دروس في الكفاية - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

٩ ـ اختلاف القراءات هل يوجب سقوط حجية القرآن في الآية المختلف في قراءتها أم لا؟

محل الكلام هو : الاختلاف في الصورة والمؤدى دون المادة مثل : قوله تعالى : (يَطْهُرْنَ) بالتشديد والتخفيف ، وهنا احتمالات :

١ ـ تواتر القراءات.

٢ ـ جواز الاستدلال بكل منها على تقدير عدم ثبوت تواترها.

٣ ـ جواز القراءة على طبق كل قراءة فقط.

وعلى الاحتمال الأخير : اختلاف القراءات يوجب الإخلال بجواز التمسك ؛ وذلك لعدم إحراز ما هو القرآن ، فلا معنى للاستدلال بإحدى القراءتين ما لم تثبت قرآنيتها. هذا على فرض عدم تعارض القراءتين.

وأما على فرض تعارضهما ـ كالتعارض بين القراءة بالتشديد والتخفيف ـ فلا بد من التوقف والرجوع إلى الأصل ، وهو استصحاب حكم المخصص ، أو الرجوع إلى عموم العام من حيث الزمان ؛ بناء على أن يكون (أَنَّى) بمعنى : الزمان.

وأما حكم الصورة الأولى ـ وهو تواترها ـ فهو : أن كل قراءة بمنزلة آية مستقلة ، ففي التعارض بينهما ـ كما هو المفروض في الآية المذكورة ـ يجمع بينهما بحمل الظاهر على الأظهر على فرض تحققهما ومع التكافؤ والتساوي بين القراءتين فلا بد من التوقف والرجوع إلى الأصل العملي ، أو العموم حسب اختلاف المقامات ؛ كما في الصورة السابقة.

وأما حكم الصورة الثانية : فكحكم الصورة الأولى. أعني : التوقف والرجوع إلى الأصل العملي أو العموم.

ولا تجري هنا مرجحات باب تعارض الروايات ؛ إذ لا دليل لنا على الترجيح بتلك المرجحات في غير الروايات.

١٠ ـ نظريات المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ حجية الظواهر مطلقا ، من دون فرق بين ظواهر الكتاب وغيرها ، ولا بين من قصد إفهامه وغيره.

٢ ـ وقوع التحريف في القرآن وإن لم يكن بعيدا ؛ إلا إنه لا يوجب سقوط ظواهر آيات الأحكام عن الحجية.

٢٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

٣ ـ عدم ثبوت تواتر القراءات ، ولا جواز الاستدلال بها ، وإنما الثابت جواز القراءة طبق كل منها.

٤ ـ عدم جريان مرجحات باب الروايات المتعارضة في تعارض القراءات على فرض جواز الاستدلال بها.

٢٠٢

فصل

قد عرفت حجيّة ظهور الكلام في تعيين المرام (١) ، فإن أحرز بالقطع وأن المفهوم منه جزما ـ بحسب متفاهم أهل العرف ـ هو ذا فلا كلام ، وإلا فإن كان لأجل احتمال وجود قرينة فلا خلاف في أن الأصل عدمها ؛ لكن الظاهر : أنه معه يبني على

______________________________________________________

في حجية قول اللغوي

(١) لما فرغ المصنف في الفصل السابق عن بحث كبرى حجية ظواهر الألفاظ ؛ تعرض في هذا الفصل للبحث عن الصغرى وهي : إحراز الظهور بأن يقال : إن هذا اللفظ ظاهر في هذا المعنى أم لا؟ فبأي شيء يثبت الظهور؟ فإن لم يثبت فما هو المرجع عند الشك فيه؟ وقبل الخوض في البحث لا بد من تحرير ما هو محل الكلام في المقام ، ولا شك في خروج ما إذا أحرز الظهور بالقطع والوجدان عن محل الكلام ؛ وإنما الكلام فيما إذا لم يحرز به ، فللمسألة حينئذ صور :

الصورة الأولى : إذا كان الشك في مادة اللغة كمادة الكنز أو الغنيمة ، وكان الشك في الوضع ، وأن الموضوع له هل هو المعنى المعين أم غيره؟

الصورة الثانية : إذا كان الشك في هيئة المفرد ، كما إذا شككنا في معنى الطهور ، فهل هو بمعنى الطاهر في نفسه والمطهّر لغيره ، أو بمعنى شديد الطهارة في نفسه بمقتضى صيغة المبالغة؟

الصورة الثالثة : إذا كان الشك في هيئة الجملة كالشك في الجملة الشرطية ، وأنها هل تدل على العلية المنحصرة حتى يكون لها مفهوم أم لا؟

الصورة الرابعة : إذا كان الشك في وجود قرينة توجب الاختلاف في الظهور.

الصورة الخامسة : إذا كان الشك في قرينية الموجود كقرينية الاستثناء ب إلا للجمل السابقة ، فيما إذا تعقبت الجمل المتعددة باستثناء واحد.

إذا عرفت هذه الصور فاعلم : أن محل الكلام هي الصورة الأولى ، وهي : الشك في مادة اللغة ، فالمعروف والمشهور : أن المرجع فيها هو قول اللغوي وأنه حجة فيها.

٢٠٣

المعنى الذي لولاها كان اللفظ ظاهرا فيه ابتداء ؛ لا أنه يبني عليه بعد البناء على عدمها ، كما لا يخفى ، فافهم (١).

______________________________________________________

وأما الصورة الثانية : ـ وهي الشك في هيئة المفردات ـ فالمرجع فيها هو علم الصرف ؛ كالبحث عن الفرق بين اسم الفاعل واسم المفعول أو الثلاثي المزيد والمجرد وغيرهما.

وأما الصورة الثالثة : ـ وهي الشك في هيئة الجملة ـ فالمرجع فيها هو علم النحو والمعاني والبيان.

وأما الصورة الرابعة : ـ وهي الشك في وجود قرينة ـ فلا إشكال ولا كلام في أن الأصل فيها عدم وجود القرينة.

وأما الصورة الخامسة : ـ وهي الشك في قرينية الموجود ـ فبناء على كون أصالة عدم القرينة حجة تعبدا : فلا إشكال في الأخذ بالعمومات السابقة على العام الأخير ، وأما بناء على أصالة الظهور : فيصبح الكلام مجملا ، وتسقط العمومات السابقة عن الحجية لاحتفافها بما يحتمل القرينية.

وكيف كان ؛ فمحل الكلام هي الصورة الأولى ، والمشهور : أن المرجع فيها قول اللغوي ، وأنه حجة فيها ؛ بل ادعى فيه إجماع العلماء ؛ لكن خالفهم فيه المصنف وقال بعدم حجيّة قول اللغوي ، حيث قال : «فالأصل يقتضي عدم حجية الظن فيه».

(١) لعله إشارة إلى أن أصالة عدم القرينة من المرتكزات العرفية ، والعرف وإن لم يعرف ذلك تفصيلا إلا إن الارتكاز كاف في كونه مستندا.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

قوله : «وإلا» أي : وإن لم يحرز ظهور الكلام بالقطع ، «فإن كان» أي : عدم الإحراز وهو إشارة إلى الصورة الرابعة حسب ما ذكرناه من الترتيب ـ وهي كون الشك في الظهور ناشئا من احتمال وجود القرينة ـ وحاصل ما أفاده فيها : أنّه لا خلاف في أنّ الأصل عدم القرينة ، والبناء على كون اللفظ ظاهرا فيما هو الموضوع له ؛ إنما الكلام في أن البناء على المعنى الموضوع له هل يكون بعد البناء على عدم القرينة لأصالة عدمها ؛ بأن يثبت أولا ببركة هذا الأصل ظهور اللفظ في المعنى الحقيقي ، ثم حجيته بأصالة الظهور كما قال به بعض ، أم تكون أصالة الظهور حجة عند احتمال وجود القرينة ، بلا حاجة إلى أصل عدمي كما عليه المصنف؟ أم ليس في البين إلا أصالة عدم القرينة ، وأن مرجع أصالة العموم والإطلاق والحقيقة إلى أصالة عدم القرينة كما عليه الشيخ الأعظم؟ حيث قال في مقام ما خرج عن عموم حرمة العمل بالظن ما لفظه : «منها : الأمارات المعمولة

٢٠٤

وإن كان لاحتمال قرينية الموجود فهو ، وإن لم يكن بخال عن الإشكال ـ بناء على حجية أصالة الحقيقة من باب التعبد ـ إلا إن الظاهر أن يعامل معه معاملة المجمل ، وإن كان لأجل الشك فيما هو الموضوع له لغة أو المفهوم منه عرفا ، فالأصل يقتضي عدم حجية الظن فيه ، فإنه ظن في أنه ظاهر ، ولا دليل إلا على حجية الظواهر.

نعم ؛ نسب إلى المشهور : حجية قول اللغوي بالخصوص في تعيين الأوضاع (١) ،

______________________________________________________

في استنباط الأحكام الشرعية من ألفاظ الكتاب والسنة ، وهي على قسمين : القسم الأول : ما يعمل لتشخيص مراد المتكلم عند احتمال إرادته خلاف ذلك ؛ كأصالة الحقيقة عند احتمال إرادة المجاز ، وأصالة العموم والإطلاق ، ومرجع الكل إلى أصالة عدم القرينة الصارفة عن المعنى الذي يقطع بإرادة المتكلم الحكيم له لو حصل القطع بعدم القرينة». انتهى مورد الحاجة. «دروس في الرسائل ، ج ١ ، ص ٢٤٣ ـ ٢٤٤».

ومن هنا يظهر الفرق بين ما ذكره المصنف ؛ من التزامه بأصالة الظهور التي هي أصل وجودي ، وما ذكره الشيخ من إرجاع أصالة العموم ونحوها إلى أصل عدمي أعني : به أصالة عدم القرينة ، فلاحظ.

قوله : «لكن الظاهر أنه معه ...» الخ أي : مع احتمال وجود القرينة ، تعريض بما أفاده الشيخ في عبارته المتقدمة.

وحاصل ما أفاده الشيخ : أن الأخذ بظاهر الكلام منوط بأحد أمرين :

الأول : القطع بعدم وجود القرينة على خلافه.

الثاني : البناء على عدم القرينة ـ فيما إذا شك في وجودها ـ بأصالة عدم القرينة.

وحاصل إيراد المصنف على الأمر الثاني : هو حمل الكلام على ظاهره ابتداء عند احتمال وجود القرينة ، بلا حاجة إلى التمسك بأصالة عدم القرينة ، يعني : يكفي في العمل بالظاهر في مورد احتمال وجود القرينة : الاستناد إلى أصل واحد وهو أصالة الظهور ، كما هو مختار المصنف ، من دون حاجة إلى أصلين : الأول : أصالة عدم القرينة ، والثاني : أصالة الظهور كما هو مختار الشيخ.

وهناك فرق آخر بينهما وهو : أن حمل اللفظ على معناه الظاهر متوقف على الفحص عن القرينة عند احتمالها على مذهب الشيخ ، ولا يتوقف عليه على مذهب المصنف.

(١) فإذا قال اللغوي : إن معنى الصعيد كذا ، أو معنى الغناء كذا ثبت المعنى بمجرد قول اللغوي ، من غير فرق بين إفادة قوله الظن وعدمها ؛ إذ الحجية من باب الظن النوعي

٢٠٥

واستدل لهم باتفاق العلماء ؛ بل العقلاء على ذلك ، حيث لا يزالون يستشهدون بقوله في مقام الاحتجاج بلا إنكار من أحد ، ولو مع المخاصمة واللجاج ، وعن بعض : دعوى الإجماع على ذلك.

وفيه (١) : أن الإجماع ـ لو سلم اتفاقه ـ فغير مفيد ، مع أن المتيقن منه : هو الرجوع

______________________________________________________

ـ أي : أن نوع الناس يحصل لهم من قول اللغوي الظن ـ وعليه : فهو حجة وإن حصل الظن على خلافه.

وحاصل الكلام في المقام : أنه إن حصل القطع أو الاطمئنان العادي من قول اللغوي ، أو اجتمع فيه ما يعتبر في باب الشهادة من العدد والعدالة : فلا إشكال في التمسك بقوله ، وليس ذلك من باب أنه قول اللغوي ؛ بل من باب حصول القطع الذي هو حجة بنفسه ، وكذا الاطمئنان ، أو من باب حصول شرائط الشهادة الموجبة لحجية متعلقها.

وأما إذا لم يحصل شيء من الأمور المذكورة ـ بأن شك أو ظن أو ظن على خلافه ـ فالمشهور حجية قوله أيضا.

استدل للحجيّة بوجوه

الأول : إجماع العلماء ؛ بل جميع العقلاء على ذلك ، فإنهم قديما وحديثا يرجعون في استعلام اللغات إلى كتب أهل اللغة ، ولذلك ينقلون في الفقه قول اللغوي عند المخاصمة والنزاع ، فإنه لو تنازع اثنان في أن الصعيد هل هو مطلق وجه الأرض أو التراب فقط ، فقال أحدهما بالأول والآخر بالثاني ، ثم تحاكما إلى اللغة وخرج المعنى مما يؤيد أحدهما اقتنع الآخر ، وليس ذلك إلا لارتكاز حجية قول اللغوي ، فإنه لو لم يكن حجة لم يكن وجه للتحاكم إليه ولا لإقناع الخصم.

(١) هذا جواب عن الوجه الأول أعني : ـ اتفاق العلماء ـ والثاني أعني : ـ اتفاق العلماء.

وحاصل الكلام : أنه يمكن الجواب عن الاستدلال المذكور بوجوه :

الأول : عدم ثبوت الاتفاق العملي على الرجوع إلى قول اللغوي لا من العلماء ولا من العقلاء.

الثاني : أنه على تقدير ثبوت الاتفاق المزبور : لا يفيد ذلك الاتفاق شيئا ، إذ مناط حجيته هو الكشف عن قول المعصوم «عليه‌السلام» ، أو عن دليل معتبر ، وهو غير ثابت ؛ لاحتمال عدم ثبوت السيرة في زمان المعصوم «عليه‌السلام» حتى يكون عدم ردعها مع إمكانه دليلا على إمضائه.

٢٠٦

إليه مع اجتماع شرائط الشهادة من العدد والعدالة. والإجماع المحصل غير حاصل (١) ، والمنقول منه غير مقبول ، خصوصا في مثل المسألة مما احتمل قريبا أن يكون وجه ذهاب الجل لو لا الكل ، هو اعتقاد أنه مما اتفق عليه العقلاء من الرجوع إلى أهل الخبرة (٢) من كل صنعة فيما اختص بها.

______________________________________________________

الثالث : أن السيرة لما كانت دليلا لبيا ، فلا بد من الأخذ بالقدر المتيقن منها وهو صورة اجتماع شرائط الشهادة من التعدد والعدالة في اللغوي ، ومع الشك في اجتماع الشرائط ـ كما هو محل البحث ـ لا تكون السيرة حجة.

(١) هذا جواب عن الوجه الثالث من الوجوه التي استدل بها على ما هو المشهور من حجية قول اللغوي ، وهو دعوى الإجماع عليه.

وحاصل ما أفاده المصنف في الجواب : إن الإجماع إما محصل وإما منقول ، وأما المحصل منه وإن كان حجة إلا إنه غير حاصل ؛ إذ بعد احتمال استناد المجمعين إلى بناء العقلاء لا يتحقق الإجماع المحصل الكاشف عن قول المعصوم «عليه‌السلام» :

وأما المنقول : فهو مردود بوجهين :

أحدهما : أن الإجماع المنقول ليس حجة ، كما أشار إليه بقوله : «والمنقول منه غير مقبول».

ثانيهما : أنه مع احتمال استناد المجمعين إلى بناء العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة من كل صنعة : لا يبقى وثوق بكون الإجماع تعبديا ، فلو سلم حجية الإجماع المنقول في سائر الموارد لا يمكن الاعتماد عليه هنا ؛ لاحتمال مدركيته ، وقد أشار إليه بقوله : «خصوصا في مثل المسألة».

(٢) هذا إشارة إلى الوجه الرابع من الوجوه التي استدل بها على حجية قول اللغوي ، بتقريب : استقرار بناء العقلاء وسيرتهم قديما وحديثا وفي كل عصر وزمان ومكان على الرجوع إلى أهل الخبرة ، وهذا أهم الوجوه في المقام ، فقول اللغوي حجة ؛ لأنه من أهل الخبرة فيما يختص به ، فيكون الرجوع إلى اللغوي من باب الرجوع إلى أهل الخبرة.

وقد أورد المصنف على هذا الوجه بإيرادين :

وحاصل الإيراد الأول : أن المتيقن من هذه السيرة العقلائية : هو ما إذا حصل الوثوق والاطمئنان بقول أهل الخبرة ، ولا يحصل ذلك من قول اللغوي ، ومع عدم حصوله لا دليل على اعتبار قوله وإن كان من أهل الخبرة.

هذا ما أشار إليه بقوله : «والمتيقن من ذلك» أي : من الرجوع إلى أهل الخبرة.

٢٠٧

والمتيقن من ذلك : إنما هو فيما إذا كان الرجوع يوجب الوثوق والاطمئنان ولا يكاد يحصل من قول اللغوي بالأوضاع ، بل لا يكون اللغوي من أهل خبرة ذلك ؛ بل إنما هو من أهل خبرة موارد الاستعمال ، بداهة (١) : أن همّه ضبط موارده ، لا تعيين أن أيا منها كان اللفظ فيه حقيقة أو مجازا ، وإلا لوضعوا لذلك (٢) علامة ، وليس ذكره أولا علامة كون اللفظ حقيقة فيه للانتقاض بالمشترك.

______________________________________________________

والإيراد الثاني : ما أشار إليه بقوله : «بل لا يكون اللغوي من أهل الخبرة».

وحاصله : ـ أنه لو سلمنا حجية قول أهل الخبرة ـ أن الرجوع إلى قول اللغوي أجنبي عن الرجوع إلى أهل الخبرة ، ضرورة : أن اللغوي ليس من أهل الخبرة بالأوضاع ؛ بل شأنه ضبط موارد الاستعمال لا تعيين حقائقها ومجازاتها ، فاللغوي خبير بموارد الاستعمال ، من دون أن يميز الحقائق عن المجازات ، فلا يكون اللغوي «من أهل خبرة ذلك» أي : الأوضاع.

وكان الأولى أن يقال : من أهل الخبرة بها ، كما كان الأولى تقديم هذا الإيراد الثاني على الأول ؛ بأن يقال : «ليس اللغوي من أهل الخبرة أولا ، ولم يقم دليل على اعتبار قوله ـ بعد تسليم كونه من أهل الخبرة ـ ثانيا».

(١) تعليل لعدم كون اللغوي من أهل الخبرة بالأوضاع.

(٢) أي : لتعيين الحقيقة من المجاز علامة.

غرض المصنف من هذا الكلام : هو إثبات عدم كون اللغوي خبيرا بالأوضاع ؛ إذ لو كان خبيرا بكل من المعاني الحقيقية والمجازية لكان اللازم وضع علامة لتشخيص الحقائق عن المجازات ، وعدم وضعها له دليل على عدم اطلاعه على الأوضاع.

إن : قلت لعل ذكر المعنى أولا علامة الحقيقة.

قلت : «ليس ذكره أولا علامة كون اللفظ حقيقة فيه».

وحاصل الكلام : أن قوله : «ليس ذكره ...» الخ. إشارة إلى دفع وهم ، فلا بد أولا من توضيح الوهم ، وثانيا من توضيح الدفع.

أما الوهم : فهو أن اللفظ إذا كان له معنى حقيقي ومجازي ، فما يذكره اللغوي أولا هو المعنى الحقيقي ، فتقديم أحد المعنيين أو المعاني بالذكر علامة كونه هو المعنى الحقيقي.

وأما الدفع : فهو أن ذكر أحد المعاني أولا ليس علامة كون اللفظ حقيقة فيه ومجازا في سائر المعاني ؛ لانتقاضه بالمشترك ؛ إذ من المسلم : أن جميع المعاني المذكورة له قد وضع بإزائها اللفظ ، فلو كان المذكور أولا هو المعنى الحقيقي : لزم أن يكون ما عداه من

٢٠٨

وكون (١) موارد الحاجة إلى قول اللغوي أكثر من أن يحصى ؛ لانسداد باب العلم بتفاصيل المعاني غالبا ؛ بحيث يعلم بدخول الفرد المشكوك أو خروجه وإن كان المعنى معلوما في الجملة لا يوجب (٢) اعتبار قوله ، ما دام انفتاح باب العلم بالأحكام ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

المعاني الموضوع لها اللفظ المشترك مجازات ، وهذا خلاف ما تسالموا عليه من وضع اللفظ بإزاء جميع المعاني.

وعليه : فلا يمكن الالتزام بأن المعنى المذكور أولا هو المعنى الحقيقي ، حتى يكون اللغوي لأجله عالما بالأوضاع ، مضافا : إلى علمه بموارد الاستعمال.

قوله : «للانتقاض بالمشترك» تعليل لقوله : «ليس ذكره ...» الخ.

(١) هذا إشارة إلى الوجه الخامس من الوجوه التي استدل بها على حجية قول اللغوي ، وهو التمسك بالانسداد الصغير ، وهو انسداد باب العلم والعلمي بتفاصيل اللغات ، مقابل الانسداد الكبير ، الذي هو عبارة عن انسداد باب العلم والعلمي بالنسبة إلى معظم الأحكام. وهذا الانسداد يوجب اعتبار الظن الحاصل في اللغات بقول اللغوي ؛ للاحتياج إلى معرفة معانيها.

فالمتحصل : أن قول اللغوي وإن لم يكن حجة من باب الظن الخاص ؛ إلا إنه حجة من باب الظن المطلق لأجل الانسداد.

(٢) خبر لقوله : «وكون موارد الحاجة ...» الخ ، وجواب عن الاستدلال بالانسداد على حجية قول اللغوي.

وحاصل الجواب : أن المعيار في حجية الظن المطلق هو : انسداد باب العلم بالأحكام ، سواء انفتح باب العلم بسائر الخصوصيات المرتبطة بالأحكام ؛ كعلم الرجال وعلم اللغة ونحوهما ، فإذا كان باب العلم بالأحكام مفتوحا لم يعتبر الظن المطلق ولو فيما انسد فيه باب العلم من اللغة ، وإذا كان باب العلم بالأحكام منسدا اعتبر الظن ولو فيما لم ينسد فيه باب العلم.

فخلاصة الكلام في المقام : أن فرض الانسداد في تفاصيل اللغات مع انفتاح باب العلم أو العلمي في الأحكام الشرعية لا يجدي في حجية قول اللغوي ؛ إذا لا يلزم من الاحتياط أو جريان أصل البراءة في موارد انسداد باب العلم والعلمي بتفاصيل اللغات العسر والحرج ، أو الخروج من الدين.

وبعبارة واضحة : أنه لا يلزم من الاحتياط في موارد اللغات العسر والحرج ، كما لا

٢٠٩

ومع الانسداد كان قوله معتبرا إذا أفاد الظن من باب حجية مطلق الظن ؛ وإن فرض انفتاح باب العلم باللغات بتفاصيلها فيما عدا المورد (١).

نعم (٢) ؛ لو كان هناك دليل على اعتباره ، لا يبعد أن يكون انسداد باب العلم بتفاصيل اللغات موجبا له على نحو الحكمة لا العلة (٣).

______________________________________________________

يلزم من إجراء أصل البراءة في موارد الجهل بتفاصيل اللغات محذور الخروج عن الدين ، ومع عدم لزوم أحد هذين المحذورين لا يتم دليل الانسداد لإثبات حجية الظن الحاصل من قول اللغوي.

نعم ؛ إذا ترتب أحد المحذورين المتقدمين : ثبت انسداد باب العلم والعلمي في معظم الأحكام ، فيصير مطلق الظن ـ الذي منه الظن الحاصل من قول اللغوي ـ حجة.

فالنتيجة : أنه لا تتم مقدمات الانسداد الصغير لإثبات حجية قول اللغوي.

(١) أي : فيما عدا المورد الذي لا يعلم تفصيل المعنى اللغوي فيه.

(٢) استدراك على ما أفاده من أن انسداد باب العلم بتفاصيل اللغات غالبا مما لا يوجب اعتبار قول اللغوي ، وأن المناط هو الانسداد في الأحكام.

وحاصل الاستدراك : أن الانسداد في اللغات وإن لم يترتب اعتبار قول اللغوي عليه ؛ لعدم كونه دليلا على ذلك ، لكن يمكن أن يكون انسداد باب العلم بتفاصيل اللغات حكمة لاعتبار قول اللغوي من باب الظن الخاص إذا قام هناك دليل خاص على اعتباره ، فيكون حينئذ من الظنون الخاصة ؛ وإن كانت الحكمة في اعتبارها انسداد باب العلم في غالب مواردها ؛ كما في الرسائل. «دروس في الرسائل ، ج ١ ، ص ٣١٣».

(٣) توضيح الفرق بين الحكمة والعلة : إن الحكمة لا يلازم ثبوتها وجود الحكم ، فلا يدور الحكم مدارها ؛ كاستحباب غسل الجمعة ، حيث كانت حكمته إزالة الأوساخ ، مع أن الاستحباب ثابت وإن لم يكن هناك وسخ أصلا.

هذا بخلاف علة الحكم ؛ فإنها تلازم ثبوت الحكم ، فالحكم دائما يدور مدارها وجودا وعدما ؛ كانسداد باب العلم والعلمي في الأحكام الشرعية يكون علة لاعتبار الظن المطلق. فالحكم في مورد الحكمة أوسع من حكمته ، فالانسداد بتفاصيل اللغات وإن كان حكمة في اعتبار هذه الظنون الخاصة ؛ ولكن مجرد انسداد باب العلم في غالب مواردها لا يصير سببا لكونها ظنونا مطلقة ؛ بل المناط في كونها مطلقة : أن تكون علة جعلها حجة انسداد باب العلم في الأحكام الشرعية ، وليس الأمر كذلك.

٢١٠

لا يقال (١) : على هذا لا فائدة في الرجوع إلى اللغة.

فإنه يقال (٢) : مع هذا لا يكاد تخفى الفائدة في المراجعة إليها (٣) ؛ فإنه (٤) ربما

______________________________________________________

فالمتحصل : أن الانسداد حكمة لحجية قول اللغوي ، فيكون حجة ولو في حال انفتاح باب العلم.

والداعي إلى جعل الانسداد حكمة لا علة هو : منافاة إطلاق دليل حجيته الشامل لحالتي إمكان العلم وعدمه لعلية الانسداد ، المقتضية لاختصاص حجيته بحال الانسداد.

وضمير «له» راجع على اعتبار قول اللغوي. وضمير «اعتباره» راجع على قول اللغوي.

(١) أي : على هذا الذي ذكرتم من عدم حجية قول اللغوي «لا فائدة في الرجوع إلى اللغة» ، مع أنه خلاف ما هو البديهي من سيرة العقلاء.

فقوله : «لا يقال :» إشكال على ما تقدم في الجواب عن الاستدلال على حجية قول اللغوي بكونه من أهل الخبرة بالأوضاع.

وحاصل الإشكال : إنه على ما ذكرت ـ من عدم حجية قول اللغوي لعدم كونه من أهل الخبرة بالأوضاع ـ لا يبقى فائدة في الرجوع إلى اللغة ؛ لعدم إحراز الأوضاع بأقوال اللغويين حسب الفرض.

(٢) هذا دفع للإشكال المذكور ، وتوضيحه : أن ما أنكرناه هو اعتبار قول اللغوي من حيث كونه ظنيا ، وأما إذا أفاد الوثوق والاطمئنان : ـ خصوصا مع كون اتفاق كلهم أو جلّهم على معنى ـ فلا إشكال في اعتباره من هذه الحيثية ؛ إذ قول اللغوي حينئذ : يكون من مناشئ الحجة ، وهي ـ الحجة ـ العلم العادي أو الوجداني ؛ لا أنه بنفسه حجة ، ولا منافاة بين هذا ـ أي حصول الوثوق بقول اللغوي أحيانا ـ وبين ما تقدم سابقا بقوله : «ولا يكاد يحصل من قول اللغوي وثوق بالأوضاع» ؛ إذ ما ذكره هناك راجع على عدم الوثوق بقوله : في الأوضاع في كل مورد ، فيمكن تحقق الوثوق بالوضع من قوله : في بعض الموارد كما هو ظاهر ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٣٣٨».

(٣) أي : إلى كتب اللغة ؛ إذ الفائدة ليست منحصرة.

(٤) فإن الرجوع إلى قول اللغوي «ربما يوجب القطع بالمعنى» أي : بالمعنى الحقيقي ، كما أنه ربما يوجب القطع في مورد بظهور اللفظ في معنى أعم من أن يكون حقيقيا أو مجازيا ، وهذا المقدار ـ أعني القطع بظهور اللفظ في معنى من المعاني ـ كاف في مقام الافتاء ؛ لعدم توقفه على معرفة أن المعنى حقيقي أو مجازي ، كما أشار إليه بقوله : «وهو

٢١١

يوجب القطع بالمعنى ، وربما يوجب القطع بأن اللفظ في المورد ظاهر في معنى ـ بعد

______________________________________________________

يكفي في الفتوى» يعني : أن القطع بظهور اللفظ في معنى ـ وإن لم يعلم بأنه معنى حقيقي له ـ كاف في مقام استنباط الحكم ؛ إذ المدار على الظهور ، وهو حاصل بالفرض ، دون تمييز كونه حقيقيا أو مجازيا كما عرفت.

فالمتحصل : أن قول اللغوي حجة من باب الظن المطلق ، بناء على تمامية مقدمات الانسداد في الأحكام ، وغير حجة بناء على عدم تماميتها ؛ وإن فرض انسداد باب العلم بتفاصيل اللغات ؛ إذ لا يكفي مجرد ذلك في إثبات حجية قوله كما عرفت.

وقد أضربنا عما في المقام من تطويل الكلام رعاية للاختصار.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ تحرير محل النزاع في المقام : ولا شك في خروج ما إذا أحرز الظهور بالقطع والوجدان عن محل الكلام ؛ وإنما الكلام فيما إذا لم يحرز به. ثم محل الكلام فيما إذا كان الشك في الوضع وأن الموضوع له هل هو المعنى المعيّن أم غيره.

وأما إذا كان الشك في وجود قرينة على المجاز : فلا إشكال ولا كلام في أن الأصل هو عدم القرينة ، والبناء على كون اللفظ ظاهرا فيما هو الموضوع له ، وإنما الكلام في البناء على المعنى الموضوع له هل يكون بعد البناء على عدم القرينة لأصالة عدمها؟ بأن يثبت أولا ببركة هذا الأصل ظهور اللفظ في المعنى الحقيقي ، ثم حجيته بأصالة الظهور كما قال به بعض ، أم تكون أصالة الظهور حجة عند احتمال وجود القرينة ، بلا حاجة إلى أصل عدمي كما عليه المصنف. أم ليس في البين إلا أصالة عدم القرينة وأن مرجع أصالة العموم والإطلاق والحقيقة إلى أصالة عدم القرينة؟ كما عليه الشيخ الأنصاري.

٢ ـ المشهور : أن المرجع هو قول اللغوي في تعيين ما هو الموضوع له عند الشك.

وقد استدل لحجية قول اللغوي بوجوه :

الأول والثاني : إجماع العقلاء والعلماء على ذلك ، حيث يرجعون إلى اللغة عند المخاصمة والنزاع في معنى لفظ من الألفاظ ، وليس ذلك إلا لأجل حجية قول اللغوي ، فإنه لو لم يكن حجة لم يكن وجه للرجوع إلى اللغة.

وقد أجاب المصنف عن هذين الوجهين بوجوه :

الأول : عدم ثبوت الاتفاق العملي على الرجوع إلى قول اللغوي ؛ لا من العلماء ولا من العقلاء.

٢١٢

الظفر به وبغيره في اللغة ـ وإن لم يقطع بأنه حقيقة فيه أو مجاز ، كما اتفق كثيرا ، وهو يكفي في الفتوى.

______________________________________________________

الثاني : أنه على تقدير ثبوت الاتفاق المزبور لا يفيد ذلك شيئا ؛ إذ مناط حجيته : هو الكشف عن قول المعصوم ، أو عن دليل معتبر ، وهو غير ثابت ، لاحتمال عدم ثبوت السيرة في زمان المعصوم «عليه‌السلام» ، حتى يكون عدم الردع عنها دليل على حجية قول اللغوي.

الثالث : أن المتيقن من السيرة هو صورة اجتماع شرائط الشهادة من العدد والعدالة في اللغوي.

الوجه الثالث : دعوى الإجماع على حجية قول اللغوي.

الجواب عنه : أن الإجماع المحصل غير حاصل ، والمنقول غير مقبول ، فلا يكون حجة.

٣ ـ الوجه الرابع : استقرار بناء العقلاء في كل عصر ومكان على الرجوع إلى أهل الخبرة ، فيكون الرجوع إلى أهل اللغة من هذا الباب.

وقد أورد عليه المصنف :

أولا : بأن المتيقن من هذه السيرة هو : ما إذا حصل الوثوق والاطمئنان بقول اللغوي ، ولا يحصل ذلك من قوله ، ولو حصل لكان المعتبر هو الاطمئنان ؛ لا قول اللغوي.

وثانيا : أن اللغوي ليس من أهل الخبرة بالأوضاع ؛ بل خبير بموارد الاستعمالات ، من دون أن يميز الحقيقة من المجاز.

٤ ـ الوجه الخامس : هو التمسك بالانسداد على حجية قول اللغوي والمراد بالانسداد هو الانسداد الصغير ـ أعني : انسداد باب العلم والعلمي بتفاصيل اللغات ـ في مقابل الانسداد الكبير وهو انسداد باب العلم والعلمي بالنسبة إلى معظم الأحكام.

وحاصل هذا الوجه : هو حجية قول اللغوي من باب الظن المطلق الثابت بالانسداد.

وقد أجاب المصنف عن هذا الوجه : بأن المعيار في حجية الظن المطلق هو : انسداد باب العلم والعلمي بالأحكام ؛ لا بتفاصيل اللغات.

وإشكال عدم الفائدة في الرجوع إلى اللغة مدفوع ؛ بوجود الفائدة في موارد يحصل القطع بظهور اللفظ في معنى أعم من أن يكون حقيقيا أو مجازيا ، وهذا المقدار من الفائدة كاف في مقام الإفتاء ؛ لعدم توقفه على معرفة المعنى الحقيقي من المجازي.

٢١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

٥ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

عدم حجية الظن الحاصل من قول اللغوي ؛ إذ لا دليل إلا حجية الظواهر.

٢١٤

فصل

الإجماع (١) المنقول بخبر الواحد حجة عند كثير ممن قال باعتبار الخبر بالخصوص ،

______________________________________________________

في الإجماع المنقول

(١) المقصود من عقد هذا الفصل : هو البحث عن الملازمة بين حجية خبر الواحد وحجية الإجماع المنقول بخبر الواحد وعدمها ، بمعنى : أن الإجماع المنقول بخبر الواحد هل هو من مصاديق خبر الواحد فتشمله أدلته حتى تستلزم حجية خبر الواحد حجيته أم لا؟ فحينئذ : يرجع البحث عن حجية الإجماع المنقول بخبر الواحد إلى صغروية الإجماع المنقول لكبرى الخبر الواحد.

وعليه : كان الأولى تأخير بحث حجية الإجماع المنقول بخبر الواحد عن بحث حجية خبر الواحد ؛ لترتبه عليه ؛ لأنه من متمماته ، فإنه بعد إثبات حجية خبر الواحد يبحث عن اختصاصها بنقل رأي المعصوم «عليه السلام» ، بعنوان الرواية أو عمومه للنقل بعنوان الإجماع.

وكيف كان ؛ فقبل الدخول في البحث تفصيلا لا بد من تحرير ما هو محل الكلام في المقام.

وتوضيح ذلك يتوقف على بيان أمرين :

الأمر الأول : أن مناط حجية الإجماع عند العامة مخالف لما هو مناط الحجية عند الخاصة ؛ وذلك أن مناط الحجية عند العامة هو نفس الاتفاق ، فللإجماع موضوعية عندهم ، وهو دليل مستقل في قبال سائر الأدلة. هذا بخلاف ما هو المناط عند الخاصة الإمامية ؛ لأن مناطه عندهم هو قول المعصوم «عليه‌السلام» ، ولما كان الإجماع كاشفا عنه كان حجة ، فيكون من السنة ، ولا يكون دليلا مستقلا في مقابل سائر الأدلة. ولهذا كان الأنسب تأخير هذا البحث عن بحث حجية خبر الواحد ؛ لترتبه على حجية خبر الواحد كما عرفت.

٢١٥

من جهة أنه من أفراده ، من دون أن يكون عليه دليل بالخصوص (١) ، فلا بد في اعتباره : من شمول أدلة اعتباره (٢) له ، بعمومها أو إطلاقها وتحقيق القول فيه يستدعي رسم أمور :

الأول (٣) : أن وجه اعتبار الإجماع هو القطع برأي الإمام «عليه‌السلام» ،

______________________________________________________

الأمر الثاني : هو إن الإجماع على قسمين :

أحدهما : هو الإجماع المحصل.

والآخر : هو الإجماع المنقول.

والفرق بينهما أن الأول : ما يحصل بالتتبع بمعنى : أن المتتبع لأقوال العلماء يحصل اتفاقهم على حكم من الأحكام الشرعية ، ثم ينقله إلى الغير ، فهذا الإجماع بالنسبة إلى الناقل يكون إجماعا محصلا ، ويكون حجة بلا إشكال. وأما بالنسبة إلى ذلك الغير ـ وهو المنقول إليه ـ يكون الإجماع منقولا ، وهو قد يكون منقولا بالتواتر ، وقد يكون منقولا بخبر الواحد المحفوف بما يوجب القطع بصدقه ، وقد يكون منقولا بخبر الواحد المجرد عن القرينة.

إذا عرفت هذين الأمرين فاعلم : أن محل الكلام هو الإجماع المنقول بخبر الواحد المجرد عن القرينة.

(١) أي : أن كون الإجماع المنقول من أفراد خبر الواحد كاف في حجيته.

(٢) أي : اعتبار خبر الواحد ، وضميرا «في اعتباره ، له» راجعان على الإجماع المنقول. ولا تتوقف حجيته على وجود دليل يدل على اعتباره بالخصوص ، مع الغض عن أدلة حجية خبر الواحد ، فلا بد في اعتبار الإجماع المنقول من شمول أدلة اعتبار خبر الواحد له بعمومها أو إطلاقها.

في ملاك حجية الإجماع

(٣) الغرض من عقد هذا الأمر : بيان مناط حجية الإجماع المحصل ، وأنه القطع برأي الإمام «عليه‌السلام». ومنشأ هذا القطع أحد أمور أربعة :

الأول : هو العلم بدخول الإمام «عليه‌السلام» في المجمعين بشخصه ، ولا يعرفه المحصّل للإجماع عينا ، فيخبر بالحكم عنه بصورة الإجماع ، فملاك حجيته دخول المعصوم بنفسه في المجمعين ، ولذلك قال المحقق في المعتبر : «فلو خلا المائة من فقهائنا من

٢١٦

ومستند القطع به لحاكية ـ على ما يظهر من كلماتهم ـ هو : علمه بدخوله «عليه

______________________________________________________

قوله «عليه‌السلام» لما كان حجة ، ولو حصل في اثنين كان قولهما حجة» (١).

ولا إشكال في هذا النوع من الإجماع من ناحية الكبرى ، وإنما الكلام في الصغرى ؛ لأن الاجماعات المنقولة الموجودة في الكتب الفقهية ليست من هذا القبيل قطعا ، فإن الناقل لم يسمع الحكم من جماعة يعلم بأن الإمام «عليه‌السلام» أحدهم قطعا.

نعم ؛ هذا المعنى كان ممكنا في عصر حضور الإمام «عليه‌السلام» ؛ ولكن نقلة الإجماع وأصحاب الكتب الفقهية متأخرون عن ذلك العصر يقينا. وهذا القسم من الإجماع ما أشار إليه بقوله : «هو علمه بدخوله».

الثاني : قاعدة اللطف التي يستكشف بها قول المعصوم «عليه‌السلام» ، وهذا القسم من الإجماع يسمى بالإجماع اللطفي ، وصاحب هذا المسلك هو الشيخ الطوسي «قدس‌سره» وأتباعه.

وتقريبه : أن وجود الحكم الواقعي في أقوال أهل عصر واحد لطف ، وهو واجب على الإمام «عليه‌السلام» عقلا ؛ إذ يكون على الإمام البيان لو كان الحكم المجمع عليه على خلاف الواقع ؛ ولو بإلقاء الخلاف.

قال الشيخ الطوسي «قدس‌سره» : فيما حكى عنه : أن اجتماع الأصحاب على الباطل وعلى خلاف حكم الله الواقعي خلاف اللطف ، فيجب لطفا إلقاء الخلاف بينهم بإظهار الحق ولو لبعضهم ، فلو حصل إجماع واتفاق من الكل نستكشف بقاعدة اللطف أنه حق ، وهو حكم الله الواقعي ، واللطف عبارة عما يقرب العبد نحو الطاعة ، ويبعده عن المعصية ، وهذا القسم من الإجماع قد أشار إليه بقوله : «من باب اللطف».

الثالث : ما يسمى بالإجماع الحدسي ، وهو حصول العلم بقول الإمام «عليه‌السلام» من الإجماع حدسا ، فإن الحدس هو العلم الحاصل من غير طريق الحواس الظاهرية ، فيقال في تقرير وجه الحدس : إن العلماء الذين يتقيدون بالشرع ولا يخالفونه قيد شعرة إذا اجتمعوا على أن الحكم الكذائي هو حكم الله تعالى ينتقل الذهن من هذا الإجماع إلى أن الإمام «عليه‌السلام» موافق لهم ؛ وإلا لم ينسبوا هذا الحكم إلى الشرع ، كما أن التلاميذ الذين يتقيدون برأي أستاذهم إذا رأيناهم اجتمعوا على رأي ينتقل الذهن بنا من رأيهم إلى أنه رأي أستاذهم.

وحاصل الكلام : إن اتفاق علمائنا الأعلام على قول ، وتسالمهم عليه مع ما يرى من

__________________

(١) المعتبر ١ : ٣١.

٢١٧

السلام» في المجمعين شخصا ولم يعرف عينا ، أو قطعه باستلزام ما يحكيه لرأيه «عليه‌السلام» عقلا من باب اللطف ، أو عادة (١) ، أو اتفاقا من جهة حدس رأيه ، وإن لم

______________________________________________________

اختلاف أنظارهم وتباين أفكارهم ؛ مما يؤدي بمقتضى العقل والعادة عند أولي الحدس الصائب إلى العلم بأن ذلك قول أئمتهم ، وأنهم أخذوه منهم : إما بتنصيص أو بتقرير.

هذا ما أشار إليه بقوله : «من جهة حدس رأيه» ؛ بأن يحصل العلم برأي الإمام «عليه‌السلام» من اتفاق جماعة ، مع عدم الملازمة بين اتفاقهم ورأيه «عليه‌السلام» من باب الصدفة والاتفاق ؛ بأن يكون الكشف عن قول الإمام من جهة الحدس.

الرابع : ما يسمى بالإجماع التشرفي ، وهو تشرف بعض الأوحديين من العلماء بمحضر الإمام «عليه‌السلام» في زمان الغيبة ، وسؤالهم بعض المسائل المشكلة ، ثم إعلانهم رأي الإمام «عليه‌السلام» بعنوان الإجماع خوفا من التكذيب وعدم القبول ، فيقول : هذا ثابت بالإجماع ،

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) عطف على قوله : ـ «عقلا» ، وهذا هو الطريق الثالث ، ويسمى بالإجماع الحدسي ، وهو على وجهين :

الأول : أن يحصل العلم برأي الإمام «عليه‌السلام» من اتفاق جماعة على نظر واحد ، مع الملازمة عادة بين اتفاقهم وبين رأيه «عليه‌السلام» ؛ وذلك لأن اتفاق جمع على مطلب ـ مع اختلاف الأنظار والأفكار ـ يكشف عن كون ذلك المطلب الذي اتفقوا عليه من رئيسهم ، وهذا الكشف عادي لا عقلي ؛ إذ لا ملازمة عقلا بينهما.

الثاني : أن يحصل العلم برأيه «عليه‌السلام» من اتفاق جماعة ، مع عدم الملازمة بين اتفاقهم ورأيه «عليه‌السلام» ، فالكشف عن رأيه «عليه‌السلام» يكون من باب الصدفة والاتفاق ، فاتفاق العلماء على حكم كاشف ـ في نظر الناقل ـ عن رأي الإمام من باب الاتفاق ، بلا استلزام عقلي أو عادي له ، ويكون هذا الكشف من جهة الحدس الذي هو عبارة عن العلم الناشئ عن غير الحواس الخمس الظاهرة ، الشامل للاستلزام العقلي والعادي.

لكن جرى اصطلاحهم في هذا المقام على إطلاق الحدس على العلم غير الحاصل من الإجماع الدخولي والتشرفي ، والملازمة العقلية الثابتة بقاعدة اللطف ، والملازمة الشرعية الناشئة من التقرير ، وهو إمضاؤه «عليه‌السلام» لقول أو فعل صدر بمحضره الشريف ، مع

٢١٨

تكن (١) ملازمة بينهما (٢) عقلا ولا عادة ، كما هو (٣) طريقة المتأخرين في دعوى الإجماع ، حيث إنهم مع عدم الاعتقاد بالملازمة العقلية ولا الملازمة العادية غالبا (٤) ، وعدم العلم بدخول جنابه «عليه‌السلام» في المجمعين عادة ، يحكون الإجماع كثيرا ، كما أنه يظهر ممن اعتذر عن وجود المخالف بأنه معلوم النسب (٥) ، أنه استند في

______________________________________________________

عدم مانع من ردعه ، فإن سكوته «عليه‌السلام» تقرير لذلك القول أو الفعل ، وعليه : فالحدس المصطلح عليه في الإجماع المنقول هو العلم الحاصل عادة أو اتفاقا.

قوله : «أو اتفاقا» عطف على قوله : «عقلا» ، فكأنه قيل : أو قطعه باستلزام ما يحكيه لرأيه «عليه‌السلام» عقلا أو عادة أو اتفاقا من جهة الحدس ، فمنشأ هذا القطع الاتفاقي هو الحدس.

والفرق بين العادة والاتفاق : أن الأول غالبي ـ بمعنى : أنه معتاد عند الناس ، والثاني أحياني.

(١) قيد لقوله : «اتفاقا» وبيان له ، يعني : أن هذا القطع الاتفاقي الحاصل من جهة الحدس يكون في صورة عدم الملازمة بين ما يحكيه مدعي الإجماع وبين رأيه «عليه‌السلام» ؛ إذا مع الملازمة بينهما لا يكون حصوله اتفاقيا ؛ بل هو عقلي أو عادي كما تقدم.

وبالجملة : فمستند القطع برأي الإمام «عليه‌السلام» كما يكون علم الحاكي بدخوله «عليه‌السلام» في المجمعين ، أو قطعه باستلزام ما يحكيه لرأيه «عليه‌السلام» عقلا أو عادة ، للملازمة العقلية أو العادية ، كذلك قد يحصل علمه به من جهة حدسه برأيه «عليه‌السلام» من باب الاتفاق والصدفة ؛ لا من جهة الملازمة بينهما عقلا أو عادة.

(٢) أي : بين ما يحكيه مدعى الإجماع ، وبين رأي الإمام «عليه‌السلام».

(٣) أي : الاستلزام الاتفاقي طريقة المتأخرين في دعوى الإجماع ، فإن الظاهر من كلمات المتأخرين ـ بقرينة عدم اعتقادهم بالملازمة العادية والعقلية ، وعدم العلم بدخول المعصوم «عليه‌السلام» في المجمعين ـ هو كشف اتفاق المجمعين عن رأيه «عليه‌السلام» اتفاقا وتصادفا.

(٤) قيد لعدم «الملازمة» يعني : حيث إنهم ـ مع عدم اعتقادهم بوجود الملازمة العقلية والعادية في غالب الموارد ـ يحكون الإجماع ، فقوله : «يحكون» خبر «إنهم».

(٥) هذا إشارة إلى إثبات الإجماع الدخولي ، استظهارا من كلمات الناقلين باعتبار

٢١٩

دعوى الإجماع إلى العلم بدخوله «عليه‌السلام» وممن (١) اعتذر عنه بانقراض عصره (٢) ، أنه استند إلى قاعدة اللطف.

هذا (٣) مضافا إلى تصريحاتهم بذلك ، على ما يشهد به (٤) مراجعة كلماتهم ، وربما يتفق (٥) لبعض الأوحدي وجه آخر من تشرفه برؤيته «عليه‌السلام» وأخذه الفتوى من جنابه ، وإنما لم ينقل عنه (٦) ؛ بل يحكى الإجماع لبعض دواعي الإخفاء.

______________________________________________________

الإجماع ؛ لدخول الإمام «عليه‌السلام» في المجمعين وحاصله : أن الظاهر ـ ممن اعتذر عن وجود المخالف بأنه معلوم النسب ـ أن مستند علم ناقل الإجماع هو علمه بدخول الإمام «عليه‌السلام» في المجمعين ؛ وذلك لعدم قدح خروج معلوم النسب في العلم الإجمالي بدخوله «عليه‌السلام» في المجمعين ؛ وإلا فخروجه قادح في ثبوت الإجماع.

(١) عطف على قوله : «ممن اعتذر» ، والغرض منه : استظهار الإجماع اللطفي من كلمات الأصحاب ، وتوضيحه : أنه يكفي ـ في استلزام ما يحكيه مدعي الإجماع لرأي الإمام «عليه‌السلام» بقاعدة اللطف ـ اتفاق أهل عصر واحد ، فلا يقدح خروج من انقرض عصره ـ وإن كان مجهول النسب ـ فيما تقتضيه قاعدة اللطف ؛ بخلاف الإجماع الدخولي ، فإن خروج المجهول نسبه قادح في العلم الإجمالي بدخول الإمام «عليه‌السلام» في المجمعين ، وكذا يقدح في ثبوت الملازمة العادية ؛ بل الاتفاقية أيضا.

(٢) أي : عصر المخالف ، وضمير «عنه» راجع إلى وجود المخالف ، وضمير «أنه» راجع إلى المعتذر.

(٣) أي : هذا الاستكشاف من اعتذاراتهم ليس وحده دليلا على مشاربهم في وجه حجية الإجماع ، بل إنه يدل على تلك المشارب ، «مضافا إلى تصريحاتهم بذلك» أي : بموردي الاستظهار ، وهما الإجماع الدخولي واللطفي.

(٤) أي : يشهد بتصريحاتهم مراجعة كلماتهم ، وتذكير الضمير باعتبار «ما» الموصول المراد به تصريحات الأصحاب بما عرفت من الإجماع الدخولي واللطفي.

(٥) هذا إشارة على الطريق الرابع من طرق استكشاف رأي الإمام «عليه‌السلام» والقطع به ، ومستند هذا القطع تشرف مدعي الإجماع بحضوره «عليه‌السلام» ، ويسمى بالإجماع التشرفي كما عرفت توضيح ذلك.

(٦) أي : وإنما لم ينقل حاكي الإجماع الحكم عن الإمام «عليه‌السلام» بعنوان الرواية والحديث ؛ بأن يقول : «سمعته» ، أو «قال» : بل ينقله بعنوان الإجماع لبعض دواعي

٢٢٠