دروس في الكفاية - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

كيف (١)؟ ولو كانت بغير معانيها العامة جارية عليه تعالى كانت صرف لقلقة اللسان ، وألفاظ بلا معنى ، فإن غير تلك المفاهيم العامة الجارية على غيره تعالى غير مفهوم ولا معلوم إلّا بما يقابلها ، ففي مثل ما إذا قلنا : «إنه تعالى عالم» ؛ إما أن نعني : أنه من ينكشف لديه الشيء فهو ذاك المعنى العام ، أو أنه مصداق لما يقابل ذاك المعنى فتعالى عن ذلك علوا كبيرا.

______________________________________________________

والتزم صاحب الفصول بالنقل مع إن الأصل عدم النقل لوجهين :

الأول : عدم قيام المبدأ بالذات ، لأن المبدأ هو عين الذات المقدسة ، وذات الباري تعالى عين المبدأ ، فلا يعقل القيام ، مع إن قيام المحمول بالموضوع معتبر في الحمل.

الثاني : لعدم المغايرة بين المبدأ والذات المقدسة ؛ مع إن الحمل عبارة عن اتحاد الموضوع والمحمول من جهة ، وتغايرهما من جهة أخرى.

وحاصل الجواب : أنه يشترط في الحمل القيام سواء كان عينيا أم كان صدوريا أو غيرهما ، والقيام العيني موجود في حمل الصفات عليه تعالى. هذا هو الجواب عن الوجه الأول.

وأما عن الوجه الثاني : فلوجود المغايرة بين الذات المقدسة وبين المبدأ من حيث المفهوم ، وهذا المقدار من المغايرة كاف في صحة حمل المشتق عليه تعالى ، وفي كونه حقيقة فيه.

(١) أي : كيف يكون لما التزم به في الفصول وجه ، والحال : أنه لو كانت الصفات بغير معانيها العامة للواجب والممكن جارية عليه تعالى لزم أن تكون صرف لقلقة اللسان.

وحاصل اعتراض المصنف على الفصول : أن الصفات الجارية على البارى «جل وعلا» إن انسلخت عن معانيها العامة الشاملة للواجب والممكن ؛ لزم أحد المحذورين اللذين لا سبيل إلى الالتزام بهما.

توضيح ذلك : إما أن نريد من لفظ العالم في قولنا : «الله عالم» الذات التي ينكشف لديها الواقع ، فذاك هو المعنى العام للفظ العالم الذي يشمل علم الباري وعلم غيره. غاية الأمر : علم الباري «جل وعلا» يكون على النحو الأكمل ، وعلم غيره على النحو الأضعف.

وإما أن نريد من لفظ العالم في المثال المذكور : أن الله مصداق لوصف يقابل ذاك المعنى المذكور ، وهو انكشاف الواقع ، والمعنى الذي يقابله هو عدم انكشاف الواقع ، وهو عبارة أخرى عن الجهل بالواقع ، فتعالى عن ذاك علوا كبيرا.

وإما أن لا نريد من لفظ العالم شيئا معلوما لنا وهو : انكشاف الواقع ، فيكون التلفظ

٢٦١

وإما أن لا نعني شيئا فتكون كما قلناه من كونها صرف اللقلقة ، وكونها بلا معنى كما لا يخفى.

(والعجب) أنه (١) جعل ذلك علة لعدم صدقها في حق غيره ؛ وهو (٢) كما ترى.

وبالتأمل فيما ذكرنا (٣) ظهر الخلل فيما استدل من الجانبين (٤) ، والمحاكمة بين الطرفين ، فتأمل.

______________________________________________________

بلفظ «الله عالم» صرف لقلقة اللسان ، وكون صفات الباري بلا معنى أصلا ، ولا سبيل إلى الالتزام بالاحتمالين الأخيرين ، فالمتعين هو الأول ؛ وهو المطلوب.

(١) أي : صاحب الفصول جعل النقل علة لعدم صدق الصفات في حق غيره تعالى بالمعنى الذي يصدق في حقه تعالى. قال في الفصول : ما هذا لفظه : «فالوجه التزام وقوع النقل في تلك الألفاظ بالنسبة إليه تعالى ؛ ولهذا لا تصدق في حق غيره».

وحاصل الكلام في هذا المقام : أنه جعل صاحب الفصول نقل صفات الباري تعالى عن معناها اللغوي إلى المعنى الثاني بالنسبة إليه «سبحانه وتعالى» علة لعدم صدقها بما لها من المعاني في حق غيره تعالى ؛ بالنحو الذي تصدق في حقه تعالى أي : صدق الصفات على الباري «عزّ اسمه» يكون بعد النقل على نحو العينية ، وصدقها على غيره قبل النقل على نحو المغايرة والاثنينية ، وعلى نحو الحالية والمحلية.

وجه تعجب المصنف منه ما تقدم ؛ من صدق العالم على الباري تعالى وعلى غيره يكون بمعنى واحد ؛ وهو : انكشاف الواقع. غاية الأمر : في الباري على نحو العينية ، وفي غيره على نحو الحلول أو الصدور ، فإنكار «الفصول» صدق الصفات على غير الباري تعالى بالمعنى الذي تطلق عليه تعالى في غير محله.

(٢) أي : ما ذكره صاحب الفصول ؛ من عدم جواز إطلاق الصفات في حق غيره تعالى بمعناها المطلق عليه تعالى كما ترى في غير محله ، وقد عرفت ما يرد عليه من الإشكال من : أن جري المشتق على الله تعالى ليس إلّا كجريه علينا ، بل معنى المشتق على كل تقدير واحد ، وجريه على كل من الواجب والممكن يكون على نهج واحد ، ولا تفاوت بينهما إلّا في كيفية التلبس على ما سبق.

(٣) أي : اعتبار قيام المبدأ بالذات بأحد أنحائه في صدق المشتق على نحو الحقيقة.

(٤) أي : المثبتين لاعتبار قيام المبدأ بالذات في صدق المشتق على نحو الحقيقة والنافين لذلك ، وقد ظهر : خلل أدلة الطرفين من التحقيق الذي أفاده المصنف بقوله : «والتحقيق : إنه لا ينبغي أن يرتاب ...» إلخ. ومن هذا التحقيق ظهر فساد دليل النافي لاعتبار قيام

٢٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

المبدأ بالذات في صدق المشتق على نحو الحقيقة ؛ حيث استدل النافي بصدق الضارب والمؤلم مع قيام الضرب والألم بالمضروب والمؤلم ـ بالفتح ـ.

وجه الفساد : أن قيام المبدأ بالذات موجود ، غاية الأمر : قيام المبدأ بالذات بالنسبة إلى المفعول وقوعي ، وبالنسبة إلى الفاعل صدوري ، وقد مر غير مرة أن اختلاف قيام المبدأ لا يوجب تفاوتا فيما هو المهم من صدق المشتق على الذات على نحو الحقيقة بعد تحقق قيام المبدأ بها وتلبسها به.

وقد ظهر من التحقيق السابق : المحاكمة بين المثبت والنافي ؛ لأن الحاكم يحكم بالصلح بينهما ، لأن مقصود المثبت هو : اعتبار قيام المبدأ بالذات في صدق المشتق على نحو الحقيقة هو مطلق تلبس الذات بالمبدإ ؛ سواء كان صدوريا أو حلوليا أو غيرهما.

ومراد النافي هو : عدم اعتبار تلبس الذات بالمبدإ على نحو الحلول فقط في صدق المشتق على الذات فلا نزاع حينئذ ؛ لأن المنفي هو خصوص القيام الحلولي ، والمثبت هو القيام في الجملة ، فحينئذ يكون النزاع لفظيا.

قوله : «فتأمل» لعله إشارة إلى ضعف المحاكمة ، وأن النزاع معنوي ؛ لأن من المثبتين من يرى اعتبار القيام الحلولي كالأشعري ، ولذا التجئوا إلى إثبات الكلام النفسي ؛ لئلا يلزم كونه تعالى محلا للحوادث ؛ لأن الكلام بمعناه المعروف من الحوادث ، والقيام الحلولي يستلزم كون ذاته المقدسة محلا لها ، فلا وجه لما ذكر من الصلح بين القولين.

أو إشارة إلى : أن غرض «الفصول» من نقل صفات البارى تعالى هو النقل في هيئات المشتقات والصفات ؛ لا النقل في موادها ، فلا يرد عليه ما أورده المصنف من لزوم اللقلقة في اللسان ، والغرض من نقل الهيئة هو : أن إطلاق العالم والقادر بما لهما من المعنى المطلق على الله تعالى لا يجوز على غيره تعالى ، وأما إطلاق المبادئ كالعلم والقدرة ونحوهما فهو جائز على غيره تعالى ، ويكون بمفهوم واحد.

وإنما الاختلاف في كيفية التلبس كما عرفت.

خلاصة البحث

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ اعتبار قيام المبدأ بالذات في صدق المشتق على نحو الحقيقة ، وقيل : بعدم اعتبار قيام مبدأ المشتق بالذات في صدقه عليها لوجوه.

منها : إطلاق الضارب والمؤلم ـ بالكسر ـ على الفاعل ؛ مع قيام الضرب والألم

٢٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

بالمضروب والمؤلم ـ بالفتح ـ.

منها : إطلاق الصفات الذاتية الجارية على الله تعالى ؛ مع كون مباديها عين ذاته المقدسة ، فلا يتصور القيام المستلزم للتعدد والاثنينية.

ومنها : إطلاق التامر واللابن ونحوهما مما كان المبدأ فيه ذاتا.

وملخص الجواب عن الجميع هو : ثبوت قيام المبدأ بالذات في الأمثلة المذكورة ، غاية الأمر : واجدية الذات للمبدا تتصور على أقسام :

الأول : أن تكون بنحو الصدور ؛ كالمعطي والضارب والمؤلم ـ بالكسر ـ.

الثاني : أن تكون بنحو الوقوع كالمضروب والمؤلم ـ بالفتح ـ.

الثالث : أن تكون بنحو الانتزاع كالزوج والحر والرق ونحوها ؛ مما كان المبدأ منتزعا عن الذات ، وليس له تحقق في الخارج.

الرابع : أن تكون بنحو العينية كما في صفاته تعالى ؛ فإن المبدأ كالعلم والقدرة عين الذات المقدسة ، ووجدان الذات له بنحو العينية وإن كان خارجا عن المتفاهم العرفي ؛ إلّا إنه يدرك بتعمل من العقل السليم.

أما التامر واللابن : فلأن المراد من الأول هو : بائع التمر ، ومن الثاني من يبيع اللبن ، فتكون الذات فيهما متلبسة بالمبدإ ، والمبدأ قائم بها ، فلا وجه لعدم اعتبار قيام المبدأ بالذات في الأمثلة المذكورة.

٢ ـ الرّد على ما التزم به صاحب الفصول : من النقل في صفات الله تعالى لوجهين :

الأول : عدم قيام المبدأ بالذات في صفاته تعالى ؛ لأن المبدأ هو عين الذات ، والذات هو عين المبدأ ، فلا يعقل القيام ، مع إن قيام المحمول بالموضوع معتبر في صحة الحمل.

الثاني : عدم المغايرة بين الذات والمبدأ ؛ بعد فرض العينية ، مع إن الحمل يعتبر فيه التغاير بين الموضوع والمحمول من جهة ، والاتحاد من جهة أخرى.

وحاصل الرّد والجواب عن الوجه الأول : أن المعتبر في صحة الحمل هو : مطلق قيام المبدأ بالذات ؛ من دون فرق بين أنحائه وأقسامه ، والقيام العيني موجود في حمل الصفات عليه تعالى.

وأما الجواب عن الوجه الثاني : فلأن المغايرة المفهومية موجودة بين ذاته المقدسة وبين مبادئ الصفات ، وهذا المقدار من المغايرة كاف في صحة حمل المشتق على الذات ،

٢٦٤

السادس : (١)

الظاهر : أنه لا يعتبر في صدق المشتق وجريه على الذات حقيقة ؛ التلبس بالمبدإ حقيقة وبلا واسطة في العروض ، كما في الماء الجاري ، بل يكفي التلبس به ولو

______________________________________________________

وكونه على نحو الحقيقة ، فلا حاجة إلى ما ذكره صاحب الفصول من الالتزام بالنقل.

٣ ـ بيان الخلل في استدلال النافين لاعتبار المبدأ بالذات ، وقد عرفت الخلل فيما استدلوا به على عدم اعتبار قيام المبدأ بالذات في صدق المشتق على نحو الحقيقة.

وقلنا : إن القيام موجود في جميع الأمثلة المذكورة ، غاية الأمر : أن الاختلاف في كيفية قيام المبدأ بالذات ، وقد عرفت غير مرة : أن الاختلاف في كيفية قيام المبدأ بالذات لا يضر بقيام المبدأ بها ، ولا بصدق المشتق على الذات بنحو الحقيقة.

(١) غرض المصنف من عقد هذا الأمر هو : دفع ما في الفصول من اعتبار الإسناد الحقيقي في صدق المشتق حقيقة ، فلا بد أولا من ذكر كلام صاحب الفصول ؛ كي يتضح إيراد المصنف عليه.

قال في الفصول ما هذا لفظه : «يشترط في صدق المشتق على شيء حقيقة قيام مبدأ الاشتقاق به من دون واسطة في العروض ...» إلخ ، إلى أن قال : «وإنما قلنا : من دون واسطة في المقام احترازا عن القائم بواسطة». وظاهر كلامه هذا هو : اعتبار الإسناد الحقيقي في صدق المشتق حقيقة ، ولازم ذلك هو : الفرق بين قولنا : الماء الجاري وبين قولنا : الميزاب الجاري فيكون صدق المشتق في المثال الأول على نحو الحقيقة ؛ لأن إسناد الجريان إلى الماء يكون بلا واسطة في العروض ، وفي المثال الثاني على نحو المجاز ؛ لأن قيام الجريان بالميزاب يكون بواسطة الماء وهي الواسطة في العروض.

وقد أورد عليه المصنف بقوله : «الظاهر أنه لا يعتبر في صدق المشتق ...» إلخ ، وحاصل ما أفاده المصنف ـ من الإشكال على صاحب الفصول ـ هو : أن صدق المشتق على الذات حقيقة لا يتوقف على كون إسناد المشتق حقيقيا وإسنادا إلى من هو له ، كما في «الماء جار» ؛ بل يكون صدق المشتق على الذات على نحو الحقيقة وإن كان إسناده إلى الذات مجازيا ، وإسنادا إلى غير من هو له نحو. «الميزاب جار» و «جالس السفينة متحرك» ، فالمجاز في الإسناد لا يضر في صدق المشتق على الذات على نحو الحقيقة ؛ بل المضر فيه هو المجاز في الكلمة لا المجاز في الإسناد ، فالمشتق الذي هو «جار» قد استعمل في معناه الحقيقي في كلا المثالين ؛ وإن كان الإسناد في أحدهما مجازيا وفي الآخر حقيقيا إلّا إن المجاز في الإسناد لا يوجب المجاز في الكلمة ، فالمشتق مثل : «الجاري

٢٦٥

مجازا ، ومع هذه الواسطة كما في الميزاب الجاري ، فإسناد الجريان إلى الميزاب وإن كان إسنادا إلى غير ما هو له وبالمجاز ؛ إلّا إنه في الإسناد لا في الكلمة ، فالمشتق في مثل المثال بما هو مشتق قد استعمل في معناه الحقيقي ، وإن كان مبدأه مسندا إلى الميزاب بالإسناد المجازي ، ولا منافاة بينهما (١) أصلا كما لا يخفى ، ولكن ظاهر الفصول (*) ، بل صريحه اعتبار الإسناد الحقيقي في صدق المشتق حقيقة ، وكأنه (٢) من

______________________________________________________

والمتحرك» في المثالين المذكورين قد استعمل في معناه الموضوع له.

(١) أي : ولا منافاة بين استعمال المشتق في معناه الحقيقي ، وبين الإسناد المجازي ، فحينئذ لا يعتبر في صدق المشتق على الذات على نحو الحقيقة الإسناد الحقيقي ؛ خلافا للفصول ، حيث اعتبر في صدق المشتق الإسناد الحقيقي كما أشار إليه المصنف بقوله : «ولكن ظاهر الفصول ، بل صريحه اعتبار الإسناد الحقيقي».

(٢) أي : كأنّ اشتراط الفصول «من باب الخلط بين المجاز في الإسناد» ؛ الذي لا يضر بكون صدق المشتق على نحو الحقيقة ، «والمجاز في الكلمة» الذي يضر في صدق المشتق على نحو الحقيقة. بمعنى : أن صاحب الفصول اعتبر التلبس الحقيقي بالمبدإ في مقام الاستعمال ؛ مع إن ذلك غير معتبر فيه ، بل التلبس الحقيقي معتبر في الإسناد الحقيقي ، فما يعتبر فيه التلبس الحقيقي ليس من محل الكلام وما هو محل الكلام أعني : مقام الاستعمال لا يعتبر فيه التلبس الحقيقي.

وبالجملة : أن هذا الخلط مبني على أن يكون مراد الفصول من الصدق في قوله : «ويشترط في صدق المشتق ...» إلخ استعمال المشتق في معناه ؛ إذ لا يعتبر حينئذ التلبس بالمبدإ حقيقة ، وأما إذا كان مراده من الصدق هو الإسناد الحقيقي فيعتبر فيه التلبس بالمبدإ حقيقة ، فوقع منه الخلط بين الاستعمال الحقيقي والإسناد الحقيقي ، فحينئذ يرد عليه ما أورده المصنف ؛ من عدم اعتبار الإسناد الحقيقي في صدق المشتق حقيقة إن كان مراده من الصدق هو الاستعمال ، ولا يرد عليه إيراد المصنف إن كان مراده من الصدق الإسناد الحقيقي.

ففي الحقيقة يكون النزاع بين المصنف وصاحب الفصول لفظيا.

فإن كان مراد صاحب الفصول من الصدق هو الاستعمال : فالحق مع المصنف ، وإن كان مراده منه الإسناد : فالحق مع صاحب الفصول.

قوله : «هذا» في بعض النسخ «هو» والمشار إليه أو مرجع الضمير هو المجاز في الكلمة ،

__________________

(*) الفصول الغروية ، ص ٦٢ ، س ٢١.

٢٦٦

باب الخلط بين المجاز في الإسناد والمجاز في الكلمة ، وهذا ـ هاهنا ـ محل الكلام بين الأعلام ، والحمد الله وهو خير ختام.

______________________________________________________

فمعنى العبارة : أن المجاز في الكلمة «هاهنا» أي : في بحث المشتق محل الكلام بين الأعلام ، لا المجاز في الإسناد. «بقي شيء» وهي الثمرة العلمية أو العملية على بحث المشتق ، بعدم كونه من المسائل الأصولية ، بقرينة ذكرهم له في المقدمة دون المقاصد.

أما الثمرة العلمية فهي : صحة تعريف الإنسان بالناطق وحده ، أو الضاحك وحده نحو : الإنسان ناطق ، أو الإنسان ضاحك ؛ على القول بتركب المشتق ، فيسمى الأول حدا ناقصا ، والثاني رسما ناقصا. وعدم صحة التعريف المذكور على القول بالبساطة.

توضيح ذلك : أن التعريف سواء كان بالحد أو بالرسم إنما هو من مصاديق الفكر والنظر. وقيل في تعريف النظر : إنه عبارة عن ترتيب أمور معلومة لتحصيل أمر مجهول ، فيصح تعريف الإنسان بالناطق على القول بالتركب ، لصدق الترتيب على اثنين ، لأنه أقل الجمع عند أهل الميزان ، والمفروض : أن الناطق مركب من أمرين أعني شيء له النطق ، أو ذات له النطق ، وكذلك الضاحك في المثال المذكور ، هذا بخلاف القول بالبساطة ؛ فلا يصح التعريف المذكور لعدم صدق الترتيب حينئذ.

وأما الثمرة العملية : فذكروا لها موارد ؛ منها : كراهة البول تحت الشجرة التي لا ثمرة لها فعلا مع كونها ذات ثمرة قبلا ، فإن قلنا : بوضع المشتق للأعم فهو مكروه ، وإن قلنا : بوضعه لخصوص المتلبس بالمبدإ في الحال فهو غير مكروه.

ومنها : كراهة الوضوء والغسل بالماء المشمس أي : الحار بحرارة الشمس ، بعد صيرورته باردا ، فإن قلنا : بوضعه للأعم فهما مكروهان. وإن قلنا : بوضعه للمتلبس فلا يحكم بكراهتهما ، لأن الحكم بالكراهة بعد ارتفاع السخونة مبني على وضع المشتق للأعم وعدم اشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتق.

ومنها : إذا عرض الجلل على حيوان مأكول اللحم ، وزال عنه الجلل بواسطة الاستبراء ، فإن قلنا : بوضعه للأعم حرم أكل لحمه. وإن قلنا : بوضعه لخصوص المتلبس بالمبدإ لم يحرم ، وأما بيان الاستبراء كما وكيفا فموكول إلى علم الفقه.

ومنها : تحريم الزوجة الكبيرة التي أرضعت زوجة صغيرة كما مر تفصيله في الأمر الأول ، فلا حاجة إلى إعادة ذلك.

وتركنا بسط الكلام في الموارد المذكورة نقضا وإبراما رعاية للاختصار.

٢٦٧

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

إنه لا يعتبر في صدق المشتق على نحو الحقيقة التلبس بالمبدإ حقيقة وبلا واسطة في العروض ؛ أي : الإسناد الحقيقي ؛ خلافا للفصول حيث اعتبر في صدقه على نحو الحقيقة الإسناد الحقيقي ، وقد ذكرنا رأي المصنف بعد الفراغ عن كل مسألة ، ولكن نكرر ذلك فإنه لا يخلو عن فائدة. فإليك ما هو مختاره في بعض مباحث المشتق.

١ ـ المشتق عنده هو : خصوص ما يجري على الذات ؛ وإن لم يكن منه عند النحاة.

٢ ـ الفعل لا يدل على الزمان ؛ وإن كان ظاهر النحاة أنه يدل عليه.

٣ ـ اختلاف المشتقات في المبادئ لا يوجب اختلافا في دلالتها.

٤ ـ المراد بالحال في عنوان مسألة المشتق هو : حال التلبس لا حال النطق.

٥ ـ الموضوع له للمشتق هو خصوص المتلبس بالمبدإ في الحال.

٦ ـ مفهوم المشتق بسيط في مقام التصور واللحاظ ؛ لا بحسب الماهية والحقيقة.

٧ ـ يكفي في ملاك الحمل التغاير بين الموضوع والمحمول من وجه ، والاتحاد من وجه آخر.

٨ ـ يعتبر في صدق المشتق على نحو الحقيقة قيام المبدأ بالذات.

٩ ـ لا يعتبر الإسناد الحقيقي في صدقه على الذات على نحو الحقيقة.

انتهى التلخيص.

٢٦٨

المقصد الأول

في الأوامر

٢٦٩
٢٧٠

بحث الأوامر (١)

وفيه فصول :

______________________________________________________

(١) قدم المصنف بحث الأوامر على النواهي تبعا لغيره ، لأن الأوامر أمر وجودي ، والنواهي أمر عدمي ، ولا ريب : أن الوجود أشرف من العدم ، والعقل يحكم بتقديم ما هو الأشرف على غيره ، ولهذا جرى ديدن الأصوليين على تقديم مباحث الأوامر على النواهي.

والأمر بمعنى المصدر لا يجمع ، لأن المصدر لا يجمع باتفاق الأدباء ، فمفرد الأوامر ليس الأمر بالمعنى المصدري ولكن فيه احتمالات بل أقوال :

منها : أن الأوامر والنواهي جمع الأمر والنهي ؛ بمعنى : القول المخصوص أو الطلب ، فعليه : لم يكن هذا الجمع جاريا على القياس إذ ليس القياس في جمع الفعل على فواعل.

نعم ؛ يمكن أن يقال بأنه جمع هذا الوزن سماعا ، ويكفي فيه ما في دعاء كميل المعروف من قوله «عليه‌السلام» : «وخالفت بعض أوامرك». وفي المصباح : «جمع الأمر على الأوامر».

ومنها : أن الأوامر جمع للآمرة نعتا للكلمة على سبيل المجاز ـ من قبيل إسناد الشيء إلى الآلة ـ إذ في إسناد الطلب إلى الألفاظ والصيغ ـ مع إنه مستند في الحقيقة إلى المتلفظ ، والطالب ـ نوع من التجوّز والعناية ، فيكون الجمع حينئذ على القاعدة مثل القواعد جمع القاعدة ، إلّا إن إطلاق الآمرة على الكلمة أو الصيغة من باب المجاز في الإسناد ، ثم اشتهر هذا الجمع إلى أن بلغ حد الحقيقة فيكون حقيقة عرفية.

ومنها : أن الأوامر جمع للأمور التي هي جمع للأمر بمعنى الطلب ؛ فرقا بين الأمر بمعنى الطلب ، والأمر بمعنى الفعل والشأن ؛ حيث يجمع على أمور فقط ، فيكون الأوامر جمع الجمع بأن جمع الأمر بمعنى الطلب أولا على أمور ، ثم الأمور على الأوامر ؛ كأنه نقل فيه الواو عن مكانه ، وقدّم على الميم.

ومنها : أن الأوامر جمع للآمرة بمعنى الأمر ، لأن الفاعلة قد يجيء مصدرا كالعاقبة والعافية ونحوهما ، ولكن الأظهر من هذه الأقوال هو القول الأول ، ثم كل ما ذكر

٢٧١

الأول

فيما يتعلق بمادة الأمر (١) من الجهات وهي (٢) عديدة :

الجهة الأولى :

أنه قد ذكر للفظ الأمر معان متعددة منها : الطلب (٣) كما يقال : أمره (٤) بكذا.

ومنها : الشأن كما يقال : شغله أمر كذا (٥).

ومنها : الفعل (٦) ، كما في قوله تعالى : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ.)

ومنها : الفعل العجيب (٧) ، كما في قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا.)

ومنها : الشيء ، كما تقول : «رأيت اليوم أمرا عجيبا» (٨).

ومنها : الحادثة (٩). ومنها : الغرض كما تقول : «جاء زيد لأمر (١٠) كذا».

______________________________________________________

في الأوامر يجري في النواهي.

(١) أي : المطالب الرئيسية المتعلقة بمادة الأمر «أم ر» على النحو التالي :

١ ـ هل للفظ الأمر معنى واحد أو معاني متعدّدة؟

٢ ـ هل يعتبر العلو في معنى الأمر أم لا؟

٣ ـ هل الأمر حقيقة في الوجوب أم لا؟

٤ ـ هل الطلب الذي هو معنى الأمر متحد مع الإرادة أم هما اثنان؟

(٢) أي : الجهات عديدة وهي المطالب الرئيسة التي ذكرناها إجمالا وهي أربعة.

(٣) أي : وهو عرفا السعي نحو شيء للظفر به ؛ كطلب الغريم وطلب الماء.

(٤) أي : طلب منه كذا.

(٥) أي : شأن كذا.

(٦) أي : الفعل مطلقا بمعناه اللغوي كما في قوله تعالى : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ)(١) ، أي : فعله ليس برشيد.

(٧) أي : وهو أخص مما قبله أي : الفعل مطلقا كما في قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا)(٢) أي : فعلنا العجيب.

(٨) أي : شيئا عجيبا غريبا.

(٩) أي : كما يقال : «وقع في البلد أمر كذا» أي : حادثة كذا.

(١٠) أي : لغرض كذا.

__________________

(١) سورة هود آية : ٩٧.

(٢) سورة يونس آية : ٨٢.

٢٧٢

ولا يخفى : أنّ عدّ بعضها من معانيه من اشتباه المصداق بالمفهوم (١).

______________________________________________________

وقد أنهاها بعض إلى خمسة عشر معنى منها : الحال نحو : «زيد أمره مستقيم» أي : حاله منتظم. ومنها : القدرة كما في قوله تعالى : (مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ)(١) أي : بقدرته. ومنها : الصنع كما في قوله تعالى : (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ)(٢) أي : من صنع الله تعالى. وغيرها من المعاني تركنا ذكرها رعاية للاختصار.

(١) بعد ذكر المصنف للأمر معان عديدة استشكل على كون هذه المعاني كلها من معانيه ، وادعى أن عدّ بعضها من معانيه من باب اشتباه المصداق بالمفهوم.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : بيان الفرق بين المصداق والمفهوم. وخلاصته : أن المصداق عبارة عما صدق عليه اللفظ ؛ بأن يكون له معنى كلي مثل : رجل ـ مثلا ـ في قولنا : «جاءني رجل» ؛ حيث يصدق لفظ الرجل على زيد وبكر وخالد ، فزيد من مصاديق الرجل ، والمفهوم عبارة عما يفهم من اللفظ ، فمفهوم لفظ الرجل هو : الإنسان المذكر.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه لو عدّ أحد زيدا من معاني الرجل كان خطأ ؛ لأنه جعل المصداق مكان المفهوم ، فيكون هذا من باب اشتباه المصداق بالمفهوم ، والأمر فيما نحن كذلك.

وخلاصة ما أفاده المصنف : أن الأمر مشترك لفظي بين الطلب والشيء ، وأنّ عد ما سواهما من معاني الأمر من اشتباه المصداق بالمفهوم بمعنى : أنه لم يستعمل في الموارد المذكورة في المفهوم ، بل يراد منه ما هو مصداق المفهوم ، فيتخيل أنه مستعمل في المفهوم ، فإن لفظ الأمر في نحو : «جاء زيد لأمر كذا» لم يستعمل في مفهوم الغرض ، بل استعمل فيما هو مصداق الغرض واللام في «لأمر» قد دلت على الغرض نحو : اللام في قولك : ضربت زيدا للتأديب. وكذا إن الأمر في قولك : «وقع أمر كذا» لم يستعمل في مفهوم الحادثة ، بل استعمل فيما هو مصداق الحادثة.

وهكذا الحال في قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) ؛ فإن الأمر في الآية لم يستعمل في مفهوم الفعل العجيب ، بل فيما هو مصداق الفعل العجيب وهو هلاك قوم لوط ؛ لأن المراد هو الحادثة الخاصة ، والغرض الخاص والفعل العجيب الخاص ، والشأن الخاص الجزئي ، وهذه الأمور من مصاديق المفاهيم الكلية ، ولا تكون من مفهوم لفظ الأمر ،

__________________

(١) سورة الأعراف آية : ٥٤.

(٢) سورة هود آية : ٧٣.

٢٧٣

ضرورة (١) : أن الأمر في «جاء زيد لأمر كذا» ما استعمل في معنى الغرض ؛ بل اللام قد دل على الغرض ، نعم ؛ يكون مدخوله مصداقه فافهم (٢) ، وهكذا الحال في قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) يكون مصداقا للتعجب ، لا مستعملا في مفهومه ، وكذا في الحادثة والشأن.

وبذلك (٣) ظهر ما في دعوى الفصول (*) ، من كون لفظ الأمر حقيقة في المعنيين

______________________________________________________

ومفهوم الأمر هو الطلب الذي هو عبارة عن السعي نحو المطلوب ؛ نحو : طلب الماء ، وطلب الغريم والضالة ، غاية الأمر : أنه تكون لكل واحد منها مصاديق وجزئيات عديدة.

نظير لفظ «الرجل» ؛ حيث يكون مفهومه اللغوي كل مفرد مذكر من الناس أي : كل ذات ثبت له الرجولية ، ولهذا المعنى الكلي مصاديق عديدة في الخارج ؛ فإذا استعمل لفظ «رجل» في زيد مثلا كان مستعملا في المصداق لا في المفهوم ، فكذا لفظ الأمر فيما نحن فيه.

(١) تعليل لقوله : «ولا يخفى». وحاصله : أن لفظ الأمر في جملة من الموارد المذكورة لم يستعمل في المفهوم أي : لم يجعل حاكيا عن المعاني وفانيا فيها على حد استعمال سائر الألفاظ في معانيها ، فإن الدال على الغرض هو اللام.

(٢) لعله إشارة إلى فساد كون اللام دالة على الغرض في نحو : «جاء زيد لأمر كذا» ؛ إذ اللام لا تدل عليه ، ولذا تدخل على نفس الغرض ويقال : «جاء زيد لغرض كذا» ، فلو كانت اللام دالة على الغرض كان المعنى جاء زيد غرض غرض كذا على نحو التكرار ؛ وهو بعيد في القرآن الكريم ، بل غير مستقيم «فالصحيح» أن يقال : إن الغرض والحادثة ونحوهما إنما يعرف من خصوصيات المقام ، فمن التعبير بقوله : «وقع أمر كذا» يعرف : أن الأمر الواقع حادثة من الحوادث ، ومن التعبير بقوله : «جاء زيد لأمر كذا» يعرف : أن الأمر الذي جاء زيد لأجله هو غرض من الأغراض وهكذا في غيرهما.

(٣) أي : بما ذكرنا من الفرق بين المفهوم والمصداق ظهر : فساد دعوى صاحب الفصول ؛ من كون لفظ الأمر حقيقة في الطلب والشأن.

وحاصل ما أفاده المصنف من الاعتراض على صاحب الفصول هو : أن لفظ الأمر لم يستعمل في مفهوم الطلب ومفهوم الشأن حتى يصح عدهما من معاني لفظ الأمر ، بل استعمل في مصداقهما دائما ، فاشتبه عند صاحب الفصول المصداق بالمفهوم ، ثم ادعى كون لفظ الأمر حقيقة في الطلب والشأن ، وهذه الدعوى منه غير مسموعة ؛

__________________

(*) الفصول الغروية ، ص ٦٣ ، س ٣٥.

٢٧٤

الأولين (١) ، ولا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة والشيء. هذا بحسب العرف واللغة.

______________________________________________________

لكونها ناشئة عن اشتباه المصداق بالمفهوم ، فجعل ما هو المصداق لمعنى الأمر مفهوما له.

(١) أي : الطلب والشأن. وادعى صاحب الفصول : أن مادة الأمر موضوعة بوضعين فقط ، وضع للطلب ، وآخر للشأن ، ثم تبعه المصنف في تثنية المعنى والوضع ، ولكن خالفه في الوضع الثاني فادعى إنه لمعنى الشيء لا لمعنى الشأن حيث قال : «ولا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة والشيء» أي : لا الطلب مطلقا ولو كان ندبيا أو كان من السافل المستعلي ، بل لفظ الأمر حقيقة في خصوص الطلب الوجوبي الصادر من العالي ، كما سيأتي تحقيق ذلك في الجهتين الآتيتين. فيكون لفظ الأمر عند المصنف مشتركا بين معنيين : «الطلب والشيء» بالاشتراك اللفظي ، لا بالاشتراك المعنوي ، بأن يكون موضوعا للجامع بينهما. والدليل على ذلك : أن لفظ الأمر بمعنى الطلب يصح الاشتقاق منه ، ولا يصح الاشتقاق منه بمعنى : «الشيء».

ومن المعلوم : أن الاختلاف بالاشتقاق وعدمه دليل على تعدد الوضع هذا أولا.

وثانيا : أن «الأمر» بمعنى : الطلب يجمع على «أوامر» ، وبمعنى : الشيء على «أمور» ، واختلاف الجمع في المعنيين دليل على تعدد الوضع. وقيل في تفسير قوله : «في الطلب في الجملة» يعني : بلا تعيين كونه الوجوبي أو الأعم أو غير ذلك من الخصوصيات.

وكيف كان ؛ ففي مادة الأمر أربعة أقوال :

الأول : أنها مشترك لفظي في المعاني الكثيرة.

الثاني : أنها مشترك معنوي بين المعاني الكثيرة أي : موضوعة بوضع واحد للجامع بين هذه المعاني.

الثالث : أنها مشترك لفظي بين الطلب والشأن كما في الفصول ، أو بين الطلب والشيء كما يظهر من المصنف.

الرابع : أنها مختصة وموضوعة للطلب فقط ؛ كما يظهر من آخر كلام المصنف حيث قال : «كما لا يبعد أن يكون كذلك في المعنى الأول» ثم على تقدير اشتراك لفظ الأمر بين الطلب والشيء يكون المراد من الطلب هو : إظهار الإرادة بالقول المخصوص مثل صيغة ـ افعل ـ كما تأتي الإشارة إليه في كلام المصنف.

والشيء عام يشمل الأعيان كالماء والحنطة وغيرهما ، والصفات كالعلم والعدالة وغيرهما من الملكات ، والأفعال كالأخذ والإعطاء وغيرهما ، وعلى هذا المعنى العام : يكون كثير من المعاني المزبورة كالفعل العجيب والشأن والحادثة وغيرها من مصاديق الشيء ، وجزئياته.

٢٧٥

وأما بحسب الاصطلاح : فقد نقل الاتفاق على أنه حقيقة في القول المخصوص ، ومجاز في غيره (١) ، ولا يخفى : أنه (٢) عليه لا يمكن منه الاشتقاق ، فإن معناه ـ حينئذ ـ لا يكون معنى حدثيّا ، مع أن الاشتقاقات منه ـ ظاهرا ـ تكون بذلك المعنى المصطلح عليه بينهم ، لا بالمعنى الآخر ، فتدبر (٣).

ويمكن (٤) أن يكون مرادهم به هو الطلب بالقول لا نفسه (٥) تعبيرا عنه (٦) بما يدل عليه.

______________________________________________________

هذا بحسب العرف واللغة.

«وأما بحسب الاصطلاح» أي : اصطلاح الأصوليين : فقد نقل الاتفاق على أن لفظ الأمر حقيقة ثانوية في القول المخصوص وهو صيغة ـ افعل ـ ومجاز في غيره. هذا ما أشار إليه بقوله : «وأما بحسب الاصطلاح ...» إلخ أي : بحسب الاصطلاح المتداول في ألسنة الأصوليين.

(١) أي : مجاز في غير القول المخصوص.

(٢) أي : لا يخفى عليك : أن الأمر بناء على كونه حقيقة في القول المخصوص لا يصح منه الاشتقاق.

توضيح إيراد المصنف على المعنى الاصطلاحي للأمر يتوقف على مقدمة وهي : أن مبدأ الاشتقاق في المشتقات لا بد من أن يكون معنى حدثيّا قابلا للتصرف والتغيير ؛ فلا يصح الاشتقاق من معنى جامد.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه على هذا لا يكون معنى الأمر حدثيا ، بل يكون جامدا نظير الجملة والمفرد والكلمة والكلام ؛ فإنها غير قابلة لأن تشتق منها المشتقات ، فحينئذ لا يصح الاشتقاق من الأمر بالمعنى الاصطلاحي ، وهذا يتنافى مع ثبوت الاشتقاق منه الظاهر كونه بلحاظ ما له من المعنى المصطلح عندهم.

(٣) لعله إشارة إلى منع الظهور المزبور ، فيمكن تصحيح دعوى الاتفاق المذكور ، والالتزام بكون مبدأ الاشتقاق هو الأمر بمعنى آخر أو إشارة إلى أن لفظ الأمر المصطلح مصدر ؛ بمعنى : التلفظ بلفظ دال على الطلب من حيث صدوره عن المتكلم ، فيكون معنى لفظ الأمر معنى حدثيّا قابلا للاشتقاق منه.

(٤) أي : يمكن أن يكون مراد الأصوليين بالأمر هو الطلب بالقول ، فيكون معناه حدثيّا يصح الاشتقاق منه.

(٥) أي : ليس المراد من الأمر نفس القول المخصوص حتى لا يصح الاشتقاق منه كما عرفت.

(٦) أي : تعبيرا عن الطلب بما يدل عليه وهو القول المخصوص مجازا ؛ من باب

٢٧٦

نعم (١) ؛ القول المخصوص ـ أي : صيغة الأمر ـ إذا أراد العالي بها الطلب يكون من

______________________________________________________

ذكر الدال وإرادة المدلول.

وحاصل ما أفاده المصنف في المقام : أنه لما أبطل دعوى الاتفاق على كون الأمر حقيقة بحسب الاصطلاح في القول المخصوص ؛ أراد توجيه اتفاقهم بما صح تعلقه به.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أنه يمكن تأويل معقد الاتفاق بأن يقال : إن مراد الأصوليين ـ من قولهم : فقد نقل الاتفاق على أنه حقيقة في القول المخصوص ـ هو : كون لفظ الأمر حقيقة في الطلب بالقول المخصوص ؛ بحيث يكون معنى الأمر حدثيّا وليس مرادهم أن معنى الأمر هو : نفس الصيغة حتى لا يصح الاشتقاق منه.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه يحصل التوفيق بين نقل الاتفاق على كون لفظ الأمر حقيقة في القول المخصوص أي : في مدلوله ، وبين كون الاشتقاق منه بلحاظ هذا المعنى الاصطلاحي ، ثم الوجه في تعبيرهم عن الطلب الذي هو معنى لفظ الأمر بنفس القول هو : دلالة الصيغة على الطلب ، فعبر عنه بما يدل عليه ـ وهو القول المخصوص ـ مجازا من باب ذكر الدال وإرادة المدلول ، فإن المناسبة الثابتة بين الدال والمدلول تقتضي صحة تسمية كل منهما باسم.

وبعبارة واضحة : أنه لمّا كان الطلب الذي هو معنى لفظ الأمر مدلولا للقول المخصوص قالوا : إن الأمر هو ذلك القول المخصوص تسمية للدال ـ أي : القول المخصوص ـ باسم المدلول أي : الطلب ، فيكون معنى حدثيّا قابلا للاشتقاق ، فلذا اشتق منه «أمر يأمر آمر مأمور ...» إلخ.

(١) استدراك على قوله : «لا نفسه» يعني : أن الأمر وإن لم يكن اسما للقول المخصوص ؛ بحيث يكون معناه ذلك القول ، لكنه يعدّ من مصاديق الأمر إذا كان الطالب به عاليا كالمولى الحقيقي أو العرفي ، ولوحظ ذلك القول بما هو طلب لا بما أنه قول خاص ، وإلّا رجع إلى المعنى الأول وهو : كون الأمر نفس القول.

والحاصل : أن مصداقية القول الخاص للأمر إنما تكون بلحاظ كونه طلبا مطلقا أو خاصا ، لا بلحاظ أنه قول ، وإلّا رجع إلى المعنى الأول وهو : كون الأمر نفس القول المخصوص ، وهذا مراد المصنف «قدس‌سره» بقوله : «بما هو طلب» يعني : لا بما هو قول كما في «منتهى الدراية ، ج ١ ، ص ٣٦٦».

وكيف كان ؛ فلمّا وضع الأمر للطلب بالقول كان مصداق الطلب مصداقا للأمر لبداهة أن مصداق أحد المتساويين مصداق للآخر.

٢٧٧

مصاديق الأمر ، لكنه (١) بما هو طلب مطلق أو مخصوص. وكيف كان ؛ فالأمر سهل لو ثبت النقل (٢) ، ولا مشاحة في الاصطلاح ، وإنما المهم بيان ما هو معناه عرفا ولغة ، ليحمل عليه فيما إذا ورد بلا قرينة ، وقد استعمل في غير واحد من المعاني في الكتاب والسنة ، ولا حجّة على أنه (٣) على نحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي أو الحقيقة والمجاز (٤) ، وما ذكر في الترجيح ـ عند تعارض هذه الأحوال لو سلم ـ ولم

______________________________________________________

(١) أي : لكن القول المخصوص بما هو طلب مطلق أي : بما هو مصداق من مصاديق طلب مطلق أي : من دون النظر إلى جهة علو الطالب ، أو بما هو مصداق من مصاديق مخصوص أي : بالنظر إلى طلب العالي.

(٢) أي : وكيف كان ؛ فالأمر سهل لو ثبت نقل لفظ الأمر عن معناه اللغوي والعرفي إلى القول المخصوص وهو : المعنى الاصطلاحي ، إذ لا مشاحة في الاصطلاح لو ثبت.

أما وجه سهولة الأمر : فلأجل عدم الاهتمام بمعناه الاصطلاحي ، لعدم ترتيب فائدة عليه ؛ إذ لا يصح الاشتقاق منه ، مع أن الاشتقاق منه مسلم لا غبار عليه ، فحينئذ يمكن أن يكون معنى مادة الأمر اصطلاحا هي الصيغة الخاصة ، وأن يكون الاشتقاق منه بمعنى : آخر وهو المعنى اللغوي والعرفي ، فالمهم بيان ما هو معنى الأمر عرفا ولغة ، ليحمل لفظ الأمر عليه إذا ورد الأمر في الكلام مجردا عن القرينة.

وحاصل الكلام في المقام ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ١ ، ص ٣٦٧» ـ : أن الأمر قد استعمل في الكتاب والسنة في غير واحد من المعاني المتقدمة ، ولم يدل دليل على أن الاستعمال فيها هل هو على نحو الاشتراك اللفظي أم المعنوي أم الحقيقة والمجاز ، والوجوه المذكورة في تعارض الأحوال لترجيح بعضها على بعض ـ بعد تسليم سلامتها عن المعارضة بمثلها ـ لا تصلح للترجيح لعدم حجة على الترجيح بتلك الوجوه ، فلا محيص حينئذ عن الرجوع إلى الأصل العملي في المسألة الفقهية ؛ إلّا إذا أحرز ظهور لفظ الأمر في أحد معانيه ، فيحمل اللفظ حينئذ عليه ، وإن لم يعلم منشأ ذلك الظهور واحتمل أن يكون لأجل الوضع لذلك المعنى بالخصوص أو للجامع بينه وبين غيره ، لكنه ينصرف إلى ذلك المعنى الخاص ؛ لغلبة الاستعمال أو غيرها.

وبالجملة : فبناء العقلاء على حجية الظواهر يقتضي حجيتها وإن لم يعلم منشأها.

(٣) أي : لم يقم دليل على أن الاستعمال «على نحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي».

(٤) خلاصة الكلام في بيان الفرق بين الاشتراك اللفظي والاشتراك المعنوي ، وبين

٢٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الحقيقة والمجاز فنقول : إنه يشترط تعدد الوضع والموضوع له في المشترك اللفظي ، ويكون استعمال اللفظ في كل واحد من المعاني على نحو الحقيقة ، غاية الأمر : يحتاج هذا الاستعمال إلى قرينة معينة ، ويعتبر في الاشتراك المعنوي وحدة الوضع ووحدة الموضوع له ؛ الذي يكون كليا له مصاديق عديدة.

فالاستعمال في كل واحد من المصاديق يحتمل أن يكون على نحو الحقيقة ؛ إذا لم تلاحظ المشخصات الفردية في مقام الاستعمال ، ويحتمل أن يكون مجازا إذا لوحظت تلك المشخصات فيه. غاية الأمر : يحتاج الاستعمال في كل واحد من المصاديق إلى قرينة مفهمة.

وأما في الحقيقة والمجاز : فيعتبر أن يكون الوضع لواحد من المعاني ، واستعمل لفظ الأمر في غيره مجازا لمناسبة موجودة بين المعنى الحقيقي والمجازي ، غاية الأمر : يحتاج استعمال لفظ الأمر في المعنى المجازي إلى قرينة صارفة ، وقد عرفت : عدم الدليل على ترجيح بعضها على بعض عند تعارض الأحوال ، لأن ما ذكر من المرجحات في باب تعارض الأحوال أمور استحسانية لا تفيد إلّا الظن ، والأصل حرمة العمل به إلّا ما خرج بالدليل ، فلا بد حينئذ من الأخذ بالظهور ؛ وأن لم يكن مستندا إلى حاق اللفظ بل إلى الانصراف الناشئ من كثرة الاستعمال أو من كثرة الوجود ، فإذا لم ينعقد ظهور أصلا ؛ لأجل تعارض الوجوه والمرجحات بمثلها فلا بد حينئذ من الرجوع إلى الأصل العملي من الاستصحاب والبراءة والاشتغال حسب اختلاف الموارد ؛ حيث يكون مورد الاستصحاب ما له حالة سابقة ، ومورد البراءة ما إذا كان الشك في التكليف ، ومورد الاشتغال هو الشك في المكلف به.

مثال الاستصحاب : ما إذا أمر المولى عبده في الأمس أمرا وجوبيا ، وشك في اليوم الحاضر في بقاء الوجوب ، فيستصحب بقاؤه لتمامية أركان الاستصحاب.

مثال أصالة البراءة : إذا شك في أمر من المولى بعمل تجري البراءة ؛ لأن الشك إنما هو في أصل الأمر والتكليف.

مثال أصالة الاشتغال والاحتياط : هو ما إذا علم المكلف صدور الأمر والتكليف ، ولكن لا يعلم ما هو متعلق الأمر والمكلف به ؛ حيث يكون مرددا بين أمرين ، فتجري أصالة الاشتغال بعد الإتيان بأحدهما ، فعليه الإتيان بالآخر بمقتضى قاعدة الاشتغال.

٢٧٩

يعارض بمثله ـ فلا دليل على الترجيح به ، فلا بد مع التعارض من الرجوع إلى الأصل (١) في مقام العمل ، نعم (٢) ؛ لو علم ظهوره في أحد معانيه ، ولو (٣) احتمل أنه كان للانسباق من الإطلاق فليحمل (٤) عليه ، وإن لم يعلم أنه (٥) حقيقة فيه بالخصوص أو فيما يعمه.

كما لا يبعد أن يكون كذلك (٦) في المعنى الأول.

______________________________________________________

(١) أي : المراد به هو الأصل العملي ؛ لأنه المرجع بعد فقد الدليل أو إجماله كما في المقام.

(٢) استدراك من الرجوع إلى الأصل العملي في مورد التعارض ، مع ظهور اللفظ في أحد معانيه ؛ لأن الظهور حجة ، فيكون مانعا عن الرجوع إلى الأصل العملي.

(٣) كلمة ـ لو ـ وصلية ، وضمير «أنه» راجع إلى الظهور.

(٤) هذا جواب «لو» في قوله : «نعم ؛ لو علم ظهوره».

(٥) أي : لفظ الأمر حقيقة في ذلك المعنى بالخصوص ، أو في معنى عام يشمله.

(٦) أي : لا يبعد أن يكون لفظ الأمر ظاهرا «في المعنى الأول» أي : الطلب ، ولكن هذا مناف لما تقدم منه آنفا من قوله : «ولا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة والشيء» ، إلّا إن يقال : إن كون لفظ الأمر حقيقة في الطلب أرجح عند المصنف حيث جعله أول المعاني التي ذكرها للأمر.

خلاصة البحث في الجهة الأولى مع رأي المصنف «قدس‌سره»

١ ـ لمادة الأمر معاني عديدة ؛ إلّا إن المصنف يقول : بأن عدّ بعضها من معاني لفظ الأمر من اشتباه المصداق بالمفهوم ؛ بمعنى : إن الأمر لم يستعمل في الموارد المذكورة في المفهوم ، بل أريد منه مصداقه ، فتوهم : أنه استعمل في المفهوم.

٢ ـ أن لفظ الأمر بحسب العرف واللغة مشترك لفظي بين الطلب والشيء. وأما بحسب الاصطلاح : فقد نقل الاتفاق على أنه حقيقة في القول المخصوص أي : صيغة افعل ، فلا يصح الاشتقاق منه حينئذ لكونه جامدا. فلا بد من أن يقال لتصحيح الاشتقاق منه من الالتزام بكون مبدأ الاشتقاق هو الأمر بمعنى آخر.

٣ ـ يمكن أن يكون مرادهم بلفظ الأمر هو الطلب بالقول ؛ لا نفس القول المخصوص ، غاية الأمر : يكون ذلك من باب ذكر الدال وإرادة المدلول ولو مجازا.

٤ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

أن لفظ الأمر مشترك لفظي بين الطلب والشيء ، ويظهر من آخر كلامه : أنه ليس من البعيد أن يكون لفظ الأمر بمعنى الطلب فقط.

٢٨٠