دروس في الكفاية - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

عالم» ؛ يقتضي عدم وجوب إكرام ما انقضى عنه المبدأ قبل الإيجاب ، كما أن قضية الاستصحاب وجوبه لو كان الايجاب قبل الانقضاء.

فإذا عرفت ما تلونا (١) عليك ، فاعلم : أن الأقوال في المسألة وإن كثرت (٢) ، إلّا

______________________________________________________

(١) أي : ما تلونا عليك من الأمور الستة المتقدمة على البحث.

(٢) أي : وإن كثرت وأصبحت ستة ؛ خمسة : باعتبار المبادئ ، وواحد منها باعتبار الأحوال الطارئة في الاستعمال ، وقد أشار إلى الأول بقوله : «لأجل توهم : اختلاف المشتق باختلاف مباديه في المعنى». وإلى الثاني بقوله : «أو بتفاوت ما يعتريه من الأحوال» أي : ما يعرض المشتق من الأحوال والأوصاف ؛ من كونه محكوما عليه كما في قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) النور : ٢. وقوله : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) المائدة : ٣٨ ، فيكون حقيقة في الأعم من المتلبس بالمبدإ في الحال ، وممن انقضى عنه المبدأ.

هذا هو القول بالتفصيل بين ما إذا كان المشتق محكوما عليه ، فيكون حقيقة في الأعم كما في الآيتين. وبين ما إذا كان محكوما به نحو «أزيد ضارب عمروا الآن أو غدا؟» ؛ فيكون حقيقة في المتلبس بالمبدإ في الحال.

هذا واحد من الأقوال الستة يكون التفصيل فيه باعتبار الأحوال الطارئة في الاستعمال. وأما الخمسة التي يكون التفصيل فيها باعتبار المبادئ فهي حسب ما يلي :

١ ـ التفصيل بين ما كان المبدأ من المصادر السيالة مثل التكلم والإخبار ، وبين غيره فلا يعتبر بقاء المبدأ في الأوّل ، ويعتبر في الثاني.

٢ ـ التفصيل بين ما كان المبدأ حدوثيا ، كالقيام والقعود ، وبين ما كان ثبوتيا كالملكة والشأنية مثلا. فيعتبر البقاء في الأوّل دون الثاني.

٣ ـ التفصيل بين ما إذا طرأ الضد الوجودي على المحل ، وبين غيره. فيعتبر البقاء في الأول دون الثاني.

٤ ـ التفصيل بين ما كان المشتق مأخوذا من المبادئ اللازمة نحو : «الذاهب» مثلا ، وبين كونه مأخوذا من المبادئ المتعدية نحو : «الضارب» مثلا ، فيعتبر بقاء المبدأ في صدق المشتق حقيقة في الأول دون الثاني.

٥ ـ التفصيل بين ما إذا كان اتصاف الذات أكثريا «كالنائم والآكل» ، وبين ما لم يكن كذلك نحو : «القاتل والضارب» ، فلا يعتبر بقاء المبدأ في صدق المشتق حقيقة في الأول ، ويشترط بقاؤه في صدقه حقيقة في الثاني.

٢٠١

إنها حدثت بين المتأخرين ، بعد ما كانت ذات قولين بين المتقدمين ؛ لأجل توهم : اختلاف المشتق باختلاف مباديه في المعنى ، أو بتفاوت ما يعتريه من الأحوال ، وقد مرت الإشارة (١) إلى أنه لا يوجب التفاوت فيما نحن بصدده ، ويأتي له مزيد بيان في أثناء الاستدلال على ما هو المختار وهو (٢) اعتبار التلبس في الحال (٣) ؛ وفاقا لمتأخري الأصحاب والأشاعرة (٤) ، وخلافا لمتقدميهم والمعتزلة (٥).

ويدل عليه (٦) : تبادر خصوص المتلبس بالمبدإ في الحال ، وصحة السلب مطلقا عما

______________________________________________________

(١) أي : وقد مرت الإشارة في الأمر الرابع إلى : أن اختلاف المبادئ فعلا وقوة وحرفة وملكة وصنعة ؛ «لا يوجب التفاوت فيما نحن بصدده» أي : من دلالة هيئة المشتق على خصوص المتلبس أو الأعم ، فعلى الأول : يكون الموضوع له هو المتلبس ، وعلى الثاني : يكون الموضوع له الأعم.

(٢) ومختار المصنف : اعتبار التلبس في الحال ، وهذا من المصنف شروع في بيان المذهب المختار.

(٣) أي : في حال الجري ؛ بأن يتحد زمان الحمل والتلبس كما مرّ غير مرة.

(٤) أي : أن الموضوع له للمشتق عند المصنف هو خصوص المتلبس بالمبدإ ؛ كما ذهب إليه الأشاعرة من العامة ، ومتأخر والأصحاب من الخاصة.

(٥) إن متقدمي الأصحاب والمعتزلة ذهبوا : إلى أن المشتق حقيقة للأعم من المتلبس ، وممن انقضى عنه المبدأ.

(٦) أي : يدل على ما هو المختار من كون المشتق حقيقة في المتلبس فقط أمور :

«الأول» : أن المشتق بسيط ـ على ما سيأتي ـ فهو حينئذ عين المبدأ باختلاف ما ، وحيث انقضى المبدأ فلا مبدأ حتى يحمل على الذات ويطلق عليها ، كي يقال : إن هذا الإطلاق هل هو على نحو الحقيقة أو المجاز؟

«الثاني» : تبادر خصوص المتلبس بالمبدإ في الحال ، مثلا : إذا قال المولى لعبده : «ادخل السوق ، واضرب كل قائم فيه ، وأعط درهما لكل قاعد» ، فإنه يتبادر خصوص القائم فعلا ، وخصوص القاعد فعلا حين دخوله في السوق. والحاصل : أن المتبادر من مثل القائم والضارب والعالم ونحوها هو : خصوص المتلبس بالقيام والضرب والعلم حين الحمل والإطلاق ، وأن التبادر أمارة الحقيقة.

«الثالث» : «وصحة السلب مطلقا» أي : سواء كان الحمل ذاتيا مثل : من انقضى عنه الضرب ليس ضاربا ، أو كان الحمل شائعا مثل : زيد المنقضي عنه الضرب ليس ضاربا ، فيصح سلب المشتق عمن انقضى عنه المبدأ كما في المثالين ، كما يصح سلب المشتق

٢٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

عمن لم يتلبس بالمبدإ ، بل يتلبس به في المستقبل ؛ مثل : زيد المتلبس بالضرب غدا ليس بضارب.

«الرابع» : ما أشار إليه بقوله : «وقد يقرر هذا وجها على حدة ويقال : لا ريب في مضادة الصفات المتقابلة المأخوذة من المبادئ المتضادة» أي : «وقد يقرر هذا» أي : ما ذكرنا من مضادة الصفات وجها على حدة بتقريب : أنه لا شبهة في مضادة الصفات المأخوذة من المبادئ التي يكون بين معانيها تضاد ارتكازي ؛ كالقائم والقاعد والعالم والجاهل ، وحينئذ فإذا انقضت صفة من تلك الصفات عن ذات متصفة بها ، ثم تلبست الذات بضد تلك الصفة ، فإذا بنينا على كون المشتق موضوعا للأعم : لزم صدق الصفة المنقضية على الذات حين اتصافها بضدها ، كصدق القائم على من انقضى عنه القيام ، وتلبس بالقعود في حين اتصافه بالقعود.

ومن البديهي : أن صدق الصفات المتقابلة على موضوع واحد في آن واحد علامة كونها متخالفة لا متضادة وهو خلاف ما فرضناه من كون المبادئ متضادة فيكون باطلا ، ولازم ذلك : بطلان صدق القائم على من انقضى عنه القيام وتلبس بالقعود ، فيصدق عليه القاعد فقط ، وهذا معنى كون المشتق حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدإ. وهو مختار المصنف.

وتوضيح بعض العبارات طبقا لما في «الوصول إلى كفاية الأصول» ، «ومنتهى الدراية» : «ويصبح سلبها عنه» أي : سلب القائم والضارب والعالم وما يرادفها من سائر اللغات ؛ عمن لا يكون متلبسا بالمبادئ فعلا وإن كان متلبسا بها قبل ذلك ، «كيف؟» أي : لا يصح السلب المذكور عنه مع صدق ما يضاد المشتقات المذكورة أي : لا يصدق المشتق على من ليس متلبسا فعلا ؛ إذ لو صدق عليه القائم أيضا مع تلبسه بالقعود لزم اجتماع الضدين وهو باطل. فصدق القائم على من انقضى عنه القيام باطل.

قوله : «مع وضوح التضاد بين القاعد والقائم بحسب ما ارتكز ...» إلخ ؛ دفع لإشكال البدائع ، فإنه توهم : أن هذا الدليل ـ أعني : دليل التضاد ـ دوري ؛ إذ الفرض : إثبات الوضع للأخص بصحة حمل الضد ـ قاعد ـ وسلب الضد المنقضي ـ قائم ـ وتضادهما موقوف على الوضع للأخص ، وإلّا فهما متخالفان يصدقان معا كالحلاوة والسواد.

وحاصل الدفع : أن تضادهما أمر ارتكازي ، فهو مرتكز في الأذهان نازع العلماء في وضعه للأخص أو الأعم.

٢٠٣

انقضى عنه ، كالمتلبس به في الاستقبال ، وذلك لوضوح : أن مثل : القائم والضارب والعالم ، وما يرادفها من سائر اللغات لا يصدق على من لم يكن متلبسا بالمبادي ؛ وإن كان متلبسا بها قبل الجري والانتساب ويصح سلبها عنه.

كيف؟ وما يضادها بحسب ما ارتكز من معناها في الأذهان يصدق عليه ، ضرورة : صدق القاعد عليه في حال تلبسه بالقعود بعد انقضاء تلبسه بالقيام ، مع وضوح التضاد بين القاعد والقائم بحسب ما ارتكز لهما من المعنى ، كما لا يخفى. وقد يقرر هذا وجها على حدة ، ويقال : لا ريب في مضادة الصفات المتقابلة المأخوذة من المبادئ المتضادة ، على ما ارتكز لها (١) من المعاني ، فلو كان المشتق حقيقة في الأعم ، لما كان بينها مضادة بل مخالفة ، لتصادقها فيما انقضى عنه المبدأ ، وتلبس بالمبدإ الآخر.

ولا يرد على هذا التقرير (٢) ما أورده بعض الأجلة من المعاصرين ، من عدم التضاد على القول بعدم الاشتراط ، لما عرفت من ارتكازه بينها ، كما في مبادئها.

______________________________________________________

(١) الضمائر في لها ـ وبينها ـ ولتصادقها تعود إلى «الصفات المتقابلة ...» إلخ.

(٢) أي : لا يرد على هذا التقرير لبرهان التضاد «ما أورده بعض الأجلة» ، المراد به هو : المحقق الرشتي صاحب البدائع. وملخص إيراده على برهان التضاد هو : لزوم الدور من إثبات وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدإ ببرهان التضاد ، فلا بد من القول بعدم اشتراط التلبس بالمبدإ ووضع المشتق للأعم لئلا يلزم الدور.

توضيح ذلك : أن التضاد مبني على القول باشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتق على الذات حقيقة ، فلو كان القول بالاشتراط مبنيا على التضاد ـ بمقتضى الاستدلال ببرهان التضاد ـ للزم الدور ، فلا بد من القول بعدم اشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتق حقيقة أي : الوضع للأعم لئلا يلزم الدور. فلا تضاد حينئذ ، بل تكون الصفات على القول بعدم الاشتراط متخالفة لا متضادة. هذا توضيح إيراد بعض الأجلة.

وأما وجه عدم ورود هذا الإيراد : فهو أن التضاد لا يتوقف على الوضع لخصوص المتلبس بالمبدإ حتى يلزم الدور ، بل التضاد أمر ارتكازي وبرهان التضاد ناظر إلى التضاد الارتكازي.

فحينئذ : أن وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدإ وإن كان موقوفا على برهان التضاد لتوقف المدلول على الدليل ؛ إلّا إن التضاد لا يتوقف على وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدإ ، بل هو أمر ارتكازي فلا يلزم الدور أصلا.

٢٠٤

إن قلت (١) : لعل ارتكازها لأجل الانسباق من الإطلاق لا الاشتراط.

قلت : لا يكاد يكون (٢) لذلك ، لكثرة استعمال المشتق في موارد الانقضاء لو لم يكن بأكثر.

______________________________________________________

هذا ما أشار إليه بقوله : «لما عرفت من ارتكازه بينها كما في مبادئها». فقوله : «لما عرفت» ؛ تعليل لقوله : «ولا يرد على هذا التقرير ...» إلخ. فمعنى العبارة : أنه لا يرد على برهان التضاد ؛ لما عرفت : من ارتكاز التضاد بين الصفات مثل : القائم والقاعد والعالم والجاهل ، كالتضاد بين مبادئ تلك الصفات كالقيام والقعود والعلم والجهل وغيرها. فوضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدإ وإن كان موقوفا على التضاد ؛ إلّا إن التضاد أمر ارتكازي لا يتوقف على وضع المشتق ، لخصوص المتلبس بالمبدإ حتى يلزم الدور.

(١) أي : «إن قلت : لعل ارتكازها لأجل الانسباق من الإطلاق لا الاشتراط» أي : لعل ارتكاز المضادة بين الصفات لأجل انسباق حال التلبس من الإطلاق ؛ المستند إلى كثرة الاستعمال فلا يكون التضاد دليلا على وضع المشتق للأخص. وهذا الإشكال ناظر إلى ما ذكره المصنف : من كون التضاد دليلا على الوضع للأخص من غير لزوم الدور ، لأنّ التضاد غير منوط بالوضع لخصوص المتلبس بالمبدإ ، بل هو أمر ارتكازي.

توضيح الإشكال : يتوقف على مقدمة وهي أن الانسباق والتبادر على قسمين :

أحدهما : أن يكون الانسباق من حاق اللفظ فيكون علامة للحقيقة.

وثانيهما : أن يكون الانسباق من الإطلاق المستند إلى كثرة الاستعمال ، وهو لا يكون علامة للحقيقة. ثم ارتكاز التضاد لا يثبت الوضع لخصوص حال التلبس ؛ إلّا إن يكون مستندا إلى انسباق حال التلبس من حاق اللفظ حتى يكون التضاد مستندا إلى الوضع.

وأما لو كان ارتكاز المضادة لأجل الانسباق من الإطلاق لا من حاق اللفظ ، فلا يكون التضاد دليلا على وضع المشتق للأخص.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه لعل ارتكاز المضادة لأجل الانسباق الإطلاقي ؛ المستند إلى كثرة الاستعمال ، لا لأجل الانسباق الحاقي المستند إلى الوضع ؛ حتى يكون التضاد دليلا على الوضع للأخص.

والأولى تبديل الاشتراط في المتن بحاق اللفظ ؛ حتى يكون المعنى : لعل ارتكاز المضادة لأجل الانسباق من الإطلاق ، فلا يكون دليلا على الوضع للأخص ـ لا من حاق اللفظ ـ حتى يكون دليلا على وضع المشتق للأخص.

(٢) أي : قلت في الجواب : «لا يكاد يكون» الانسباق «لذلك» أي : لأجل الإطلاق.

٢٠٥

إن قلت : على هذا (١) يلزم أن يكون في الغالب أو الأغلب مجازا ، وهذا (٢) بعيد ، ربما لا يلائمه حكمة الوضع.

لا يقال (٣) : كيف؟ وقد قيل : بأن أكثر المحاورات مجازات ، فإن ذلك (٤) لو سلم ،

______________________________________________________

وحاصل ما أجاب به المصنف : إنه ليس ارتكاز المضادة بين الصفات المتقابلة من الإطلاق أي : من إطلاق لفظ المشتق ، لأن الانسباق الإطلاقي مشروط بشرط وهو : كثرة استعمال المشتق في خصوص حال التلبس ؛ حتى تكون هذه الكثرة سببا لانصراف الإطلاق إليه ، والمفروض : فقدان هذا الشرط في المقام ؛ وذلك لكثرة استعمال المشتق في موارد الانقضاء لو لم يكن بأكثر ، وهذه الكثرة مانعة عن انصراف الإطلاق إلى خصوص حال التلبس ، وعلى هذا : فلا بد أن يكون انسباق حال التلبس مستندا إلى حاق اللفظ ، فيكون حينئذ أمارة على الوضع لخصوص المتلبس بالمبدإ.

(١) أي : على ما ذكرتم من كثرة استعمال المشتق أو أكثريته في موارد الانقضاء يلزم : أن يكون استعماله فيها مجازا في الغالب إذا كان استعماله فيها كثيرا أو في الأغلب إذا كان أكثرا ، لأن المنقضي غير موضوع له إذ المفروض : كونه موضوعا لخصوص المتلبس بالمبدإ في الحال.

(٢) أي : استعمال المشتق مجازا في الغالب أو الأغلب بعيد جدا.

أولا : أن المجاز خلاف الأصل. وثانيا : أنه مما لا تلائمه حكمة الوضع التي هي عبارة عن إبراز المعاني بالألفاظ الموضوعة لها ، فهذه الحكمة تقتضي وضع الألفاظ لتلك المعاني الكثيرة أعني : موارد انقضاء المبدأ فكونها فيها مجازات خلاف حكمة الوضع.

وبعبارة أخرى : أن مقتضى حكمة الوضع هو : الوضع للأعم من التلبس والانقضاء ، لا لخصوص المتلبس بالمبدإ الذي يكون قليلا ونادرا بالنسبة إلى المنقضي عنه المبدأ.

فالمتحصل : أن ما ذكره المصنف من كثرة استعمال المشتق في موارد الانقضاء بعيد جدا.

(٣) قوله : «لا يقال» ؛ إشكال من المستشكل ، حيث أورد على نفسه ـ ما مفاده ـ : إنه لا وجه لاستبعاد مجازية المشتق في موارد الانقضاء في الغالب أو الأغلب بعد وضوح : كون أكثر المحاورات مجازات ، فالاستبعاد المزبور ـ الذي جعل غير ملائم لحكمة الوضع ـ لا يثبت وضع المشتق للأعم ولا يكون المجاز الكثير غير ملائم لحكمة الوضع ، كما أشار إليه بقوله : «كيف؟ وقد قيل» أي : كيف يستبعد كثرة الاستعمال المجازي ، ويحكم بأن الاستعمال المجازي الكثير غير ملائم لحكمة الوضع وقد قيل : إن أكثر المحاورات مجازات؟ فالمجاز الكثير لا يكون بعيدا ، ولا يكون غير ملائم لحكمة الوضع.

(٤) هذا الكلام منه إشارة إلى دفع الإشكال الذي ذكره بقوله : «لا يقال» وحاصله :

٢٠٦

فإنما هو لأجل تعدد المعاني المجازية بالنسبة إلى المعنى الحقيقي الواحد. نعم ؛ ربما يتفق ذلك (١) بالنسبة إلى معنى مجازي ، لكثرة الحاجة إلى التعبير عنه لكن أين هذا (٢) مما إذا

______________________________________________________

ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ١ ، ص ٢٧٥» ـ : أنه بعد تسليم مجازية أكثر المحاورات أن المقصود بهذه الكثرة هو تعدد المعاني المجازية بالنسبة إلى معنى حقيقي واحد كلفظ الأسد ؛ الموضوع لمعنى واحد مع استعماله في معان مجازية عديدة كالرجل الشجاع وغيره ، ومن المعلوم : أن هذه الكثرة الموجودة في المحاورات غير قادحة في الوضع لمعنى واحد ، وغير موجبة لكون الوضع للجميع ، بل المقصود بالكثرة القادحة في حكمة الوضع ، وغير الملاءمة لها هو : كون استعمال كل لفظ في المعنى المجازي الواحد أكثر من استعماله في معناه الحقيقي الواحد ، فإن هذه الكثرة لا تلائم حكمة الوضع وهي وضع اللفظ للمعنى الذي تكثر الحاجة إليه ، والمفروض : كون الحاجة إلى المعنى الانقضائي في المشتق أكثر من المعنى التلبسي ، فحكمة الوضع تقتضي وضع المشتق للأعم لا وضعه للأخص ، فكون المشتق مجازا في الأعم على خلاف حكمة الوضع كما تقدم ذلك في قوله : «إن قلت على هذا يلزم ...» إلخ. فهذا الإشكال في محله ، ولا يندفع بقوله : «لا يقال».

(١) أي : أكثرية الاستعمال في معنى اللفظ المجازي الواحد من الاستعمال في معناه الحقيقي كذلك ، وحاصله : أنه كما لا ينافي كثرة المجازات بالنسبة إلى معنى واحد حكمة الوضع ، ولا توجب الوضع للجميع ؛ كذلك لا ينافي حكمة الوضع كثرة الاستعمال في معنى مجازي واحد ، لكثرة الحاجة إليه إذا كانت من باب الاتفاق ، ولا توجب هذه الكثرة الاتفاقية الوضع للأعم ، لكن إذا كان الاستعمال المجازي في المعنى الواحد دائما كثيرا جدا ؛ كاستعمال المشتق في المنقضي عنه المبدأ ، فحكمة الوضع حينئذ تقتضي وضع اللفظ للأعم منه ومن المتلبس بالمبدإ ، حيث إن مجازيته في المنقضي عنه تنافي حكمة الوضع.

(٢) أي : أكثرية الاستعمال في المعنى المجازي من باب الاتفاق ، «مما إذا كان» الاستعمال المجازي «دائما كذلك» أي : كثيرا أو أكثر كما هو المدعى.

وخلاصة الكلام : أنه هناك فرق بين استعمال اللفظ في المعنى المجازي الكثير من باب الاتفاق ، وبين استعماله فيه دائما كالمشتق المستعمل في المنقضي عنه المبدأ ؛ فعلى الثاني : لا بد من البناء على كون استعماله في الكثير على نحو الحقيقة كاستعمال المشتق في المنقضي عنه المبدأ ؛ إذ كونه على نحو المجاز ينافي حكمة الوضع ، هذا بخلاف ما إذا كان الاستعمال في المعنى المجازي الكثير من باب الاتفاق فلا ينافي حكمة الوضع.

٢٠٧

كان دائما كذلك؟ فافهم (١).

قلت (٢) : مضافا إلى أن مجرد الاستبعاد غير ضائر بالمراد (٣) ، بعد مساعدة الوجوه المتقدمة عليه (٤) : إن ذلك إنما يلزم لو لم يكن استعماله فيما انقضى بلحاظ حال

______________________________________________________

قال العلامة القوجاني في تقريب «إن قلت : على هذا» ما حاصله : أن ما ذكره من كثرة الاستعمال في مورد الانقضاء ـ على فرض كونه مجازا ـ يستلزم كثرة المجاز ، فينافي حكمة الوضع ، ولا يجديه القول بكون أكثر لغات العرب مجازات ؛ لأنه باعتبار كثرة المعاني المجازية لا في معنى مجازي واحد.

(١) لعله إشارة إلى عدم الفرق في مخالفة حكمة الوضع في الاستعمال المجازي بين المجازي الواحد وبين المجازي الكثير ، فكما لا تجوز مخالفة حكمة الوضع في الثاني فكذلك في الأوّل.

(٢) قوله : «قلت» : جواب عن الإشكال الذي تعرض له بقوله : «إن قلت : على هذا ...» إلخ.

وقد أجاب المصنف عن الإشكال بوجهين :

الأول : ما أشار إليه بقوله : «إن مجرّد الاستبعاد غير ضائر بالمراد». وحاصله : أن استبعاد كون استعمال المشتق مجازا في موارد الانقضاء لا يضر بوضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدإ في الحال ؛ لأن استبعاد كثرة المجاز ـ لو سلم ـ لا يقاوم الأدلة التي أقيمت على الوضع للأخص.

(٣) أي : كون المشتق حقيقة في المتلبس بالمبدإ فقط.

(٤) أي : على المراد وهو الوضع لخصوص المتلبس بالمبدإ. والمراد بالوجوه المتقدمة هو التبادر ، وصحة السلب ، وبرهان التضاد ، فمرجع هذا الوجه إلى تسليم كثرة المجازات ؛ إلّا إنها غير قادحة فيما هو المدعى.

الثاني : ما أشار إليه بقوله : «إن ذلك» أي : كثرة المجاز الناشئة عن استعمال المشتق في المنقضي عنه المبدأ ؛ «إنما يلزم لو لم يكن استعماله فيما انقضى بلحاظ حال التلبس» ، وأما إذا كان بلحاظ حال التلبس وهو بمكان من الإمكان لكان الاستعمال على نحو الحقيقة اتفاقا ، فإذا قيل : «جاءني الضارب أو الشارب أمس» ، وكان الأمس قيدا لزمان التلبس والجري معا ، كان استعمال المشتق في المنقضي عنه المبدأ بلحاظ حال التلبس على نحو الحقيقة ، فحينئذ كثرة المجاز ممنوعة على فرض استعمال المشتق في موارد الانقضاء ؛ لأن إطلاقه على من انقضى عنه المبدأ بلحاظ حال التلبس ليس بمجاز ؛ حتى تلزم كثرة المجاز.

٢٠٨

التلبس ، مع إنه بمكان من الإمكان ، فيراد من : جاء الضارب أو الشارب (١) ـ وقد انقضى عنه الضرب والشرب ـ جاء الذي كان ضاربا وشاربا قبل مجيئه حال التلبس بالمبدإ ، لا حينه (٢) بعد الانقضاء ، كي يكون الاستعمال بلحاظ هذا الحال (٣) ، وجعله (٤) معنونا بهذا العنوان فعلا بمجرد تلبسه قبل مجيئه ؛ ضرورة : أنه (٥) كان للأعم لصح استعماله بلحاظ كلا الحالين.

______________________________________________________

(١) أي : يراد ـ من جاء الضارب أو الشارب ـ أي : جاء الذي كان ضاربا حين التلبس قبل مجيئه لا الذي هو ضارب حال النطق أو المجيء بلحاظ تلبسه السابق. وكذا جاء الشارب. وكان الأولى تقديم قبل مجيئه بأن يقال : جاء الذي كان قبل مجيئه ضاربا أو شاربا حال التلبس بالمبدإ. وكيف كان ؛ فإطلاق المشتق على الذات في المثالين إنما هو بلحاظ حال تلبس الذات بالمبدإ فيكون على نحو الحقيقة.

(٢) أي : ليس المراد من جاء الضارب أو الشارب الذي هو شارب أو ضارب حين المجيء والنطق بعد انقضاء المبدأ بأن يكون زمان المجيء ظرفا للجري والنسبة حتى يكون المشتق مجازا.

(٣) أي : حال الانقضاء حتى يكون مجازا لما عرفت : من أن الجري إذا كان بلحاظ حال الانقضاء كان المشتق مجازا.

(٤) الضمير في جعله يعود إلى الموصول في قوله : «جاء الذي كان ضاربا» وجعله عطف على قوله : «الاستعمال». ومعنى العبارة : ليس المراد من الضارب والشارب ـ في قوله : جاء الضارب أو الشارب ـ جاء الذي كان ضاربا أو شاربا حين المجيء بعد الانقضاء ، كي يكون الاستعمال بلحاظ هذا الحال ، ويكون جعل من صدر عنه الضرب والشرب قبل مجيئه معنونا بعنوان كونه ضاربا وشاربا فعلا ؛ بسبب تلبسه بالضرب والشرب قبل المجيء بأن يكون الجري والنسبة فعليا ، والتلبس انقضائيا حتى يكون إطلاق المشتق بلحاظ الانقضاء ، فلا محالة يكون مجازا.

(٥) أي : المشتق «لو كان للأعم» ، بأن كان جريه بلحاظ حال التلبس الموجب للحقيقة وبلحاظ حال التكلم الموجب للمجازية «لصح استعماله بلحاظ كلا الحالين» أي : حال التلبس والانقضاء ؛ لكون كل منهما فردا للمعنى الحقيقي فكان استعمال المشتق في كلاهما حقيقة ، وحينئذ فلا يتعين كونه مجازا حتى يراد : أنه يلزم كون المجاز أكثر من الحقيقة.

فقوله : «ضرورة أنه ...» إلخ تعليل لما أفاده من إمكان كون الاستعمال في موارد الانقضاء بلحاظ التلبس ، فيكون على نحو الحقيقة لا المجاز.

٢٠٩

وبالجملة (١) : كثرة الاستعمال في حال الانقضاء تمنع عن دعوى انسباق خصوص حال التلبس من الإطلاق ، إذ (٢) مع عموم المعنى وقابلية كونه حقيقة في

______________________________________________________

وملخصه : أن المشتق لو كان موضوعا للأعم لصح استعماله بلحاظ كل من التلبس والانقضاء في موارد الانقضاء ، وكان الاستعمال على نحو الحقيقة إذ المفروض : أنه للأعم واختصاص المجازية بوضع المشتق. لخصوص المتلبس بالمبدإ وليس الاستعمال في موارد الانقضاء لخصوص المتلبس بالمبدإ فيكون استعماله في موارد الانقضاء مطلقا حقيقة على القول بالأعم ، ومجازا على القول بالأخص ، مع إن الأمر ليس كذلك ؛ فإن استعماله في موارد الانقضاء ، تارة : يكون على نحو الحقيقة ، وهو ما إذا كان بلحاظ حال التلبس. وأخرى : يكون على نحو المجاز ، وهو ما إذا لم يكن بلحاظ حال التلبس ، بل كان بلحاظ حال الانقضاء.

(١) خلاصة ما أفاده المصنف في دفع إشكال المعترض : حيث اعترض على التبادر باحتمال كونه ناشئا من الإطلاق ، فلا يصلح أن يكون علامة للوضع ، لأن التبادر المثبت للوضع هو المستند إلى حاق اللفظ لا إلى إطلاقه.

وحاصل ما ذكره المصنف في دفع هذا الاعتراض : هو أن التبادر الإطلاقي في مورد البحث مشروط بعدم كثرة الاستعمال في موارد الانقضاء ، والمفروض : وقوعها فيها ، ومع ذلك يكون تبادر خصوص حال التلبس متحققا ، فلا محيص عن كونه مستندا إلى حاق اللفظ دون الإطلاق وإلّا لكان المتبادر هو خصوص حال الانقضاء ، لأنه الذي ينصرف إليه إطلاق اللفظ نظرا إلى كثرة الاستعمال في موارده. وعليه : فهذا التبادر من أمارات الوضع ؛ لكونه ناشئا من حاق اللفظ كما في «منتهى الدراية ، ج ١ ، ص ٣٨٠» مع تصرف ما.

(٢) أي : قوله : «إذ مع عموم المعنى» ؛ تعليل على الظاهر لقوله : «تمنع عن دعوى ...» إلخ. إلّا إن هذا التعليل لا ينطبق على المدعى. والمعلّل وهو ما تقدم سابقا من عدم كون تبادر حال التلبس من المشتق تبادرا إطلاقيا مع كثرة الاستعمال فيما انقضى عنه المبدأ ، فلا بد أن يكون هذا التعليل تعليلا لمقدر وهو : أن كثرة الاستعمال في موارد الانقضاء لا يستلزم مجازية المشتق في الأكثر ؛ كما ادعاه المتوهم : «إذ مع عموم المعنى ...» إلخ.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة ، وهي : أن المشتق مع فرض وضعه لمعنى عام يكون حقيقة في المنقضي عنه المبدأ بالانطباق ، حيث يكون صادقا على كل من المتلبس والمنقضي ، ومع فرض وضعه لمعنى خاص وهو حال التلبس فيمكن أن يكون الاستعمال حينئذ أيضا على وجه الحقيقة إذا كان الجري بلحاظ حال التلبس. ولا بد من البناء على

٢١٠

المورد (١) ـ ولو بالانطباق ـ لا وجه لملاحظة حالة أخرى (٢) كما لا يخفى.

بخلاف ما إذا لم يكن له (٣) العموم ، فإن استعماله ـ حينئذ ـ مجازا بلحاظ حال الانقضاء وإن كان ممكنا ، إلّا إنه (٤) لما كان بلحاظ حال التلبس على نحو الحقيقة بمكان من الإمكان ، فلا وجه لاستعماله وجريه على الذات مجازا وبالعناية وملاحظة

______________________________________________________

كونه بهذا اللحاظ ، لأنه من صغريات دوران الأمر بين المعنى الحقيقي والمجازي ؛ الذي يقدم فيه الحقيقة على المجاز بأصالة الحقيقة.

إذا عرفت هذه المقدمة ؛ فيتضح : أن كثرة الاستعمال في موارد الانقضاء لا توجب كون أكثر استعمالات المشتق مجازا ، بل يكون استعماله في موارد الانقضاء على نحو الحقيقة على القولين كما عرفت.

(١) أي : كون المشتق حقيقة في مورد الانقضاء. «ولو بالانطباق» أي : انطباق الكلي على الفرد ؛ لأن المشتق حقيقة في كل من المتلبس والمنقضي.

(٢) أي : وهي حال التلبس ، لأن المشتق حينئذ حقيقة في المنقضي ، كما أنه حقيقة في المتلبس بالمبدإ ، فلا وجه لملاحظة حال التلبس في استعماله في موارد الانقضاء.

فتحصل مما ذكرناه : أن المجاز ليس أكثر من الحقيقة.

(٣) أي : بخلاف ما إذا لم يكن لمعنى المشتق المستعمل في المنقضى «العموم» ، هذا في مقابل احتمال عموم المعنى للمشتق أعني : قوله : «إذ مع عموم المعنى». وكان الأولى أن يقال : «ومع خصوص المعنى».

وكيف كان ؛ فإذا لم يكن لمعنى المشتق العموم فأيضا لا يلزم من استعماله في موارد الانقضاء كثرة المجاز ، فإن استعماله ـ حينئذ مجازا بلحاظ حال الانقضاء وإن كان ممكنا إلّا إن الاستعمال بلحاظ حال التلبس كان على نحو الحقيقة ، فإذا دار الأمر بين الحقيقة والمجاز يحمل على الحقيقة بأصالة الحقيقة ، «فلا وجه لاستعماله وجريه على الذات مجازا وبالعناية» ، وملاحظة العلاقة المصححة للتجوز.

فالحاصل : أنه لا يلزم كثرة المجاز حتى يقال إنها على خلاف حكمة الوضع.

(٤) أي : إلّا إن الاستعمال أي : استعمال المشتق في موارد الانقضاء يمكن أن يكون مجازا إذا كان بلحاظ حال الانقضاء ، وأن يكون حقيقة ؛ إذا كان بلحاظ حال التلبس ، ومع دوران الاستعمال بين كونه حقيقة وبين كونه مجازا يقدم الأول على الثاني ، ففي موارد الانقضاء يلاحظ حال التلبس ليكون استعمال المشتق فيها حقيقة. فوضع المشتق لخصوص حال التلبس لا يستلزم كثرة الاستعمالات المجازية حتى يرد عليها اعتراض الخصم ببعدها وعدم ملاءمتها لحكمة الوضع كما عرفت.

٢١١

العلاقة ، وهذا (١) غير استعمال اللفظ فيما لا يصح استعماله فيه حقيقة كما لا يخفى ، فافهم (٢).

ثم إنه ربما أورد (٣) على الاستدلال بصحة السلب بما حاصله : أنه إن أريد بصحة

______________________________________________________

(١) أي : المورد الذي يجوز استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي ـ كما نحن فيه ـ غير استعمال اللفظ فيما لا يصح استعماله فيه حقيقة كاستعمال لفظ أسد في الرجل الشجاع ، حيث لا محيص حينئذ عن كونه على وجه المجاز ، هذا بخلاف المشتق في المقام لجواز استعماله في موارد الانقضاء على نحو الحقيقة.

فالمتحصل من جميع ما ذكره المصنف : صحة ما ادعاه من التبادر ، واندفاع ما أورد عليه من كونه ناشئا عن الإطلاق.

(٢) أي : لعله إشارة إلى : أن لحاظ حال التلبس في موارد الانقضاء يخرج الاستعمال فيها عن الاستعمال المجازي ؛ لكونه من استعمال اللفظ في الموضوع له. أو إشارة إلى الإشكال في قوله : «فلا وجه لاستعماله وجريه على الذات مجازا وبالعناية».

توضيح ذلك : أن أمر الاستعمال وكيفيته إنما هو بيد المستعمل ، فإن شاء لاحظ التلبس في موارد الانقضاء فيكون الاستعمال حقيقيا ، وإن شاء لاحظ حال الانقضاء فيكون مجازيا ، ولا يكون الاستعمال المجازي مع التمكن من الحقيقي أمرا ممنوعا عنه ، ولذا قيل : إن باب المجاز أوسع ، وإن أكثر المحاورات مجازات.

(٣) أي : أورد صاحب البدائع على الاستدلال بصحة السلب. «بما حاصله :» توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن سلب المحمول عن الموضوع على قسمين :

أحدهما : سلبه عنه مطلقا أي : في جميع الأزمنة بأن يكون معنى قولنا : «زيد ليس بضارب» سلب الضرب عنه في الحال والماضي.

وثانيهما : سلبه عنه مقيدا بأن يكون معنى قولنا : «زيد ليس بضارب» نفي الضرب عنه في الحال دون الماضي.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الاستدلال بصحة السلب على الأول غير سديد أي : غير صحيح. وعلى الثاني غير مفيد أي : لا يثبت بها وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدإ.

وأما وجه عدم صحة السلب على فرض الأول : فللزوم الكذب ؛ ضرورة : صحة قولنا : «زيد ضارب أمس» وهو نقيض قولنا : «زيد ليس بضارب» أصلا. ومن المعلوم : أنه من صدق أحد النقيضين نعلم كذب الآخر ، فقولنا : «زيد ليس بضارب مطلقا» يكون كاذبا.

٢١٢

السلب صحته مطلقا فغير سديد ، وإن أريد مقيدا فغير مفيد ، لأن علامة المجاز هي صحة السلب المطلق. وفيه (١) : أنه إن أريد بالتقييد تقييد المسلوب ؛ الذي يكون سلبه

______________________________________________________

وأما وجه عدم كونه مفيدا على الثاني : فلأن علامة المجاز هي : صحة السلب المطلق ، مثل : سلب الأسد بمعناه المرتكز في الذهن عن الرجل الشجاع ، لا سلب المقيد نحو سلب الإنسان الأبيض عن الزنجي ، فإنه لا يكون علامة لكون الإنسان مجازا في الزنجي ، وحينئذ فلا يصح الاستدلال بصحة السلب على كون المشتق حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدإ ، ومجازا فيمن انقضى عنه المبدأ.

(١) أي : فيما ذكره صاحب البدائع من الإشكال على الاستدلال بصحة السلب : أنّنا نختار الشق الثاني ـ أعني : صحة السلب مقيدا. وأما قولكم : «وإن أريد مقيدا فغير مفيد» فمردود.

توضيح الردّ يتوقف على مقدمة وهي : أن القيد تارة يكون قيدا للمسلوب أعني : المشتق المحمول نحو : «زيد ليس بضارب» في حال الانقضاء أي : ليس متلبسا بالضرب الحالي.

وأخرى : يكون قيدا للسلب أي : لمفاد كلمة ليس ، فمعنى «زيد ليس في حال الانقضاء الضارب» : أن هذا العدم أعني عدم الضاربية متحقق لزيد في حال الانقضاء.

وثالثة : يكون قيدا للموضوع ـ أعني : المسلوب عنه ـ نحو : «زيد المنقضي عنه الضرب ليس بضارب».

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه إذا كان القيد قيدا للمشتق ؛ بأن يكون المسلوب هو المشتق المقيد بحال الانقضاء كما في الاحتمال الأول ـ فلا يكون صحة السلب حينئذ علامة للمجاز ، إذ يعتبر في علاميّتها صحة سلب اللفظ.

بما له من المعنى ـ أي : صحة السلب المطلق ـ والمفروض هنا : تقييده بحال الانقضاء ، فيكون السلب سلب المقيد ، وسلب المقيد لا يستلزم سلب المطلق ليكون علامة المجاز ، إذ يصدق «زيد ليس بضارب فعلا» ، ولا يصدق «زيد ليس بضارب مطلقا» ، لصدق كونه ضاربا أمس ، فصحة هذا السلب يكون المسلوب فيه مقيدا علامة لعدم وضع المشتق لخصوص المنقضي عنه المبدأ ، وإلّا لم يصح سلبه ، وليس علامة لعدم وضع المشتق للجامع بين المتلبس والمنقضي الذي هو المقصود فما ذكره المستشكل من كونه غير مفيد وإن كان في محله ؛ إلّا إنه لنا تقييد المشتق بحال الانقضاء كما أشار إليه بقوله : «إلّا إن تقييده ممنوع» ؛ وذلك لما ذكرناه من عدم الدليل على رجوع القيد إليه حتى يلزم الإشكال على كون صحة السلب علامة للمجاز في الأعم.

٢١٣

أعم من سلب المطلق ـ كما هو واضح ـ فصحة سلبه وإن لم تكن علامة على كون المطلق مجازا فيه ، إلّا إن تقييده ممنوع. وإن أريد تقييد السلب فغير ضائر بكونها (١) علامة ، ضرورة : صدق المطلق على أفراده على كل حال ، مع إمكان منع تقييده (٢) أيضا بأن يلحظ حال الانقضاء في طرف الذات الجاري عليها المشتق ، فيصح سلبه

______________________________________________________

ثم سلب المقيد أعم من سلب المطلق ؛ نظرا إلى ما في علم الميزان من : أن نقيض الأخص أعم من نقيض الأعم. فإن النقيض وهو اللاإنسان أعم من نقيض الحيوان وهو اللاحيوان ، ولذا يصح أن يقال : كل لا حيوان لا إنسان ولا عكس ، وكذلك يقال في المقام : كل من بضارب مطلقا ليس بضارب في حال الانقضاء دون العكس.

وأما إن كان القيد قيدا للسلب : فصحة السلب حينئذ علامة للمجاز ؛ إذ المفروض : أنه يصح سلب الضارب مطلقا عن زيد بلحاظ حال الانقضاء ، ولا ضير في كونها علامة للمجاز ؛ إذ لو كان المنقضي عنه المبدأ من أفراد المطلق لم يصح سلبه عنه لعدم صحة سلب المطلق عن فرده في شيء من الأزمنة ، فصحته دليل على مجازية إطلاق المشتق على المنقضي عنه المبدأ ؛ كما أشار إليه بقوله : «فغير ضائر بكونها علامة» ، ولكن لا دليل لنا على رجوع القيد إلى السلب أيضا أي : كما لا دليل على رجوعه إلى المشتق المسلوب.

فيتعين أن يكون القيد قيدا للموضوع أي : المسلوب عنه ، وهو الاحتمال الثالث ، فيصح حينئذ سلب المشتق مطلقا يعني : في جميع الأزمنة عمن انقضى عنه المبدأ بلحاظ حال الانقضاء فيكون حال الانقضاء ـ في المثال السابق ـ قيدا للموضوع لا للسلب ، ولا للمسلوب ، فيتم ما ذكره المصنف من الاستدلال بصحة السلب على كون المشتق مجازا فيمن انقضى عنه المبدأ.

(١) أي : بكون صحة السلب «علامة» للمجاز ، «ضرورة صدق المطلق» أعني : المحمول وهو المشتق «على أفراده على كل حال» ، أي : في جميع الأزمنة ، فلو سلب المشتق بما له من المعنى عن فرد في حال كان كاشفا عن عدم صدقه على ذلك الفرد في هذا الحال ، وذلك يوجب المجازية ، فقولنا : زيد ليس في حال الانقضاء بضارب ؛ مفيد لسلب الضاربية عن زيد في حال انقضاء المبدأ عنه ، فيكون إطلاق الضارب على زيد في هذا الحال مجازا ، فيثبت المطلوب.

(٢) أي : منع تقييد السلب «أيضا» أي : كمنع تقييد المسلوب ؛ لما عرفت من : عدم الدليل على رجوع القيد إلى السلب.

٢١٤

مطلقا (١) بلحاظ هذا الحال ، كما لا يصح سلبه بلحاظ حال التلبس ، فتدبر جيدا.

ثم لا يخفى : أنه (٢) لا يتفاوت في صحة السلب عما انقضى عنه المبدأ بين كون المشتق لازما وكونه متعديا ؛ لصحة سلب الضارب عمن يكون فعلا غير متلبس بالضرب ، وكان متلبسا به سابقا.

______________________________________________________

(١) أي : فيصح سلب المشتق في جميع الأزمنة ؛ لكن «بلحاظ» تقييد الموضوع به «هذا الحال» الانقضائي ، «كما لا يصح سلبه بلحاظ حال التلبس» ، أي : فلا يصح أن يقال : زيد في حال التلبس ليس بضارب ، «فتدبر جيدا».

يمكن أن يكون إشارة إلى ما قيل : من منع إطلاق تسليم المصنف عدم العلامية على تقدير كونه قيدا للمسلوب ، بل يصح أن يقال : «زيد ليس بضارب في حال الانقضاء» ، ويكون علامة للمجازية ؛ إذ لو كان للأعم لما صح السلب المذكور.

(٢) هذا الكلام من المصنف ردّ لما ذهب إليه صاحب الفصول في هذه المسألة ؛ من التفصيل بين المتعدي واللازم حيث قال ما حاصله : من أن المشتق إن كان مأخوذا من المبادئ المتعدية إلى الغير ؛ كالضرب والقتل كان حقيقة في الأعم ، وإلّا كان حقيقة في المتلبس بالمبدإ في الحال.

وغاية ما يمكن أن يقال في وجه هذا التفصيل هو : إن المشتق إن كان مأخوذا من المبادئ المتعدية ؛ لم يعتبر في صدقه على الذات اتصافها بالمبدإ فعلا ، لأن المبدأ لم يكن قائما بنفس الذات ، بل بغيرها لفرض التعدي عنها إلى غيرها وهو المفعول به ، فيكون إطلاقه عليها بعد الانقضاء حقيقة ، كما يكون إطلاقه عليها حال التلبس كذلك.

هذا بخلاف ما إذا كان المشتق مأخوذا من المبادئ اللازمة ؛ القائمة بنفس الذات ، فيعتبر حينئذ في صدق المشتق عليها : بقاء المبدأ القائم بها ، فانقضاء المبدأ يوجب مجازية إطلاق المشتق على المنقضي عنه المبدأ.

وحاصل ما أفاده المصنف في ردّ هذا : أنّ التفصيل المزبور فاسد كما أشار إليه بقوله : «لصحة سلب الضارب ...» إلخ.

وملخصه : أنه لا فرق في مجازية المشتق فيما إذا أطلق على المنقضي عنه المبدأ بين كونه متعديا ؛ كالضرب ، أو لازما كالحسن.

والفرق بين المبادئ إنما هو في كيفية قيامها بالذوات ، فإن قيام المبادئ المتعدية بها إنما هو بنحو الصدور والإيجاد ، وقيام المبادئ اللازمة بها إنما هو بنحو الحلول. وقد عرفت سابقا : أن اختلاف كيفية القيام لا يوجب تفاوتا في الجهة المبحوث عنها ؛ وهي وضع هيئة المشتق.

٢١٥

وأما إطلاقه (١) عليه في الحال : فإن كان بلحاظ حال التلبس ، فلا إشكال كما عرفت ، وإن كان بلحاظ الحال ، فهو وإن كان صحيحا إلّا إنه لا دلالة على كونه بنحو الحقيقة ؛ لكون الاستعمال أعم منها (٢) كما لا يخفى ، (٣) كما لا يتفاوت (٤) في صحة السلب عنه (٥) بين تلبسه (٦) بضد المبدأ وعدم تلبسه ؛ لما (٧) عرفت : من وضوح

______________________________________________________

ويشهد بذلك : صحة سلب الضارب عمن لا يكون فعلا متلبسا بالضرب ، فلو كان التفصيل المزبور صحيحا لما صح هذا السلب مع كون المبدأ ـ وهو الضرب فيه ـ متعديا.

(١) قوله : «وأما إطلاقه عليه» دفع لما يتوهم من : أن ما ذكر من كون صحة سلب المشتق عن المنقضى عنه المبدأ علامة المجاز ينافي صدقه عليه في الحال ، لأن صدقه حينئذ أمارة الحقيقة ، فلا يكون صحة سلبه عن المنقضي عنه المبدأ علامة المجاز.

وحاصل الدفع : أنّ إطلاق المشتق على المنقضي عنه المبدأ إن كان بلحاظ حال التلبس لكان على نحو الحقيقة ، فلا إشكال في كونه حينئذ على نحو الحقيقة ، إلّا إنه ليس هناك دليل على أن صدقه عليه بهذا الحال ؛ حتى يكون على نحو الحقيقة ، وذلك لأن الاستعمال أعم من الحقيقة ، فمجرد الاستعمال لا يثبت الحقيقة. نعم ؛ لو كان الاستعمال مثبتا للحقيقة لكان منافيا لصحة سلبه عن المنقضي عنه المبدأ إلّا إنه ليس كذلك.

(٢) أي : من الحقيقة.

(٣) إشارة إلى : أن أصالة الحقيقة لا تجري فيما علم بالمراد ، وشك في كونه معنى حقيقيا أو مجازيا ، وإنما تجري فيما إذا علم بالمعنى الحقيقي ، وشك في المراد على ما في «منتهى الدراية ، ج ١ ، ص ٢٨٩».

(٤) أي : هذا إشارة إلى ردّ تفصيل آخر وهو : كون المشتق حقيقة في الأعم ؛ إن لم يتصف الذات بعد انقضاء المبدأ عنها بضد ذلك المبدأ ؛ كعروض القيام لها بعد مضي القعود عنها ، وإلّا فيكون حقيقة في خصوص حال التلبس ، ومجازا فيما بعد الانقضاء.

(٥) أي : عن المنقضي عنه المبدأ.

(٦) أي : بين تلبس المنقضي عنه بالمبدإ وبين عدم تلبسه به.

(٧) قوله : «لما عرفت ...» إلخ تعليل لقوله : «كما لا يتفاوت» ، وردّ للتفصيل المزبور وحاصله : على ما في «منتهى الدراية» : أن السلب صحيح في كلا المقامين أي : مع عدم التلبس بالضد ، والتلبس به ؛ إلّا إنه مع التلبس أوضح ، لأن المدار في صحة السلب هو زوال المبدأ المتحقق في كلا المقامين أي : طرو الضد الوجودي على الذات وعدمه.

٢١٦

صحته مع عدم التلبس ـ أيضا ـ وإن كان معه أوضح.

ومما ذكرنا (١) ظهر حال كثير من التفاصيل ، فلا نطيل بذكرها على التفصيل.

______________________________________________________

(١) أي : مما ذكرنا من صحة السلب بالنسبة إلى المنقضي عنه المبدأ ، ومن أن اختلاف أنحاء قيام المبادئ بالمشتقات لا يوجب تفاوتا في محل الكلام ظهر : عدم صحة كثير من التفاصيل ، وقد عرفت ما فيها من الإشكال ، فلا حاجة إلى الإعادة.

والمتحصل من الجميع : أن صحة السلب وغيرها من الأدلة تنفي جميع تلك التفاصيل.

خلاصة البحث

١ ـ بيان الأصل عند الشك في كون المشتق للأعم أو الأخص ؛ هل هنا أصل يتعين به أحدهما أم لا؟

وأما الأصل في المسألة الأصولية فغير ثابت ؛ إذ ليس هناك أصل يعين به أن الموضوع له للمشتق هو الأعم أو الأخص ؛ إذ أصالة عدم ملاحظة الخصوصية لإثبات الوضع للأعم ؛ مع معارضتها بأصالة عدم ملاحظة العموم لا دليل على اعتبارها في تعيين الموضوع له.

وأما الأصل في المسألة الفرعية كما أشار إليه بقوله : «وأما الأصل العملي فيختلف في الموارد» ؛ بمعنى : أنه قد تكون نتيجته الوضع للأخص ؛ كما لو ورد «أكرم كل عالم» ، وكان زيد قد انقضى عنه المبدأ قبل الإيجاب ، فتجري البراءة ، ويحكم بعدم وجوب إكرامه بعد الانقضاء ؛ ولازمه : الوضع للأخص ؛ لاختصاص وجوب الإكرام بحال التلبس بالمبدإ. وقد تكون نتيجته الوضع للأعم ؛ وذلك فيما لو كان الإيجاب ـ في المثال المزبور ـ قبل انقضاء المبدأ ، فإذا شك في بقاء الحكم بعد انقضاء المبدأ يستصحب وجوب الاكرام ؛ ولازمه : الوضع للأعم.

٢ ـ الأقوال في المسألة وإن كثرت إلّا إن العمدة قولان :

١ ـ وضعه للأعم. ٢ ـ وضعه للأخص وهو مختار المصنف ، ويدل عليه : تبادر خصوص المتلبس بالمبدإ في الحال من المشتق. وصحة السلب مطلقا عما انقضى عنه المبدأ. الدليل الثالث هو برهان التضاد أعني : التضاد بين مبادئ المشتقات.

٣ ـ وتوهم : لزوم الدور من برهان التضاد مدفوع ؛ بأن التضاد لا يتوقف على الوضع للأخص حتى يلزم الدور.

٢١٧

حجة القول بعدم الاشتراط (١) وجوه

الأول ـ التبادر (٢) ـ

______________________________________________________

٤ ـ وما يتوهم : من أن ارتكاز المضادة إنما هو لانسباق حال التلبس من الإطلاق ؛ لا من حاق اللفظ ، فلا يكون دليلا على الوضع للأخص مدفوع ؛ بأن انسباق خصوص المتلبس بالمبدإ إنما هو من حاق اللفظ ؛ لا من الإطلاق ، إذ لو كان من الإطلاق لكان المتبادر هو الأعم ؛ لكثرة استعمال المشتق في موارد الانقضاء.

٥ ـ وما يدعى : من لزوم المجاز في أغلب الموارد ؛ لأجل كثرة استعمال المشتق في موارد الانقضاء وهو بعيد ، وعلى خلاف حكمة الوضع ، لأن مقتضى حكمة الوضع كثرة الحقائق لا كثرة المجازات مدفوع ؛ بأن البعيد هو كثرة المجاز في مقام الاستعمال ، والمراد بكثرة المجاز في المقام الكثرة العددية ، وهي لا تكون بعيدة ، ولا على خلاف حكمة الوضع.

٦ ـ الإشكال ـ على استدلال المصنف بصحة السلب على كون المشتق مجازا في المنقضي عنه المبدأ ـ بأنه إما غير سديد ، أو غير مفيد مدفوع ؛ بأننا نختار من صحة السلب صحته مقيدا ، ولا يرد عليه بأنه غير مفيد ، بل مفيد ، لأن القيد قيد للموضوع لا للمحمول ، فحينئذ يكون سلب المشتق عمن انقضى عنه المبدأ دليلا على كونه مجازا فيمن انقضى عنه المبدأ. كما عرفت.

فما ذكره المصنف من استدلاله بصحة السلب على مجازية المشتق في المنقضي عنه المبدأ في محله. انتهى الكلام في الخلاصة.

أدلة القائل بالأعم

(١) أي : عدم اشتراط حال التلبس في المشتق فيكون معناه عاما شاملا للمتلبس والمنقضي.

(٢) استدل القائل بوضع المشتق للأعم بوجوه :

الأول : هو التبادر ، وقد مر معناه وهو : أنه بمجرد التلفظ ينسبق المعنى إلى الذهن بنفسه وبلا قرينة حالية أو مقالية ، فيقال في المقام : إن المتبادر من المشتق هو المعنى العام الشامل للمتلبس بالمبدإ والمنقضي عنه.

٢١٨

وقد عرفت (١) : أن المتبادر هو خصوص حال التلبس.

الثاني (٢) : عدم صحة السلب في مضروب ومقتول ، عمن انقضى عنه المبدأ.

وفيه (٣) : أن عدم صحته في مثلهما إنما هو لأجل أنه أريد من المبدأ معنى يكون التلبس به باقيا في الحال ولو مجازا.

وقد انقدح من بعض المقدمات (٤) : أنه لا يتفاوت الحال فيما هو المهم في محل

______________________________________________________

(١) قال المصنف في الجواب عن الاستدلال بالتبادر بما حاصله : أنك قد عرفت في أدلة القائلين بوضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدإ أن المتبادر هو خصوص المتلبس بالمبدإ دون الأعم.

(٢) الثاني : من أدلتهم هو : عدم صحة السلب في مثل : «مضروب ومقتول» ؛ بما لهما من المعنى المرتكز في الذهن عمن انقضى عنه المبدأ ، فيصح أن يقال : «بكر مضروب عمرو أو مقتوله» ، بلا رعاية علاقة المجاز ، فلو لم يكن موضوعا للأعم لكان إطلاقهما على من زال عنه المبدأ مجازا ، والمجاز يحتاج إلى العلاقة التي تصحح التجوز ، ولكان سلبهما عنه صحيحا ، والحال أن استعمالهما فيه لا يحتاج إلى العلاقة المصححة للمجاز ، ولا يصح سلبهما عنه. وعدم صحة السلب علامة الحقيقة.

(٣) قد أجاب المصنف عن الاستدلال بعدم صحة السلب بما حاصله : من أن عدم صحة السلب في مثل المثالين المزبورين وإن كان صحيحا إلّا إنه لا يكون دليلا على كون المشتق للأعم من المتلبس والمنقضي ، بل إنه دليل على كونه حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدإ بالفعل ؛ لأجل أنه قد أريد من المبدأ فيهما معنى يكون التلبس به باقيا بالفعل ؛ بأن يكون المراد من القتل في المقتول : زهوق الروح الذي بمنزلة الملكة في البقاء ، ومن الضرب في المضروب : وقوعه على شخص لا تأثيره حين صدوره. وهذان المعنيان وإن كانا مجازيين لكنهما لا يوجبان المجاز في هيئة المشتق ، بل المجاز في المادة ، ومن المعلوم : أن المبدأ بهذا المعنى باق ، فعدم صحة سلبهما إنما هو لأجل بقاء التلبس بهما فعلا ، فلا يلزم من إطلاقهما حينئذ مجاز في محل النزاع وهو هيئة المشتق ؛ لعدم كونهما من إطلاق المشتق على من انقضى عنه المبدأ.

(٤) أي : وقد ظهر من بعض المقدمات ـ أي : وهي المقدمة الرابعة ـ أن اختلاف المشتقات في المبادئ من حيث الفعلية والشأنية وغيرهما لا يوجب اختلافا في المهم المبحوث عنه ـ وهو وضع هيئة المشتق ـ حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدإ ، أو في الأعم منه وما انقضى عنه المبدأ. أي : ظهر أن المشتق في الكل على نمط واحد ، وأن مورد

٢١٩

البحث والكلام ، ومورد النقض والإبرام اختلاف ما يراد من المبدأ في كونه حقيقة أو مجازا ، وأما لو أريد منه (١) نفس ما وقع على الذات مما صدر عن الفاعل فإنما لا يصح السلب فيما لو كان بلحاظ حال التلبس والوقوع كما عرفت (٢) ؛ لا بلحاظ الحال (٣) أيضا ؛ لوضوح : (٤) صحة أن يقال : انه ليس بمضروب الآن ، بل كان.

الثالث : (٥) استدلال الإمام ـ عليه‌السلام ـ تأسيا بالنبي ـ صلوات الله عليه ـ كما عن غير واحد من الأخبار بقوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) على عدم لياقة من عبد

______________________________________________________

النقض والإبرام هو وضع هيئة المشتق لخصوص المتلبس بالمبدإ أو الأعم ؛ من دون نظر إلى اختلاف المبادئ من حيث إرادة معانيها الحقيقية أو المجازية.

(١) أي : لو أريد من المبدأ ـ في مثل المضروب والمقتول ـ نفس ما يصدر من الفاعل كالإيلام في الأول ، وإزهاق الروح في الثاني ، وهو ما وقع على الذات أعني : المفعول به ، فلا يصح السلب عن المنقضي أيضا إذا كان الإطلاق بلحاظ حال التلبس والوقوع ، وأما إذا كان بلحاظ الانقضاء فيصح السلب ، فعدم صحة السلب حينئذ ممنوع جدا ؛ ضرورة : صحة قولنا : «بكر ليس بمقتول عمرو فعلا» ، بل كان.

(٢) أي : كما عرفت سابقا من أن المشتق حقيقة في المنقضي إذا كان بلحاظ حال التلبس ، ولكن هذا خارج عن محل الكلام ؛ لأن النزاع في إطلاق المشتق على الذات بلحاظ انقضاء المبدأ عنها.

(٣) أي : حال النطق الذي هو حال الجري والإطلاق. يعني : عدم صحة السلب مختص بما إذا كان بلحاظ حال التلبس فقط ؛ بدون لحاظ حال النطق معها كما في «منتهى الدراية ، ج ١ ، ص ٢٩٣».

(٤) هذا تعليل لانحصار عدم صحة السلب بحال التلبس ، حيث إنه يصح السلب بالنظر إلى حال الانقضاء ويقال : «إنه ليس بمضروب الآن» كما يصح أن يقال : «إن ضاربه ليس بضارب الآن».

(٥) الثالث : من أدلة القائلين بوضع المشتق للأعم استدلال الإمام ـ تأسيا بالنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ بقوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(*) ـ على عدم لياقة من عبد صنما أو وثنا لمنصب الإمامة للناس والخلافة لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ؛ تعريضا بمن تصدى لمنصب الإمامة بمن عبد صنما أو وثنا مدة مديدة.

وهذا الوجه من أهم الوجوه التي تمسك بها القائلون بوضع المشتق للأعم ، وتقريب

__________________

(*) البقرة : ١٣٤.

٢٢٠