دروس في الكفاية - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٧

من آثارها ؛ ضرورة : أن حجية الظن عقلا ـ على تقرير الحكومة في حال الانسداد ـ لا توجب صحتهما ، فلو فرض صحتهما (١) شرعا مع الشك في التعبد به ؛ لما كان يجدي في الحجية شيئا ، ما لم يترتب عليه ما ذكر من آثارها (٢) ، ومعه (٣) لما كان يضر

______________________________________________________

يستفاد من كلام الشيخ «قدس‌سره» في المقام.

وقد أورد المصنف «قدس‌سره» على ما ذكره الشيخ بوجهين :

الأول : إن صحة الالتزام بما أدى إليه الظن من الأحكام ، وصحة نسبته إليه تعالى ليسا من آثار الحجية ، والشاهد على ذلك : أن الظن الانسدادي ـ بناء على حكومة العقل بحجيته ـ لا يصح استناده إلى الله تعالى مع أنه حجة ، ولا يصح الالتزام بما أدى إليه الظن الانسدادي ، مع أنه حجة.

وكيف كان ؛ فصحة الالتزام وصحة النسبة ليستا من آثار الحجية حتى يكون عدمهما كاشفا عن عدم الحجية ، فقد نفى المصنف هذا الترتب ويقول : إن ذلك لا ربط له بالحجية. هذا خلاصة الإيراد الأول من المصنف على الشيخ ، وقد أشار إليه بقوله : «ضرورة : أن حجية الظن عقلا ...» الخ ، فقوله : «ضرورة» تعليل لبيان عدم كون صحة الالتزام والإسناد من آثار الحجية.

الثاني : أنّا لو فرضنا وجود أمارة مشكوكة ؛ لكن الشارع أجاز نسبتها إلى الله تعالى ، وأجاز الالتزام بمؤداها لم تصر بذلك حجة.

ومن هنا يتبين : أن الحجية لا تدور مدار هذين الأثرين ، أعني : صحة الالتزام وصحة الإسناد.

(١) أي : صحة الالتزام والنسبة «شرعا ، مع الشك في التعبد به» أي : بالظن مثلا «لما كان يجدي في الحجية شيئا» ، فقد ترتب الأثر مع عدم وجود الحجية ، فقوله : «فلو فرض صحتهما» تفريع على ما تقدم من أن صحة الالتزام والنسبة ليستا من آثار الحجية. يعني : بعد أن ثبت عدم كون جواز الالتزام والإسناد من لوازم الحجية ، فلا يكون جوازهما ـ على فرض ثبوته ـ دليلا على الحجية فيما إذا شك فيها.

(٢) أي : آثار الحجية ، والمراد بالآثار هي : التنجيز والتعذير والتجري والانقياد ، فلوازم الحجية الكاشفة عن الحجية وجودا وعدما هي هذه الآثار الأربعة ، دون صحة الالتزام والإسناد.

(٣) أي : ومع ترتب تلك الآثار عليه لا يضر عدم صحة الالتزام والإسناد بالحجية أصلا.

١٦١

عدم صحتهما أصلا ، كما أشرنا إليه آنفا (١).

فبيان عدم صحة الالتزام مع الشك في التعبد ، وعدم جواز إسناده إليه تعالى غير مرتبط بالمقام (٢).

فلا يكون الاستدلال عليه بمهم ، كما أتعب به شيخنا العلامة «أعلى الله مقامه» نفسه الزكية ؛ بما أطنب من النقض والإبرام ، فراجعه (٣) بما علقناه عليه وتأمل.

وقد انقدح ـ بما ذكرنا ـ : أن الصواب فيما هو المهم في الباب ما ذكرنا في تقرير الأصل ، فتدبر جيدا.

______________________________________________________

(١) أي : تقدمت الإشارة في قوله : «ضرورة أن حجية الظن ...» إلخ.

(٢) أي : غير مرتبط بالمقام الذي هو بيان الدليل على حجية شيء ؛ لأنه بعد ما عرفت من عدم كون صحة الالتزام والإسناد من اللوازم المساوية للحجية أو الأعم منها ، فالاستدلال على عدم حجية مشكوك الاعتبار بحرمتها ـ كما صنعه الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» ـ أجنبي عن محل البحث ، وهو عدم حجية مشكوك الحجية.

(٣) أي : فراجع استدلال الشيخ : اعلم : أن الشيخ «قدس‌سره» بعد ما ذكر أن الأصل في الظن عدم الحجية استدل عليه بأنه لا يمكن الالتزام به ولا يمكن نسبته إلى الله تعالى ، بما دل من الآيات والأخبار ، على أن ما لم يعلم أنه من قبل الله يكون افتراء عليه ونحو ذلك ، والمصنف «قدس‌سره» لما أشكل على كون الأثرين من آثار الحجية : أبطل الاستدلال على عدم حجية الظن بالآيات الدالة على أنه افتراء ونحوه ؛ إذ حجية الظن وعدمه لا تدور مدار صحة النسبة إليه تعالى ، وصحة الالتزام وعدمهما ؛ حتى يستدل بعدمهما على عدم الحجية.

وهناك كلام من بعض لعدم صحة إيراد المصنف على الشيخ «قدس‌سره» تركناه رعاية للاختصار.

وكيف كان ؛ فتقرير الأصل على الوجه الذي ذكره المصنف أولى ؛ لما مر أولا : من عدم دلالة انتفاء جواز الالتزام والإسناد على انتفاء الحجية.

وثانيا : من أن البحث عن جواز الالتزام والإسناد وعدمه ، والاستدلال عليهما بالأدلة الأربعة فقهي لا أصولي ، والمناسب للبحث الأصولي هو : البحث عن نفس الحجية ؛ لا عما يترتب عليها من الأحكام الشرعية ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٢٧٦».

١٦٢

إذا عرفت ذلك ، فما خرج موضوعا عن تحت هذا الأصل (١) أو قيل بخروجه يذكر في ذيل فصول.

______________________________________________________

(١) يمكن أن يكون الخروج عن تحت هذا الأصل خروجا موضوعيا مثل ما لا يكون من الأمارات ، فيكون خروجه من باب التخصص ويمكن أن يكون الخروج عن هذا الأصل من باب التخصيص ، سواء كان خرج إجماعا كما في بعض الأمارات الغير العلمية ، أو قيل بخروجه كبعضها الآخر ، وما خرج أو قيل بخروجه يذكر في ضمن فصول.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ العلم الإجمالي في مقام إثبات التكليف : هل هو كالعلم التفصيلي علة تامة لتنجز التكليف به ، بمعنى : أنه إذا تعلق العلم الإجمالي بوجوب أحد الأمرين أو بحرمته لم يكن الترخيص في أطرافه لا كلا ولا بعضا أم لا؟

أي : ليس علة تامة لتنجز التكليف ؛ بل هو مؤثر في تنجز التكليف بنحو الاقتضاء ، بمعنى : أنه قابل للترخيص في أطرافه كلا وبعضا ، فإن لم يرد الترخيص من الشرع في أطرافه لا كلا ولا بعضا ؛ بأن لم يكن لنا أصل عملي يصلح بدليله للجريان فيها أثر العلم الإجمالي في التنجيز لا محالة ؛ وإلا فيمنعه الأصل العملي عن التأثير في التنجيز.

يقول المصنف «قدس‌سره» : بتأثير التعلم الإجمالي في التنجيز بنحو الاقتضاء ، فيكون مورد العلم الإجمالي قابلا للترخيص شرعا ؛ لأن مرتبة الحكم الظاهري ـ وهي الجهل بالواقع ـ محفوظة في مورد العلم الإجمالي ؛ إذ كل من الطرفين مشكوك الحكم ، فيكون موردا للأمارة وموضوعا للأصل ، فيمكن حينئذ : الإذن في مخالفة التكليف المعلوم بالإجمال ، ولا مانع من الترخيص إلا محذور منافاة الحكم الظاهري للحكم الواقعي ، وهذا التنافي لا يختص بالمقام ؛ بل يعم الشبهة غير المحصورة والشبهة البدوية.

فالمتحصل : أن العلم الإجمالي مقتض لتنجز التكليف ، وليس علة تامة له ، ولا كالشك بحيث لا يؤثر في التنجيز أصلا.

٢ ـ العلم الإجمالي في مقام إسقاط التكليف بمعنى : كفاية الامتثال الإجمالي المعبر عنه بالاحتياط ، فيما إذا تمكن المكلف من الامتثال التفصيلي وكان الواجب تعبديا ، وكان الاحتياط مستلزما للتكرار ؛ إذ لا إشكال في الاحتياط في التوصليات ، ولا فيما إذا لم يكن الاحتياط مستلزما للتكرار.

١٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وأما الاحتياط في العبادات فيما إذا كان مستلزما للتكرار : فقد استشكل فيه بوجوه :

الأول : كون الاحتياط مخلا بقصد الوجه ، وهو قصد الوجوب في الواجب والندب في المندوب.

الثاني : أن تكرار العبادة بالاحتياط يوجب الإخلال بالتمييز أعني : تمييز الواجب عن غيره.

الثالث : أن التكرار لعب وعبث بأمر المولى ، فلا يكون إطاعة بنظر العقلاء.

وقد ردّ المصنف هذه الوجوه الثلاثة :

وحاصل ما رد به الوجه الأول : أنه لا دليل على اعتبار قصد الوجه أصلا ، وعلى فرض تسليم ذلك : يمكن قصد الوجه بمعنى : أن المكلف يقصد بكل من الطرفين ما هو الواجب واقعا.

أما رد قصد التمييز : فيقال : إن اعتباره في غاية الضعف ؛ لعدم الدليل على اعتباره ، إذ لو كان دخيلا في حصول الغرض لزم على الشارع التنبيه عليه ، مع غفلة عامة الناس عنه ، ولا يوجد في الأخبار الإشارة إلى اعتباره ، فيحصل العلم بعدم اعتباره في الغرض.

أما رد الوجه الثالث : ـ وهو كون التكرار لعبا بأمر المولى فيمكن أولا : أن التكرار مطلقا لا يكون لعبا بأمر المولى ؛ بل التكرار الكثير يكون لعبا بأمر المولى.

وثانيا : أن التكرار إذا كان بداعي عقلائي لا يكون لعبا بأمر المولى ؛ بل الغرض العقلائي يخرجه عن العبث واللعبية.

وثالثا : أن التكرار لو كان لعبا بأمر المولى لكان المكلف لاعبا في طريق الإطاعة وكيفيتها ؛ لا في نفس الإطاعة ، والعبث واللعب في كيفية الإطاعة لا يكون قادحا في تحقق الإطاعة.

وظاهر المصنف هو : الاكتفاء بالامتثال الإجمالي ، مع التمكن من الامتثال التفصيلي باستعلام الحال بالفحص والتتبع أو بالسؤال عن الموضوع ، ومعرفة الواجب بعينه ، والإتيان به بخصوصه.

٣ ـ في دوران الأمر بين الامتثال التفصيلي الظني وبين الامتثال القطعي الإجمالي ، فيقع الكلام في تقديم أحدهما على الآخر.

ومحصل ما أفاده المصنف «قدس‌سره» : إن الظن بالامتثال التفصيلي لا يخلو عن صور وأقسام :

١٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

١ ـ الظن الخاص ، المشروط اعتباره بعدم التمكن من الاحتياط العلمي الإجمالي.

ولا إشكال حينئذ في عدم جواز الامتثال الظني مع التمكن من الاحتياط ؛ لعدم اعتباره حسب الفرض.

٢ ـ الظن الخاص المعتبر مطلقا ، حتى مع التمكن من الامتثال الإجمالي بالاحتياط ، ولا إشكال في جواز الاجتزاء بكل من الامتثال الظني والاحتياطي.

٣ ـ الظن المطلق ، مع البناء على أن من مقدماته عدم وجوب الاحتياط ، ولا إشكال في الاجتزاء بكل من الامتثال الظني والاحتياطي.

٤ ـ الظن المطلق ، مع البناء على أن من مقدماته عدم جواز الاحتياط ؛ لاستلزامه العسر والحرج ، ولا إشكال هنا في تقديم الامتثال الظني التفصيلي وتعيّنه ؛ لبطلان الاحتياط حسب الفرض.

٤ ـ في الفرق بين حجية القطع وحجية الأمارة الغير العلمية.

وخلاصة الفرق : أن الحجية في الأولى ذاتية ، فلا حاجة في إثباتها إلى إقامة البرهان ؛ بل إثبات الحجية من قبيل تحصيل الحاصل وهو محال. هذا بخلاف حجية الأمارة الغير العلمية ، حيث إنها ليست لوازمها ؛ بل إنها ممكنة الثبوت لها.

وحينئذ : فلا بد في اعتبارها من جعل الحجية لها شرعا ، أو ثبوت مقدمات وطرو حالات كالانسداد.

٥ ـ في إمكان التعبد بالأمارة الغير العلمية ، ثم المراد بالإمكان هو : الإمكان الوقوعي ، بمعنى : ما لا يلزم من وقوعه محال في مقابل الامتناع الوقوعي ، بمعنى : ما يلزم من وقوعه في الخارج محال كما يظهر من ابن قبة.

وليس المراد بالإمكان : الإمكان الذاتي أو الإمكان بمعنى : الاحتمال ، كما أشار إليه الشيخ الرئيس بكلامه :

«كل ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه واضح البرهان».

وكيف كان ؛ فحاصل الكلام في المقام أن الكلام تارة : في بيان ما هو مقتضى الأصل عند الشك في الإمكان. وأخرى : في وجوه استحالة التعبد بالظن.

وأما ملخص الكلام فيما هو مقتضى الأصل عند الشك في الإمكان ، بمعنى : أنه إذا لم يقم دليل على إمكان شيء ولا على استحالته ، وكان كل منهما محتملا ، فما هو

١٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

المتبع عند العقلاء؟ ذكر الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» : أن الإمكان أصل لدى العقلاء ، مع احتمال الامتناع وعدم الدليل عليه ، فإنهم يرتبون آثار الممكن على مشكوك الامتناع ، يقول المصنف ردا عليه : «وليس الإمكان بهذا المعنى ، بل مطلقا أصلا متبعا».

وقد أورد المصنف عليه بوجوه :

الأول : أنه لم يثبت بناء العقلاء على ذلك.

الثاني : لو سلّم بناء العقلاء فلا دليل قطعيا على هذا البناء ، والدليل الظني لا يجدي في حجية بناء العقلاء وسيرتهم ؛ إذ الكلام في إمكان حجية سيرتهم وامتناعها.

الثالث : أنه مع فعلية التعبد لا حاجة إلى البحث عن الإمكان ، كما لا فائدة في إمكان التعبد بالظن بدون دليل الوقوع ، لوضوح : أن الأثر العملي مترتب على فعلية التعبد لا على مجرد إمكانه.

فالمتحصل : أنه لا وجه لما ذكره الشيخ «قدس‌سره» من أن الإمكان أصل لدى العقلاء عند احتمال الامتناع ؛ بل الصحيح الالتزام بالإمكان الوقوعي ؛ لأن وقوع التعبد بالأمارة الغير العلمية أقوى دليل على إمكانه.

٦ ـ أما وجوه استحالة التعبد بالأمارة الغير العلمية ، فهي أمور تالية :

الأول : لزوم اجتماع المثلين فيما إذا أدت الأمارة إلى الحكم المماثل للحكم الواقعي. أو اجتماع الضدين من الوجوب والحرمة مثلا ، فيما إذا أدت الأمارة إلى الحكم المخالف للحكم الواقعي.

الثاني : لزوم طلب الضدين ، وهو نظير قيام الأمارة على وجوب صلاة الجمعة ، مع كون الواجب في الواقع هو الظهر ، بعد فرض التضاد ـ ولو شرعا ـ بينهما ، وطلب الضدين محال.

الثالث : لزوم تفويت المصلحة أو الإبقاء في المفسدة.

الأول : كقيام الأمارة على عدم وجوب صلاة الجمعة يومها ، مع فرض وجوبها واقعا. والثاني : كقيام الأمارة على حرمة صلاة الجمعة مع حرمتها واقعا ، فيلزم من جعل حجية الأمارة الغير العلمية تفويت المصلحة في المثال الأول ، والإلقاء في المفسدة في المثال الثاني ، وكل منهما قبيح يمتنع صدوره عن الحكيم.

١٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

٧ ـ وما أجاب به المصنف عن الوجوه المذكورة بين ما لا يلزم وإن كان باطلا ، وبين ما ليس بباطل بمعنى : أن ما أفاده المصنف في الجواب إما راجع إلى منع الصغرى أو منع الكبرى.

وأما منع الصغرى : فلأن الحجية من الاعتبارات القابلة للجعل كالملكية والزوجية ونحوهما ، ومعنى جعلها : ترتيب آثار الحجية الذاتية ـ وهي العلم ـ من التنجيز والتعذير على الأمارة الغير العلمية التي صارت حجة بالتعبد ، وليس معنى الحجية جعل الحكم التكليفي لمؤدى الأمارة حتى يلزم اجتماع المثلين عند الموافقة ، أو الضدين عند المخالفة.

وعليه : فليس في مورد الأمارة المعتبرة حكم غير الحكم الواقعي ؛ حتى يلزم اجتماع المثلين أو الضدين.

وأما منع الكبرى فحاصله : أن تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة وإن كان يلزم من التعبد بالأمارة عند مخالفتها للواقع ؛ إلا إنه غير باطل ، ولا محذور فيه ؛ إذ مع وجود المصلحة في التعبد بالأمارة يتدارك بها المصلحة الواقعية الفائتة أو المفسدة الملقى فيها.

وأما بناء على الالتزام بوجود حكم ظاهري تكليفي في مورد الأمارات ؛ إما بدعوى استتباع جعل الحجية جعل الحكم الظاهري فلا محذور أيضا ؛ وإن اجتمع الحكمان. وذلك لأن الحكم الظاهري حكم طريقي ، بمعنى : أنه ناش عن مصلحة في نفسه أوجبت إنشاءه المستلزم للتنجيز والتعذير ، والحكم الواقعي حكم فعلي ناشئ عن مصلحة في متعلقه ، فنظرا إلى اختلاف مركز المصلحتين في الحكمين لا يلزم اجتماع المثلين ، ولا اجتماع الضدين ؛ لاعتبار اتحاد المحل في استحالة اجتماع المثلين أو الضدين.

٨ ـ الإشكال في بعض الأصول العملية : كقوله «عليه‌السلام» : «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه» ، بتقريب : أن ظاهر هذا الدليل هو جعل الإباحة الشرعية في مورد أصالة الحلية ، وهي تنافي الحرمة الواقعية ، ويلزم اجتماع المثلين إذا كان الحكم الواقعي هو الإباحة أيضا ، وعليه : فلا يندفع محذور اجتماع الحكمين المتماثلين أو المتضادين ـ في مورد أصالة الإباحة والحلية ـ بما دفع به في حجية الأمارات.

وحاصل الكلام في الإشكال : أن إذن الشارع في الإقدام بجعل الإباحة الظاهرية ينافي الحرمة الواقعية ، سواء كان الإذن لأجل مصلحة في نفس الإباحة ، أم كان لأجل عدم مصلحة أو مفسدة في المتعلق.

وأما وجه تخصيص الإشكال ببعض الأصول العملية : فلأن مثل الاستصحاب

١٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وقاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز التي لها نظر إلى الواقع يمكن الالتزام فيها بجعل أحكام ظاهرية طريقية ؛ كما في الأمارات عينا ، فيكون حالها حال الأمارات من حيث جريان الجواب الثاني فيها.

هذا بخلاف مثل قاعدة الحل وأصل البراءة ونحوهما مما لا نظر إلى الواقع أصلا ، فيختص الإشكال به دون ما له نظر إلى الواقع.

وقد أجاب المصنف عن هذا الإشكال بقوله : «فلا محيص في مثله إلا عن الالتزام بعدم انقداح الإرادة أو الكراهة». وهذا الجواب يمكن تقريبه على نحو يجري في جميع الأمارات والأصول طرّا ، وبه يحصل الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي في كل من الأصول والأمارات ، وبه تندفع المحاذير المتقدمة كلها.

وحاصل الجمع بينهما : أن الأحكام الواقعية المشتركة بين الكل هي فعلية غير منجزة عند قيام الأمارة أو الأصل على خلافها ، والأحكام الظاهرية فعلية منجزة ، فحينئذ : لا تنافي بينهما لعدم الإرادة أو الكراهة على طبق الحكم الفعلي الغير المنجز ، فإن الأحكام الخمسة لا ينافي بعضها مع بعض إلا من جهة الإرادة والكراهة ، والحكم الواقعي إذا كان فعليا غير منجّز فلا إرادة ولا كراهة على طبقه ، كي ينافي الحكم الظاهري.

٩ ـ إشكال المصنف على الشيخ الأنصاري : حيث التزم بعدم الحكم الواقعي فعليا في مورد الأصول والأمارات ، والتزم بأنه إنشائي فقال المصنف : ظهر بما ذكرناه ـ في دفع الإشكالات الواردة على التعبد بالأمارات غير العلمية والأصول العملية ـ أنه لا يلزم من التعبد بالأمارات غير العلمية الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي في مورد الأصول والأمارات فعليا ؛ بل إنه شأني كي يلزم تارة : عدم لزوم الإتيان بما قامت الأمارة على وجوبه حينئذ ؛ إذ لا يحبب امتثال الحكم الإنشائي عقلا إذا علم به ، فضلا عما إذا قامت الأمارة غير العلمية عليه ، مع أنه خلاف الضرورة ؛ للزوم امتثال مؤديات الأمارات بالضرورة.

وأخرى : باحتمال اجتماع المتنافيين وهو في الاستحالة كالقطع باجتماع المتنافيين ، بتقريب : إن المحتمل هو فعلية الحكم الواقعي الذي يكون في مورد الأصل والأمارة والمفروض : فعلية الحكم الظاهري أيضا ، فيلزم اجتماع الحكمين الفعليين المتنافيين وهو محال. ولازم هذا الإشكال : عدم جواز الرجوع إلى الأمارة والأصول إلا مع القطع بعدم فعلية الحكم الثابت في موردهما ، وهو بعيد جدا.

١٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

١٠ ـ وما يقال : بأنه لا مجال للإشكال الأول على الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» ؛ بتقريب : أن هذا الإشكال ـ بناء على إنشائية الأحكام الواقعية ـ مبنيّ على بقائها على الإنشائية حتى بعد قيام الأمارات عليها.

وأما بناء على أن قيام الأمارات سبب لوصولها إلى مرتبة الفعلية ، فلا وجه للإشكال المزبور ؛ إذ يحب حينئذ امتثال مؤديات الأمارات ؛ لأنها صارت فعلية بعد قيام الأمارة عليها مدفوع بما حاصله : من أن موضوع الفعلية ـ على ما ذكره المستشكل من أنه الحكم الإنشائي المتصف بكونه مؤدى الأمارة ـ مؤلف من الإنشائية والوصف المزبور ، ومن المعلوم : توقف أثر المركب على وجود جميع أجزائه ، فما لم يحرز الموضوع بتمام أجزائه بالوجدان أو التعبد أو بالاختلاف لم يترتب عليه الأثر.

وفي المقام يكون الأمر كذلك ؛ فإنه لا يترتب أثر الفعلية على الحكم الإنشائي الذي أدت إليه الأمارة ، وذلك لانتفاء إحراز الموضوع وجدانا وتعبدا.

أما وجدانا : فلأن إصابة الأمارة غير معلومة. وأما تعبدا : فلأن دليل حجية الأمارة لا يقتضي إلا التعبد بوجود مؤداه ، ولا يتكفل الجزء الثاني من الموضوع وهو كون هذا الحكم الإنشائي المحكي مؤدى الأمارة وذلك لأن اتصاف المحكي بهذا الوصف متأخر عن قيام الأمارة عليه ، فلو فرض تقدمه على قيام الأمارة عليه لزم الدور وهو محال.

«فافهم» لعله إشارة إلى أنه لو فرض إمكان دلالة دليل غير الأمارة على كون مؤداها هو الواقع المتصف بكونه مؤدى الأمارة لم يكف ذلك أيضا في الحكم بالفعلية ؛ لأن الحكم بها منوط بدلالة دليل على هذا الوصف ، ولم يثبت ، فما قيل : من صيرورة الأحكام الإنشائية فعلية بمجرد قيام الأمارة عليها خال عن الدليل.

١١ ـ إثبات كون الأحكام التي أدت إليها الأمارات فعلية بدلالة الاقتضاء بمعنى : أن مقتضى أدلة اعتبار الأمارات وإن كان تنزيل مؤداها منزلة الواقع وهو الحكم الإنشائي المحض ؛ لا منزلة الواقع الذي أدت إليه الأمارة ، ولكن بدلالة الاقتضاء وصون كلام الحكيم عن اللغوية لا بد من حمل دليل الحجية على تنزيل المؤدى منزلة الواقع الذي أدت إليه الأمارة ، أي : منزلة الأحكام الفعلية ، كي لا يكون التنزيل بلا ثمرة وفائدة.

فالمتحصل : أنه لو نزل المولى جزءا من المركب منزلة الواقع يعلم منه أنه نزل الجزء الآخر أيضا ، وإلا كان تنزيله الأول لغوا. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تصحيح ما أنكره المصنف «قدس‌سره» ، ولكن أورد عليه المصنف بقوله : «لكنه لا يكاد يتم».

١٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وخلاصة الإيراد : أن دلالة الاقتضاء إنما تتم وتثبت الفعلية إذا لم يكن للأحكام الإنشائية أثر أصلا ، وأما إذا كان لها أثر ـ ولو بالعنوان الثانوي كالنذر ونحوه ـ فلا يبقى مجال لدلالة الاقتضاء ؛ لعدم لزوم اللغوية حينئذ ، فالنتيجة هي : عدم صحة ما ذكره الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ، بحمل الحكم الواقعي على الإنشائي في مورد الطرق والأمارات.

١٢ ـ وهناك جمع آخر بين الحكم الواقعي والظاهري ، وهو الفرق بين الحكمين من حيث الموضوع ؛ لأن موضوع الحكم الواقعي هو نفس الشيء بعنوانه الأولي ، وموضوع الحكم الظاهري هو الشيء بوصف أنه مشكوك الحكم ، فيكون الحكم الظاهري متأخرا عن الحكم الواقعي بمرتبتين : الأولى : تأخره عن موضوعه ، والأخرى : تأخر موضوعه ، وهو الشك عن الحكم الواقعي الذي تعلق به الشك ، ولا محذور في اجتماع حكمين فعليين متنافيين مع تعدد رتبتهما.

وحاصل إشكال المصنف على هذا الجمع : هو وجود الحكم الواقعي في مرتبة الحكم الظاهري ؛ إذ لا يرتفع الحكم الواقعي بمجرد الشك فيه ، فإذا تحقق الحكم الظاهري بقيام الأمارة أو الأصل على خلاف الحكم الواقعي لزم اجتماع الضدين من إيجاب وتحريم مثلا.

فالمتحصل من جميع ما أفاده المصنف في المقام : أنه لا يلزم من حجية الأمارات غير العلمية محذور أصلا.

١٣ ـ مقتضى الأصل فيما شك في اعتباره من الأمارات هو : عدم حجيتها بمعنى : أنه بمجرد أن شك في حجية أمارة ثبوتا يقطع بعدم حجيتها إثباتا أي : لا يترتب عليها أثار الحجية في مقام الإثبات ؛ لأن آثار الحجية لا تترتب إلا على ما اتصف بالحجية الفعلية ـ أي : المحرزة بالعلم ـ في مقام الإثبات. هذا هو الصحيح عند المصنف ؛ لا ما ذكره الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» ، حيث جعل الأصل حرمة التعبد بالظن ، واستدل عليها بالأدلة الأربعة.

١٤ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ العلم الإجمالي مقتض بالنسبة إلى كل من وجوب الموافقة القطعية ، وحرمة المخالفة كذلك.

٢ ـ كفاية الامتثال الإجمالي المعبر عنه بالاحتياط مطلقا.

١٧٠

فصل

لا شبهة في لزوم اتباع ظاهر كلام الشارع في تعيين مراده (١) في الجملة ،

______________________________________________________

٣ ـ إمكان التعبد بالظن بالإمكان الوقوعي.

٤ ـ ليس الإمكان أصلا متبعا عند العقلاء عند الشك في إمكان شيء وامتناعه.

٥ ـ ليس معنى جعل حجية الأمارة جعل الحكم التكليفي لمؤداها.

٦ ـ آثار الحجية هي المنجزية والمعذرية.

٧ ـ الأصل فيما شك في اعتباره هو عدم الحجية.

في حجية الظواهر

(١) أي : مراد الشارع «في الجملة» أي : بنحو الإيجاب الجزئي في قبال التفاصيل الآتية.

وغرض المصنف هو : نفي الشبهة عن حجية ظواهر الألفاظ الكاشفة عن المرادات بنحو الإيجاب الجزئي ، في قبال السلب الكلي.

وقد عرفت : أن الأصل فيما لا يعلم اعتباره هو عدم الحجية ؛ إلا ما خرج بالدليل ، ومما خرج بالدليل عن تحت ذلك الأصل هو ظاهر الكلام ، ولذا يقول المصنف : إنه «لا شبهة في لزوم اتباع ظاهر كلام الشارع في تعيين مراده في الجملة» ، والوجه في ذلك هو : أن بناء العقلاء قد استقر على اتّباع ظهور الكلام في تعيين مراد المتكلم ، والحكم بأن هذا هو مراده من طريق ظاهر كلامه.

ومن الواضح : أن الشارع جرى في كلامه على طبق هذه الطريقة العقلائية ، ولم يخترع طريقة أخرى مخالفة لطريقة العقلاء ؛ وإلا لنقلت إلينا تلك الطريقة ، وحيث لم تنقل إلينا تلك الطريقة المختصة بالشارع نقطع بعدم ردع الشارع عن الطريقة العقلائية ، وقد استدل المصنف بهاتين المقدمتين على حجية الظواهر ، حيث أشار إلى المقدمة الأولى بقوله : «لاستقرار طريقة العقلاء ...» الخ. وإلى الثانية : بقوله : «مع القطع بعدم الردع عنها ...» الخ ، وعدم الردع يوجب القطع بالإمضاء ، بعد وضوح عدم مانع عن الردع ، ولا ريب في تمامية المقدمتين.

١٧١

لاستقرار طريقة العقلاء على اتباع الظهورات (١) في تعيين المرادات ، مع القطع بعدم الردع (٢) عنها ، لوضوح (٣) : عدم اختراع طريقة أخرى في مقام الإفادة لمرامه من كلامه ، كما هو واضح.

والظاهر (٤) : أن سيرتهم على اتباعها ، من غير تقييد بإفادتها للظن فعلا ، ولا بعدم الظن كذلك على خلافها قطعا.

______________________________________________________

أما تمامية الأولى : فلبداهة : بناء العقلاء على الأخذ بالظواهر ، وكشفها عن المرادات الجدية للمتكلم ، ولذا لا يقبل اعتذار العبد الذي يخالف ظاهر كلام مولاه بعدم علمه بكون الظاهر مرادا جديا له.

وأما تمامية الثانية ـ وهي إمضاء الشارع طريقة العقلاء بعدم الردع عنها ـ فلوضوح : كون الطريق الموصل لجل الأحكام هو الألفاظ ، فلو كانت هذه الطريقة مردوعة عنده لكان اللازم إحداث طريقة أخرى ، والتالي باطل ، فالمقدم مثله.

وكيف كان ؛ فهذا البناء العقلائي على اتباع الظاهر لا يختص بصورة حصول الظن الشخصي بالوفاق ، ولا بصورة عدم حصول الظن الشخصي بالخلاف ؛ إذ لا يحق للعبد الاعتذار عن مخالفة الأمر الصادر من قبل المولى المبين بكلام ظاهر فيه ـ الاعتذار ـ بأنه لم يكن ظانا بثبوته ، أو كان ظانا بعدم ثبوته.

(١) وقد عبر الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» عن الظهورات بالأصول المعمولة لتشخيص مراد المتكلم.

(٢) أي : ردع الشارع عن طريقة العقلاء.

(٣) تعليل لقوله : «مع القطع بعدم الردع».

(٤) هذا شروع في الإشارة إلى الأقوال في مسألة حجية الظواهر ، وهناك تفاصيل ؛ بل أقوال أشار إليها المصنف :

الأول : أنها حجة مطلقا يعني : سواء أفادت الظن الشخصي أو النوعي بإرادة المتكلم لها أم لا ، وسواء كان ظنّ شخصي أو نوعي بخلافها أم لا ، من غير فرق في ذلك كله بين من قصد إفهامه بها ومن لم يقصد ، ولا بين ظواهر الكتاب وغيره ، فهي منوطة بنفس وضع اللفظ وحجة من غير شرط ؛ لكن ما لم يحصل العلم بإرادة خلافها ، هذا القول هو الذي استظهره المصنف «قدس‌سره» ، واختاره بقوله : «والظاهر أن سيرتهم على اتباعها ...» الخ.

الثاني : أنها حجة بشرط عدم قيام الظن غير المعتبر على خلافها.

١٧٢

ضرورة (١) : أنه لا مجال عندهم للاعتذار عن مخالفتها بعدم إفادتها للظن بالوفاق ، ولا بوجود الظن بالخلاف.

كما أن (٢) الظاهر عدم اختصاص ذلك بمن قصد إفهامه ، ولذا لا يسمع اعتذار

______________________________________________________

الثالث : أنها حجة بشرط إفادتها ـ بنفسها أو من خارج ـ الظن بإرادة المتكلم لها.

وقد استدل المصنف «قدس‌سره» على مختاره بإطلاق السيرة العقلائية ، القائمة على الأخذ بالظواهر واتباعها إلى أن يعلم بالخلاف ، والدليل على هذا الإطلاق : هو عدم صحة الاعتذار عن مخالفتها بعدم إفادتها الظن بالوفاق ، ولا بوجود الظن بالخلاف ، وهذا كاشف قطعي عن إطلاق السيرة وعدم تقييدها بأحد هذين القيدين ، وهما الظن بالوفاق وعدم الظن بالخلاف.

الرابع : التفصيل بين قصد إفهامه وغيره بمعنى : اختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه دون غيره ، وهذا القول منسوب إلى المحقق القمي «قدس‌سره» ، وقد ظهر بطلانه بعموم دليل اعتبار الظواهر أعني : سيرة العقلاء الثابتة في الظواهر مطلقا ، حتى بالنسبة إلى من لم يقصد إفهامه. والشاهد على إطلاق بنائهم هو : أنه لا يسمع اعتذار من لم يقصد إفهامه بأني لم أكن مقصودا بالإفهام ، فلا يكون اعتبار الظواهر مختصا بمن قصد إفهامه.

الخامس : التفصيل في حجية الظواهر بين الكتاب وغيره ، وهذا القول منسوب إلى جماعة من المحدثين والأخباريين حيث قالوا بحجية غير ظواهر الكتاب وعدم حجية ظواهر الكتاب ، فانتظر تفصيل ذلك في كلام المصنف «قدس‌سره».

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية» وغيره.

(١) تعليل لعدم تقييد حجية الظواهر بإفادتها للظن الفعلي بالوفاق ولا بعدم الظن بالخلاف ، فيكون ردا للقول الثاني والثالث ، ودليلا لما هو مختار المصنف من حجية الظواهر مطلقا.

(٢) إشارة إلى التفصيل بين من قصد إفهامه وغيره. وحاصل هذا التفصيل المنسوب إلى المحقق القمي : اختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه دون غيره. وحاصل رد المصنف عليه : هو عدم اختصاص اتباع الظواهر وحجيتها بمن قصد إفهامه ، والشاهد على عدم الاختصاص : ما أشار إليه بقوله : «ولذا لا يسمع اعتذار من لا يقصد إفهامه ...» الخ ، أي : لأجل عدم اختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه «لا يسمع اعتذار من لا يقصد إفهامه إذا خالف ما تضمنه ظاهر كلام المولى» ؛ بأن يقول : لم يقصد

١٧٣

من لا يقصد إفهامه إذا خالف ما تضمنه ظاهر كلام المولى ، من تكليف يعمه أو يخصه (١) ، ويصح (٢) به الاحتجاج لدى المخاصمة واللجاج ، كما تشهد به (٣) صحة الشهادة بالإقرار من كل من سمعه ولو قصد عدم إفهامه ، فضلا عما إذا لم يكن بصدد إفهامه.

ولا فرق في ذلك (٤) بين الكتاب المبين وأحاديث سيّد المرسلين والأئمة الطاهرين.

وإن ذهب بعض الأصحاب إلى عدم حجية ظاهر الكتاب ، إما بدعوى اختصاص

______________________________________________________

المولى إفهامي ، ولذا لم يكن الظاهر حجة بالنسبة إلى ، ولذا خالفت الأمر.

(١) الضميران في «يعمه أو يخصه» راجعان على من في قوله : «من لم يقصد إفهامه». ومثال الأول : أن يقول المولى لأحد عبيده أن يفعل مع سائر العبيد كذا وكذا ، فيكون التكليف عاما شاملا لمن لم يقصد إفهامه ؛ لأن المقصود بالإفهام هو أحد العبيد حسب الفرض.

ومثال الثاني : أن يقول المولى في غياب المكلف بطور علني : ليذهب فلان ، وليأتي بكذا وكذا.

(٢) عطف على «لا يسمع» أي : ولذا «يصح به» أي : بظاهر كلام المتكلم «الاحتجاج لدى المخاصمة واللجاج» ، يعني : ويصح احتجاج المولى بظاهر كلامه على العبد التارك للعمل به ، مع كونه غير مقصود بالإفهام ، فصحة الاحتجاج بظاهر الكلام عند المخاصمة واللجاج تكشف عن حجية الظواهر مطلقا.

(٣) أي : «كما تشهد» ـ بعدم سماع الاعتذار وصحة الاحتجاج بظاهر الكلام ـ «صحة الشهادة بالإقرار ... الخ».

وحاصل مقصود المصنف : أنه لو أقر زيد على نفسه بشيء مثل : كونه مديونا لعمر وبكذا ، وقد سمعه ـ وهو لم يكن مقصودا بالإفهام ؛ ولكن علم على إقرار زيد لعمرو ـ صح لبكر أن يشهد عليه عند الحاكم وإن لم يكن مقصودا بالإفهام ؛ بل كان مقصودا بعدم الإفهام.

فالنتيجة : أن ظاهر الكلام حجة بالنسبة إلى كل أحد ، من غير فرق بين كونه مقصودا بالإفهام وعدمه. وتركنا تطويل الكلام في المقام رعاية للاختصار.

(٤) أي : في لزوم اتباع الظواهر وكونها حجة «بين الكتاب المبين ...» الخ. هذا إشارة إلى تفصيل جماعة من الأخباريين ، وهو التفصيل في حجية الظواهر بين ظواهر الكتاب فليست بحجة ، وبين ظواهر غير الكتاب فهي حجة.

١٧٤

فهم القرآن ومعرفته بأهله ومن خوطب به ، كما يشهد به ما ورد في ردع أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به ؛ أو بدعوى أنه لأجل احتوائه على مضامين شامخة ومطالب غامضة عالية لا يكاد تصل إليها أيدي أفكار أولي الأنظار غير الراسخين العالمين

______________________________________________________

في التفصيل بين ظواهر الكتاب وغيره

وقد ذكر الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» للأخباريين وجهين (١) : حيث قال : «وأقوى ما يتمسك لهم على ذلك وجهان أحدهما : الأخبار المتواترة المدعى ظهورها في المنع ذلك» ، ثم ذكر طوائف كثيرة من الأخبار مفادها المنع عن العمل بظواهر القرآن ، من دون ما يرد التفسير وكشف المراد عن الأئمة المعصومين «صلوات الله عليهم أجمعين». إلى أن قال : «الثاني من وجهي المنع : إنّا نعلم بطروّ التقييد والتخصيص والتجوز في أكثر ظواهر الكتاب ، وذلك مما يسقطها عن الظهور». راجع «دروس في الرسائل ، ج ١ ، ص ٢٥٠ ـ ٢٦٧». وذكر المصنف «قدس‌سره» لهم وجوها خمسة وهي بين ما يرجع إلى منع الصغرى ـ وهي الظهور ـ وبين ما يرجع إلى منع الكبرى ـ أعني : منع حجية ظواهر القرآن ـ فنذكرها على ترتيب المتن.

وأما الوجه الأول : فقد أشار إليه بقوله : «إما بدعوى اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله ومن خوطب به». وحاصل هذا الوجه : هو منع الصغرى ، واختصاص فهم القرآن بمن خوطب به ، والشاهد عليه : «ما ورد في ردع أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به» أي : بالكتاب.

قال أبو عبد الله «عليه‌السلام» لأبي حنيفة : «أنت فقيه أهل العراق؟» قال : نعم ، قال : «فبم تفتيهم؟» قال : بكتاب الله وسنة نبيه ، قال : «يا أبا حنيفة : تعرف كتاب الله حق معرفته وتعرف الناسخ والمنسوخ؟» قال : نعم ، قال : «يا أبا حنيفة : لقد ادّعيت علما ، ويلك ما جعل الله ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم ، ويلك ولا هو إلا عند الخاص من ذرية نبينا محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وما ورثك الله من كتابه حرفا» (٢).

وأما ما ورد في ردع قتادة فهو وإن كان في حديث طويل ولكن نكتفي بذكر ما هو محل الشاهد في المقام. وقد ورد في رواية زيد الشحام قال : دخل قتادة على أبي جعفر «عليه‌السلام» فقال له : «أنت فقيه أهل البصرة؟» فقال : هكذا يزعمون ، فقال : «بلغني

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٣٩.

(٢) علل الشرائع ١ : ٨٩ / ذيل ح ٥ ، بحار الأنوار ٢ : ٢٩٢ / ذيل ح ١٣.

١٧٥

بتأويله ، كيف (١)؟ ولا يكاد يصل إلى فهم كلمات الأوائل إلا الأوحدي من

______________________________________________________

أنك تفسر القرآن» قال : نعم ، إلى أن قال : «يا قتادة إن كنت قد فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت قد فسرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت ، ويحك يا قتادة إنما يعرف القرآن من خوطب به» (١).

وهاتان الروايتان تدلان على اختصاص فهم القرآن بالأئمة المعصومين «عليهم‌السلام» ، ومفادهما : أنه ليس للقرآن ظهور بالنسبة إلى غير المعصومين «عليهم‌السلام» حتى يجوز العمل به ، فيكون راجعا إلى منع الصغرى.

وأما الوجه الثاني : فقد ذكره بقوله : «أو بدعوى أنه لأجل احتوائه» أي : الكتاب وحاصل هذا الوجه : منع الصغرى أيضا ـ وهي الظهور ـ كالوجه الأول ؛ إذ كون اشتمال الكتاب على تلك المعاني الغامضة يكون مانعا عن معرفة أبناء المحاورة بتلك المعاني الشامخة ، وجهلهم بها يمنع عن انعقاد الظهور ، ويشهد لهذا الوجه بعض الروايات :

منها : ما رواه العياشي في تفسيره عن عبد الرحمن بن الحجاج قال : سمعت أبا عبد الله «عليه‌السلام» يقول : «ليس شيء أبعد من عقول الرجال عن القرآن» (٢).

والحاصل : أنه لأجل علو مضامين الكتاب العزيز لا يبلغ أحد كنه معانيه إلا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» وأوصياؤه «عليهم‌السلام» ؛ لأنهم راسخون عالمون بتأويل الكتاب العزيز.

ومنها : ما رواه عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» قال : «الراسخون في العلم أمير المؤمنين «عليه‌السلام» والأئمة من ولده «عليهم‌السلام» (٣).

ومنها : ما رواه عمر بن قيس عن أبي جعفر «عليه‌السلام» قال : سمعته يقول : «إن الله «تبارك وتعالى» لم يدع شيئا تحتاج إليه الأمة إلا أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ...» الحديث.

ومفاده هذه الروايات : أنه لا يفهم القرآن إلا الراسخون في العلم وهم المعصومون «صلوات الله عليهم أجمعين».

(١) أي : كيف تصل أيدي أفكار أولي الأنظار إلى مضامين الكتاب العزيز العالية ، والحال : أنه «لا يكاد يصل إلى فهم كلمات الأوائل ...» الخ.

__________________

(١) الكافي ٨ : ٣١١ / ٤٨٥ ، الوسائل ٢٧ : ١٨٥ / ٣٣٥٥٦.

(٢) تفسير العياشي ١ : ١٨ / ٥.

(٣) الكافي ١ : ٢١٣ ، وفيه «من بعده» بدل «من ولده» الوسائل ٢٥ : ١٧٩ / ٣٣٥٣٨.

١٧٦

الأفاضل؟ فما ظنك بكلامه تعالى مع اشتماله على علم ما كان وما يكون وحكم كل شيء (١).

______________________________________________________

(١) كما في قوله تعالى : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(١) بناء على تفسيره بالقرآن الكريم ؛ وكذا بعض الروايات «الأخر الدالة على ذلك منها : ما رواه مرازم عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» : «قال : إن الله «تبارك وتعالى» أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتى والله ما ترك الله شيئا يحتاج إليه العباد حتى لا يستطيع عبد يقول : لو كان هذا أنزل في القرآن إلا وقد أنزله الله فيه» (٢).

ومنها : ما رواه عمر بن قيس ...» الخ. هذا تمام الكلام في الوجه الثاني.

وأما الوجه الثالث : فقد ذكره بقوله : «أو بدعوى شمول المتشابه الممنوع عن اتباعه للظاهر» ، وهذا الوجه الثالث للسيد الصدر شارح الوافية ؛ إلا إن السيد لم يدع شمول المتشابه الممنوع عن اتباعه الظاهر ، وإنما احتمله له لتشابه المتشابه.

وكيف كان ؛ فقد ذكر الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» كلام السيد الصدر ، وملخص كلام السيد «قدس‌سره» : «أن المتشابه كما يكون في أصل اللغة ، كذلك يكون بحسب الاصطلاح مثل أن يقول أحد : أنا استعمل العمومات ، وكثيرا ما أريد الخصوص من غير قرينة ، وربما أخاطب أحدا وأريد غيره ، ونحو ذلك ، فحينئذ لا يجوز لنا القطع بمراده ولا يحصل لنا الظن به ، والقرآن من هذا القبيل ، لأنه نزل على اصطلاح خاص ثم قال : قال سبحانه : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ)(٣) ذمّ على اتباع المتشابه ولم يبين لهم المتشابهات ما هي وكم هي ؛ بل لم يبين لهم المراد من هذا اللفظ وجعل البيان موكولا إلى خلفائه ، والنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» نهى الناس عن التفسير بالآراء ، وجعلوا الأصل عدم العمل بالظن ولم يستثنوا ظواهر القرآن ...».

وحاصل ما أفاده المصنف في تقريب هذا الوجه هو : منع الكبرى ـ وهي حجية ظواهر القرآن ـ بدعوى إجمال المتشابه ، واحتمال شموله للظاهر. بتقريب : أن المتشابه هو ما يحتمل فيه وجهان أو وجوه يشبه بعضها بعضا في احتمال إرادته من اللفظ ، فهو مقابل الصريح الذي لا يحتمل فيه الخلاف ، فيعم الظواهر ، ولا أقل من احتماله فيكون مجملا ، ويسري إجماله إلى جميع الآيات لكونه من قبيل القرينة المتصلة ، فلا يصح

__________________

(١) الأنعام : ٥٩.

(٢) الكافي ١ : ٥٩ / ١.

(٣) آل عمران : ٧.

١٧٧

أو بدعوى شمول المتشابه الممنوع عن اتباعه للظاهر ، لا أقل من احتمال شموله له ، لتشابه (١) وإجماله.

أو بدعوى أنه وإن لم يكن منه ذاتا ، إلا إنه صار منه عرضا ، للعلم (٢) الإجمالي بطروّ التخصيص والتقييد والتجوز في غير واحد من ظواهره (٣) كما هو الظاهر (٤).

______________________________________________________

التمسك بظواهر القرآن بعد ذلك ؛ إذ احتمال اندراج الظاهر في المتشابه يوجب الشك في حجيته ، وقد عرفت : أن مقتضى الأصل في مشكوك الحجية عدم جواز العمل به. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب هذا الوجه الثالث.

(١) تعليل لقوله : «لا أقل ...» ، و «إجماله» عطف تفسير للمتشابه ، يعني : بعد كون المتشابه مجملا فيحتمل شموله للظاهر أيضا.

وأما الوجه الرابع : فقد ذكره بقوله : «أو بدعوى أنه وإن لم يكن منه ذاتا إلا إنه صار منه عرضا» ، يعني : أن ظاهر الكتاب وإن لم يكن من المتشابه ذاتا فإنه لا تشابه فيه ، بل إنه من المحكم القسيم للمتشابه ؛ إلا إن الظاهر صار من المتشابه عرضا. وهذا الوجه هو الوجه الثاني من الوجهين اللذين ذكرهما الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» للأخباريين وهذا الوجه كالوجه الأول والثاني يرجع إلى منع الصغرى ـ وهي الظهور ـ ومحصله : أن ظاهر الكتاب وإن لم يكن ذاتا مندرجا في المتشابه إلا إنه مندرج فيه عرضا ، بمعنى أن الكتاب لا ينعقد له ظهور ، لأجل العلم الإجمالي بطرو التخصيص والتقييد والتجوز في الكتاب ، فيسقط عن الظهور ، لأن هذا العلم الإجمالي يمنع عن الرجوع إلى الأصول المرادية ، كأصالة عدم التخصيص وغيرها ، والمفروض أن حجية الظاهر منوطة بجريان الأصول المرادية ، ومع عدم جريانها ـ كعدم جريان الأصول العملية في أطراف الشبهة المحصورة ـ يسقط الظاهر عن الحجية ، فيكون الظاهر حينئذ بحكم المتشابه في عدم الحجية أي : ليس له ظهور كي يكون حجة.

(٢) تعليل لصيرورة الظاهر من المتشابه عرضا وإن لم يكن ذاتا متشابها.

(٣) أي : ظواهر الكتاب.

(٤) والصواب «كما هو ظاهر» بإسقاط اللام ، لأن غرضه بيان وضوح طرو الإجمال عرضا على ظواهر الكتاب بسبب التخصيص والتقييد وغيرهما. وهذا لا يلائم التعبير عنه ب «الظاهر» ، لأنه يوهم الترديد فيه ، وهو ينافي جزمه الناشئ من العلم الإجمالي بكثرة التخصيص والتقييد كما في هامش «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٢٩٤».

وأما الوجه الخامس : فقد ذكره بقوله : «أو بدعوى شمول الأخبار الناهية ...».

١٧٨

أو بدعوى شمول الأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي ؛ لحمل الكلام الظاهر في معنى على إرادة هذا المعنى.

______________________________________________________

وحاصل هذا الوجه أيضا هو منه الكبرى ـ وهي حجية ظواهر القرآن ـ بدعوى : شمول الأخبار الناهية عن التفسير بالرأي لحمل الكلام على ظاهره بمعنى : إنه لا يجوز حمل الكتاب على ما هو ظاهر فيه من المعنى ؛ لأنه مصداق للتفسير بالرأي المنهي عنه.

قوله : «لحمل» متعلق ب «شمول». وقوله : «على إرادة» متعلق ب «حمل» ، والمراد بالمعنى في قوله : «هذا المعنى» هو المعنى الظاهر ، فمعنى العبارة : أن حمل الكلام الظاهر في معنى على إرادة المعنى الذي يكون الكلام ظاهرا فيه مشمول للأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي ، فيحرم حمل الكلام على ما هو ظاهر فيه ؛ لأنه من التفسير بالرأي.

وكيف كان ؛ فالروايات الناهية عن التفسير بالرأي وإن كانت كثيرة جدا ؛ إلا إنا نكتفي بذكر جملة منها رعاية للاختصار :

مثل النبوي : «من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» (١).

وفي رواية أخرى : «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» (٢).

وفي نبوي ثالث : «من فسر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب» (٣).

وعن أبي عبد الله «عليه‌السلام» : «من فسر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر وإن أخطأ سقط أبعد من السماء» (٤).

وعن تفسير العياشي عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» قال : «من حكم برأيه بين اثنين فقد كفر ، ومن فسر برأيه آية من كتاب الله فقد كفر» (٥).

هذه جملة من الأخبار الناهية عن التفسير بالرأي. فمفاد الجميع هي الكبرى الكلية ، وهي حرمة التفسير بالرأي على نحو القضية الموجبة الكلية ، فإذا كان حمل القرآن على ظاهره من التفسير بالرأي لكان من صغريات تلك الكبرى ، وبالتالي فيتم استدلال الأخباريين بهذه الروايات على عدم حجية ظواهر الكتاب.

__________________

(١) عوالي اللآلي ٤ : ١٠٤ / ١٥٤ ، أصول السرخسي ١ : ١٣٧.

(٢) التوحيد : ٩٠ / من ح ٥ ، الوسائل ٢٧ : ١٨٩ / ٣٣٥٦٦ ، مسند أحمد ١ : ٢٣٣ ، سنن الترمذي ٤ : ٢٦٨ / ٤٠٢٢ ، المصنف لابن شيبة ٧ : ١٧٩ / ٣ ، الخ.

(٣) كمال الدين : ٢٥٦ / جزء من ح ١ ، الوسائل ٢٧ : ١٩ / ٣٣٥٦٨.

(٤) تفسير العياشي ١ : ١٧ / ٤ ، الوسائل ٢٧٢٧ : ٢٠٢ / ٣٣٥٩٧.

(٥) تفسير العياشي : ١ : ١٨ / ٦ ، الوسائل ٢٧ : ٦٠ / ٣٣١٩٥.

١٧٩

ولا يخفى (١) : أن النزاع يختلف صغرويا وكبرويا بحسب الوجوه ، فبحسب غير الوجه الأخير والثالث يكون صغرويا ، وأما بحسبهما : فالظاهر أنه كبروي ، ويكون المنع (٢) عن الظاهر إما لأنه من المتشابه قطعا أو احتمالا ، أو لكون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير بالرأي.

وكل هذه الدعاوى فاسدة (٣):

أما الأولى : فإنما المراد مما دل على اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله اختصاص فهمه (٤) بتمامه بمتشابهاته ومحكماته ، بداهة : أن فيه (٥) ما لا يختص به ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى اختلاف مقتضى الوجوه المذكورة ، فالنزاع صغروي بحسب الوجه الأول والثاني والرابع. وكبروي بحسب الوجهين الثالث والخامس. وقد عرفت توضيح ذلك فلا حاجة إلى التكرار والإعادة.

(٢) يعني : يكون سبب منع الكبرى ـ وهي كل ظاهر حجة ـ إما لأن ظاهرا من المتشابه ، وإما لكونه من التفسير بالرأي.

(٣) هذا شروع في جواب المصنف عن الوجوه الخمسة المذكورة.

(٤) أي : الدليل على اختصاص فهم ومعرفته بأهله قد دل على اختصاص فهم القرآن بتمامه بأهله ومن خوطب به.

وحاصل الكلام في المقام : أنه قد أجاب المصنف عن الدعوى الأولى بوجوه :

الوجه الأول : ما أشار إليه بقوله : «فإنما المراد مما دل ...» الخ.

توضيح ذلك : أن المراد من الأخبار الدالة على اختصاص فهم القرآن بأهله هو فهم مجموعة من حيث المجموع ، من متشابهه ومحكمه وناسخه ومنسوخه وعامه وخاصه وظاهره وباطنه وتأويله وتفسيره ، وأنه نزل في ليل أو نهار في سهل أو في جبل ، إلى غير ذلك من الخصوصيات ؛ لا فهم كل آية آية لوضوح : أن في القرآن ما لا يختص علمه وفهمه بهم «عليهم‌السلام» ، وهو ما يكون صريحا في معناه كقوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ...)(١) فإنها صريحة في التحريم.

(٥) أي : أن في القرآن آيات لا يختص فهمها بأهله. هذا خلاصة الكلام في الوجه الأول.

وأما الوجه الثاني : فقد أشار إليه بقوله : «وردع أبي حنيفة ...» الخ.

__________________

(١) المائدة : ٣.

١٨٠