دروس في الكفاية - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٧

وردع أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به : إنما هو لأجل الاستقلال في الفتوى بالرجوع إليه (١) من دون مراجعة أهله ، لا عن (٢) الاستدلال بظاهره مطلقا ، ولو مع الرجوع إلى رواياتهم والفحص عما ينافيه ، والفتوى به مع اليأس عن الظفر به.

كيف (٣)؟ وقد وقع في غير واحد من الروايات الإرجاع إلى الكتاب والاستدلال بغير واحد من آياته.

______________________________________________________

وحاصل الكلام في الوجه الثاني : أن ردع الإمام «عليه‌السلام» لأبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به إنما لأجل استقلالهما بالفتوى ، من دون مراجعة الروايات الواردة عن أهل البيت في تفسيره ؛ لا عن الاستدلال بظاهره بعد المراجعة إليها وعدم الظفر فيها بما ينافيه. وعليه : فردعهما عنه مما لا يدل على عدم جواز الاستدلال بظاهره ؛ ولو بعد المراجعة على رواياتهم والفحص عما ينافيه بحد اليأس.

فيراد من الردع عن العمل بالظواهر : العمل بها استقلالا ؛ لا مطلقا حتى بعد الفحص عما ورد منهم «عليهم‌السلام» من المخصص والمقيد وغيرهما ، ويشهد له سؤال الإمام «عليه‌السلام» لأبي حنيفة : «أتعرف الناسخ من المنسوخ؟» ؛ إذ السؤال يدل على كون المانع عن التمسك بظواهر القرآن والاستدلال بها هو : عدم معرفة الناسخ والمنسوخ وغيرهما ، فإذا عرف ذلك بعد الفحص فقد ارتفع المانع ، فجاز التمسك بها.

فالمتحصل : أن ردع أبي حنيفة لا يمنع عن العمل بالظواهر مطلقا كما هو مقصود المستدل ؛ بل يمنع عن العمل بها استقلالا وبدون الرجوع إلى ما ورد عنهم عليهم من المخصص والمقيد وغيرهما.

(١) أي : إلى ظاهر الكتاب.

(٢) والمقصود من هذا الكلام : أن ردع الإمام «عليه‌السلام» لأبي حنيفة وقتادة ليس ردعا عن الفتوى مطلقا ؛ ولو كان بالرجوع إليهم «عليهم‌السلام» ؛ بل ردعهم «عليهم‌السلام» إنما هو عن الإفتاء المستند إلى ظاهر الكتاب ، من دون رجوع أبي حنيفة وأمثاله إلى الأئمة «عليهم‌السلام».

(٣) أي : كيف يكون الردع عن الاستدلال بظاهر الكتاب مع الرجوع إلى رواياتهم؟ مع أنه قد وقع ... الخ. هذا هو الوجه الثالث ، عن الدعوى الأولى وحاصله : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٤ ، ص ٢٩٨» ـ أنه لا بد من إخراج الظواهر عما دل على اختصاص فهم كل آية من الآيات بهم «عليهم‌السلام» ؛ إذ مقتضى التوفيق بينه وبين الأخبار الكثيرة الآمرة بالرجوع إلى الكتاب العزيز في موارد متفرقة ؛ كالأخبار الدالة على عرض الروايات

١٨١

وأما الثانية : فلأن احتواءه (١) على المضامين العالية الغامضة لا يمنع عن فهم ظواهره المتضمنة للأحكام وحجيتها (٢) ، كما هو محل الكلام.

______________________________________________________

المتعارضة على الكتاب ، وما دل على بطلان الشرط المخالف للكتاب ، وما دل على وجوب الرجوع إلى الكتاب ، وغير ذلك ، فإنه لا يمكن طرح تلك الأخبار الكثيرة لأجل ما دل على اختصاص فهم القرآن بأهله «عليهم‌السلام». والنسبة بين تلك الأخبار وبين ما يدل على هذا الاختصاص وإن كانت عموما من وجه ؛ لاجتماعهما في الظواهر وافتراقهما في النصوص والمتشابهات ؛ إلا إن الجمع العرفي بينهما يقتضي حمل الأخبار الكثيرة على الظواهر ، وحمل غيرها على غير الظواهر وعلى الظواهر قبل الفحص.

فالمتحصل : أن ظواهر الكتاب حجة كحجية ظواهر الأخبار ، غاية الأمر : أن ظاهر الكتاب كظاهر السنة لا يجوز العمل به قبل الفحص عن المخصص وغيره.

قال الشيخ الأعظم : «هذا كله مع معارضة الأخبار المذكورة بأكثر منها مما يدل على جواز التمسك بظاهر القرآن ، مثل : خبر الثقلين المشهور بين الفريقين ، وغيرها مما يدل على الأمر بالتمسك بالقرآن ، والعمل بما فيه ...». «دروس في الرسائل ، ج ١ ، ص ٢٥٩».

وأما الجواب عن الدعوى الثانية ـ وهي اشتمال الكتاب على المطالب الغامضة المانعة عن انعقاد الظهور له ـ فحاصله : أنه لا يمنع عن حجية الظواهر في الآيات المتضمنة للأحكام الشرعية كما أشار إليه بقوله.

(١) «فلأن احتواءه ...» الخ. أي : احتواء الكتاب «على المضامين العالية الغامضة لا يمنع عن فهم ظواهره ...» الخ. توضيح ذلك : إن الكتاب العزيز لا يحتوي على المضامين العالية بتمام آياته ؛ بل في بعضها ، فلا ينافي غموضها حجية غيرها من الظواهر التي لا غموض فيها.

وبعبارة أخرى : الكلام إنما هو في ظواهر الكتاب لا في المعاني الكنائية ، التي تكون في بطون الآيات ؛ إذ لا ربط لها بالمعاني التي تكون الألفاظ ظاهرة فيها عند أبناء المحاورة.

فالمتحصل : أن محل الكلام هو حجية ظواهر آيات الأحكام.

ومن المعلوم : أنه لا مجال لإنكار وجود ظواهر في آياتها.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(٢) أي : حجية الظواهر. وضمير «هو» راجع على فهم ظواهر آيات الأحكام ؛ لأن محل الكلام هو فهم ظواهر آيات الأحكام ، ولا ارتباط بين تعذر فهم الغوامض وإمكان فهم ظواهر آيات الأحكام ، فلا منافاة بين فهم بعض الآيات ـ كآيات الأحكام مثلا ـ

١٨٢

وأما الثالثة : فللمنع عن كون الظاهر من المتشابه ، فإن الظاهر كون المتشابه هو خصوص المجمل ، وليس (١) بمتشابه ومجمل.

______________________________________________________

لوضوح معانيها ، وبين تعذر فهم آيات أخرى لإجمالها ، كما هو الشأن أيضا في بعض الروايات المشتملة على جمل يكون بعضها مجملا وبعضها ظاهرا ، فإن إجمال مجملها لا يسري إلى الجمل التي هي ظاهرة في معانيها.

هذا تمام الكلام في الجواب عن الدعوى الثانية.

وأما الجواب عن الدعوى الثالثة ـ وهي كون الظاهر من المتشابه ـ فحاصله : منع كون الظاهر من المتشابه ، لأن الظاهر هو ما يتضح معناه وهو خلاف المتشابه الخفي معناه ، فالمتشابه الممنوع اتباعه هو خصوص المجمل لا ما يعم المجمل وغيره حتى يقال بعدم حجية الظاهر لاحتمال كونه من المتشابه. كما أشار إليه بقوله : «فإن الظاهر كون المتشابه هو خصوص المجمل» قوله : «فإن الظاهر» تعليل لمنع شمول المتشابه للظاهر.

(١) أي : وليس لفظ «المتشابه» من الألفاظ المجملة ، بل هو من الألفاظ المبينة ؛ لأن معناه هو المجمل ، فقوله : «ومجمل» عطف تفسير للمتشابه. هذا تمام الكلام في الجواب عن الدعوى الثالثة. وقد أشار إلى الجواب عن الدعوى الرابعة بقوله : «وأما الرابعة ...» الخ ـ وهي كون الظاهر متشابها بالعرض ـ فقد أجاب عنها المصنف بوجهين : أحدهما : ما أشار إليه بقوله : «فلان العلم إجمالا ...» ، والآخر ما أشار إليه بقوله : «مع أن دعوى ...» الخ.

وتوضيح الوجه الأول : أن العلم الإجمالي ـ بإرادة خلاف الظاهر في جملة من الآيات ـ وإن كان موجبا للإجمال إلا أنه مشروط بعدم انحلاله بالظفر في الروايات بالمخصصات وغيرها من موارد إرادة خلاف الظاهر بمقدار المعلوم بالإجمال ، ومع الانحلال لا إجمال ، كما إذا علم إجمالا بأن موارد إرادة خلاف الظاهر عشرة مثلا ، وظفرنا في الروايات بمقدارها ، فحينئذ : ينحل العلم الإجمالي بالنسبة إلى الموارد الباقية ، ويجوز الرجوع إلى الأصول اللفظية المرادية.

وبعبارة أخرى : إن العلم الإجمالي بطرو ما يخالف الظاهر من مخصص وغيره وإن كان مما لا ريب فيه إلا أنه لا يوجب الإجمال ؛ بحيث لا يجوز العمل بالظاهر أصلا ؛ إذ بعد التفحص والظفر بمقدار المعلوم بالإجمال ينحل العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي والشك البدوي ، فلا مانع من الأخذ بالظاهر بعد انحلال العلم الإجمالي بالفحص والتتبع.

١٨٣

وأما الرابعة : فلأن العلم إجمالا بطرو إرادة خلاف الظاهر إنما يوجب الإجمال فيما إذا لم ينحل بالظفر في الروايات بموارد إرادة خلاف الظاهر بمقدار المعلوم بالإجمال. مع أن دعوى (١) اختصاص أطرافه بما إذا تفحص عما يخالفه لظفر به ، غير بعيدة (٢) ، فتأمل جيدا.

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى الوجه الثاني في الجواب عن الدعوى الرابعة ، وحاصله : أن دائرة المعلوم بالإجمال ليست مطلق الأمارات حتى يقال ببقاء احتمال التخصيص ونحوه حتى بعد الفحص والظفر بمخصصات ونحوها ، فيما بأيدينا من الروايات وغيرها ؛ بل خصوص ما لو تفحصنا عنه لظفرنا به وهذا العلم الإجمالي يمنع عن التمسك بالظواهر قبل الفحص لا بعده ، فبعد الفحص إذا لم يظفر بما يخالف ظاهر الكتاب من تخصيص أو تقييد أو قرينة مجاز يكون ذلك مما علم خروجه تفصيلا عن أطراف العلم الإجمالي ، فلا مانع حينئذ من إجراء أصالة الظهور فيه ؛ لخروج ذلك الظاهر عن دائرة المعلوم بالإجمال.

(٢) خبر «إن» في قوله : «مع أن دعوى ...» الخ. فالنتيجة هي : عدم جواز التمسك بالظاهر قبل الفحص ، وأما بعد الفحص والظفر بما يخالف بعض الظواهر : فيجوز التمسك بالظاهر الذي يعلم خروجه عن دائرة المعلوم بالإجمال.

فالمتحصل : أن العلم الإجمالي مردد بين الأمارات التي لو تفحصنا عنها لظفرنا به ؛ لا أن متعلقه مردد بين ما بأيدينا وغير ما بأيدينا حتى لا ينحل بعد الفحص. هذا تمام الكلام في الجواب عن الدعوى الرابعة.

وأما الجواب عن الدعوى الخامسة ـ وهي شمول الأخبار الناهية عن التفسير بالرأي لحمل الكلام على ظاهره ـ فيرجع إلى وجوه ثلاثة :

الأول : ما أشار إليه بقوله : «فيمنع كون حمل الظاهر ...» الخ.

الثاني : ما أشار إليه بقوله : «ولو سلم فليس ...» الخ.

الثالث : ما أشار إليه بقوله : «مع أنه لا محيص ...» الخ.

وأما توضيح الوجه الأول فيتوقف على مقدمة وهي : بيان معنى التفسير ، ومعنى التفسير ـ على ما في مجمع البيان ـ هو «كشف المراد عن اللفظ المشكل» (١) ، فالتفسير عبارة عن كشف المراد والقناع ورفع الحجاب والستار.

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ٣٩. وأيضا : تفسير غريب القرآن : ٢٦٩ ، جامع البيان ١ : ١٠ ، تفسير ابن كثير ١ : ١٥٠ ، البرهان للزركشي ٢ : ١٤٩ ، تفسير الثعالبي ١ : ٤٠ ، الخ.

١٨٤

وأما الخامسة : فيمنع كون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير ، فإنه كشف القناع ولا قناع للظاهر. ولو سلم فليس من التفسير بالرأي ؛ إذ الظاهر أن المراد بالرأي هو الاعتبار الظني الذي لا اعتبار به ، وإنما كان منه حمل اللفظ على خلاف ظاهره لرجحانه (١) بنظره ، أو حمل المجمل على محتمله بمجرد مساعدة ذاك الاعتبار عليه (٢) ، من دون (٣) السؤال عن الأوصياء ، وفي بعض الأخبار (٤) : «إنما هلك الناس في المتشابه ؛ لأنهم لم يقفوا على معناه ، ولم يعرفوا حقيقته فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء فيعرفونهم».

______________________________________________________

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن حمل الكلام على معناه الظاهر ليس تفسيرا أصلا ؛ إذ شيء من المعاني المذكورة للتفسير لا يصدق على حمل الألفاظ على ظواهرها ، فالعمل بالظواهر خارج عن هذه الأخبار ؛ إذ الظاهر لا قناع له ولا سترة.

هذا تمام الكلام في الوجه الأول من الجواب.

وأما الجواب بالوجه الثاني فحاصله : أن المنهي عنه ـ بعد تسليم شمول التفسير لحمل الكلام على ظاهره ـ هو : التفسير بالرأي ؛ إذ المراد بالرأي : هو الاعتبار العقلي الظني الراجع على الاستحسان الذي لا اعتبار به كحمل اللفظ على غير معناه لرجحانه بنظره ، والتفسير بالرأي لا يشمل المقام ؛ إذ لا يكون حمل الكلام على ظاهره تفسيرا بالرأي ؛ لأن هذا الحمل ليس مستندا إلى الأمر الظني الاستحساني ؛ بل مستند إلى العلم بالوضع أو القرينة مما يعتمد عليه أبناء المحاورة في باب استفادة المعاني من الألفاظ.

فالمتحصل : أنه لو سلم إطلاق التفسير على حمل الكلام على ظاهره ، فليس من التفسير بالرأي الممنوع في الأخبار ؛ لأن التفسير بالرأي هو : حمل اللفظ على خلاف ظاهره أو على أحد محتملاته بمجرد الاعتبار الظني والاستحسان العقلي.

(١) تعليل لقوله : «إنما كان منه» أي : لرجحان خلاف الظاهر ـ بنظر من يفسر القرآن برأيه ـ على الظاهر بنظر غيره.

(٢) أي : على حمل المجمل على محتمله ، بمجرد مساعدة ذلك الأمر الاستحساني الظني الذي لا اعتبار به.

(٣) متعلق بقوله : «وإنما كان منه حمل».

(٤) الغرض من نقله بعض الأخبار هو : الاستشهاد على عدم كون حمل اللفظ على ظاهره من التفسير بالرأي ؛ إذ ما ورد في المتشابه من التعليل «بأنهم لم يقفوا على معناه» لا يتأتى في حمل الكلام على ظاهره ؛ لأن المعنى الظاهر مما يقف عليه أبناء المحاورة.

١٨٥

هذا مع أنه (١) لا محيص عن حمل هذه الروايات الناهية عن التفسير به على ذلك ، ولو سلم شمولها لحمل اللفظ على ظاهره ، ضرورة (٢) : أنه قضية التوفيق بينها وبين ما دل على جواز التمسك بالقرآن ، مثل : خبر الثقلين ، وما دل على التمسك به والعمل بما فيه ، وعرض الأخبار المتعارضة عليه ، ورد الشروط المخالفة له ، وغير ذلك مما

______________________________________________________

(١) هذا هو الوجه الثالث من وجوه الجواب عن الدعوى الخامسة.

وحاصله : أنه لو سلم شمول الروايات الناهية عن التفسير بالرأي لحمل الظاهر على ظاهره ؛ فلا محيص عن حمل التفسير بالرأي فيها على ما ذكرناه من حمل اللفظ على خلاف ظاهره ، أو على أحد محتملاته بمجرد الاعتبار الظني والاستحسان العقلي ، وإخراج حمل الظاهر على ظاهره عن تحت تلك الروايات ؛ وذلك بمقتضى الجمع بينها وبين ما دل على جواز التمسك بالقرآن مثل خبر الثقلين ، وما دل على التمسك به والعمل بما فيه وعرض الأخبار المتعارضة عليه ، وبرد الشروط المخالفة له ، وغير ذلك مما لا محيص عن إرادة الإرجاع إلى ظواهره لا خصوص نصوصه.

فحمل الظاهر على ظاهره خارج عن تحت الأخبار الناهية عن التفسير بالرأي بحسب جميع الوجوه الثلاثة المذكورة في الجواب.

غاية الأمر : يكون حمل الظاهر على ظاهره بحسب الوجه الأول والثاني موضوعا ، وبحسب هذا الوجه الثالث تخصيصا جمعا بين الروايات.

(٢) تعليل لقوله : «لا محيص» عن يعني : لا محيص عن حمل الروايات الناهية عن التفسير بالرأي على غير الظاهر لأجل الجمع بين الروايات ، أي : أن حمل الأخبار الناهية على غير الظاهر هو مقتضى الجمع بينها وبين الأخبار التي يستفاد منها حجية ظواهر الكتاب.

منها : حديث الثقلين المتواتر بين الخاصة والعامة عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» أنه قال : «إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» (١).

ومنها : ما رواه حفص المؤذن وإسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» في رسالة طويلة كتبها إلى جماعة من الشيعة ، وفيها : «قد أنزل الله القرآن وجعل فيه تبيان كل شيء وجعل للقرآن ولتعلم القرآن أهلا ...» (٢).

ومنها : ما دل على عرض الأخبار على القرآن ، مثل : ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال : قال الصادق «عليه‌السلام» : «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما

__________________

(١) الكافي ٢ : ٤١٤ / ١.

(٢) الكافي ٨ : ٥ / جزء من ح ١.

١٨٦

لا محيص عن إرادة الإرجاع إلى ظواهره لا خصوص نصوصه ، ضرورة : أن الآيات التي يمكن أن تكون مرجعا في باب تعارض الروايات أو الشروط ، أو يمكن أن يتمسك بها ويعمل بما فيها ، ليست إلا ظاهرة في معانيها ، ليس فيها ما كان نصا ، كما لا يخفى.

ودعوى العلم الإجمالي (١) بوقوع التحريف فيه بنحو ، إما بإسقاط أو بتصحيف ؛

______________________________________________________

على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردوه ، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة ، فما وافق أخبارهم فذروه ، وما خالف أخبارهم فخذوه» (١).

ومنها : ما رواه هشام بن الحكم عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» قال : «خطب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بمنى ، فقال : أيها الناس ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته ، وما جاءكم يخالف كتاب فلم أقله» (٢).

ومنها : صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» قال : سمعته يقول : «من اشترط شرطا مخالفا لكتاب الله فلا يجوز له ، ولا يجوز على الذي اشترط عليه ، والمسلمون عند شروطهم مما وافق كتاب الله عزوجل» (٣). وهذه الروايات تدل بوضوح على أن الأئمة «عليهم‌السلام» ارجعوا الرواة إلى القرآن الكريم ، ولا بد أن يكون إرجاعهم إلى ظواهر الكتاب لا خصوص نصوصه ومحكماته ؛ إذ الآيات المتكفلة للأحكام ليست إلا ظاهرة في معانيها. فمفاد جميع الروايات المذكورة حجية ظواهر القرآن.

ومن هنا يظهر : إنه لا مجال لدعوى الأخباريين ، بل ظواهر الكتاب حجة كغيرها.

فالمتحصل من جميع ما ذكرناه : أن حجية الظواهر مما تسالم عليها العقلاء في محاوراتهم ، وبنوا عليها في جميع أمورهم ، وحيث لم يكن للشارع طريق خاص في محاوراته ؛ بل كان يتكلم بلسان القوم ، ولم يردع عن طريقة العقلاء فهي ممضاة عنده أيضا.

في العلم الإجمالي بوقوع التحريف

(١) العلم الإجمالي بوقوع التحريف في القرآن يمكن أن يكون وجها آخرا لإسقاط ظاهر الكتاب عن الحجية ؛ ولكن لم يتمسك به أحد من الأخباريين ، ولذا لم يذكره الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» في عداد أدلة الأخباريين على عدم حجية ظواهر القرآن ؛ بل تعرض له في التنبيه الثالث من التنبيهات.

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١١٨ / ٣٣٣٦٢ ، عن الراوندي في رسالته في أحوال الحديث.

(٢) المحاسن ١ : ٢٢١ / ١٣٠ ، الوسائل ٢٧ : ١١١ / ٣٣٣٤٨.

(٣) الكافي ٥ : ١٦٩ / ١ ، تهذيب الأحكام ٧ : ٢٢ / ٩٤ ، الوسائل ١٨ : ١٦ / ٢٣٠٤٠.

١٨٧

وإن كانت غير بعيدة كما شهد به بعض الأخبار ويساعده (١) الاعتبار ؛ إلا إنه لا يمنع عن حجية ظواهره ، لعدم العلم بوقوع الخلل فيها بذلك أصلا.

ولو سلم ؛ فلا علم بوقوعه في آيات الأحكام والعلم بوقوعه فيها أو في غيرها من

______________________________________________________

وكيف كان ؛ فلا بد من تحرير محل النزاع ؛ لأن التحريف على أقسام ، قسم منه : قد وقع في القرآن باتفاق المسلمين كتحريف القرآن من حيث حمله على غير حقيقته ، كما نرى كثيرا من أهل المذاهب الباطلة الذين قد حرفوا القرآن بتأويلهم آياته على طبق أهوائهم ، وكنقص أو زيادة في الحروف أو الحركات.

وقسم منه : لم يقع باتفاق المسلمين كالتحريف بالزيادة مثل أن يقال : بأن بعض القرآن الموجود ليس من الكلام المنزل من الله تعالى على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وقسم منه : قد وقع فيه الخلاف مثل : التحريف بالنقيصة ، بمعنى : أن القرآن الموجود بين أيدينا لا يشتمل على جميع القرآن ، بل قد ضاع بعضه على المسلمين. هذا القسم الثالث هو محل النزاع ولكن المعروف بين المسلمين هو : عدم وقوع التحريف في القرآن.

وقد صرح بذلك كثير من الأعلام كالصدوق «قدس‌سره» ، حيث عد القول بعدم التحريف من معتقدات الإمامية ، ومنهم الشيخ الطوسي «قدس‌سره» والسيد المرتضى «رحمة الله عليه» وغيرهم ، نعم ؛ ذهب جماعة من المحدثين من الشيعة ، وعدة من علماء أهل السنة إلى وقوع التحريف.

يقول المصنف : إن «دعوى العلم الإجمالي بوقوع التحريف فيه» أي : في الكتاب العزيز «بنحو ، إما بإسقاط» منه «أو بتصحيف» أي : بتغيير فيه «وإن كانت غير بعيدة كما شهد به بعض الأخبار ، ويساعده الاعتبار» ، ومن الأخبار ما روي عن أمير المؤمنين «عليه‌السلام» أنه قال للزنديق : ـ لما أنكر المناسبة بين قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) ، وبين قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ)(١) الآية ـ ما مضمونه : أسقط المنافقون من القرآن ـ بين القول : في اليتامى وبين نكاح النساء ـ من الخطاب والقصص أكثر من ثلث القرآن .. الحديث. احتجاج الطبرسي ، ج ١ ، ص ٣٧٧.

(١) أي : وقوع التحريف يساعده «الاعتبار» أي : اعتبار المناسبة بين الآيات ، حيث لا توجد مناسبة وارتباط بين جملتين في بعض آيات القرآن مما يحتمل إسقاط شيء بينهما ، وأوجب ذلك عدم المناسبة والارتباط بين الجملتين من الآية كما ترى ذلك بين الجملتين من الآية المذكورة ؛ إذ قد عرفت : عدم المناسبة بين الشرط والجزاء فيها ؛ لأن الشرط ـ

__________________

(١) النساء : ٣.

١٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وهو قوله تعالى : ـ (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) ، لا ينسجم مع الجزاء ـ وهو قوله تعالى : ـ (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ).

وحاصل ما أفاده المصنف في المقام : أن وقوع التحريف في الكتاب العزيز بإسقاط بعض الآيات والجمل أو بتصحيف وتغيير موضع بعضها وإن كان يوجب سقوط الظهور عن الاعتبار أو يمنع عن انعقاد الظهور ؛ إلا إن ذلك لا يمنع عن حجية ظواهر الكتاب.

وقبل الجواب عن الاستدلال بالعلم الإجمالي بوقوع التحريف في القرآن على سقوط ظواهره عن الحجية ، نذكر توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية» و «الوصول إلى كفاية الأصول». فنقول : إن التحريف بالإسقاط عبارة عن إسقاط بعض الآيات أو بعض الجمل منها. وأما التحريف بالتصحيف فهو إما بمعنى تغيير موضع الآيات أو الجمل منها ، وإما بمعنى التبديل ، فإن التصحيف حينئذ هو تبديل نقطة أو حركة أو ما شابههما ؛ كقراءة (رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا)(١) المشتهرة بصيغة الأمر من المفاعلة مرادا بها الدعاء ، وقراءة «باعد» بصيغة الماضي من المفاعلة مرادا بها الإخبار.

وأما الجواب عن ذلك فيمكن بوجوه :

الأول : هو عدم وقوع التحريف في القرآن أصلا ، فإن القرآن لم ينقص منه شيء ، وإنما هذا الموجود بأيدينا هو القرآن الحكيم الذي نزل على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ؛ بل ادعى جماعة : الإجماع على ذلك.

قال شيخ الطائفة في التبيان : «وأما الكلام في زيادته ونقصانه فمما لا يليق به أيضا ؛ لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانه ، والنقصان منه بالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه ، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا ، وهو الذي نصره المرتضى «رحمة الله عليه» ، وهو الظاهر في الروايات ، غير أنه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصة والعامة بنقصان كثير من آي القرآن ، ونقل شيء منه من موضع إلى موضع طريقها الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، والأولى الإعراض عنها ، وترك التشاغل بها. انتهى ، التبيان للشيخ الطوسي ، ج ١ ، ص ٣. ط بيروت ؛ كما في «الوصول إلى كفاية الأصول ، ج ٣ ، ص ٤١٨».

هذا مضافا إلى أن هناك بعض الروايات الدالة على أن المراد بتلك الروايات التي دلت على النقصان في التأويل والتفسير ، فإن قرآن الإمام «عليه‌السلام» كان مع شرح بعض

__________________

(١) سبأ : ١٩.

١٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

آياته تفسيرا وتأويلا مما أنزله الله تعالى ؛ لا بعنوان القرآن. وكيف كان ؛ فوقوع التحريف في القرآن بمعنى الإسقاط بعيد جدا ، وذلك لوجوه :

الأول قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(١).

الثاني : حفظ عشرات من الصحابة له ، وتعليمهم إياه للصدر الأول من المسلمين ، حتى بلغ من الشيوع أن نقص كلمة منه يوجب إلفات كافة الأنظار إليه وردها عليه.

الثالث : أن دواعي التحريف مفقودة إلا في الأمور الحسّاسة ، نظير موضوع الخلافة ، ولم يدع أحد من الإمامية أن كذا آية نزلت في حق علي «عليه‌السلام» بهذا اللسان وأخفاها القوم بالتباني منهم ومن جميع الناس الواقعين تحت سيطرتهم ؛ إلا أن يكون المدعي شاذا مبتدعا أو غاليا ممقوتا. ولا قيمة بنقل هؤلاء ؛ إذ لو صح هذا المعنى لتشدد الأئمة «عليهم‌السلام» بالنسبة إليه ؛ حتى يبلغ من الوضوح والاشتهار مبلغ الضروريات المذهبية ، نظير المسح على القدمين مثلا ، فحينئذ : لا يعتد ببعض ما هو غير معلوم النسبة إلى الأئمة «عليهم‌السلام» من الأخبار.

بقي الكلام في المناسبة بين الشرط والجزاء في الآية المتقدمة ، وقد ذكر وجه المناسبة الشيخ الطبرسي في مجمع البيان (٢) ، والمحقق البلاغي في تفسير آلاء الرحمن فراجع.

وأما حاصل ما أفاده المصنف «قدس‌سره» في الجواب ، فيرجع إلى وجهين :

الوجه الأول : ما أشار إليه بقوله : «لعدم العلم بوقوع الخلل فيها ...» الخ ، أي : لعدم العلم بوقوع الخلل في الظواهر «بذلك» أي : بسبب التحريف.

وتوضيح ذلك : أن التحريف لا يوجب العلم بخلل في الظواهر ؛ إذ من المحتمل : وقوع التحريف في المتشابه ، فتبقى ظواهر الكتاب سليمة عن الخلل ، فمجرد العلم الإجمالي بالتحريف لا يسقط الظهور عن الاعتبار.

الوجه الثاني : ما أشار إليه بقوله : «ولو سلم ، فلا علم بوقوعه في آيات الأحكام».

وحاصل هذا الوجه : أنه ـ بعد تسليم العلم بوقوع الخلل في الظواهر المانع عن حجيتها ـ لا علم بوقوع الخلل في آيات الأحكام التي هي مورد البحث والابتلاء ؛ لاحتمال وقوع الخلل في ظواهر غير آيات الأحكام مما يرتبط بالولاية وغيرها ، ومن المعلوم : إنه لا أثر للعلم الإجمالي الذي يكون بعض أطرافه خارجا عن مورد الابتلاء ،

__________________

(١) الحجر : ٩.

(٢) مجمع البيان ٣ : ١٤ ـ ١٥.

١٩٠

الآيات غير ضائر بحجية آياتها ؛ لعدم حجية ظاهر سائر الآيات ، والعلم الإجمالي بوقوع الخلل في الظواهر إنما يمنع عن حجيتها إذا كانت كلها حجة ؛ وإلا (١) لا يكاد ينفك ظاهر عن ذلك (٢) فافهم (٣).

نعم (٤) ؛ لو كان الخلل فيه أو في غيره بما اتصل به ، لأخل بحجيته لعدم انعقاد ظهوره له حينئذ ، وإن انعقد له الظهور لو لا اتصاله.

______________________________________________________

كما إذا علم إجمالا بخلل في إحدى الصلوات الأربع التي صلاها إلى الجهات الأربع لاشتباه القبلة فيها ، فلو كان الخلل في غير الصلاة الواقعة إلى القبلة لم يكن له أثر.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية» :

والغرض من قوله : ـ «والعلم الإجمالي بوقوع الخلل ...» الخ ـ بيان مانعية العلم الإجمالي بوقوع التحريف عن التمسك بظواهر القرآن ؛ إذا فرض حجية جميع ظواهر الكتاب من غير فرق في ذلك بين آيات الأحكام وغيرها ؛ لأن العلم الإجمالي بوقوع الخلل في الظواهر في الجملة مانع عن أصالة الظهور ، فلا يمكن الأخذ بشيء من ظواهر الكتاب ، سواء كانت من آيات الأحكام أم غيرها ؛ لكون الجميع حينئذ موردا للابتلاء.

(١) أي : وإن لم تكن ظواهر الكتاب كلها حجة ـ بأن كانت ظواهر خصوص آيات الأحكام حجة ـ ومع ذلك كان العلم الإجمالي مانعا عن حجيتها لزم سقوط جميع الظواهر عن الحجية ؛ إذ ما من ظاهر إلا ويحتمل وقوع الخلل فيه ، ومن المعلوم : أن الالتزام بسقوط جميع الظواهر عن الحجية ينافي ما سبق من الإرجاع إلى بعض آيات الأحكام.

(٢) أي : عن وقوع الخلل فيه ؛ لكونه طرفا للعلم الإجمالي بوقوع التحريف في القرآن. وضميرا «حجيتها ، كلها» راجعان على الظواهر.

(٣) لعله إشارة إلى منع خروج غير آيات الأحكام ـ من سائر الآيات ـ عن مورد الابتلاء ؛ إذ يكفي في الابتلاء بها : جواز الاعتماد عليها في الإخبار عن مضامينها ، فلا تختص أصالة الظهور بآيات الأحكام. وعليه : فالعلم الإجمالي بوقوع الخلل في بعض الظواهر في الجملة يمنع عن حجية أصالة الظهور في جميع الآيات ، فالصواب حينئذ : منع التحريف الموجب للخلل في الظواهر.

(٤) هذا استدراك على قوله : «لا يمنع عن حجية ظواهره» ، وكان اللازم تأنيث الضمائر في قوله : «فيه ، غيره ، به».

وحاصل الاستدراك : هو التفصيل في الإخلال بظواهر الكتاب بين القرائن المتصلة والمنفصلة ؛ بأن يقال بالإخلال في الأولى دون الثانية ، بمعنى : أن الخلل المحتمل في آيات

١٩١

ثم إن التحقيق أن الاختلاف (١) في القراءة بما يوجب الاختلاف في الظهور مثل : (يَطْهُرْنَ) بالتشديد والتخفيف ، يوجب الإخلال بجواز التمسك والاستدلال ؛ لعدم إحراز ما هو القرآن ، ولم يثبت تواتر القراءات ولا جواز الاستدلال بها وإن نسب إلى المشهور تواترها ؛ لكنه مما لا أصل له ، وإنما الثابت : جواز القراءة بها ، ولا ملازمة بينهما ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

القرآن إن كان بما اتصل بها لأخل بحجيتها قهرا ؛ إذ الخلل المحتمل بالتحريف يكون حينئذ موجبا لاختلال أصل الظهور ، وعدم انعقاده. فإذا احتمل احتفاف ظاهر آيات الأحكام بما يكون مانعا عن انعقاد الظهور لم تجر فيه أصالة الظهور ، إذ مجراها هو الظهور المعلوم ، وأما مشكوك الظهور : فلا مجال لجريانها فيه.

هذا بخلاف احتمال القرائن المنفصلة ، فلا يكون مضرا بحجية أصالة الظهور بالنسبة إلى ظواهر آيات الأحكام ، فالحق هو التفصيل في الإخلال لا عدم الإخلال مطلقا.

فالمتحصل : أن مجرد العلم الإجمالي بالخلل المردد بين آيات الأحكام وغيرها مما لا يخل بحجيتها ؛ ما لم يرجع إلى الشك في قرينية الموجود المتصل بالكلام ، دون الشك في أصل وجود القرينة ، سواء كانت متصلة أو منفصلة ، ودون الشك في قرينية الموجود إذا كانت منفصلة.

في اختلاف القراءات

(١) هل الاختلاف في القراءة يوجب سقوط حجية القرآن في الآية المختلف في قراءتها أم لا؟ فنقول : إنه بعد ما أثبت المصنف «قدس‌سره» حجية ظواهر آيات الأحكام نبّه على ثبوت الإخلال بالتمسك بظواهر الكتاب بسبب اختلاف القراءات ، الموجب لعدم إحراز ما هو القرآن ، وباختلافها لا يمكن الاستدلال بظاهر القرآن ؛ إذ المفروض : اختلاف الظهور تبعا للقراءة.

وقبل الخوض في البحث عن حكم اختلاف القراءات ينبغي بيان ما هو محل الكلام.

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : إن الاختلاف في القراءة على أقسام :

الأول : هو الاختلاف من حيث الصورة فقط ، دون المادة والمؤدى مثل : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)(١) ، وملك يوم الدّين ، والفرق بينهما بالعموم والخصوص : إذ المالك أعم من الملك.

__________________

(١) الفاتحة : ٣.

١٩٢

ولو فرض جواز الاستدلال بها ، فلا وجه لملاحظة الترجيح بينها ، بعد كون الأصل في تعارض الأمارات هو : سقوطها عن الحجية في خصوص المؤدى ، بناء على اعتبارها من باب الطريقية ، والتخيير بينها بناء على السببية ، مع عدم دليل على الترجيح في غير الروايات من سائر الأمارات ، فلا بد من الرجوع حينئذ إلى الأصل أو العموم ، حسب اختلاف المقامات.

______________________________________________________

الثاني : هو الاختلاف من حيث المادة دون الصورة ، كقوله تعالى : كيف ننشرها (١) حيث قرء بالزاء والراء كما في مجمع البيان في ذيل آية ٢٥٩ من سورة البقرة.

الثالث : الاختلاف في الصورة والمؤدى دون المادة ، كقوله تعالى : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ)(٢) حيث قرئ ـ قوله تعالى : ـ (يَطْهُرْنَ) بالتشديد والتخفيف ، فعلى الأول : يحرم الجماع والمقاربة قبل الغسل ، وعلى الثاني : قبل النقاء.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن محل النزاع مختص بما إذا كان الاختلاف في القراءة موجبا للاختلاف في المؤدى ، سواء كان موجبا للاختلاف في المادة والصورة أم لا ؛ كما هو ظاهر المصنف حيث قال : «إن الاختلاف في القراءة بما يوجب الاختلاف في الظهور» ، وهذا احتراز عن الاختلاف غير الموجب لاختلاف الظهور مثل : (الصِّراطَ) و «السراط».

وأما حكم اختلاف القراءات الموجب لاختلاف الظهور : فهو منع التمسك بالقرآن ؛ وذلك لعدم إحراز ما هو القرآن حتى يستدل بظاهره لإثبات الحكم الشرعي.

وتوضيح جميع جوانب مسألة اختلاف القراءات يتوقف على مقدمة وهي : بيان الاحتمالات والصور المتصورة في القراءات من حيث التواتر وعدمه ، وجواز الاستدلال بكل منها وعدمه فهناك صور :

الصورة الأولى : هي ثبوت تواترها.

الصورة الثانية : هي جواز الاستدلال بكل منها على تقدير عدم ثبوت تواترها.

الصورة الثالثة : هي جواز القراءة على طبق كل قراءة فقط ، من دون ثبوت التواتر ولا جواز الاستدلال بها ، بمعنى : أن جواز القراءة على طبق قراءة لا يلازم جواز الاستدلال بتلك القراءة.

__________________

(١) البقرة : ٢٥٩.

(٢) البقرة : ٢٢٢.

١٩٣

.................................................................................................

______________________________________________________

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن اختلاف القراءات بحسب الصورة الثالثة : يوجب الإخلال بجواز التمسك والاستدلال ؛ وذلك لعدم إحراز ما هو القرآن ؛ إذ لا وجه للاستدلال بإحدى القراءتين ما لم تثبت قرآنيتها ، والثابت هو جواز القراءة على طبق كل قراءة كما في بعض الروايات عن الإمام الصادق «عليه‌السلام» : «اقرأ كما يقرأ الناس» ، ولا ملازمة بين جواز القراءة وجواز الاستدلال بها. هذا في صورة عدم التعارض بين القراءتين وأما في صورة التعارض ـ كتعارض القراءة بالتشديد والتخفيف في قوله تعالى : (يَطْهُرْنَ) ـ فلا بد من التوقف والرجوع إلى الأصل العملي ، أو العموم حسب اختلاف المقامات.

ومقتضى الأصل في ـ (يَطْهُرْنَ) ـ هو : حرمة المقاربة ، ومقتضى العموم هو الجواز ؛ إذ الأمر يدور بين استصحاب حكم المخصص ـ وهو قوله تعالى : ـ (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ ،) حيث يكون مخصصا للعموم الزماني ـ وهو قوله تعالى : ـ (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)(١) ، وبين الرجوع إلى عموم العام من حيث الزمان ، بناء على أن يكون (أَنَّى) بمعنى الزمان لا بمعنى المكان حتى لا يرتبط بالمقام ، ف (أَنَّى شِئْتُمْ) يفيد العموم من حيث الزمان ، وقد خرج منه زمان الحيض ، فنتمسك به على جواز المقاربة بعد حصول النقاء من الحيض.

أو نستصحب حكم المخصص وهو حرمة المقاربة والجماع عند الشك في بقاء الحرمة بعد النقاء وقبل الغسل ، فيجري استصحاب الحرمة ويحكم بها. هذا معنى قول المصنف : «فلا بد من الرجوع حينئذ إلى الأصل أو العموم ...» الخ. هذا تمام الكلام في حكم الصورة الثالثة.

وأما حكم الصورة الأولى وهي تواتر القراءات من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فهو : أن كل قراءة بمنزلة آية وتكون القراءتان المختلفتان بمنزلة آيتين ، فربما يقع التعارض بينهما كما في الآية المتقدمة.

وتقريب التعارض بين القراءة بالتشديد والتخفيف : أن مقتضى القراءة بالتشديد منطوقا هو حرمة المقاربة إلى تحصيل الطهارة أي : الاغتسال ، ومقتضى مفهومها : هو جواز المقاربة بعد الاغتسال ، ثم مقتضى القراءة بالتخفيف منطوقا هو حرمة المقاربة إلى

__________________

(١) البقرة : ٢٢٣.

١٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

النقاء ، يعني : حرمة المقاربة قبل انقطاع دم الحيض ، فيكون مفهومها هو : جواز المقاربة بعد انقطاع الدم وإن لم تغتسل. فيقع التعارض في المقاربة بعد النقاء وقبل الغسل ، حيث يكون مقتضى القراءة بالتشديد بحسب المنطوق الحرمة ، ومقتضى القراءة بالتخفيف بحسب المفهوم الجواز ، فتقدم القراءة بالتشديد ؛ لأن الدلالة المنطوقية أقوى من الدلالة المفهومية ؛ لأنها بالنص أو اظهر ، ودلالة القراءة بالتخفيف نفرضها بالظهور ، فيجمع بينهما بحمل الظاهر على النص أو على الأظهر.

وأما مع التكافؤ والتساوي بين القراءتين ؛ بأن تكونا ظاهرتين أو نصين : فلا بد من التوقف والرجوع إلى الأصل العملي ، أو العموم حسب اختلاف المقامات كما عرفت في الصورة الأولى.

ولا تجري هنا مرجحات تعارض الروايات ؛ إذ لا دليل لنا على الترجيح بتلك المرجحات في غير الروايات.

أما الصورة الثانية : فحكمها حكم الصورة الأولى النعل بالنعل ، وهو التوقف عند التعارض ، والرجوع إلى الأصل العملي أو العموم.

والمتحصل من الجميع : أنه لا يخلو الأمر من الصور الثلاث : إما أن نقول : بتواتر القراءات كلها كما هو المشهورة وإما أن لا نقول بتواترها كما هو مذهب جماعة ، فعلى الأول : فقراءة (يَطْهُرْنَ) بالتشديد والتخفيف بمنزلة آيتين متعارضتين ، فلا بد من الجمع بينهما بحمل الظاهر على النص أو على الأظهر ، ومع التكافؤ لا بد من الحكم بالتوقف والرجوع إلى غيرهما. وعلى الثاني : ـ أعني : عدم التواتر ـ فإن ثبت جواز الاستدلال بكل قراءة ، كما ثبت بالإجماع جواز القراءة بكل قراءة كان الحكم كما تقدم ، وإلا فلا بد من التوقف والرجوع إلى القواعد ، مع عدم المرجح أو مطلقا بناء على عدم ثبوت الترجيح هنا كما هو الظاهر ، فيحكم باستصحاب الحرمة قبل الاغتسال ؛ إذ لم يثبت تواتر التخفيف أو بالجواز بناء على عموم قوله تعالى : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) من حيث الزمان خرج منه أيام الحيض.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

قوله : «لو فرض جواز الاستدلال بها» إشارة إلى ما احتمله الشيخ الأنصاري حيث

١٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

قال : «فإن ثبت جواز الاستدلال بكل قراءة كان الحكم كما تقدم ؛ وإلا فلا بد من التوقف في محل التعارض ، والرجوع إلى القواعد مع عدم المرجح ، أو مطلقا بناء على عدم الترجيح هنا» (١).

والمصنف أورد عليه بقوله : «فلا وجه لملاحظة ...» الخ. وحاصله : أن مقتضى الأصل في تعارض الطرق هو التساقط ، وملاحظة الترجيح والتخيير في المتعارضين من الأخبار إنما هي لأجل الأخبار العلاجية.

وبالجملة : فمقتضى القاعدة بناء على الطريقية هو التساقط ، وبناء على السببية هو التخيير كما يأتي في باب التعارض إن شاء الله تعالى.

فالمتحصل : أنه ـ بناء على جواز الاستدلال بكل قراءة ـ يكون مقتضى القاعدة في تعارض القراءتين على الطريقية : التساقط ، وعلى الموضوعية : التخيير ، ولا وجه لملاحظة الترجيح والتخيير بينهما أصلا ؛ لاختصاصها بالروايات المتعارضة.

لكن يمكن إجراء حكم تعارض الخبرين في القراءتين المتعارضتين بدعوى : كون القارئ راويا للقرآن ، فتندرج القراءتان المتعارضتان في الروايتين المتعارضتين ، فيعامل معهما معاملتهما.

قوله : «هو سقوطهما عن الحجية في خصوص المؤدى ...» الخ. أي : يتساقطان في المدلول المطابقي ؛ لا المدلول الالتزامي ، وهو نفي الثالث.

قوله : «مع عدم دليل على الترجيح» قيد لقوله : «سقوطها» ، وضمير «سقوطها ، اعتبارها» راجعان على الأمارات.

وحاصل الكلام : أن كون مقتضى الأصل في تعارض القراءتين هو التساقط بناء على الطريقية ، والتخيير على الموضوعية مبني على اختصاص دليل الترجيح بالخبرين المتعارضين ، وعدم شموله لسائر الأمارات المتعارضة.

وأما بناء على عدم اختصاصه بهما : فلا بد من الرجوع إلى الأخبار العلاجية ، وترجيح ما تقتضي تلك الأخبار ترجيحه ، ولا وجه للتساقط أو التخيير كما لا يخفى.

قوله : «فلا بد من الرجوع» إشارة إلى أن غرض المصنف من هذا الكلام هو : الرجوع إلى الأصل أو العموم ، بناء على الطريقية بعد تساقط القراءتين المختلفتين في الظهور على اختلاف المقامات ، ففي المرأة الحائض التي انقطع عنها الدم ، وشك في جواز وطئها قبل

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٥٨.

١٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الاغتسال بعد تساقط قراءتي (يَطْهُرْنَ) بالتشديد والتخفيف ؛ هل يبني على عدمه لاستصحاب الحرمة ، أو على جوازه لقوله تعالى : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) لدلالته على جواز الوطء في كل زمان وجود الدم قطعا ، وخروج غيره مشكوك فيه فيشك في التخصيص الزائد ، فيرجع إلى العام؟ أو لا يتمسك بشيء منهما ؛ بل يتشبث بأصل البراءة المقتضي للجواز ، فلا بد من التأمل في الموارد حتى يعلم أن المورد من موارد الرجوع إلى العموم أو الأصل. هذا تمام الكلام في حكم اختلاف القراءات.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ ومما خرج بالدليل عن الأصل ـ وهو : عدم حجية ما لا يعلم اعتباره ـ هو ظاهر الكلام ، ولذا يقول المصنف : «ولا شبهة في لزوم اتّباع ظاهر كلام الشارع في تعيين مراده في الجملة» ، أي : على نحو الإيجابي الجزئي ، ثم الظاهر عبارة : عن تجلي المعنى من اللفظ وانسباقه إلى الذهن ؛ بحيث إذا ألقي اللفظ إلى العرف حملوه عليه ، سواء حصل منه الظن بالمراد أم لا ، فإن تحقق الظهور مما لا يدور مدار الظن بالمراد ، كما أن الظن بالمراد مما لا يدور مدار الظهور.

٢ ـ الدليل على تعيين مراد الشارع من طريق ظاهر كلامه هو : بناء العقلاء ، حيث استقر على اتباع ظهور الكلام في تعيين مراد المتكلم ، والشارع لم يخترع طريقة أخرى مخالفة لطريقة العقلاء ، ولم يردع عنها ؛ وإلا لنقل إلينا ذلك الردع. ثم هذا البناء العقلائي على اتباع الظاهر لا يختص بصورة الظن بالوفاق ، ولا بعدم الظن بالخلاف.

٣ ـ هناك تفاصيل :

١ ـ اعتبار الظن بالوفاق.

٢ ـ اعتبار عدم الظن بالخلاف.

٣ ـ التفصيل بين من قصد إفهامه وغيره ، واختصاص حجية الظواهر بالأول.

٤ ـ التفصيل بين ظاهر الكتاب وغيره ، واختصاص حجية الظواهر بالثاني دون الأول كما هو مذهب جماعة من الأخباريين.

ويقول المصنف بحجية الظواهر مطلقا ؛ لأن سيرة العقلاء ثابتة في الظواهر مطلقا حتى بالنسبة إلى من لم يكن مقصودا بالإفهام.

١٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

والشاهد على إطلاق بنائهم هو : أنه لا يسمع اعتذار من لم يقصد إفهامه «بأني لم أكن مقصودا بالإفهام» ، وكذلك صحة الاحتجاج بظاهر الكلام عند المخاصمة تكشف عن حجية الظواهر مطلقا.

كما تشهد صحة الشهادة بالإقرار بصحة الاحتجاج بظاهر الكلام ، مثلا : إذا أقر زيد على نفسه بأنه مديون لعمرو بألف دينار ، وقد سمعه بكر صح لبكر أن يشهد عليه عند الحاكم ؛ وإن لم يكن مقصودا بالإفهام.

٤ ـ التفصيل بين ظاهر الكتاب وظاهر السنة ، والقول بحجية ظواهر السنة دون الكتاب ، فلا بد أولا : من بيان ما استدل به على هذا التفصيل. وثانيا : من الجواب عنه.

وقد استدل على عدم حجية ظواهر الكتاب بأمور تالية :

١ ـ دعوى اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله ومن خوطب به ، فليس للقرآن ظهور ، فهذا الوجه يرجع إلى منه الصغرى.

والشاهد عليه : ما ورد في ردع أبي حنيفة وقتادة ، ومفاده : أنه ليس للقرآن ظهور بالنسبة إلى غير الأئمة المعصومين «عليهم‌السلام».

٢ ـ دعوى : عدم وصول أفكار أولي الأنظار إلى ما في القرآن من المضامين العالية الغامضة. وهذا الوجه الثاني كالوجه الأول راجع على منع الصغرى.

٣ ـ دعوى شمول المتشابه الممنوع عن اتباعه للظاهر.

وحاصل هذا الوجه الثالث : منع الكبرى ـ وهي حجية ظواهر القرآن ـ بدعوى : إجمال المتشابه ، واحتمال شموله للظاهر ، بتقريب : أن المتشابه مقابل الصريح الذي لا يحتمل الخلاف فيه ، فيعم الظاهر ، ولا أقل من احتماله ، فيكون المتشابه مجملا ، ويسري إجماله إلى جميع الآيات ، فلا يصح التمسك بظواهر القرآن بعد ذلك ؛ لاحتمال اندراج الظاهر في المتشابه ، وهذا يوجب الشك في حجيته.

وقد عرفت : أن الأصل في مشكوك الحجية هو عدم جواز العمل به. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب هذا الوجه الثالث.

٤ ـ دعوى : أن ظاهر الكتاب وإن لم يكن من المتشابه ذاتا إلا إنه صار منه عرضا ، وهذا الوجه أيضا كالوجه الأول ، والثاني راجع على منع الصغرى أعني : الظهور ، بمعنى : أن الكتاب لا ينعقد له ظهور لأجل العلم الإجمالي بطروّ التخصيص والتقييد والتجوز ، فيسقط عن الظهور ؛ لأن هذا العلم الإجمالي يمنع عن الرجوع إلى الأصول المرادية ؛

١٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

كأصالة عدم التخصيص وغيرها ، ومع عدم جريانها يسقط الظاهر عن الحجية ، أي : ليس له ظهور ؛ كي يكون حجة.

٥ ـ دعوى : شمول الأخبار الناهية عن تفسير القرآن لحمل الكلام الظاهر على إرادة ظاهره ، وهذا الوجه أيضا ـ أي : كالوجه الثالث ـ راجع على منع الكبرى ـ وهي حجية ظواهر القرآن ، بمعنى : أنه لا يجوز حمل الكتاب على ما هو ظاهر فيه من المعنى.

٦ ـ فساد هذه الدعاوى :

أما فساد الدعوى الأولى : فلأن المراد من الأخبار الدالة على اختصاص فهم القرآن بأهله هو : فهم مجموع القرآن من حيث المجموع ، بما فيه من المتشابه والمحكم والعام والخاص والناسخ والمنسوخ والظاهر والباطن ؛ لا فهم كل آية ، لوضوح : أن في القرآن ما لا يختص علمه وفهمه بالمعصومين «عليهم‌السلام».

وأما ردع الإمام «عليه‌السلام» لأبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به : فهو إنما هو لأجل استقلالهما بالفتوى ، من دون مراجعة الروايات الواردة عن أهل البيت «عليهم‌السلام» ؛ لا عن الاستدلال بظاهر الكتاب مطلقا.

وأما فساد الدعوى الثانية ـ وهي اشتمال الكتاب على المطالب الغامضة ـ فحاصله : أنه لا يمنع عن حجية الظواهر في آيات الأحكام ؛ إذ الكتاب لا يحتوي على المضامين الغامضة في تمام آياته ؛ بل في بعضها.

فالمتحصل : أن محل الكلام هو حجية ظواهر آيات الأحكام ، ومن المعلوم : أنه لا مجال لإنكار وجود ظواهر في آياتها.

وأما فساد الدعوى الثالثة : فحاصله : منع كون الظاهر من المتشابه وهو خصوص المجمل فلا يشمل الظاهر.

وأما فساد الدعوى الرابعة ـ وهي كون الظاهر من المتشابه بالعرض ـ فيمكن بأحد وجهين :

الأول : أن العلم الإجمالي بإرادة خلاف الظاهر في جملة من الآيات وإن كان موجبا للإجمال ؛ إلا إنه ما لم ينحل العلم الإجمالي بالفحص عن المخصص والمقيد والظفر بالمخصصات والمقيدات بمقدار المعلوم بالإجمال ، ومع الانحلال لا إجمال في البين.

الثاني : أن دائرة المعلوم بالإجمال ليست مطلق الأمارات كي يقال : ببقاء احتمال

١٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

التخصيص حتى بعد الفحص ؛ بل خصوص ما لو تفحصنا عنه لظفرنا به ، فلا مانع من التمسك بالظواهر بعد الفحص واليأس عن المخصص والمقيد ؛ إذ العلم الإجمالي مانع عنه قبل الفحص.

٧ ـ وأما فساد الدعوى الخامسة : فبوجوه :

الأول : أن حمل الكلام على معناه الظاهر ليس تفسيرا ، والممنوع هو تفسير القرآن.

الثاني : لو سلمنا صدق التفسير عليه ؛ لكنه ليس تفسيرا بالرأي ، والممنوع بمقتضى حمل المطلق على المقيد هو : التفسير بالرأي وهو الاعتبار العقلي الظني الراجع على الاستحسان ، الذي لا اعتبار به أصلا.

الثالث : لو سلمنا شمول الروايات الناهية عن التفسير بالرأي لحمل اللفظ على ظاهره ، فلا محيص عن حمل التفسير بالرأي فيها على حمل اللفظ على خلاف ظاهره ، أو على أحد محتملاته بمجرد الاستحسان العقلي ، وإخراج حمل اللفظ على ظاهره عن تحت تلك الروايات ، وذلك بمقتضى الجمع بينها وبين ما دل على جواز التمسك بالقرآن مثل خبر الثقلين.

٨ ـ العلم الإجمالي بوقوع التحريف في القرآن : هل يوجب سقوط ظاهر القرآن عن الحجية حتى يكون وجها آخرا لإسقاط ظاهره عن الحجية أم لا؟ ومحل الكلام هو : التحريف بالنقيصة بمعنى : أن القرآن ضاع بعضه.

وحاصل ما أفاده المصنف في هذا المقام : هو إن وقوع التحريف في الكتاب العزيز ؛ وإن كان يوجب سقوط الظهور عن الاعتبار ، أو يمنع عن انعقاد الظهور إلا إن ذلك لا يمنع عن حجية ظواهر الكتاب وذلك لوجوه :

الأول : لعدم العلم بوقوع الخلل في الظواهر ؛ لاحتمال نقصان بعض الآيات بكاملها.

الثاني : ليس لنا علم بوقوع التحريف بآيات الأحكام ، والعلم الإجمالي بوقوعه فيها أو في غيرها من الآيات لا يمنع عن حجية آيات الأحكام ؛ لعدم حجية سائر الآيات ، والعلم الإجمالي يمنع عن حجية ظواهر آيات الأحكام لو كانت الآيات كلها حجة.

«فافهم» لعله إشارة إلى منع خروج غير آيات الأحكام عن مورد الابتلاء ؛ حتى يقال : إنها ليست حجة لخروجها عن مورد الابتلاء ؛ إذ يكفي في الابتلاء بها : جواز الاعتماد عليها في الإخبار عن مضامينها ، فالصواب حينئذ : منع التحريف الموجب للخلل في الظواهر.

٢٠٠