوع على نحو يحصل الظن به في الخروج عن عهدة هذا التكليف (٢) ، فلو لم يتمكن (٣) من القطع بالصدور أو الاعتبار فلا بد من التنزل إلى الظن بأحدهما (٤).

______________________________________________________

وحاصل ما أفاده المصنف «قدس‌سره» : في تقرير كلام صاحب الحاشية على نحو التلخيص هو : أنه قد ثبت بالإجماع بل بالضرورة والأخبار القطعية ـ مثل حديث الثقلين ـ وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة ، ومن المعلوم : أن العقل يحكم حينئذ بلزوم الرجوع إليهما على وجه يحصل العلم بهما ، أو ما هو بمنزلة العلم كالظن الخاص الذي ثبت اعتباره المعبر عنه بالعلمي ، فإن ثبت بالعلم أو العلمي أن ما رجعنا إليه كتاب أو سنة : فهو المطلوب.

وإن لم يثبت بهما ذلك ، مع عدم التمكن من إحرازه بشيء منهما لانسداد بابهما ، فلا محيص عن الرجوع في تمييز الكتاب والسنة إلى الظن ؛ إذا المفروض : بقاء التكليف بالرجوع إليهما ، ينحصر طريق امتثاله في الظن ، فيجب العمل بالروايات التي يظن بصدورها ؛ للظن بوجود السنة فيها ، وهذا معنى حجية أخبار الآحاد.

والفرق بين هذا الوجه والوجهين السابقين : أن متعلق العلم الإجمالي في هذا الوجه : هو ما ورد في الكتاب والسنة ، وفي الوجهين السابقين : هو الأحكام الواقعية.

قوله : «فلا بد من الرجوع إليهما كذلك» جواب قوله : «فإن تمكنا ...» الخ ، وضمير «إليهما» راجع على الكتاب والسنة «كذلك» أي : على نحو يحصل العلم أو ما بحكم العلم ، يعني : فإن تمكنا من الرجوع إلى الكتاب والسنة على نحو يحصل العلم أو الظن الخاص بالحكم الواقعي وجب الرجوع إليهما على هذا النحو ، وإن لم نتمكن فلا محيص عن التنزل إلى حصول الظن المطلق بالحكم.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) أي : وإن لم يحصل العلم ولا الظن الخاص بالحكم الواقعي «فلا محيص ...» الخ.

(٢) أي : وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة الثابت بالضرورة. وضمير «به» راجع على الحكم.

(٣) هذه نتيجة ما أفاده من عدم التمكن من تحصيل العلم بالحكم ، ولا الظن الخاص به ، وقد مر توضيحه.

(٤) أي : الظن بالصدور أو بالاعتبار. والحاصل : أن صورة التمكن من القطع

٣٥٠

وفيه (١) : أن قضية بقاء التكليف فعلا بالرجوع إلى الأخبار الحاكية للسنة ، كما

______________________________________________________

بالصدور أو الاعتبار هي فرض تحقق العلم بالحكم الواقعي ، أو ما هو بحكم العلم به ، وصورة عدم التمكن منهما هي فرض حصول الظن بهما.

(١) هذا رد لبعض المحققين

وتوضيح هذا الرد من المصنف ـ على ما أفاده بعض المحققين ـ يتوقف على مقدمة وهي : بيان ما هو المراد من السنة التي يجب الرجوع إليها في كلام بعض المحققين ، حيث قال : «إنا نعلم بكوننا مكلفين بالرجوع إلى الكتاب والسنة إلى يوم القيامة».

وهناك احتمالات :

الأول : أن يكون المراد من السنة في قول هذا المحقق : هو قول المعصوم وفعله وتقريره.

الثاني : أن يكون المراد منها هو الحاكي عن هذه الثلاثة قطعا.

الثالث : أن يكون المراد منها : مطلق الخبر الحاكي ولو لم يعلم المطابقة فتكون السنة حينئذ مطلق الأخبار الموجودة بأيدينا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه إن كان المراد المعنى الأول فإنه لا يرتبط بخبر الواحد إطلاقا كما واضح.

وإن كان المعنى الثاني : فهو أيضا أجنبيّ عن المقام ؛ لفرض أنّا لا نعلم أن هذه الأخبار الموجودة حاكية قطعية عن السنة الواقعية.

فيبقى الاحتمال الثالث ، وهو مراده من السنة كما هو ظاهر كلامه.

حيث قال : «للقطع برجوعنا اليوم في تفاصيل الأحكام إلى الكتب الأربعة» ؛ إذ التعبير بالكتب الأربعة كالصريح في إرادة الحاكي من السنة دون المحكي.

وكيف كان ؛ فقد أورد المصنف على هذا الوجه الثالث بوجهين : هذا أولهما.

وثانيهما : ما سيأتي في كلامه «مع أن مجال المنع ...» الخ.

وحاصل هذا الوجه الأول : أنه لا شك في عدم وصول النوبة إلى الامتثال الظني ، مع التمكن من الامتثال العلمي التفصيلي أو الإجمالي ، وعليه : فإن كان في الروايات ما هو متيقن الاعتبار ، وكان وافيا بمعظم الفقه ـ بحيث لا يلزم من إجراء الأصول في باقي الموارد محذور إهمال الأحكام ـ وجب الأخذ به ، ولا يجب العمل بغيره ، ومع عدم وفائه به : يضم إليه ما هو متيقن اعتباره ، فالإضافة إلى غيره كالخبر الصحيح ، بالإضافة إلى الموثق والموثق بالنسبة إلى الحسن ، وهكذا لو كان هناك المتيقن اعتباره بالإضافة ؛ وإلا بأن كانت الأخبار كلها متساوية ، فاللازم هو : الاحتياط من وجوب الأخذ بالخبر المثبت

٣٥١

صرح بأنها المراد منها في ذيل كلامه «زيد في علو مقامه» إنما هي الاقتصار في الرجوع إلى الأخبار المتيقن الاعتبار ، فإن وفى (١) ، وإلّا (٢) أضيف إليه الرجوع إلى ما هو المتيقن اعتباره بالإضافة (٣) لو كان (٤) ، وإلا فالاحتياط بنحو ما عرفت ؛ لا الرجوع إلى ما ظن اعتباره ، وذلك (٥) للتمكن من الرجوع علما تفصيلا (٦) أو إجمالا (٧) ، فلا وجه معه (٨) من الاكتفاء بالرجوع إلى ما ظن اعتباره ، هذا مع أن مجال المنع (٩) عن

______________________________________________________

للتكليف ، وجواز العمل بالخبر النافي للتكليف على نحو تقدم في الوجه الأول والثاني. وقد عرفت : أنه وجوب العمل بالأخبار من باب الاحتياط غير وجوب العمل بها لأجل حجيتها ، والمدعى هو : حجيتها لا العمل بها احتياطا.

(١) أي : فإن وفى المتيقن الاعتبار بمعظم الفقه فهو المطلوب.

(٢) أي : وإن لم يف المتيقن اعتباره بمعظم الفقه «أضيف إليه ...» الخ.

(٣) كخبر العدل الإمامي بالإضافة إلى الحسن ، وهو بالإضافة إلى الموثق وهكذا.

وضمير «إليه» راجع إلى المتيقن الاعتبار.

(٤) أي : لو كان المتيقن الاعتبار موجودا ؛ «وإلّا» أي : وإن لم يكن المتيقن اعتباره بالإضافة موجودا ، فيلزم الاحتياط بنحو ما عرفت في الإيراد على الوجه الثاني العقلي بقوله : «والأولى أن يورد عليه : بأن قضيته هو الاحتياط ...» الخ.

قوله : «لا الرجوع إلى ما ظن اعتباره» عطف على قوله : «فالاحتياط» أي : فلا تصل النوبة إلى الرجوع إلى ما ظن اعتباره.

(٥) تعليل لقوله : «فالاحتياط».

(٦) بالرجوع إلى المتيقن الاعتبار إن كان وافيا بمعظم الفقه.

(٧) في صورة الأخذ بالأخبار احتياطا.

(٨) أي : مع التمكن من الرجوع إلى ما يوجب العلم.

(٩) هذا هو الوجه الثاني من إيراد المصنف على بعض المحققين. وحاصله : ـ على ما في «منتهى الدراية» ـ أن ما ذكره صاحب الحاشية من وجوب الرجوع إلى السنة ـ بل نسب إليه دعوى كونه ضروريا ـ ممنوع جدا ؛ إذا أريد بالسنة : الأخبار الحاكية عنها ، كما نسبه إليه المصنف بقوله : «كما صرح بأنها المراد» ؛ إذ لا دليل على وجوب الرجوع إلى الأخبار الحاكية التي لا يعلم صدورها ولا اعتبارها بالخصوص ، وأساس هذا البرهان العقلي : هو وجوب الرجوع إلى السنة بمعنى الحاكي ، وحيث لا دليل عليه ، فينهدم ، نعم ؛ لا بأس بدعوى وجوب الرجوع إلى السنة ، بمعنى : قول المعصوم «عليه‌السلام» أو فعله أو

٣٥٢

ثبوت التكليف بالرجوع إلى السنة بذاك المعنى فيما لم يعلم بالصدور ولا بالاعتبار بالخصوص واسع.

وأما الإيراد عليه (١) برجوعه إما إلى دليل الانسداد لو كان ملاكه دعوى العلم الإجمالي بتكاليف واقعية ، وإما الدليل الأول لو كان ملاكه دعوى العلم بصدور أخبار كثيرة بين ما بأيدينا من الأخبار.

______________________________________________________

تقريره إجماعا ونصا ضرورة ؛ لكنه ليس بمراده بعد تصريحه بخلافه ؛ وأن مقصوده بالسنة نفس الأخبار ، ومن المعلوم : أنه لا يمكن الاستدلال ـ على وجوب العمل بقول زرارة مثلا الحاكي للسنة ـ بما دل من الإجماع والضرورة على وجوب العمل بقول الإمام : «عليه‌السلام» ؛ وذلك لعدم التلازم بينهما مع احتمال مخالفته للواقع ، وهذا الإشكال قد أورده الشيخ الأعظم على المحقق التقي ـ على تقدير أن يراد بالسنة الأخبار الحاكية لها ـ بقوله : «إن الأمر بالعمل بالأخبار المحكية المفيدة للقطع بصدورها ثابت بما دل على الرجوع إلى قول الحجة ، وهو الإجماع والضرورة الثابتة من الدين أو المذهب.

وأما الرجوع إلى الأخبار المحكية التي لا تفيد القطع بصدورها عن الحجة : فلم يثبت ذلك بالإجماع والضرورة من الدين التي ادعاها المستدل ... الخ.

قوله : «واسع» خبر «أن مجال» ، وقد عرفت وجه المنع ، فلا حاجة إلى التكرار.

(١) أي : وأما الإيراد على دليل المحقق صاحب الحاشية بما ذكره الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» في «الرسائل» ، بأن هذا الدليل إما أن يكون دليل الانسداد الآتي ، وإما أن يكون دليل العقل المذكور أعني : الوجه الأول.

وحاصل ما أفاده الشيخ الأنصاري من الإيراد : أنه ـ بعد عدم دلالة الإجماع والضرورة على وجوب الرجوع إلى الروايات الحاكية للسنة ـ إن ادعى المحقق التقي «قدس‌سره» وجوب العمل بالروايات الظنية ؛ لأجل أن طرحها وعدم العمل بها يستلزم الخروج عن الدين فنقول : إن هذا الوجه ليس دليلا مستقلا على حجية الظن الحاصل من خبر الواحد ؛ وذلك لأنه إن استند في وجوب العمل بها إلى العلم بمطابقة كثير منها للتكاليف الواقعية التي يعلم بوجوب رعايتها ، فمرجع ذلك : إلى دليل الانسداد الآتي بيانه ، ومقتضاه : حجية كل أمارة كاشفة عن الواقع لا خصوص الخبر.

وإن استند في لزوم العمل بها إلى العلم الإجمالي بصدور أكثر هذه الأخبار من الأئمة المعصومين «عليهم‌السلام» ـ حتى يختص اعتبار الظن بالواقع بالظن الحاصل من خصوص الخبر ـ فمرجع ذلك : إلى الوجه الأول المتقدم بيانه ، وعلى كلا التقديرين : ليس هو دليل

٣٥٣

ففيه : أن ملاكه إنما هو دعوى العلم بالتكليف بالرجوع إلى الروايات في الجملة إلى يوم القيامة ، فراجع تمام كلامه تعرف حقيقة مرامه.

______________________________________________________

مستقل ؛ بل إما يرجع إلى دليل الانسداد الآتي ، وإما يرجع إلى الوجه الأول المتقدم.

وقد أجاب المصنف عن هذا الإيراد بقوله : «ففيه : أن ملاكه إنما هو دعوى العلم بالتكليف ...» الخ.

وحاصل ما أفاده المصنف في الجواب : إن ملاك دليل المحقق المذكور ليس هو العلم الإجمالي بالتكاليف الواقعية ؛ ليرجع إلى دليل الانسداد ، ولا العلم الإجمالي بصدور جملة من الروايات المدونة في الكتب المعتبرة ؛ ليرجع إلى الدليل الأول العقلي ؛ بل ملاكه العلم بوجوب الرجوع إلى هذه الروايات فعلا ؛ حتى إذا لم يحصل علم إجمالي بصدور جملة منها ، أو علم إجمالي بتكاليف واقعية يجب التوصل بها بالظن بعد تعذر الوصول إليها بالعلم أو ما هو بحكمه.

وعليه : فمؤديات هذه الروايات : أحكام فعلية لا بد من امتثالها ، ولا فعلية للأحكام الواقعية مع الغض عن قيام الأمارات عليها.

وكيف كان ؛ فهذا العلم شيء ثالث ، فليس علما بالأحكام الواقعية ، وليس علما بصدور أخبار كثيرة ؛ بل يمكن أن يجعل هذا العلم في المرتبة الثالثة بأن نقول : إنا نعلم بتكاليف واقعية ، ونعلم أن هذه التكاليف الواقعية بينت في الكتاب والأخبار الصادرة ، ونعلم بأنا مكلفون بالرجوع إلى ما بأيدينا من الأخبار.

«فراجع تمام كلامه تعرف حقيقة مرامه» ؛ كي يتضح لك الفرق بين دليل الانسداد ، والدليل العقلي الأول ، وبين الدليل العقلي الثالث.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ الوجه الأول : هو العلم الإجمالي بصدور جماعة كثيرة من الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة ، المشتملة على الأحكام الإلزامية الوافية بمعظم الفقه ؛ بحيث لو علم تفصيلا ذاك المقدار لانحل علمنا الإجمالي بثبوت التكاليف بين الروايات وسائر الأمارات ، إلى العلم التفصيلي بالتكاليف في مضامين الأخبار الصادرة المعتبرة ، والشك البدوي في ثبوت التكليف في مورد سائر الأمارات غير المعتبرة ، ولازم ذلك : العمل على وفق جميع الأخبار المثبتة للتكليف ، وجواز العمل على طبق النافية منها ؛ فيما إذا لم يكن في المسألة أصل مثبت للتكليف من قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب.

٣٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

٢ ـ وما يرد على هذا الوجه : أن هذا الوجه لا يفيد حجية الخبر بما هو خبر ؛ بل مقتضى هذا الدليل العقلي هو : لزوم العمل بالخبر المثبت للتكليف من باب الاحتياط ، فلا يصلح لإثبات حجية الخبر ؛ بحيث يقدم على العام تخصيصا ، وعلى المطلق تقييدا ، وعلى المفهوم ترجيحا ، وعلى الأصول العملية حكومة أو ورودا. وهذا المعنى لا يثبت بالدليل المزبور.

ولكن هذا الوجه يكون سليما عما أورده الشيخ الأنصاري عليه من مراعاة الاحتياط في جميع الأمارات ؛ لا في الروايات فقط.

وجه السلامة : هو انحلال العلم الإجمالي الكبير ، الذي تكون أطرافه جميع الأمارات إلى العلم الإجمالي الصغير ، الذي تكون أطرافه الروايات فقط ، ولازم ذلك : لزوم الاحتياط في العمل بالروايات فقط ، دون سائر الأمارات.

٣ ـ الوجه الثاني : ما حكي عن صاحب الوافية من أنه لا شك في تكليفنا بالأحكام الشرعية ، وخصوصا الواجبات الضرورية مثل : الصلاة والحج والصوم والزكاة ، وغير ذلك من الضروريات ، ولا شك أيضا في بقاء التكليف بهذه الأمور إلى يوم القيامة. ومن المعلوم : أن أجزاء هذه الأمور وشرائطها وموانعها لا تثبت إلا بخبر الواحد الموجود في الكتب المعتمدة للشيعة كالكتب الأربعة ، فلو لم يكن خبر الواحد حجة ، وجاز ترك العمل به لكان تخرج هذه الأمور عن حقائقها ، فلا محيص حينئذ عن العمل بخبر الواحد ، فيكون حجة.

٤ ـ وأورد عليه الشيخ بوجهين :

وحاصل الوجه الأول : أن العلم الإجمالي بوجود الأجزاء والشرائط حاصل في جميع الأخبار ؛ لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكر. ومجرد العلم الإجمالي في تلك الطائفة الخاصة لا يوجب خروج غيرها من أطراف العلم الإجمالي ، فلازم ذلك : هو الاحتياط بلزوم الأخذ بكل خبر يدل على الجزئية والشرطية ، ومع عدم إمكان الاحتياط ـ لأجل كونه مخلا بالنظام ـ لا بد من الأخذ بكل خبر ظن بصدوره ؛ كما سيأتي في دليل الانسداد.

وحاصل الوجه الثاني من الإيراد : أن هذا الدليل أخص من المدعى ؛ إذ مقتضاه : العمل بالأخبار المثبتة للجزئية والشرطية ، دون الأخبار النافية لهما ، مع أن المدعى هو مطلق الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة.

٣٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد دفع المصنف ما أورده الشيخ على الوافية بقوله : «قلت يمكن أن يقال».

وحاصل الدفع : هو انحلال العلم الإجمالي الذي تكون أطرافه جميع الأخبار ، إلى العلم الإجمالي الصغير الذي تكون أطرافه الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة كالكتب الأربعة.

ولازم ذلك : هو وجوب العمل احتياطا بالأخبار الموجودة في الكتب الأربعة كما في الوافية ؛ إلا أن يمنع انحلال العلم الإجمالي الكبير إلى العلم الإجمالي الصغير ، فيرد عليه ما أورده الشيخ الأنصاري «قدس‌سره».

٥ ـ الوجه الثالث : ما نسب إلى صاحب حاشية المعالم حيث قال بما حاصله : إنا نقطع بأنا مكلفون بالرجوع إلى الكتاب والسنة إلى يوم القيامة ، فيجب العمل بهما ، ثم إن تمكنا من الرجوع إليهما ـ بنحو يحصل العلم بالحكم أو ما بحكمه ـ تعين ذلك ، وإلا فلا محيص عن التنزل إلى الظن بالحكم ، ولازم ذلك : حجية الظن.

وقد أورد المصنف عليه بوجهين.

وحاصل الوجه الأول : أن مقتضى وجوب الرجوع إلى الأخبار الحاكية للسنة هو : الاقتصار في الرجوع إلى الخبر المتيقن اعتباره ؛ كالظن الخاص المقطوع اعتباره ، فإن وفى بمعظم الفقه فهو المطلوب ؛ وإلا أضيف الخبر المتيقن اعتباره بالإضافة إلى ما سواه كالخبر الصحيح ، بالإضافة إلى الموثق ، وهكذا لو كان هناك المتيقن بالإضافة ؛ وإلا فاللازم هو : الاحتياط بوجوب العمل بالخبر المثبت للتكليف ؛ كما تقدم في الوجه الأول. فراجع ،

وحاصل الوجه الثاني : أنه لا يجب الرجوع إلى الأخبار الحاكية عن السنة التي لا يعلم صدورها ولا اعتبارها بالخصوص ؛ وذلك لعدم وجوب الرجوع إلى السنة بمعنى الحاكي وإنما قام الدليل على وجوب الرجوع إلى السنة بمعنى السنة المحكية ، وهي : قول المعصوم «عليه‌السلام» وفعله وتقريره.

وأما إيراد الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» على دليل المحقق صاحب الحاشية : بأن هذا الدليل إما أن يكون دليل الانسداد الآتي. وإما أن يكون الدليل العقلي المذكور أعني : الوجه الأول. فمردود ؛ بأن ملاكه ليس أحد الأمرين ليرجع إلى أحد الدليلين ؛ بل ملاكه هو : العلم بالتكليف بالرجوع إلى ما بأيدينا من الأخبار.

٦ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

عدم تمامية الاستدلال بالوجوه العقلية المذكورة على حجية خصوص الأخبار.

٣٥٦

فصل

في الوجوه التي أقاموها على حجية الظن وهي أربعة :

الأول (١) : أن مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم الوجوبي أو التحريمي مظنة للضرر ، ودفع الضرر المظنون لازم.

______________________________________________________

في الوجوه العقلية على حجية مطلق الظن

(١) توضيح هذا الوجه الأول يتوقف على مقدمة وهي : أن الظن بالحكم الإلزامي يلازم الظن بالضرر على مخالفته ، سواء كان وجوبا ، كوجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، أم حرمة : كحرمة شرب التتن.

ومن المعلوم : أن دفعه الضرر المظنون لازم عقلا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن هذا الدليل العقلي مركب ومؤلف من «صغرى» ، وهي كون الظن بالحكم الإلزامي ملازما للظن بالضرر على المخالفة ، و «كبرى» وهي لزوم دفع الضرر المظنون عقلا.

فيقال : ـ عند قيام الظن على الحكم الإلزامي ـ إن في العمل بهذا الظن دفع للضرر ودفع الضرر المظنون لازم عقلا ، فالعمل بالظن بالحكم الإلزامي لازم عقلا ، فالنتيجة هي : حجية الظن ؛ إذ لا معنى للزوم العمل بالظن لو لم يكن حجة ، ومن المعلوم : أن نتيجة الشكل الأول بديهية ، فحينئذ : لا إشكال في النتيجة بعد تمامية الصغرى والكبرى ، فيقع الكلام فيهما.

وأما الصغرى : فبتقريب : أن الظن بالحكم الإلزامي ملازم للظن بأمرين : أحدهما : ترتب العقوبة على مخالفته ، والآخر : ترتب المفسدة عليها إن كان الحكم هو الحرمة ، وفوات المصلحة إن كان هو الوجوب ؛ بناء على مذهب العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، فالحكم علة لاستحقاق المثوبة عند الموافقة ، والعقوبة عند المخالفة ، ومن المعلوم : أن الظن بالعلة ـ وهي الحكم ـ يلازم الظن بالمعلول ، وهو استحقاق المثوبة ، أو العقوبة.

وعليه : فالظن بالحكم الإلزامي مستلزم للظن بالضرر الأخروي أو الدنيوي على مخالفته. أما الأول : فلنرتب الظن بالعقوبة على مخالفته.

٣٥٧

أما الصغرى : فلأن الظن بوجوب شيء أو حرمته يلازم الظن بالعقوبة على مخالفته ، أو الظن بالمفسدة فيها بناء على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.

______________________________________________________

وأما الثاني فلنرتب الوقوع في المفسدة ، أو فوات المصلحة على مخالفته.

فالصغرى ـ وهي ترتب الضرر الأخروي أو الدنيوي على مخالفة الحكم المظنون ـ ثابتة.

وأما الكبرى : فحاصلها : أنه ـ بعد إثبات الملازمة بين الظن بالحكم والظن بالضرر في الصغرى ـ يقال : إن دفع الضرر المظنون لازم ؛ لاستقلال العقل به ـ كما عرفت في المقدمة ـ وهذا الحكم من العقل لا يكون مبنيا على القول بالتحسين والتقبيح العقليين لما هو مذهب العدلية ؛ بل يحكم حتى على القول بعزل العقل عن حكمه بالتحسين والتقبيح كما هو مذهب الأشاعرة ؛ لعدم ابتناء حكمه بلزوم دفع الضرر المظنون على القول بالتحسين والتقبيح ؛ لأن لزومه من الأمور الفطرية المجبولة عليها النفوس ، ولا ربط له بالعقل ، ضرورة : أن ملاك وجوب دفع الضرر هو كونه منافرا للطبع ، كما أن ملاك جلب المنفعة هو كونها ملائمة للطبع وهما مما اتفق عليه العقلاء حتى الأشعري المنكر للحسن والقبح ، حيث إن ما أنكره هو إدراك العقل بعض الأفعال ، على وجه يمدح أو يذم فاعله عليه ؛ لا منافرة بعض الأشياء للطبع أو ملاءمته له ، فإنهما مما لا ينكره ذو فطرة ، ومنه دفع الضرر وجلب المنفعة.

وكيف كان : فقد استقل العقل بلزوم دفع الضرر المظنون ، سواء قلنا بالحسن والقبح العقليين أم لم نقل ؛ فإن التحرز عن الضرر المظنون بل المحتمل جبلّي على كل عاقل ؛ بل فطر عليه كل ذي شعور ، فيجب العمل بالظن المتعلق بالحكم الإلزامي دفعا للضرر في مخالفته ، وهذا معنى حجية مطلق الظن.

فالمتحصل : أن ملاك حكم العقل بلزوم دفع الضرر المظنون ليس منحصرا في التحسين والتقبيح العقليين حتى ينتفي لزوم دفعه بانتفاء ملاكه ، فالالتزام بلزوم دفع الضرر المظنون في عرض الالتزام بفعل ما استقل العقل بحسنه ، وترك ما استقل بقبحه بناء على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين.

ولا يخفى : أنه لا تنافي بين أن يكون الشيء من مستقلات العقل ، وبين أن يكون من الأمور الفطرية. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب هذا الوجه من الوجوه العقلية على حجية مطلق الظن ؛ إذ يجب العمل على طبق الظن بحكم من العقل من باب وجوب دفع الضرر المظنون ، ولازم ذلك حجية مطلق الظن.

٣٥٨

وأما الكبرى (١) : فلاستقلال العقل بدفع الضرر المظنون ولو لم نقل (٢) بالتحسين والتقبيح ؛ لوضوح : عدم انحصار ملاك حكمه بهما ؛ بل يكون التزامه بدفع الضرر المظنون ـ بل المحتمل ـ بما هو كذلك ولو لم يستقل بالتحسين والتقبيح ، مثل : الالتزام

______________________________________________________

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

قوله : «أو الظن بالمفسدة فيها» عطف على «الظن بالعقوبة» ، يعني : أن الظن بالوجوب أو الحرمة يلازم الظن بالعقوبة ، والظن بالمفسدة في مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم ، فكلمة «أو» هنا بمعنى الواو.

قوله : «بناء» قيد لقوله : «أو الظن بالمفسدة» ؛ إذ بناء على عدم التبعية لا يكون الظن بالحكم ملازما للظن بالمفسدة كما هو واضح.

(١) وهي وجوب دفع الضرر المظنون ، وقد عرفت توضيحه.

(٢) هذا ردّ على ما أجاب به الحاجبي وغيره عن هذا الوجه العقلي من منع الكبرى ـ أعني : وجوب دفع الضرر المظنون ـ وقد حكاه عنه الشيخ «قدس‌سره» حيث قال : «وقد أجيب عنه بوجوه أحدها : ما عن الحاجبي وتبعه غيره من منع الكبرى ، وأنه دفع الضرر المظنون إذا قلنا بالتحسين والتقبيح العقليين احتياط مستحب لا واجب» ، فلا بد أولا من بيان ما أجاب به الحاجبي ، وثانيا : من بيان ردّ المصنف عليه.

وأما حاصل ما أفاده الحاجبي في الجواب فيقال : أن هذا الدليل العقلي مبني على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين ، وتلك ممنوعة أولا على ما ذهب إليه الأشاعرة.

وثانيا : على فرض تسليمها كان مفادها استحباب الاحتياط لا وجوبه ، فدفع الضرر المظنون مستحب وليس بواجب ، ومن المعلوم : أن حجية الظن بالحكم الإلزامي إنما يكون مبنيا على وجوب الاحتياط ، ولا يجب دفع الضرر المظنون عقلا.

هذا تمام الكلام في منع الكبرى على ما حكي عن الحاجبي.

وأما ردّ المصنف عليه : فلما عرفت من : عدم ابتناء هذا الدليل العقلي على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين ؛ لأن ملاك حكم العقل لا ينحصر بالتحسين والتقبيح كي يبتني حكمه بوجوب دفع الضرر المظنون على القول بالحسن والقبح العقليين ؛ بل وجوب دفع الضرر من الأمور الفطرية ؛ وإن فرض عدم إدراك العقل حسن الأشياء وقبحها ، فالتزام العقل بدفع الضرر المظنون ؛ بل المحتمل بما هو مظنون ومحتمل ولو لم نقل بالتحسين والتقبيح هو : كالتزامه بفعل ما استقل بحسنه ، أو بترك ما استقل بقبحه إذا

٣٥٩

بفعل ما استقل بحسنه ، إذا قيل باستقلاله ، ولذا أطبق العقلاء عليه ، مع خلافهم في استقلاله بالتحسين والتقبيح ، فتدبر جيدا (١).

______________________________________________________

قيل : بالتحسين والتقبيح.

وقد استشهد المصنف لذلك : بإطباق العقلاء كافة على دفع الضرر المظنون ، مع خلافهم في التحسين والتقبيح العقليين.

فلو كان ملاك حكمه منحصرا بهما لم يطبقوا على الأول ، مع خلافهم في الثاني.

(١) فإن الحق أنهما ضروريان ، وأن من أنكرهما إنما هو لشبهة ، فإن العقلاء لا يكادون يشكون في أن من قتل صديقا له بلا أي جرم فعل قبيحا ، ومن ألقى النار على أطفال أبرياء لتحرقهم فعل قبيحا ، سواء كان هناك شرع أم لم يكن ، وتفصيل الكلام في علم الكلام.

فالمتحصل : أنه قد أجاب الحاجبي عن هذا الدليل العقلي بأنه مبني على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين وقد عرفت عدم الابتناء.

وكيف كان ؛ فالصواب في الجواب هو : منع الصغرى ـ وهي قوله : «أن في مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم الوجوبي أو التحريمي مظنة للضرر».

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن المراد بالضرر المظنون المذكور في الصغرى : إما هو الضرر الأخروي أي : العقوبة ، وإما هو الضرر الدنيوي أي : المفسدة كالسكر في الخمر ، فهنا احتمالان : الأول : أن يراد بالضرر المذكور فيها العقوبة. الثاني : أن يراد به المفسدة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه إن كان المراد هو الاحتمال الأول أعني : الضرر الأخروي ، فنقطع بعدم الضرر ؛ لأنه من العقاب بلا بيان وهو مرفوع بحديث الرفع ، أو بحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.

وإن كان المراد من الضرر هو : الاحتمال الثاني أعني : الضرر الدنيوي ، ففيه : أن الحكم لا يلازم الضرر الدنيوي الشخصي ، ففي بعض الأحكام الواجبة أضرار شخصية ؛ كدفع الزكاة ، وفي بعض الأحكام المحرمة منافع شخصية ، كالقمار بالنسبة إلى الرابح ، والربا بالنسبة إلى الآخذ ، وحينئذ : فالظن بالحكم لا يلازم الظن بالضرر. هذا تمام الكلام في منع الصغرى.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

٣٦٠