دروس في الكفاية - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٧

المسائل إنما هو الملاك في أنها (١) من المباحث أو من غيره (٢) ، لا ما هو لازمه (٣) كما هو واضح.

وكيف كان (٤) ؛ فالمحكي عن السيد والقاضي وابن زهرة والطبرسي وابن إدريس :

______________________________________________________

(١) أي : في أن المسائل من المباحث.

(٢) عطف على المباحث ، والضمير في «غيره» راجع على المباحث ، فالصواب تأنيثه كما في بعض النسخ ، والواو في «والمبحوث عنه» للحال يعني : أن الملاك في عد قضية من مسائل علم كون محمولها ـ وهو المبحوث عنه فيها أولا وبالذات من عوارض موضوع ذلك العلم ، فلا يكفي في عدها من مسائله كون لازم المبحوث عنه فيها من عوارضه ، كالتعبد بثبوت السنة ـ الذي هو لازم السنة ـ بحجية الخبر التي هي محمول مسألة حجية الخبر.

(٣) أي : لازم المبحوث عنه ، والمراد باللازم هناك : ثبوت السنة.

وكيف كان ؛ فالأنسب سوق العبارة هكذا : «مع أنه لازم لحجية الخبر المبحوث عنها ، والملاك في أن القضية من مسائل العلم هو كون المحمول نفس المبحوث عنه لا ما هو لازمه» ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٤١٤» مع تصرف منا.

(٤) أي : سواء كان موضوع علم الأصول هو الكلي ـ على ما هو مختار المصنف ـ أم خصوص الأدلة الأربعة بما هي أدلة ؛ كما هو المشهور ، فقد وقع الخلاف في حجية خبر الواحد ، «فالمحكي عن السيد» المرتضى ، «والقاضي» ابن البراج ، «وابن زهرة ، والطبرسي ، وابن إدريس» ، وبعض آخر أي : فالمحكي عن هؤلاء «عدم حجية الخبر ، واستدل لهم» بالأدلة الثلاثة وهي الكتاب والسنة والإجماع.

وأما الكتاب : فقد استدل بالآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم كقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١) ، وقوله تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(٢) ، وغير ذلك من الآيات الدالة على ذم اتباع الظن وعدم الاعتماد عليه.

وأما السنة : فهناك أخبار كثيرة تدل على المنع من العمل بالخبر غير معلوم الصدور ، ورد ما لم يعلم أنه من قولهم «عليهم‌السلام» إليهم.

والروايات المانعة عن العمل بغير العلم على طوائف :

__________________

(١) الإسراء : ٣٦.

(٢) النجم : ٢٨.

٢٦١

عدم حجية الخبر واستدل لهم بالآيات الناهية عن اتباع غير العلم ، والروايات الدالة على ردّ ما لم يعلم أنه قولهم «عليهم‌السلام» ، أو لم يكن عليه شاهد من كتاب الله أو شاهدان ، أو لم يكن موافقا للقرآن إليهم ، أو على بطلان ما لا يصدقه كتاب الله ،

______________________________________________________

ونكتفي بذكر رواية واحدة من كل طائفة :

١ ـ الرواية الدالة على رد ما لم يعلم أنه قولهم «عليهم‌السلام» ، مثل : ما رواه في بصائر الدرجات عن محمد بن عيسى قال : «أقرأني داود بن فرقد الفارسي كتابه إلى أبي الحسن الثالث «عليه‌السلام» وجوابه بخطه «عليه‌السلام» ، فقال : نسألك عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك قد اختلفوا علينا فيه ، فكيف العمل به على اختلافه؟ فكتب «عليه‌السلام» بخطه وقرأته : «ما علمتم أنه قولنا فألزموه ، وما لم تعلموه فردوه إلينا» (١).

٢ ـ الرواية الدالة على رد ما «لم يكن عليه شاهد من كتاب الله (٢) أو شاهدان».

مثل ما رواه في الوسائل مسندا عن أبي جعفر «عليه‌السلام» في حديث قال : «إذا جاءكم حديث عنا فوجدتم عليه شاهدا أو شاهدين من كتاب الله فخذوا به ، وإلا فقفوا عنده ثم ردوه إلينا حتى يستبين لكم» (٣).

٣ ـ الرواية الدالة على رد ما «لم يكن موافقا للقرآن إليهم» ، مثل : قول أبي جعفر «عليه‌السلام» : «انظروا أمرنا وو ما جاءكم عنا فإن وجدتموه موافقا للقرآن فخذوا به ، وإن لم تجدوه موافقا فردوه ، وإن اشتبه الأمر عندكم فقفوا عنده وردوه إلينا حتى نشرح من ذلك ما شرح لنا» (٤).

٤ ـ الرواية الدالة «على بطلان ما لا يصدقه كتاب الله» مثل : قول الإمام الصادق «عليه‌السلام» : «ما جاءكم من حديث لا يصدقه كتاب الله فهو باطل» (٥).

٥ ـ الرواية الدالة «على أن ما لا يوافق كتاب الله زخرف» ، كقول الصادق «عليه‌السلام» : «كل شيء مردود إلى كتاب الله والسنة ، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف» (٦).

__________________

(١) بصائر الدرجات ٥٤٤ / ٢٦.

(٢) المحاسن ١ : ٢٣٥ / ١٤٥ ، بحار الأنوار ٢ : ٢٤٣ / ٤٣.

(٣) الكافي ٢ : ٢٢٢ / ٤ ، بحار الأنوار ٧٢ : ٧٣ / ٢١.

(٤) أمالي الطوسي : ٢٣١ / ذيل ح ٤١٠ ، بحار الأنوار ٢ : ٢٣٩ / ذيل ح ٢١.

(٥) المحاسن ١ : ٢٢١ / ٢٢٩ ، بحار الأنوار ٢ : ٢٤٢ / ٣٨.

(٦) المحاسن ١ : ٢٢٠ / ٢٢٨ ، بحار الأنوار ٢ : ٢٤٢ / ٣٧.

٢٦٢

أو على أن ما لا يوافق كتاب الله زخرف ، أو على النهي عن قبول حديث إلا ما وافق الكتاب أو السنة ، إلى غير ذلك (١).

والإجماع المحكي عن السيد (٢) في مواضع من كلامه ، بل (٣) حكي عنه : أنه جعله

______________________________________________________

٦ ـ الرواية الدالة «على النهي عن قبول حديث إلا ما وافق الكتاب أو السنة» ، مثل صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» : «لا تقبلوا علينا حديثا إلا ما وافق الكتاب والسنة ، أو تجدون معه شاهدا من أحاديثنا المتقدمة ، فإن المغيرة بن سعيد «لعنه الله» دس في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها ، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا وسنة نبينا» (١).

(١) كالأخبار الآمرة بطرح ما خالف كتاب الله وسنة نبيه ، والأخبار بهذا المضمون كثيرة جدا.

وحاصل الكلام في المقام : أن هذه الروايات بألسنتها المتشتتة تنفي اعتبار خبر الواحد المجرد عن أحد القيود المزبورة فيها من وجود شاهد أو شاهدين من كتاب الله أو غيرهما ، فإن الرد كناية عن عدم الحجية.

قال الشيخ الأنصاري في تقريب الاستدلال بالروايات المتقدمة : ـ «والمراد من المخالفة للكتاب في تلك الأخبار الناهية عن الأخذ بمخالفة الكتاب والسنة ليس هي المخالفة على وجه التباين الكلي ؛ بحيث يتعذر أو يتعسر الجمع ؛ إذ لا يصدر من الكذابين عليهم «عليهم‌السلام» ما يباين الكتاب والسنة كلية ؛ إذ لا يصدقهم أحد في ذلك ، فما كان يصدر عن الكذابين من الكذب لم يكن إلا نظير ما كان يرد من الأئمة «عليهم‌السلام» في مخالفة ظواهر الكتاب والسنة». راجع «دروس في الرسائل ، ج ١ ، ص ٤٤٥».

(٢) أما الإجماع فقد ادعاه السيد المرتضى «قدس‌سره» في مواضع من كلامه حيث قال : على ما حكي عنه : إن أصحابنا لا يعملون بخبر الواحد ـ إلى أن قال ـ إن علماء الشيعة الإمامية يذهبون إلى إن أخبار الآحاد لا يجوز العمل بها في الشريعة ، ولا التعويل عليها ، وأنها ليست بحجة ؛ بل جعل العمل بخبر الواحد بمنزلة العمل بالقياس ، حيث يكون ترك العمل به معروفا من مذهب الإمامية ؛ كمعروفية ترك العمل بالقياس عندهم (٢).

(٣) إضراب عن حكاية الإجماع ، والغرض جعل بطلان العمل بخبر الواحد فوق كونه إجماعيا ؛ بل من المسلمات.

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال ٢ : ٤٨٩ / ٤٠١ ، بحار الأنوار ٢ : ٢٤٩ / ٦٢.

(٢) انظر جواب المسائل التبانيات : رسائل المرتضى ١ : ٤٤ ، أيضا حكاه في معالم الدين ، ١٩٤.

٢٦٣

بمنزلة القياس ، في كون تركه معروفا من مذهب الشيعة.

والجواب : أما عن الآيات (١) : فبأن الظاهر منها أو المتيقن من إطلاقاتها هو : اتباع غير العلم في الأصول الاعتقادية ؛ لا ما يعم الفروع الشرعية. ولو سلّم عمومها لها ؛ فهي مخصصة بالأدلة الآتية على اعتبار الأخبار.

وأما عن الروايات (٢) : فبأن الاستدلال بها خال عن السداد ، فإنها أخبار آحاد.

______________________________________________________

(١) قد أجاب المصنف «قدس‌سره» عن الاستدلال بالأدلة الثلاثة : وأما عن الاستدلال بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم : فقد أجاب بوجوه ثلاثة :

الأول : ما أشار إليه بقوله : «فبأن الظاهر». الثاني : ما أشار إليه بقوله : «أو المتيقن من إطلاقاتها». والثالث : ما أشار إليه بقوله : «ولو سلم عمومها».

أما الوجه الأول : فحاصله : أن ظاهر الآيات الناهية بقرينة المورد هو اختصاص النهي عن اتباع غير العلم بأصول الدين والأمور الاعتقادية ، فإن قوله تعالى ـ في مقام ذمّ الكفار : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) ـ ورد عقيب قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى * وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ)(١) إلى قوله تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(٢). هذا تمام الكلام في الوجه الأول من الوجوه الثلاثة.

وأما الوجه الثاني : فحاصله : أن المورد إن لم يكن قرينة موجبة لظهور الآيات في الاختصاص بأصول الدين ؛ فلا أقل من كونه موجبا لإجمالها من باب احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ، فلا بد حينئذ : من الأخذ بالقدر المتيقن من إطلاقها ، وهو خصوص أصول الدين ، فالآيات الناهية أجنبية عن محل الكلام ، وهو حجية الظن في الأحكام الفرعية.

وأما الوجه الثالث : فحاصله : أنه ـ بعد تسليم عمومها للفروع ، وبعد عدم كون موردها أعني : أصول الدين قرينة موجبة لظهورها في الاختصاص بأصول الدين ، ولا موجبة لإجمالها ـ يمكن أن يقال : إنّ ما دلّ على حجّية خبر الواحد أخص من تلك الآيات فيخصص به عموم الآيات ، فيخرج خبر الواحد في الفروع عن عموم الآيات الناهية بالتخصيص ، ولازم ذلك : عدم حجية خبر الواحد في أصول الدين بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم.

(٢) قد أجاب المصنف عن الاستدلال بالروايات بوجوه :

__________________

(١) النجم : ٢٧ وجزء من ٢٨.

(٢) النجم : ٢٨.

٢٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الأول : أنها أخبار آحاد ، فالاستدلال بها على عدم حجية أخبار الآحاد ليس إلا من باب المصادرة بالمطلوب ، وهو جعل نفس المدعى دليلا.

الثاني : أن الاستدلال بها بعد فرض كونها أخبار الآحاد مستلزم للمحال ، وهو الاستدلال بهذه الروايات على عدم حجية أخبار الآحاد يستلزم عدم حجية نفسها ، فيلزم من وجودها عدمها ، وما يلزم من وجوده عدمه محال وباطل.

الثالث : أن هذه الأخبار ليست حجة ، لا عند المثبتين ولا عند النافين. وأما عدم حجيتها عند المثبتين فلأنهم يرون حجية أخبار الآحاد ، فلا بد لهم من القول بعدم حجية أخبار الآحاد الدالة على عدم حجية أخبار الآحاد.

وأما عدم حجيتها عند القائلين بعدم حجية أخبار الآحاد : فواضح ؛ لأنهم لا يقولون بحجية أخبار الآحاد ، فكيف يستدلون بها على عدم حجية أخبار الآحاد؟

الرابع : أن الأخبار المذكورة على اختلاف مضامينها «هي بين ما لا يقبل التخصيص» ، مثل : قول المعصوم «عليه‌السلام» : «ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف» ، أو «كل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف» ، أو «ما جاءكم من حديث لا يصدقه كتاب الله فهو باطل» ، أو «ما جاءكم عني يخالف كتاب الله فلم أقله». «وبين ما يقبل التخصيص» ، مثل : قوله «عليه‌السلام» : «وما لم تعلموه فردوه إلينا» ، أو «إذا جاءكم عنا حديث فوجدتم عليه شاهدا أو شاهدين من كتاب الله فخذوا به ؛ وإلا فقفوا عنده حتى يتبين لكم» ، أو «لا تقبلوا علينا حديثا إلا ما وافق الكتاب والسنة».

إذا عرفت كون الأخبار المذكورة على طائفتين فاعلم : أن الطائفة الأولى يجب حملها على ما خالف نص الكتاب ؛ إذ قد علم بصدور كثير من الأخبار المخالفة لظواهر الكتاب عن الأئمة «عليهم‌السلام».

وأما الطائفة الثانية القابلة للتخصيص : فهي محمولة على خبر غير الثقة المأمون عن الكذب ، جمعا بين هذه الطائفة من الأخبار ، وبين ما سيأتي من الأخبار المتواترة الدالة على حجية قول الثقة المأمون عن الكذب ، من غير تقييد فيها بشيء مع ورودها في مقام البيان فانتظر.

وأن اعتبار العلم بأنه قولهم «عليهم‌السلام» ، أو اعتبار موافقة الكتاب والسنة إنما هو في ظرف عدم كون الراوي ثقة مأمونا على الدين والدنيا ؛ كزرارة ومحمد بن مسلم.

٢٦٥

لا يقال (١) : إنها وإن لم تكن متواترة لفظا ولا معنى ؛ إلا إنها متواترة إجمالا ؛ للعلم الإجمالي بصدور بعضها لا محالة.

______________________________________________________

(١) المقصود من هذا الإشكال هو : الرد على ما ادعاه المصنف من عدم جواز الاستدلال النافين بالأخبار المذكورة ، المانعة عن العمل بأخبار الآحاد ، نظرا إلى كونها أخبار آحاد.

وحاصل الرد : أن مجموع تلك الروايات ؛ وإن لم تكن متواترة لفظا ولا معنى لعدم تطابقها على لفظ ولا على معنى ، ولكنها متواترة إجمالا بمعنى : حصول العلم بصدور بعض هذه الأخبار من المعصوم «عليه‌السلام».

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : الفرق بين أقسام التواتر.

وحاصل الفرق :

أن التواتر اللفظي : عبارة عن إخبار جماعة بلفظ واحد عن واقعة واحدة يوجب حصول العلم مثل قول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : «إنما الأعمال بالنيات».

التواتر المعنوي : عبارة عن إخبار جماعة بألفاظ مختلفة ، مع اشتمال كل منها على معنى مشترك بينها ، سواء كان ذلك المعنى المشترك مدلولا عليه بالدلالة المطابقية كالإخبار بأن «الهرة طاهرة» ، أو «أنها نظيفة» ، أو «السنور نظيف» ، وهكذا حيث إن المتواتر في كل قضية هو معناها المطابقي أعني : طهارة الهرة.

أم بالدلالة الالتزامية كالأخبار الواردة في غزوات مولانا أمير المؤمنين «عليه‌السلام» وحروبه ، فإن كل واحد من تلك الحكايات خبر واحد ؛ لكن اللازم المترتب على مجموعها وهي شجاعته «عليه‌السلام» متواتر بالتواتر المعنوي.

التواتر الإجمالي : عبارة عن العلم بصدور بعض الروايات عن المعصوم «عليه‌السلام» ، واستحالة أن يكون كلها كاذبة عادة ، والضابط في التواتر الإجمالي : أن يؤخذ بأخص الأخبار التي يقطع بصدور البعض في جملتها ليتوافق عليه الكل.

فالمتحصل : أن التواتر الإجمالي هو صدور جملة من الأخبار ، مع اختلافها عموما وخصوصا ، والعلم إجمالا بصدور بعضها.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الأخبار المتقدمة وإن لم ينطبق عليها حد التواتر اللفظي ولا المعنوي ؛ ولكن تندرج في المتواتر الإجمالي للعلم بصدور بعضها ، فيثبت بمجموعها ما هو الجامع بين الكل ، وهو ما هو أخص مضمونا ؛ كعنوان المخالف للكتاب الذي تضمنه جميع الطوائف المتقدمة ، فليست تلك الأخبار بالنسبة إلى هذا القدر

٢٦٦

فإنه يقال : إنها وإن كانت كذلك (١) ؛ إلا إنها لا تفيد إلا فيما توافقت عليه ، وهو

______________________________________________________

الجامع أخبارا آحادا ، حتى يتجه إشكال إثبات عدم حجية خبر الواحد بخبر الواحد ، وعليه : فالمقام ليس من قبيل إنكار حجية خبر الواحد بخبر الواحد ؛ بل من باب إنكار حجية ما لا يفيد إلا الظن بما يفيد العلم.

قوله : «للعلم الإجمالي» تعليل لقوله : «أنها متواترة إجمالا».

(١) أي : متواترة إجمالا.

توضيح ما أفاده المصنف في الجواب عن استدلال المنكرين لحجية خبر الواحد يتوقف على مقدمة ، وهي : أن مقصود المنكرين تارة : يمكن على نحو السلب الكلي أي : ليس شيء من خبر الواحد بحجة ، وأخرى : يمكن على نحو السلب الجزئي أي : بعض خبر الواحد ليس بحجة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن مقصود المنكرين هو إثبات السلب الكلي لا السلب الجزئي ، فحينئذ يقال : إن إشكال كونها أخبارا آحادا وإن كان مندفعا يعني : ليس الاستدلال بها على عدم حجية خبر الواحد من الاستدلال بأخبار الآحاد حتى يقال بأنه لا يجوز الاستدلال بأخبار الآحاد على عدم حجية خبر الواحد ؛ إلا إنها لا تفيد المنع عن حجية مطلق خبر الواحد على نحو السلب الكلي ، كما هو مراد المنكرين فلا يثبت مراد المنكرين ؛ إذ مضمون هذه الأخبار أخص من مدعاهم ، فيكون دليلهم أخص من مدعاهم ؛ لأن مقتضى العلم الإجمالي بصدور بعضها : هو الأخذ بالمتيقن منها ، وهو أخصها مضمونا ، وهو المخالف للكتاب والسنة معا. وهذا لا يضر بمدعى المثبتين الذي هو اعتبار خبر الواحد في الجملة ، أي : بنحو الإيجاب الجزئي ، فيكفي لهم القول بحجية ما عدا المخالف للكتاب والسنة ، فالالتزام بعدم حجية خبر الواحد المخالف للكتاب والسنة ليس بضائر ؛ إذ لا منافاة بين ما دل على عدم حجية خبر الواحد على نحو السلب الجزئي ، وبين ما دل من الروايات على حجية خبر الواحد بنحو الإيجاب الجزئي.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

وضمير «عليه» راجع إلى الموصول في «فيما توافقت» المراد به الخبر المخالف للكتاب والسنة معا ؛ إذ هو الذي توافقت الأخبار المتقدمة على عدم حجيته بنحو السلب الجزئي.

«وهو غير مفيد» أي : وما توافقت الأخبار عليه غير مفيد في إثبات المدعى ، وهو عدم حجية أخبار الآحاد مطلقا ، وقد عرفت وجه عدم الفائدة ، وهو كون الدليل أخص من المدعى.

٢٦٧

غير مفيد في إثبات السلب كليا ، كما هو محل الكلام ومورد النقض والإبرام ، وإنما تفيد عدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنة ، والالتزام به (١) ليس بضائر ؛ بل لا محيص عنه (٢) في مقام المعارضة.

وأما عن الإجماع (٣) : فبأن المحصل منه غير حاصل ، والمنقول منه للاستدلال غير

______________________________________________________

«كما هو محل الكلام» ، يعني : كما أن السلب كليا محل الكلام ومورد البحث.

(١) أي : والالتزام بعدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنة ليس بضائر ؛ لما عرفت : من عدم المنافاة بين ما دل على عدم الحجية بنحو السلب الجزئي ، وبين ما دل من الروايات على الحجية بنحو الإيجاب الجزئي.

(٢) أي : لا محيص عن عدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنة عند المعارضة.

يعني : أنه لا بد للقائل بحجية خبر الواحد من الالتزام أيضا بعدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنة في صورة التعارض ؛ لما سيأتي في باب التعادل والترجيح من تسالمهم على تقديم الخبر الموافق للكتاب وطرح المخالف له ، وعليه : فطرح الخبر المخالف للكتاب عند التعارض أمر مفروغ عنه ، سواء قلنا بحجية خبر الواحد في الجملة أم لم نقل ، وقد اتضح وجه الإضراب عن قوله : «والالتزام به ليس بضائر» ، وأن وجهه تسالمهم على ذلك في باب التعارض ، فإنه مما لا محيص عنه هناك.

فالمتحصل من الجميع : أن الالتزام بالتواتر الإجمالي في الأخبار المشار إليها ، الدالة على عدم حجية خبر الواحد غير قادح بحجيته في الجملة.

(٣) وقد أجاب عن دعوى الإجماع على عدم حجية خبر الواحد بوجوه :

الوجه الأول : ما أشار إليه بقوله : «فبأن المحصل ...» الخ.

وحاصل الكلام في هذا الوجه : أن الإجماع المدعى إما محصل وإما منقول.

أما المحصل : فغير حاصل ، لوجهين : الأول : أنه يمتنع تحصيل الإجماع مع مخالفة جمع من الأساطين.

الثاني : أنه بعد فرض تحقق الإجماع لا يمكن الاستناد إليه ؛ لاحتمال استناد المجمعين إلى الوجوه المتقدمة المستدل بها على عدم حجية خبر الواحد ؛ إذ الإجماع حينئذ يصير مدركيا ولو احتمالا ، والإجماع المدركي لا يكون حجة.

وأما الإجماع المنقول : فلا يصلح للاستدلال به في شيء من المقامات لعدم حجيته رأسا هذا تمام الكلام في الوجه الأول.

الوجه الثاني : ما أشار إليه بقوله : «خصوصا في المسألة» ، وهذا إشكال على خصوص

٢٦٨

قابل ، خصوصا في المسألة ، كما يظهر وجهه (١) للمتأمل. مع أنه (٢) معارض بمثله ، وموهون بذهاب المشهور إلى خلافه.

وقد استدل للمشهور بالأدلة الأربعة :

______________________________________________________

الإجماع المنقول ، بتقريب أنه لا يمكن الالتزام بحجيته في خصوص المقام لو سلمنا حجيته في بعض المقامات ؛ وذلك للزوم المحال على كلا تقديري حجية خبر الواحد وعدم حجيته.

أما على تقدير عدم حجية خبر الواحد : فواضح ؛ لأن هذا الإجماع المنقول به أيضا من أفراده ، فلا يكون حجة ؛ إذ البناء على عدم حجية خبر الواحد معناه الالتزام بعدم حجية الإجماع المنقول به أيضا ، فكيف يثبت هو عدم حجية خبر الواحد؟!

وبعبارة أخرى : إثبات عدم حجية خبر الواحد بالإجماع المنقول به ـ على هذا التقدير ـ تحصيل للحاصل وهو محال.

وأما على تقدير حجية خبر الواحد : فلأنه يلزم حينئذ حجية الإجماع المنقول ؛ لكونه من أفراد خبر الواحد ، فيثبت بحجيته حجية كل خبر واحد ومنه نفس هذا الإجماع ، فالتمسك به ـ على هذا التقدير ـ مبطل لنفسه وهو محال أيضا.

والمتحصل : أن التمسك بالإجماع المنقول بالخبر الواحد لإثبات عدم حجية خبر الواحد باطل على كل تقدير ؛ لأنه مبطل لنفسه.

(١) أي : وجه عدم قابلية الإجماع للاستدلال به في خصوص المسألة ، كما عرفت.

(٢) أي : مع أن الإجماع الذي ادعاه السيد وغيره معارض بمثله ، وهذا هو وجه الثالث من وجوه الجواب عن الإجماع ، بتقريب : وهن هذا الإجماع بسبب معارضته بالإجماع الذي نقله الشيخ وجماعة على حجية خبر الواحد ، فلو كان الإجماع المنقول حجة في نفسه لم يكن حجة في المقام لأجل المعارضة كما لا يخفى.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ تحرير محل النزاع وهو يتوقف على أمور :

الأول : بيان ما هو المراد من خبر الواحد.

الثاني : المقصود حجية خبر الواحد بنحو الموجبة الجزئية ؛ لا الموجبة الكلية.

الثالث : بيان كيفية إدراج مسألة خبر الواحد في مسائل علم الأصول.

وأما الأمر الثاني : فلا يحتاج إلى البيان.

٢٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وأما المراد من خبر الواحد : فهو ما يكون مقابلا للمتواتر.

وأما كيفية إدراج مسألة خبر الواحد في علم الأصول : فهو واضح على ما هو مختار المصنف ، من عدم حصر موضوع علم الأصول في الأدلة الأربعة.

٢ ـ الأقوال في موضوع علم الأصول ثلاثة :

الأول : هو خصوص الأدلة الأربعة بما هي أدلة ، كما هو المشهور.

الثاني : هي ذوات الأدلة الأربعة ، كما عليه صاحب الفصول.

الثالث : هو الكلي المنطبق على موضوعات مسائله ، كما هو مختار المصنف «قدس‌سره» ، فلا يرد عليه ما يرد على القولين.

فهناك إشكال مشترك بين القولين ، وإشكال خاصّ على قول المشهور ، وهو أن وصف الدليلية جزء الموضوع ، فيكون البحث عنه داخلا في المبادئ لا في المسائل.

وأما الإشكال المشترك بينهما : فلأن البحث عن دليلية خبر الواحد على قول المشهور ، وعن حجيته على قول صاحب الفصول بحث في الحقيقة عن أحوال حاكي السنة ؛ لا عن أحوالها ، فلا يكون البحث عن حجية خبر الواحد من المسائل الأصولية على كلا القولين.

وأما على قول المصنف : فيكون البحث عن حجية خبر الواحد من المسائل الأصولية كما عرفت.

٣ ـ جواب الشيخ الأنصاري عن الإشكال الثاني على المشهور غير مفيد في دفع الإشكال المذكور عن المشهور.

فلا بد أولا : من بيان جواب الشيخ عن الإشكال المذكور وثانيا : بيان ما يرد على جواب الأنصاري «قدس‌سره».

وخلاصة جواب الشيخ «قدس‌سره» : إن البحث عن حجية خبر الواحد بحث عن عوارض السنة ؛ لأن معنى قولنا : «هل خبر الواحد حجة أم لا؟» هو «هل تثبت السنة به أم لا؟». ومن المعلوم : أن ثبوت السنة به وعدم ثبوتها من حالات السنة وعوارضها ، فيكون البحث عن حجية خبر الواحد من المسائل الأصولية ، فلا يلزم خروج مسألة خبر الواحد من المسائل الأصولية.

وأما خلاصة الإيراد عليه : فلأن ضابط المسألة الأصولية هو : ما يكون محمول المسألة من عوارض موضوع علم الأصول ، وموضوع علم الأصول هو السنة الواقعية ، والبحث عن حجية خبر الواحد بمعنى : ثبوت السنة هو من عوارض السنة المشكوكة ،

٢٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

فلا يكون البحث عن حجية خبر الواحد بحثا عن عوارض موضوع علم الأصول ، حتى يكون من مسائله. هذا أولا.

وثانيا : أن الملاك الذي تعد به المسألة من مسائل العلم هو : كون نفس المبحوث عنه من عوارض الموضوع ؛ لا أن يكون لازمه من العوارض ، والمقام من قبيل اللازم ، فإن المبحوث عنه هو حجية الخبر ، ومن لوازمها ثبوت السنة ، فليس ثبوت السنة بالخبر نفس المبحوث عنه ؛ بل لازمه ، فلا يكون بحث حجية خبر الواحد من المسائل الأصولية.

٤ ـ استدلال المنكرين لحجية أخبار الآحاد بالكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب : فقد استدلوا بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم ، مثل : قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) وقوله تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً).

وأما السنة : فهي طوائف من الأخبار تنفي اعتبار خبر الواحد بألسنتها المتشتتة ، مثل رد ما لم يعلم أنه من قول الأئمة «عليهم‌السلام».

ومثل رد ما لم يكن عليه شاهد أو شاهدان من كتاب الله إليهم «عليهم‌السلام».

ومثل رد ما لم يكن موافقا للقرآن إليهم «عليهم‌السلام».

ومثل ما دل على بطلان ما لم يصدقه كتاب الله.

أو ما دل على أن ما لم يوافق كتاب الله زخرف.

وأما الإجماع : فقد ادعاه السيد المرتضى ، حيث قال على ما حكي عنه : إن أصحابنا لا يعملون بخبر الواحد. إلى أن قال : بل جعل العمل بخبر الواحد بمنزلة العمل بالقياس ، حيث يكون ترك العمل به معروفا.

٥ ـ الجواب :

أما عن الآيات الناهية فبوجوه :

الأول : أن الظاهر منها بقرينة المورد هو اختصاص النهي عن العمل بغير العلم بأصول الدين لا الأحكام الفرعية.

الثاني : أن المتيقن من إطلاقها هو خصوص أصول الدين.

الثالث : أن عموم الآيات الناهية يخصص بما دل على حجية خبر الواحد ، فيخرج خبر الواحد في الفروع عن عمومها بالتخصيص ، ولازم ذلك : عدم حجية خبر الواحد في أصول الدين فقط.

٢٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

وأما الجواب عن الاستدلال بالروايات : فأيضا بوجوه :

الأول : أنها أخبار آحاد ، فالاستدلال بها على عدم حجية أخبار الآحاد ليس إلا من باب المصادرة بالمطلوب ، وهو جعل المدعى دليلا.

الثاني : الاستدلال بها على عدم حجية أخبار الآحاد مستلزم للمحال ؛ إذ الاستدلال بها على عدم حجية أخبار الآحاد يستلزم عدم حجية نفسها ، فيلزم من وجودها عدمها ، وما يلزم من وجوده عدمه محال.

الثالث : أن ما لا يقبل التخصيص منها يحمل على ما يكون مخالفا لنص الكتاب ، وما يقبل التخصيص منها يحمل على خبر غير الثقة المأمون عن الكذب.

٦ ـ وما يقال : من أن الاستدلال بالأخبار المذكورة ليس من الاستدلال بأخبار الآحاد على عدم حجية أخبار الآحاد ؛ بل من الاستدلال بالأخبار المتواترة ؛ لأنها متواترة إجمالا ، بمعنى : حصول العلم بصدور بعضها من المعصوم «عليه‌السلام» ؛ مدفوع بأن كونها متواترة إجمالا لا يفي بما هو مقصود المنكرين من السلب الكلي أعني : «لا شيء من خبر الواحد بحجة» ؛ بل ما يثبت بها هو السلب الجزئي أعني : «بعض خبر الواحد ليس بحجة» ، مثل خبر الواحد المخالف للكتاب مثلا.

هذا لا يضر بما هو مدعى المثبتين ، وهو اعتبار خبر الواحد بنحو الإيجاب الجزئي.

وأما الجواب عن الاستدلال بالإجماع : فالمحصل منه غير حاصل ، والمنقول منه غير مقبول ؛ لأنه لا يكون حجة.

وأما عدم حصول الإجماع المحصل : فلأجل مخالفة جمع من الأساطين ، وأما عدم حجية الإجماع المنقول : فلأن الإجماع المنقول إذا كان مدركيا لا يكون حجة ، والمقام من هذا القبيل ؛ لاحتمال استناد المجمعين إلى الوجوه المتقدمة المستدل بها على عدم حجية خبر الواحد.

هذا مضافا إلى كونه موهونا ؛ لأجل معارضته بمثله وهو الإجماع الذي نقله الشيخ وجماعة على حجية خبر الواحد.

٧ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ بحث خبر الواحد من أهم المسائل الأصولية من دون إشكال أصلا.

٢ ـ خبر الواحد حجة بنحو الموجبة الجزئية.

٢٧٢

فصل

في الآيات التي استدل بها :

فمنها : آية النبأ ، قال الله «تبارك وتعالى» : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(*). ويمكن تقريب الاستدلال بها من وجوه (١) : أظهرها : أنه من جهة مفهوم الشرط ، وأن

______________________________________________________

في آية النبأ

(١) منها : أن التبين المأمور به بقوله تعالى : (فَتَبَيَّنُوا) هو التبين العرفي المفيد للاطمئنان ؛ وإن لم يفد القطع الوجداني بالواقع ، ومن المعلوم : أن خبر العادل ـ بما أنه خبر العادل ـ مفيد للاطمئنان ، ومعه فلا يبقى موضوع لوجوب التبين عرفا بالنسبة إليه ، فكأنه قيل : «إن أخبركم من لا يفيد قوله : الاطمئنان (فَتَبَيَّنُوا)» ، فيكون مفهومه «إن أخبركم من يفيد قوله الاطمئنان ـ وهو خبر العادل ـ لم يجب التبين فيه» ، فالآية المباركة حينئذ : تكون في مقام وجوب التبين في خبر الفاسق ، لأجل تحصيل الاطمئنان بصدق خبره ، وعدم وجوبه في خبر العادل ؛ لأن الاطمئنان بصدق خبره حاصل ، فلا موضوع لوجوب التبين في خبر العادل ؛ بل هو تحصيل ما هو حاصل.

ومنها : من جهة التعليل في الآية الشريفة بخوف الوقوع في الندم ، فإنه يقتضي اعتبار خبر العادل ؛ إذ لا يترتب الندم إلا على ما لا يحسن ارتكابه عند العقلاء ، ومنه الاعتماد على خبر الفاسق بدون التبين.

وهذا بخلاف الاعتماد على خبر العادل بدونه ، فإنه ليس مما لا يحسن ارتكابه ، حتى إذا انكشف خطؤه ؛ إذ لا يزيد خبر العادل على العلم الذي يعتمد عليه العالم ، ثم ينكشف خطؤه ، فكأنه قيل : «إن أخبركم من لا يوجب الاعتماد على خبره خوف الوقوع في الندم ـ وهو العادل ـ فلا يجب التبين عنه».

ومنها : من جهة مفهوم الوصف على القول به ، بأن يقال : إن تعليق وجوب التبين على كون الخبر نبأ الجائي الفاسق يقتضي انتفاءه عند انتفاء وصف الجائي ، أعني : فسقه ،

__________________

(*) الحجرات : ٦.

٢٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

فكأنه قيل : «خبر الجائي الفاسق يجب التبين عنه» ، فيكون مفهومه : «أن خبر الجائي غير الفاسق ـ هو العادل ـ لا يجب التبين عنه».

ومنها : من جهة مفهوم الشرط. هذا ما أشار إليه بقوله : أظهرها أنه من جهة مفهوم الشرط.

وتركنا ما في الوجوه المذكورة من النقض والإبرام رعاية للاختصار في المقام.

وقبل الخوض في بيان الاستدلال بمفهوم الشرط على حجية خبر الواحد ينبغي بيان أمرين :

أحدهما : بيان شأن نزول الآية.

وثانيهما : بيان ما هو محل الكلام في مفهوم الشرط.

وأما الأمر الأول : ففي مجمع البيان قال الطبرسي فيه : نزلت الآية في الوليد بن عقبة ، بعثه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» في جباية صدقات بني المصطلق ، فخرجوا يتلقونه فرحا به ـ وكانت بينه وبينهم عداوة في الجاهلية ـ فظن أنهم هموا بقتله ، فرجع إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» وقال : إنهم منعوا صدقاتهم ـ وكان الأمر بخلافه ـ فغضب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» وهمّ أن يغزوهم ، فنزلت الآية. ثم ذكر قولا آخر في شأن نزولها (١).

وأما الأمر الثاني ـ وهو بيان محل الكلام في مفهوم الشرط ـ فيتوقف على مقدمة وهي : بيان ضابط به يتميز ما يكون الشرط محققا للموضوع عما يكون من حالاته وأوصافه. وحاصله : أن القضايا الشرطية ـ مثل قولك : إن جاءك زيد فأكرمه ، يشتمل على موضوع وهو : زيد ، وشرط وهو : المجيء ، وجزاء وهو : «أكرمه».

ثم الفرق بين الشرط المسوق لبيان تحقق الموضوع ، وبين الشرط الذي يكون من أوصافه وحالاته هو أن الموضوع لو كان باقيا مع عدم الشرط وانتفائه ـ مثل : زيد في المثال المزبور ـ فالشرط يعد من حالات الموضوع وأوصافه ، فهذه القضية الشرطية تعد من القضايا ذات المفهوم عند القائل بدلالتها عليه.

وأما إذا كان الموضوع غير باق لدى ارتفاع الشرط كما في قولك : «إن رزقت ولدا فاختنه» ، فإن رزق الولد ليس شيئا زائدا وراء وجود الولد ، فينعدم الولد بانعدامه ، فالشرط

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ٢٣٠.

٢٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

حينئذ : يعد محققا للموضوع ، فلا مفهوم للقضية الشرطية ؛ لأن مفهومها قضية سالبة بانتفاء الموضوع.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن محل الكلام هي القضية الشرطية التي ليست مسوقة لبيان الموضوع.

وبعبارة أخرى : أن محل الكلام ما إذا كان تعليق الحكم على الشرط ـ في القضية الشرطية ـ شرعيا لا عقليا ، كقوله : «إن رزقت ولدا فاختنه».

وكيف كان ؛ فتقريب الاستدلال بآية النبأ على حجية خبر الواحد من طريق مفهوم الشرط يتوقف على مقدمة وهي : بيان بعض الوجوه والاحتمالات في تقرير مفهوم الشرط في الآية الكريمة في مقام الثبوت.

الأول : أن يكون الموضوع هو النبأ المفروض وجوده على نحو القضية الحقيقية ، كما هو ظاهر كلام المصنف حيث قال : «وإن تعليق الحكم بإيجاب التبين عن النبأ الذي جيء به على كون الجائي به الفاسق» ، فالموضوع هو النبأ الذي جيء به ، والشرط مجيء الفاسق به ، والجزاء وجوب التبين.

فيكون المعنى : النبأ المفروض وجوده «إن جاء به الفاسق فيتبين عنه». ومفهومه : «إن لم يجئ به الفاسق فلا يتبين عنه» ، فالمفهوم يصدق على خبر العادل ؛ لأنه خبر لم يجئ به الفاسق ، فيجب العمل به من دون التبين عنه وهو المطلوب.

وبعبارة أخرى : إن الموضوع هو النبأ ، وله حالتان :

إحداهما : كون الجائي به فاسقا.

والأخرى : عدم كون الجائي به فاسقا.

ووجوب التبين حيث علق على إتيان الفاسق به ينتفي بانتفائه ، فتكون القضية الشرطية ذات مفهوم ؛ لكون تعليق الحكم على الشرط شرعيا لا عقليا.

الثاني : أن يكون الموضوع هو «الجائي بالنبإ» ، فكأنه قيل : «الجائي بالنبإ إن كان فاسقا وجب التبين عن خبره» ، ومفهومه : «إن لم يكن فاسقا فلا يجب التبين عنه».

الثالث : أن يكون الموضوع هو : «نبأ الفاسق» كما هو المشهور ، فكأنه قيل : «إن جاءكم نبأ الفاسق فتبينوا» ، ومفهومه : «إن لم يجئكم نبأ الفاسق فلا تبينوا» ، ثم مجيء الخبر عبارة أخرى عن الإخبار لا أنه شيء آخر غير النبأ ، فمعنى الآية الشريفة حينئذ : «إن أخبركم فاسق فتبينوا» ، ومفهومه : «إن لم يخبركم فاسق فلا تبينوا».

٢٧٥

تعليق الحكم بإيجاب التبين عن النبأ الذي جيء به على كون الجائي به الفاسق ، يقتضي انتفاءه عند انتفائه.

ولا يخفى : أنه على هذا التقرير لا يرد (١) : أن الشرط في القضية لبيان تحقق

______________________________________________________

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه لا مفهوم للشرط على الاحتمال الثالث ؛ لأن القضية الشرطية ـ على هذا الاحتمال ـ مسوقة لبيان تحقق الموضوع ، فيكون انتفاء وجوب التبين لأجل انتفاء موضوعه وهو مجيء الفاسق بنبإ. هذا تمام الكلام في مقام الثبوت.

وأما في مقام الإثبات : فالظاهر من هذه الاحتمالات : هو الاحتمال الثالث ـ وهو الاحتمال الأخير ـ وذلك لأن وقوع مجيء الفاسق موقع الفرض والتقدير فهو المعلق عليه لوقوعه تلو أداة الشرط.

وعليه : فتكون القضية الشرطية مسوقة لبيان تحقق الموضوع ، نظير «إن ركب الأمير فخذ ركابه» ، و «إن أعطاك زيد درهما فتصدق به».

وأما على الاحتمال الأول ـ وهو مختار المصنف ـ فالقضية الشرطية ذات مفهوم ، ولا يرد عليه ما قيل من أن الشرط في القضية لبيان تحقق الموضوع فلا مفهوم له ، أو مفهومه السالبة بانتفاء الموضوع.

(١) وجه عدم الورود : إن الموضوع ـ بناء على هذا التقرير ـ هو النبأ بما هو نبأ ، وهو باق بعد انتفاء الشرط وهو مجيء الفاسق ؛ لا إنه النبأ الذي جاء به الفاسق حتى يكون الشرط ـ أعني : مجيء الفاسق ـ جزء الموضوع ومحققا له لينتفي الموضوع بانتفائه ، ولا يثبت له مفهوم ، أو يكون مفهومه قضية سالبة بانتفاء الموضوع. كما أشار إليه بقوله : «فلا مفهوم له أو مفهومه السالبة بانتفاء الموضوع» ، يعني : بعد أن كان الشرط مسوقا لبيان الموضوع ، فلا يبقى للآية دلالة على المفهوم ؛ لأن المفهوم عبارة عن نفي المحمول ـ هو الحكم ـ عن الموضوع المذكور في القضية إذا لم يتحقق الشرط مثلا ، كنفي وجوب الإكرام عن زيد عند عدم تحقق الشرط ـ وهو المجيء ـ في قولنا : «إن جاء زيد وجب إكرامه» ، الراجع على قولنا : «زيد واجب الإكرام إن جاء» ، فإن مفهومه «زيد غير واجب الإكرام إن لم يجئ».

وعلى هذا : فالآية المباركة لا تدل على المفهوم ؛ لأن الموضوع فيها خصوص نبأ الفاسق على الاحتمال الثالث ـ وهو منتف ـ لا طبيعة النبأ حتى يكون باقيا لتدل القضية الشرطية على المفهوم كما هو مختار المصنف.

٢٧٦

الموضوع ، فلا مفهوم له أو مفهومه السالبة بانتفاء الموضوع. فافهم (١).

نعم (٢) ؛ لو كان الشرط هو نفس تحقق النبأ ومجيء الفاسق به : كانت (٣) القضية الشرطية مسوقة لبيان تحقق الموضوع.

مع أنه يمكن أن يقال : إن القضية ولو كانت مسوقة (٤) لذلك ؛ إلا إنها ظاهرة في انحصار موضوع وجوب التبين في النبأ الذي جاء به الفاسق ، فيقتضي (٥) انتفاء

______________________________________________________

(١) لعله إشارة إلى أنه لو فرض كون الشرط مسوقا لتحقق الموضوع تعين أن لا يكون له مفهوم ؛ لا الترديد بينه وبين أن يكون له مفهوم ، وهو قضية سالبة بانتفاء الموضوع ؛ لعدم انطباق ضابط المفهوم على السالبة بانتفاء الموضوع كما عرفت.

(٢) استدراك على قوله : «لا يرد». وحاصله : ـ على في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٤٤٤» ـ أنه بناء على كون شرط وجوب التبين مؤلفا من النبأ ومجيء الفاسق به ـ كما عليه شيخنا الأعظم ـ يرد إشكال كون القضية مسوقة لبيان تحقق الموضوع ، وأن مفهومه سالبة بانتفاء الموضوع ، فلا يصلح للاستدلال بمفهومه على حجية خبر العادل ؛ لأنه نظير : «إن رزقت ولدا فاختنه» حيث إن عدم وجوب الختان لأجل عدم موضوعه ـ وهو الولد ـ فبناء على تقرير الشيخ «قدس‌سره» من تركب موضوع وجوب التبين من النبأ ، ومجيء الفاسق به يكون الموضوع النبأ الذي جاء به الفاسق ؛ لا مطلق النبأ حتى لا يجب التبين فيما إذا جاء به العادل ، فإذا انتفى أحد جزأي الموضوع ـ وهو مجيء الفاسق به ـ انتفى الموضوع رأسا ، فلا ينعقد للقضية مفهوم ؛ لأنها حينئذ : من باب السالبة بانتفاء الموضوع ؛ لانتفاء المركب بانتفاء أحد جزءيه ، فعدم وجوب التبين يكون لعدم بقاء موضوعه.

(٣) جواب «لو كان».

(٤) يعني : مسوقة لبيان تحقق الموضوع. كما يقول الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» ؛ «إلا إنها» مع ذلك تفيد حجية خبر العادل بالمفهوم ، فالغرض من هذا الكلام : إثبات المطلوب ـ أعني : حجية خبر العادل ـ حتى بناء على كون الشرط محققا للموضوع ، بأن يقال : إن الشرط في القضية المسوقة لتحقق الموضوع يستفاد منه التعليق والانحصار ، وإن الموضوع المنحصر لوجوب التبين هو نبأ الفاسق ، فينتفي عند انتفائه ووجود موضوع آخر وهو نبأ العادل ، فإن القضية الشرطية في قوله تعالى : (أَنْ جاءَكُمْ) «ظاهرة في انحصار موضوع وجوب التبين في النبأ الذي جاء به الفاسق». ومعنى ذلك أنه ليس مجال للتبين إذا انتفى هذا الموضوع ، ووجود موضوع آخر الذي هو نبأ العادل.

(٥) أي : فيقتضي انحصار السبب ـ وهو الفسق ـ «انتفاء وجوب التبين عند انتفائه ...» الخ.

٢٧٧

وجوب التبين عند انتفائه ووجود موضوع آخر. فتدبر (١).

ولكنه يشكل (٢) : بأنه ليس لها هاهنا مفهوم ، ولو سلّم أن أمثالها ظاهرة في المفهوم ؛ لأن التعليل بإصابة القوم بالجهالة المشترك بين المفهوم والمنطوق يكون قرينة على أنه ليس لها مفهوم.

______________________________________________________

(١) لعله إشارة إلى أن الظاهر من القضية التي سيقت لبيان تحقق الموضوع هو : كون الغرض بيان الموضوع فقط ، فتكون القضية الشرطية التي سيقت لبيان تحقق الموضوع حينئذ بمنزلة الجملة اللقبية في عدم دلالتها على الانحصار أصلا.

ويمكن أن يكون إشارة إلى عدم انطباق ضابط المفهوم على القضية الشرطية المسوقة لبيان تحقق الموضوع ؛ لأن المفهوم هو نقيض المنطوق ، فلا بد أن يكون الجزاء ونقيضه ثابتين لنفس الموضوع المذكور في المنطوق ، فلو كان نقيض الجزاء ثابتا لغير الموضوع المذكور في المنطوق لم يكن ذلك من المفهوم.

(٢) مجمل الكلام في الإشكال قبل التفصيل : أن المفهوم في الآية الشريفة على تقدير ثبوته وإن كان دالا على حجية خبر العادل الغير المفيد للعلم ؛ إلّا إنه معارض لعموم التعليل ـ أعني : قوله تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) ـ فإن مقتضى عموم التعليل عدم حجية الخبر ، الذي لا يؤمن من الوقوع في الندم من العمل به ولو كان المخبر عادلا ؛ لأن الجهالة بمعنى : عدم العلم بالواقع مشترك بين خبري العادل والفاسق ، ومن المعلوم : أن عموم التعليل يقدم على المفهوم ؛ لكونه أقوى منه وآبيا عن التخصيص وكونه منطوقا لا مفهوما.

وأما تفصيل الكلام فيه : فيتوقف على مقدمة وهي : أن الحكم إذا كان معللا بعلة : كان يدور مدارها وجودا وعدما ، فالعلة قد تعمم ، كما أنها قد تخصص ، ففي مثل قول الطبيب للمريض : «لا تأكل الرمان لأنه حامض» تعمم العلة ، وتشمل غير الرمان ، فلا يجوز أكل كل حامض رمانا كان أو غيره ، وتخصّص : فيخرج الرمان الحلو ، فهذه العلة كانت تخصص فيخرج الرمان الحلو ، وتعمم فيدخل الحامض من غيره.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الله تعالى قد حكم في صدر الآية المباركة بوجوب التبين في خبر الفاسق ، ثم علله باحتمال الوقوع في الندم ، وهذا التعليل يجري في خبر العادل الغير المفيد للعلم ، فيقتضي وجوب التبين فيه كخبر الفاسق ، لما عرفت من : أن الحكم يدور مدار علته سعة وضيقا ، فالحكم بوجوب التبين يجري في خبر العادل لوجود علته فيه ، فلا يكون حجة ، والمفهوم الدال على الحجية يكون معارضا مع عموم التعليل ،

٢٧٨

ولا يخفى : أن الإشكال إنما يبتني على كون الجهالة (١) بمعنى عدم العلم ، مع أن

______________________________________________________

فيقدم عموم التعليل على المفهوم ؛ لأن دلالته على عدم الحجية يكون بالمنطوق ، ومن المعلوم : أن المنطوق أقوى من المفهوم فيقدم عليه.

قوله : «لأن التعليل بإصابة القوم ...» الخ تعليل لقوله : «يشكل» ، وتقريب للإشكال ، وقد عرفت توضيح ذلك ، فلا حاجة إلى التكرار والإعادة.

(١) غرض المصنف من هذا الكلام : هو دفع الإشكال المذكور ، وإثبات المفهوم للآية ، وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن الجهالة تارة : تكون بمعنى الجهل المقابل للعلم ، وأخرى : تكون بمعنى السفاهة التي هي عبارة عن فعل ما لا ينبغي صدوره من العاقل.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن مبنى الإشكال المذكور على أن تكون الجهالة المذكورة في الآية بمعنى : عدم العلم كما هو مقتضى مادة الاشتقاق لغة كالجهل ؛ إذ يكون عدم العلم مشتركا بين خبر العادل والفاسق. وأما إذا كانت بمعنى السفاهة : فلا يرد الإشكال ؛ لاختصاص التعليل حينئذ بخبر الفاسق ؛ لأنه الذي يكون الاعتماد عليه بدون تبين عملا سفهيا ؛ لاحتمال تعمده الكذب ، وهذا بخلاف خبر العادل : فإن الاعتماد عليه لا يكون سفهيا ؛ لعدم احتمال تعمده للكذب ؛ بل نعلم بعدم تعمده له ، فالركون إليه بلا تبين لا يكون سفهيا.

وكيف كان ؛ فالجهالة في الآية وإن كانت ظاهرة بمعنى : عدم العلم ؛ لأنها من الجهل المقابل للعلم إلا إنها في الآية لم تكن بمعنى الجهل ؛ بل تكون بمعنى : السفاهة ، وهي فعل ما لا يجوز فعله عند العقلاء ، فالجهالة حقيقة عرفا في السفاهة ، ومن المعلوم : تقدم المعنى العرفي على اللغوي عند الدوران بينهما ، والشاهد على كون المراد من الجهالة السفاهة هو : قوله تعالى : (فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) ؛ لأن الوقوع في الندم إنما يكون في العمل عن سفاهة لا في العمل عن جهل ، فإن أعمال الناس يوميا يكون أكثرها عن جهل ولا ندامة فيها ، فالتعليل لا يشمل خبر العادل ؛ لأن العمل بخبره ليس عن سفاهة ، فيرتفع التعارض بين المفهوم والتعليل.

فالمتحصل : أن مرجع مفاد الآية إلى أن العمل بخبر الفاسق من دون تبين يكون من أفعال السفهاء ، فيجب التبين فيه ؛ لئلا يكون العمل به عن سفاهة ، فيكون المفهوم : أن العمل بخبر العادل لا يعد عند العقلاء عملا عن السفاهة ؛ وإن لم يتبين أصلا ، فيكون حجة من دون التبين بمقتضى المفهوم.

٢٧٩

دعوى أنها (١) بمعنى السفاهة ، وفعل ما لا ينبغي صدوره من العاقل غير بعيدة.

ثم إنه لو سلم تمامية دلالة الآية على حجية خبر العدل (٢) : ربما أشكل شمول مثلها (٣) للروايات الحاكية لقول الإمام «عليه‌السلام» بواسطة (٤) أو وسائط ، فإنه

______________________________________________________

(١) أي : مع أن دعوى أن الجهالة بمعنى السفاهة غير بعيدة.

(٢) أي : بناء على ما هو مختار المصنف «قدس‌سره» من أن موضوع وجوب التبين هو نفس النبأ ـ لا نبأ الفاسق ـ حتى يصح الاستدلال بمفهوم الشرط على حجية خبر العادل.

(٣) أي : مثل آية النبأ من أدلة حجية خبر الواحد ، وهذا إشكال آخر على الاستدلال بجميع أدلة حجية خبر الواحد ، من دون اختصاص له بآية النبأ ، وقد أشار إلى عدم اختصاص هذا الإشكال بآية النبأ بقوله : «مثلها».

(٤) إشارة إلى مورد الإشكال.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي إن الخبر على قسمين :

١ ـ بلا واسطة ، كما إذا أخبر الصفار عن الإمام العسكري «عليه‌السلام» أنه قال بوجوب نفقة الزوجة على الزوج.

٢ ـ بواسطة ، من دون فرق بين الواسطة الواحدة أو الوسائط المتعددة ، كما أخبر محمد بن مسلم بأن زرارة روى عن الإمام الصادق «عليه‌السلام» حرمة لحم أرنب مثلا ، ومثال الوسائط كما إذا أخبر الشيخ الطوسي عن الشيخ المفيد ، وهو أخبر عن الشيخ الصدوق ، وهو يروي عن الصفار ، والصفار عن المعصوم «عليه‌السلام» يروى وجوب نفقة الزوجة على الزوج.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن المقصود من حجية خبر الواحد هو إثبات السنة بالأخبار التي وصلت إلينا عن الأئمة المعصومين «عليهم‌السلام» بواسطة أو وسائط ؛ كالأخبار المتداولة بيننا ، فإنها أخبار عن الحكم الصادر عن الإمام «عليه‌السلام» بوسائط عديدة.

وكيف كان ؛ فيمكن تقرير الإشكال على الخبر مع الواسطة بوجوه ، قد ذكرها الشيخ الأنصاري في الرسائل فراجع «دروس في الرسائل ، ج ٢ ، ص ٤٢ ـ ٤٣».

وقد أشار المصنف إلى وجهين منها ، وهما لزوم اتحاد الحكم والموضوع ، وكون الحكم مثبتا لموضوعه.

وتوضيح الوجه الأول يتوقف على مقدمة وهي : أن قصارى مفاد أدلة الحجية على

٢٨٠