دروس في الكفاية - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

الاسم ليراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه ، والحرف ليراد منه معناه لا كذلك ، بل بما هو حالة لغيره كما مرت الإشارة إليه غير مرة ، فالاختلاف بين الاسم والحرف في الوضع ؛ يكون موجبا لعدم جواز استعمال أحدهما في موضع الآخر وإن اتفقا فيما له الوضع (١) وقد عرفت ـ بما لا مزيد عليه ـ أن نحو إرادة المعنى (٢) لا يكاد يمكن أن يكون من خصوصياته ومقوماته.

ثم لا يبعد (٣) أن يكون الاختلاف في الخبر والإنشاء أيضا كذلك ؛ فيكون الخبر

______________________________________________________

استقلالية وفي نفسه. ثم اشترط الواضع شرطا وهو : أن المستعمل يستعمل الاسم إذا تصور ولاحظ المعنى مستقلا وفي نفسه ، ويستعمل الحرف إذا تصوره آليا وحالة لغيره. وهذا الاشتراط أوجب عدم صحة استعمال أحدهما مكان الآخر وإن اتفق الاسم والحرف في ذات المعنى الموضوع له فحينئذ يقع الكلام في الشرط بأنّه من قبيل الشرط المتأخر ـ بمعنى : كون الاستعمال المتأخر كاشفا عن تحقق الوضع في السابق ـ أو من قبيل الشرط المتقدم فلا يتحقق الوضع إلّا بعد تحقق الاستعمال ؛ وجهان أقربهما الأوّل ، لكون الثاني مستلزما للدور ، إذ الوضع موقوف على تحقق الاستعمال نظرا إلى الشرطية ، والاستعمال موقوف على الوضع نظرا إلى الفرعية إذا لم تكن هناك قرينة المجاز.

وهناك احتمال أن يكون الاختلاف من حيث الداعي بمعنى : أنّه كان الداعي لوضع الاسم أي : لفظ الابتداء ليراد منه معناه بما هو مستقل وفي نفسه. والداعي لوضع الحرف أي : كلمة «من» هو مفهوم الابتداء لا بما هو مستقل وفي نفسه ، بل بما هو حالة لغيره.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الاختلاف بين معنى الاسم ومعنى الحرف ـ سواء كان في الشرط أو الداعي ـ مما يكفي في عدم صحة استعمال أحدهما مكان الآخر ، فلا يرد الإشكال المذكور. وتركنا ما في المقام من النقض والإبرام رعاية للاختصار.

(١) أي : في ذات المعنى الموضوع له.

(٢) أي : مثل كون المعنى آليا أو استقلاليا لا يكاد يمكن أن يكون من خصوصيات المعنى ومقوّماته المأخوذة في المعنى.

(٣) أي : ليس من البعيد إلحاق الخبر والإنشاء بالاسم والحرف ؛ بأن يكون الاختلاف فيهما أيضا كالاختلاف في الاسم والحرف ، فكما أن معنى لفظي (من) وابتداء متحد ذاتا وهو مفهوم الابتداء ، ولحاظ الآلية والاستقلالية خارجان عن الموضوع له كما عرفت. كذلك يمكن أن يكون «بعت» الإخباري و «بعت» الإنشائي واحدا بالذات وهو النسبة الصدورية بين البيع وفاعله ، والاختلاف بينهما إنما هو في قصد المتكلم بمعنى : أنه

٤١

موضوعا ليستعمل في حكاية ثبوت معناه في موطنه ، والإنشاء ليستعمل في قصد تحققه وثبوته وإن اتفقا فيما استعملا فيه (١) فتأمل (٢).

ثم إنه قد انقدح (٣) مما حققناه : أنّه يمكن أن يقال : أنّ المستعمل فيه في مثل أسماء

______________________________________________________

إن قصد بكلمة «بعت» الحكاية عن ثبوت نسبة البيع في الخارج فهو إخبار ، وإن قصد بها إيجاد البيع فهو إنشاء ، ولكن الواضع اشتراط أن يستعمل لفظ «بعت» الإخباري عند قصد الحكاية ، والإنشائي عند قصد إيجاد المعنى ، ثم قصد الحكاية في الإخبار ، وقصد الإيجاد في الإنشاء إنما هو من خصوصيات الاستعمال وأطواره ، فلا دخل لهما في ذات المعنى الموضوع له.

(١) أي : ما استعمل الخبر والإنشاء فيه هو معنى واحد أعني : نسبة المبدأ إلى الذات.

(٢) لعله إشارة إلى ان تعبير المصنف بنفي البعد ـ حيث قال : لا يبعد ، مشعر بإمكان دخول قصد الإنشاء والخبر في الموضوع له وليس كذلك ، بل لا بد من الالتزام بخروجهما عنه في الإنشاء والإخبار ، لأنهما أمران قصديان ، والمعنى المقيّد بقصد المتكلم لا وجود له في الخارج ليخبر عنه عند قصد الحكاية ، ولا يعقل إيجاده في الخارج كي يقصد إيجاده عند طلب الآمر مثلا ، فلا وجه حينئذ لنفي البعد عن ذلك كما ظاهر العبارة.

أو إشارة إلى أن قياس الإخبار والإنشاء بالاسم والحرف لا يصح إلّا في الألفاظ المشتركة ؛ التي تستعمل تارة في الإنشاء ، وأخرى في الإخبار كصيغة ـ بعت ـ مثلا ، وأما المختصة بإحداهما كالجملة الاسمية المختصة بالإخبار في قولنا : زيد قائم. وصيغة ـ افعل ـ وما شاكلها المختصة بالانشاء كقولنا : أكرم زيدا ؛ فلا يصح القياس المذكور إذ لا يصح قصد الحكاية في الألفاظ المختصة بالإنشاء ، ولا قصد الإيجاد في الألفاظ المختصة بالإخبار.

وكيف كان ؛ فمحل البحث هي الجمل التي يراد بها الإنشاء تارة والإخبار أخرى كلفظ «بعت».

وملخص الكلام فيه : أن المعنى في مثله واحد وهو نسبة المبدأ إلى الذات ، وأما الإخبارية والإنشائية فمن الأغراض الداعية إلى الاستعمال ؛ فإن قصد المستعمل حكايته عن النسبة الواقعية فهو إخبار ، وإن قصد الإيجاد فهو إنشاء ، وعليه : فلا يكون الاستعمال في الإنشاء مجازا ، إذ المفروض : أنّه قد استعمل في الموضوع له والإنشائية من أغراض الاستعمال ودواعيه.

(٣) أي : قد ظهر «مما حققناه» في الحروف والأسماء من خروج الآلية والاستقلالية

٤٢

الإشارة والضمائر ـ أيضا ـ عام ، وإنّ تشخصه (١) إنما نشأ من قبل طور استعمالها ، حيث إنّ أسماء الإشارة وضعت ليشار بها إلى معانيها ، وكذا (٢) بعض الضمائر ، وبعضها (٣) ، ليخاطب به المعنى ، والإشارة والتخاطب يستدعيان التشخص ، كما لا يخفى.

فدعوى : أن المستعمل فيه في مثل «هذا» أو «هو» أو «إياك» إنّما هو المفرد المذكر ، وتشخصه إنّما جاء من قبل الإشارة ، أو التخاطب بهذه الألفاظ إليه ، فإنّ الإشارة أو التخاطب لا يكاد يكون إلّا إلى الشخص أو معه ، غير مجازفة (٤).

______________________________________________________

عن حيّز الموضوع له ، والمستعمل فيه «أنّه يمكن أن يقال : إنّ المستعمل فيه في مثل أسماء الإشارة والضمائر أيضا عام» ، وخصّ عمومية المستعمل فيه بالذكر ؛ لأنّ عمومية المستعمل فيه تستلزم عمومية الوضع والموضوع له.

(١) أي : تشخص المستعمل فيه نشأ من قبل طور استعمال أسماء الإشارة. فلا يمكن أن يكون مأخوذا في الموضوع له جزءا أو قيدا والضمائر في استعمالها ـ وبها ـ ومعانيها ـ ترجع إلى أسماء الإشارة.

(٢) أي : مثل أسماء الإشارة : بعض الضمائر وضع ليشار به إلى معناه كضمير الغائب.

(٣) أي : بعض الضمائر وضع ليخاطب به المعنى.

وحاصل الكلام : أنّ المستعمل فيه بمثل هذا وهو وإياك إنّما هو المفرد المذكر وهو عام ، والتشخص الناشئ من الإشارة في هذا وهو ومن التخاطب في إياك لا يكون موجبا لتشخص المستعمل فيه ، لأنه نشأ من الاستعمال ، فكما أنّ كلا من لحاظ الآلية والاستقلالية خارج عن متن المعنى في الأسماء والحروف فكذلك الإشارة والتخاطب خارجان عن أصل المعنى في أسماء الإشارة والضمائر. غاية الأمر : أنّ اسم الإشارة وضمير الغائب وضعا ليراد منهما الإشارة إلى المعنى ، وضمير المخاطب ليراد منه التخاطب معه.

(٤) قوله : «غير مجازفة» خبر عن قوله : «فدعوى ...» إلخ ، والتعبير بالجزاف لعله إشارة إلى عدم برهان عليه كما في حاشية المشكيني.

بيان ذلك : أنّه لا إشكال في وجود إشارة خارجية في مقام استعمال أسماء الإشارة ، وإنّما الإشكال في أنّ تلك الإشارة داخلة في الموضوع له أو المستعمل فيه ، ومن قيود الوضع أو غرض منه ، أو من باب الانصراف لكثرة الاستعمال في هذا المقام. ومختار

٤٣

فتلخص (١) مما حققناه : أنّ التشخص الناشئ من قبل الاستعمالات ، لا يوجب تشخص المستعمل فيه ، سواء كان تشخصا خارجيا كما في مثل أسماء الإشارة ـ أو ذهنيا ـ كما في أسماء الأجناس والحروف ونحوهما ـ من غير فرق في ذلك أصلا بين الحروف وأسماء الأجناس.

ولعمري (٢) هذا واضح ، ولذا ليس في كلام القدماء من كون الموضوع له أو المستعمل فيه خاصا في الحروف عين ولا أثر ، وإنما ذهب إليه (٣) بعض من تأخر ،

______________________________________________________

المصنف «قدس‌سره» هو الثالث ، كما في الحروف والإخبار والإنشاء وحيث لا يلزم من القول بدخولها في الموضوع له أو المستعمل فيه محال ـ كما يلزم في الحروف ـ عبّر بما ذكر ، فحينئذ يكون الإشارة بلفظ «هذا» كالإشارة بالحصاة أو باليد في مقام استعمال أسماء الأجناس ، فكما إذا أطلقت كلمة «رجل» وأشير إليه باليد لا توجب هذه الإشارة كون الموضوع له أو المستعمل فيه في لفظ «رجل» خاصا ، فكذلك الإشارة بلفظ «هذا» ، وتركنا ما في المقام من تطويل الكلام بالنقض والإبرام رعاية لما هو المطلوب في المقام من الاختصار.

تلخيص البحث في المقام

(١) ملخص ما مضى من البحث والتحقيق : «أنّ التشخص الناشئ من قبل الاستعمالات» ـ كتشخص مفهوم المفرد المذكر خارجا بالإشارة إليه ، وتشخص المفاهيم الإخبارية والإنشائية ذهنا بقصد الإخبار والإنشاء ، وتشخص معاني الحروف ذهنا بلحاظها حالة للغير ، وتشخص معاني الأسماء ذهنا بلحاظها استقلالا ـ لا يوجب تشخص المستعمل فيه ، ولا تشخص الموضوع له ؛ ولا يوجب جعل التشخص جزءا من الموضوع له أو المستعمل فيه ؛ لأنّه من شئون الاستعمال وأطواره ، فيستحيل أخذه في المعنى الموضوع له ؛ لاستلزامه الدور ، إذ تشخص المعنى موقوف على الاستعمال ، فلو أخذ في المعنى لكان الاستعمال موقوفا عليه ؛ للزوم لحاظ المعنى وتصوّره عند الاستعمال فيلزم الدور وهو محال كما قرر في محله. ولا فرق في ذلك ـ أي : في عدم تشخص المعنى بسبب التشخص الناشئ عن الاستعمال ـ بين الحروف وأسماء الأجناس.

(٢) أي : المصنف «قدس‌سره» يثبت رأيه بالقسم حيث يقول : «ولعمري هذا واضح».

(٣) أي : إلى كون الموضوع له أو المستعمل خاصا ذهب بعض من تأخر كصاحب الفصول على ما في بعض الحواشي. وهذا توهم ، ولعل هذا التوهم نشأ من توهم كون

٤٤

ولعله لتوهم كون قصده بما هو في غيره من خصوصيات الموضوع له أو المستعمل فيه ، والغفلة (١) من إن قصد المعنى من لفظه على أنحائه لا يكاد يكون من شئونه وأطواره ؛ وإلا (٢) فليكن قصده بما هو هو وفي نفسه كذلك (٣) فتأمل في المقام ، فإنّه دقيق وقد زلّ فيه أقدام غير واحد من أهل التحقيق والتدقيق.

الثالث (٤)

صحة استعمال اللفظ فيما يناسب ما وضع له ، هل هو بالوضع أو بالطبع؟ وجهان

______________________________________________________

قصد المعنى الحرفي بما هو في غيره ـ أي : الآلية ـ من خصوصيات الموضوع له أو المستعمل فيه.

(١) أي : الغفلة عما ذكرناه من أن قصد المعنى من اللفظ بجميع أنحائه كالآلية والاستقلالية والإخبارية والإنشائية وغيرها لا يكاد يكون من شئون المعنى الموضوع له ؛ لاستلزامه الدور كما عرفت.

(٢) أي : لو كان قصد المعنى في الحروف من شئونه فليكن قصده بما هو هو وفي نفسه ؛ كما في الأسماء من شئون المعنى وموجبا لجزئيته ، مع إنّه لم يقل أحد بكون المعنى في أسماء الأجناس خاصا. فالخصوصية المترتبة على قصد المعنى لا توجب جزئيته سواء كان المعنى اسميا أو حرفيا ، فكل من الموضوع له والمستعمل فيه فيهما عام.

(٣) أي : دخيلا في المعنى وموجبا لجزئيته.

خلاصة البحث في الوضع عند المصنف ترجع إلى أمور تالية

١ ـ الوضع هو : نحو اختصاص اللفظ بالمعنى ليشمل التعييني والتعيّني.

٢ ـ الوضع باعتبار تصور المعنى الموضوع له على أربعة أقسام في مقام الثبوت. ثم ما وقع منها هو اثنان : ١ ـ الوضع الخاص والموضوع الخاص. ٢ ـ الوضع العام والموضوع له العام.

٣ ـ رأي المصنف في وضع الحروف وأسماء الإشارة والضمائر :

إنّ كلا من الوضع والموضوع له والمستعمل فيه فيها عام كأسماء الأجناس.

ملاك صحة الاستعمال في غير ما وضع له

(٤) وقبل البحث ينبغي بيان ما هو محل النزاع في استعمال اللفظ في المعنى المجازي.

٤٥

بل قولان أظهرهما : أنه (١) بالطبع بشهادة الوجدان بحسن الاستعمال فيه ، ولو مع منع الواضع عنه ، وباستهجان الاستعمال فيما لا يناسبه ولو مع ترخيصه ولا معنى لصحته (٢) إلّا حسنه ، والظاهر : أنّ صحة استعمال اللفظ في نوعه (٣) أو مثله (٤) من قبيله (٥) ، كما يأتي الإشارة إلى تفصيله.

______________________________________________________

فنقول : إنّ موضوع النزاع هو : أنّ صحة استعمال اللفظ فيما يناسب المعنى الموضوع له هل هي أمر يرجع إلى الطبع والذوق ، أم أنّه أمر يرجع إلى إذن الواضع؟ فإن رخص فيه الواضع صح وإلّا لم يصح.

(١) أي : صحة الاستعمال فيما يناسب ما وضع له بالطبع لا بالوضع.

توضيح ما أفاده المصنف في المقام يتوقف على مقدمة وهي : أنّه لا ريب في أن المناط في صحة استعمال اللفظ فيما وضع له هو الوضع فقط. وإنّما الكلام والخلاف فيما هو المناط في صحة استعمال اللفظ فيما يناسب الموضوع له هل هو الوضع النوعي ، كما نسب إلى المشهور أو هو الطبع فلا يكون للمجازات وضع.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن ملاك صحة استعمال اللفظ في المعنى المجازي عند المصنف هو : قبول الطبع السليم ، فكل استعمال قبله الطبع يصح بشهادة الوجدان ، وكل استعمال لا يحسن طبعا لا يصح وإن أجاز الواضع ، فإذا وجدت مناسبة بحكم الطبع بين المعنى الحقيقي والمجازي فهو حسن وإن منع الواضع عنه ، وإذا لم توجد لم يحسن وإن أجاز الواضع ، فحسنه مع منع الواضع وقبحه مع إجازة الواضع يدلان على عدم توقف الاستعمال على الوضع. فلا دخل للواضع في حسن الاستعمال.

ومن هنا يظهر فساد ما نسب إلى الجمهور من : أن ملاك صحة استعمال اللفظ في غير ما وضع له هو الوضع. والمراد بالوضع هو الوضع النوعي ؛ وهو عبارة عن إذن الواضع في استعمال اللفظ في معنى بينه وبين ما وضع له إحدى العلائق المصححة لاستعمال اللفظ في المعنى المجازي ؛ من دون لحاظ مادة معينة ، أو هيئة مخصوصة لذلك اللفظ في مقام الوضع. ومما ذكرناه تظهر ثمرة القولين في الاحتياج إلى العلاقة وعدمه ؛ فإن كان الملاك هو الطبع فلا يحتاج إليها ، وإن كان الوضع فيحتاج إليها.

(٢) أي : لا معنى لصحة الاستعمال إلّا حسن الاستعمال.

(٣) أي : مثل : «ضرب» في قولهم : «ضرب فعل ماض» حيث يكون «ضرب» نوعا من الفعل.

(٤) أي : كقولنا : زيد في ـ ضرب زيد ـ فاعل ، إذا أردنا به مثله.

(٥) أي : من قبيل استعمال اللفظ فيما يناسب ما وضع له ، فيكون بالطبع لا

٤٦

الرابع (١)

لا شبهة في صحة إطلاق اللفظ ، وإرادة نوعه به ، كما إذا قيل : ضرب ـ مثلا ـ

______________________________________________________

بالوضع. وجه كون استعمال اللفظ في نوعه أو مثله من قبيل استعمال اللفظ فيما يناسب ما وضع له : أنّ استعمال اللفظ في نوعه أو مثله لا يتصف بالحقيقة ولا بالمجاز ؛ فلذا جعله من قبيل استعمال اللفظ في المعنى المجازي لا نفسه.

ويشهد لذلك أيضا ـ أي : كشهادة الوجدان ـ : أنّه لو كان بالوضع يلزم أن تكون الألفاظ الموضوعة مشتركة ، والقرينة المحتاجة إليها معيّنة لا صارفة ، ولم يقل به أحد.

ثم قوله : «والظاهر : أنّ صحة استعمال اللفظ في نوعه ...» إلخ دليل آخر لإثبات المقصود. بيانه : أنّه لا شبهة في صحته مع إنّه لا وضع فيه لا شخصيا ولا نوعيا.

وكيف كان : فالحاصل : أنّ صحة استعمال اللفظ في غير ما وضع له ـ كالمجازات ـ وعدم صحته ترجع إلى الاستحسان والاستهجان الطبيعي ، لا إلى موافقة الواضع وترخيصه أو عدم موافقته. ولا معنى لصحة الاستعمال إلّا حسن الاستعمال في المحاورات والخطابات ، فلا يعتد بما قيل من أن المجازات لها وضع نوعي ، فتكون متوقفة على وضع الواضع. وتركنا ذكر ما أورده غير واحد على المصنف «قدس‌سره» رعاية للاختصار.

استعمال اللفظ في نوعه أو صنفه أو شخصه

(١) توضيح ما أفاده المصنف في الأمر الرابع يتوقف على مقدمة وهي : إنّ استعمال اللفظ في المعنى على قسمين : إمّا حقيقي أو مجازي. وأمّا استعمال اللفظ في اللفظ فعلى أقسام أربعة :

١ ـ استعماله في نوعه.

٢ ـ استعماله في صنفه.

٣ ـ استعماله في مثله.

٤ ـ استعماله في شخصه.

الأول : كقول أهل التصريف : «ضرب فعل ماض» قاصدين لفظ نوع الفعل الماضي أعني : الثلاثي المجرّد.

الثاني : كقول النحاة : «زيد» في «ضرب زيد فاعل» قاصدين صنف اللفظ المرفوع الذي أسند إليه الفعل أعني : الفاعل ، لأنّ المرفوع على أصناف منها : المبتدأ ، ومنها : الخبر.

٤٧

فعل ماض ، أو صنفه كما إذا قيل : «زيد» في (ضرب زيد) فاعل ، إذا لم يقصد به شخص القول ، أو مثله ك «ضرب» في المثال فيما إذا قصد.

وقد أشرنا (١) إلى أن صحة الإطلاق كذلك وحسنه إنّما كان بالطبع لا بالوضع ، وإلا (٢) كانت المهملات موضوعة لذلك (٣) لصحة الإطلاق كذلك فيها ، والالتزام بوضعها (٤) كذلك كما ترى.

______________________________________________________

الثالث : ك «ضرب» في المثال الأوّل إذا قصد به مثله أي : ضرب الآخر وهو فعل ماض ، لأنّ ضرب في المثال مبتدأ وليس فعلا.

الرابع : إذا قصد بضرب في قولهم : «ضرب فعل ماض» شخص القول أي : نفس الضاد والراء والباء الصادر من اللافظ ، أو كقولنا : زيد لفظ وأريد منه نفس الزاء ، والياء والدال الصادر من اللافظ.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إنّ الكلام في مقامين :

المقام الأول : أنّ استعمال اللفظ في هذه الموارد هل من استعمال اللفظ في المعنى أم لا؟ وعلى كلا التقديرين لا يكون الاستعمال بالوضع لا على نحو الحقيقة ولا على نحو المجاز ؛ وذلك لعدم الوضع ولا العلاقة المصححة للاستعمال. فيكون مجرّد جري الإنسان على مقتضى الطبع في تأدية مقاصده بما يتيسّر له من البيان.

المقام الثاني : في صحة إطلاق اللفظ وإرادة شخصه أو مثله أو صنفه أو نوعه ، ثم لا إشكال في صحة استعمال اللفظ في نوعه أو صنفه أو مثله سواء قلنا : بأنّ الاستعمال من باب استعمال اللفظ في المعنى ، أو قلنا : بأنّه ليس من هذا الباب ، وإنّما الإشكال في صحة إطلاق اللفظ وإرادة شخصه ، وسيأتي توضيح ذلك مع الجواب في كلام المصنف.

(١) أي : في الأمر الثالث «إلى أنّ صحة الإطلاق كذلك» أي : إطلاق اللفظ وإرادة النوع أو الصنف أو المثل «إنّما كان بالطبع لا بالوضع».

(٢) أي : وإن لم يكن إطلاق اللفظ في نوعه أو صنفه أو مثله بالطبع بأن كان بالوضع ـ كما نسب إلى المشهور ـ لزم منه الالتزام بوضع المهملات للنوع أو الصنف وهو خلف ، لأنّ المفروض هو عدم الوضع للمهملات إذ المراد بالمهمل ما ليس له وضع في مقابل ما له وضع.

(٣) أي : كانت المهملات موضوعة للنوع أو الصنف أو المثل لو لم يكن إطلاق اللفظ فيها بالطبع ، بل كان بالوضع ؛ وذلك لصحة الإطلاق كذلك أي : في النوع وأخويه «فيها» أي : في المهملات ، حيث يقال «ديز مقلوب زيد» و «جسق مهمل».

(٤) أي : الالتزام بوضع المهملات للنوع أو الصنف أو المثل «كما ترى» أي : مستلزم

٤٨

وأمّا إطلاقه وإرادة شخصه ، كما إذا قيل : «زيد لفظ» وأريد منه شخص نفسه (١) ، ففي صحته بدون تأويل (٢) نظر ، لاستلزامه اتحاد الدال والمدلول ، أو تركّب القضية من جزءين ، كما في الفصول (٣).

______________________________________________________

للخلف أي : عدم اللفظ المهمل ، ضرورة : اشتراك جميع الألفاظ في هذه الدلالة أي : الدلالة الوضعية ، فلا يصح تقسيم اللفظ إلى الموضوع والمهمل ، فلا بدّ من الالتزام بكون الاستعمال منوطا بالطبع ؛ لئلا يلزم محذور الخلف بانتفاء المهمل.

ويمكن الاستدلال بالقياس الاستثنائي على كون إطلاق اللفظ بالطبع لا بالوضع بأن يقال : لو كان إطلاق اللفظ وإرادة النوع مثلا بالوضع لكانت الألفاظ المهملة موضوعة للنوع أو الصنف. والتالي باطل فالمقدم مثله ، والملازمة ثابتة فيما إذا كان استعمال اللفظ المهمل في النوع أو الصنف بالوضع.

وأمّا بطلان التالي : فللزوم الخلف ؛ لأن الوضع في الألفاظ المهملة هو خلاف المفروض ، لأنّ المفروض : أنّها مهملة. اللهم إلّا إن يقال : بأنّ وضع الألفاظ المهملة للنوع والصنف والمثل لا ينافي إهمالها ؛ لأنّ المهمل ما ليس له معنى ولم يوضع لمعنى أصلا ، فوضعها للألفاظ المخصوصة لا يخرجها عن الإهمال بالمعنى المذكور ، فحينئذ التالي ليس باطلا ، كي ينتج بطلان المقدم.

(١) أي : نفس الزاء والياء والدال الصادر من اللافظ فعلا.

(٢) أي : بدون تأويل إلى النوع أو المثل ، وهذه العبارة موجبة لتوهم صحة الإطلاق ، وإرادة الشخص مع التأويل ؛ مع إنه ليس كذلك ، لخروجه حينئذ عن إرادة شخص اللفظ.

(٣) توضيح ما في الفصول (*) من الإشكال على إطلاق اللفظ وإرادة شخصه يتوقف على مقدمة وهي :

أنّ القضية اللفظية مركبة من أجزاء ثلاثة :

١ ـ موضوع. ٢ ـ محمول. ٣ ـ نسبة وهي حاكية عن القضية الذهنيّة.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إنّ موضوع القضية في قولنا : «زيد لفظ» هو لفظ زيد شخصه ومحمولها هو لفظ. وعليه : فإن التزم بوجود الدال في القضية أعني «زيد لفظ» وهو الموجب لانتقال صورة المدلول في الذهن ، لزم اتحاد الدال والمدلول ، إذ المدلول ليس إلّا نفس موضوع القضية اللفظية وهو لفظ «زيد» ، والمفروض : أنّه هو الدال ، فيكون

__________________

(*) الفصول الغروية ، ص ٢٢ ، س ٣٨.

٤٩

بيان ذلك : أنّه إن اعتبر دلالته على نفسه ـ حينئذ ـ لزم الاتحاد (١) ، وإلّا (٢) لزم تركبها من جزءين ؛ لأنّ القضية اللفظية ـ على هذا ـ إنّما تكون حاكية عن المحمول والنسبة لا الموضوع ، فتكون القضية المحكية بها مركبة من جزءين ، مع امتناع التركب إلّا من الثلاثة ؛ ضرورة : استحالة ثبوت النسبة بدون المنتسبين.

قلت (٣) : يمكن أن يقال : إنّه يكفي تعدد الدال والمدلول اعتبارا ، وإن اتحدا ذاتا ،

______________________________________________________

الدال عين المدلول وهو ممتنع لامتناع اتحاد الحاكي والمحكي ، لأنّ الدلالة والحكاية من سنخ العلية واتحاد العلة والمعلول ممتنع. وإن التزم بعدم الدلالة والحكاية عن ذات الموضوع باللفظ لزم تركب القضية الذهنية من جزءين أي : النسبة والمحمول لعدم الحكاية عن الموضوع ، كي ينتقل إلى الذهن ، وتركّبها من جزءين ممتنع ، لأنّ النسبة متقوّمة بطرفين فلا توجد بطرف واحد.

(١) أي : اتحاد الدال والمدلول وهو باطل ؛ ضرورة : أنّ الدال وجه وعنوان للمدلول ، والوجه والعنوان غير ذي الوجه والمعنون. هذا مضافا إلى لزوم وحدة الانتقال ، مع إنه لا بد في الاستعمال من تعدده.

وتوضيح ذلك : أنه لا شبهة في أن الاستعمال لا يكاد ينفك عن انتقالين : الانتقال إلى اللفظ أولا وإلى المعنى ثانيا ، ومن المعلوم : أن منشأ التعدد فيه تعدد المنتقل إليه ، فلو كان الدال والمدلول شيئا واحدا لم يتعدد المنتقل إليه فلم يتعدد الانتقال أيضا ، فلزم ما ذكرناه من وحدة الانتقال.

(٢) أي : وإن لم تعتبر دلالته على نفسه لزم تركب القضية الذهنية من جزءين وهو ممتنع. كما أشار إليه بقوله : «ضرورة ...» إلخ.

ملخص الإشكال : أنّ لفظ زيد في المثال إن أخذ بعنوان الدال لزم اتحاد الدال والمدلول ، فيجتمع لحاظه آليا ولحاظه استقلاليا ، وإن أخذ بلا معنى لزم تركب القضية من جزءين أي : من محمول ونسبة من دون موضوع.

(٣) أجاب المصنف عن هذا الإشكال بما حاصله : أنّ لنا أن نختار كلا الشقين ، ولا يلزم أي محذور. فنلتزم بوجود الدلالة ولا يلزم محذور اتحاد الدال والمدلول ، لكفاية التغاير الاعتباري بين الدال والمدلول وإن اتحدا ذاتا وهو موجود فيما نحن فيه ، إذ في اللفظ جهتان : جهة كونه صادرا من اللافظ ، وجهة كونه مقصودا له ، فهو بالجهة الأولى دال ، وبالجهة الثانية مدلول.

كما أنّه يمكن أن نلتزم بعدم الدلالة ولا يلزم محذور تركب القضية من جزءين ؛ لأنّ

٥٠

فمن حيث إنّه لفظ صادر عن لافظه كان دالا ، ومن حيث (١) إنّ نفسه وشخصه مراده كان مدلولا. مع إنّ (٢) حديث تركب القضية من جزءين ـ لو لا اعتبار الدلالة في البين ـ إنّما يلزم إذا لم يكن الموضوع نفس شخصه ، وإلّا (٣) كان أجزاؤها الثلاثة

______________________________________________________

انتقال الذهن إلى ذات الموضوع لا يتوقف على ثبوت الحاكي عنه ، بل يتحقق بإحضار نفس الموضوع خارجا ، والحكم عليه وما نحن فيه يمكن أن يكون من هذا القبيل ، فإنّ ذات الموضوع هو نفس لفظ «زيد» وقد أحضر بنفسه ، فتتحقق صورته في الذهن بواسطة ذلك ، ثم يحكم عليه بواسطة اللفظ الحاكي عن معناه الذي يكون به الحكم.

إلّا إنّ هذا النحو يخرج عن كونه من استعمال اللفظ في المعنى ؛ لأنّه إحضار لنفس المعنى ، كما في منتقى الأصول تقرير آية الله العظمى السيّد محمد الروحاني «قدس‌سره».

(١) إشارة إلى تحقق التغاير الاعتباري وكفايته في تعدد الدال والمدلول.

(٢) هذا إشارة إلى اختيار عدم الدلالة ، ولا يلزم محذور تركّب القضية من جزءين كما عرفت.

وملخص الجواب : أنّ اللفظ من مقولة الكيف المسموع ، فيكون عرضا ، وكل عرض له وجود في نفسه بنحو مفاد كان التامة ، ووجود لغيره بنحو مفاد كان الناقصة ؛ وإن كان وجوده في نفسه بعين وجوده لغيره خارجا ، فلفظ زيد إذا أريد به شخصه فبما أنّه وجود لغيره وفان فيه يكون دالا ، وبما أنّه موجود في نفسه يكون مدلولا.

(٣) أي : لو كان الموضوع نفس اللفظ وشخصه كانت أجزاؤها الثلاثة تامة فلا يلزم المحذور المزبور.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي :

أنّ القضية تارة : تشتمل على موضوع لفظي ومعنوي ومحمول كذلك كقولنا : زيد عالم حيث يكون لفظ زيد موضوعا لفظيا ومعناه موضوعا معنويا ، وكذلك يكون لفظ عالم محمولا لفظيا ومعناه محمولا معنويا ، ثم الموضوع والمحمول اللفظيان حاكيان عن الموضوع والمحمول المعنويين.

وأخرى : لا تشتمل القضية على موضوع معنوي ولفظي ؛ بأن يكون الموضوع هو شخص اللفظ من دون أن يكون حاكيا عن المعنى.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الموضوع فيما نحن فيه هو شخص اللفظ لا يحتاج في وجوده وحضوره إلى الواسطة ، بل حاله حال بقية الأفعال الخارجية والموجودات الفعلية مثلا ؛ مثل من يضع يده على «زيد» ويقول : «عالم» أي : هذا الشخص الموجود خارجا

٥١

تامة ، وكان المحمول فيها منتسبا إلى شخص اللفظ ونفسه ، غاية الأمر : أنّه نفس الموضوع ، لا الحاكي عنه (١) ، فافهم ، فإنّه لا يخلو عن دقة (٢) وعلى هذا (٣) : ليس من باب استعمال اللفظ بشيء ، بل يمكن أن يقال : إنّه ليس أيضا من هذا الباب (٤) ما إذا أطلق اللفظ وأريد به نوعه أو صنفه ، فإنّه (٥) فرده ومصداقه حقيقة ، لا لفظه (٦) وذاك

______________________________________________________

عالم ، وبهذا يجعل المحمول في القضية منتسبا إلى الشخص الموجود خارجا وهو نفس الموضوع في القضية الخارجية. والمقام من هذا القبيل حيث إن الموضوع هو شخص اللفظ خارجا والمحمول ثابت له ، فلا يلزم المحذور المزبور ، لأنّ القضية مركبة من أجزاء ثلاثة : ١ ـ الموضوع وهو ذات اللفظ وشخصه. ٢ ـ المحمول وهو «لفظ». ٣ ـ مع النسبة بينهما.

وحينئذ فلا يلزم خلو القضية عن الموضوع ، كي يقال : إنّه مستحيل. نعم ؛ يلزم خلوّها عن الموضوع الحاكي وهو غير مستحيل ، فالمستحيل وهو عدم الموضوع غير لازم ، واللازم وهو : عدم كون الموضوع حاكيا غير مستحيل.

(١) أي : ليس الموضوع حاكيا عن الموضوع الواقعي في القضية المحكية كما هو الشأن في القضايا المتعارفة.

(٢) أي : وجه الحاجة إلى الدقة : أنّ جعل شخص اللفظ موضوعا دون معناه مخالف للقضايا المتعارفة.

(٣) على ما ذكرناه من أنّ الموضوع هو شخص اللفظ ليس إطلاق اللفظ وإرادة شخصه من باب استعمال اللفظ أصلا ، لأنّ الاستعمال يتوقف على لفظ ومعنى ، والمفروض : إرادة شخص اللفظ لا معناه ، فلا يندرج المقام في استعمال اللفظ في المعنى ، بل يكون من باب إيجاد الموضوع ثم الحكم عليه كما عرفت.

(٤) أي : من باب استعمال اللفظ في المعنى.

(٥) أي : اللفظ هو فرد النوع أو الصنف ومصداقهما حقيقة.

(٦) أي : ليس اللفظ الذي أريد به النوع لفظ النوع ؛ كي يكون إطلاقه عليه من باب الاستعمال ، بل شأنه شأن إطلاق اللفظ وإرادة شخصه بأن يكون الموضوع نفس اللفظ ويحكم عليه لكن لا بما هو هو ، بل بما هو فرد لنوعه فيسري الحكم إلى سائر الأفراد باعتبار أنّ وجود الفرد وجود للكلي الذي يوجد في ضمن أفراده.

وبعبارة أخرى : إذا قيل : «زيد ثلاثي» وأريد به النوع فلا يكون من باب الاستعمال ؛ بل هو من قبيل إحضار الطبيعي في ذهن المخاطب بإرادة فرده ، فالمتكلم بذلك اللفظ قد قصد ثبوت الحكم للطبيعي ليسري منه إلى أفراده ، فأوجد المتكلم في ذهن المخاطب

٥٢

معناه ؛ كي يكون مستعملا فيه استعمال اللفظ في المعنى ، فيكون اللفظ نفس الموضوع الملقى إلى المخاطب خارجا قد أحضر في ذهنه بلا واسطة حاك وقد حكم عليه ابتداء بدون واسطة أصلا ، لا لفظه (١) كما لا يخفى ، فلا يكون في البين لفظ قد استعمل في معنى ، بل فرد قد حكم في القضية عليه بما هو مصداق لكلي اللفظ ، لا بما هو خصوص جزئيه (٢).

نعم ؛ (٣) فيما إذا أريد به فرد آخر مثله ، كان من قبيل استعمال اللفظ في المعنى. اللهم (٤) إلّا أن يقال : إنّ لفظ «ضرب» وإن كان فردا له ؛ إلّا إنه إذا قصد به حكايته ،

______________________________________________________

أمرين : أحدهما : شخص اللفظ الصادر منه. والثاني : طبيعي ذلك اللفظ الجامع بينه وبين غيره ، ولما لم يكن إيجاده على ما هو عليه في الخارج إلّا بإيجاد فرده فأوجده بإيجاد فرده ؛ فلا يكون من قبيل استعمال اللفظ في المعنى في شيء ، فإن وجوده عين وجود فرده في الخارج ، وإيجاده عين إيجاد فرده ، وعليه : فلا يعقل أن يجعل وجود الفرد دالا وحاكيا عن النوع الكلي ؛ إذ لازم الدلالة والحكاية هو التعدد في الوجود ؛ ولا تعدد هنا فيه أصلا.

(١) أي : فيكون اللفظ نفس الموضوع لا لفظه الحاكي عنه ، كي يكون الإطلاق من قبيل استعمال اللفظ في المعنى.

(٢) أي : الحكم على الفرد بما هو مصداق وليس الحكم عليه بما هو خصوص جزئي كلي اللفظ ، والفرق بين الحكم على الفرد بما هو مصداق الكلي وبما هو جزئي الكلي : أنّ الحكم على الفرد بما هو المصداق لا ينافي إرادة النوع أو الصنف وأمّا الحكم عليه بما هو جزئي الكلي : فينافي إرادة النوع أو الصنف ؛ إذ لم يترتب الحكم وهو «لفظ» في قولنا : «زيد لفظ» على «زيد» بما أنّه لفظ خاص جزئي ، بل يترتب عليه بما أنّه فرد من الكلي أعني : النوع أو الصنف.

(٣) غرض المصنف «قدس‌سره» من هذا الكلام : أنّ ما تقدم في إطلاق اللفظ وإرادة النوع من إمكان عدم كون إطلاق اللفظ وإرادة النوع أو الصنف منه من باب الاستعمال لا يتطرق فيما إذا أريد باللفظ فرد آخر مثله ؛ وذلك لعدم كون الشخص الملفوظ مصداقا لمثله لتباين الأمثال ؛ لأن كل فرد يغاير الآخر فيمتنع أن يكون وجودا له ، فلا بد أن يقصد به الحكاية عن المماثل ؛ فلا محيص حينئذ عن كونه من باب الاستعمال.

(٤) استدراك على قوله : «بل يمكن أن يقال ...» إلخ. وغرضه من هذا الاستدراك

٥٣

وجعل عنوانا له ومرآته ، كان لفظه (١) المستعمل فيه ، وكان ـ حينئذ ـ كما إذا قصد به فرد مثله.

وبالجملة (٢) : فإذا أطلق وأريد به نوعه ، كما إذا أريد به فرد مثله كان من باب

______________________________________________________

هو : جعل إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه من باب الاستعمال ، كاستعمال اللفظ وإرادة مثله ؛ بتقريب : أنّ لفظ «ضرب» في قولنا «ضرب فعل ماض» وإن كان فردا للنوع ؛ لكنه إذا قصد به حكايته عن النوع ودلالته عليه يصير من باب الاستعمال ، نظير ما إذا قصد به فرد مثله ؛ لما عرفت : من امتناع انطباق المباين على مثله ، فلا محالة يكون من باب الاستعمال ، لا إيجاد الموضوع هذا في المثل. وأمّا في النوع أو الصنف : فيجوز أن يكون إطلاق اللفظ من باب الاستعمال ، كما يجوز أن يكون من إيجاد الموضوع.

فالمتحصل : أن إطلاق اللفظ وإرادة المثل ليس إلّا من باب استعمال اللفظ في المعنى.

فيختص إمكان كل من إيجاد الموضوع والاستعمال بما إذا أطلق اللفظ وأريد به النوع أو الصنف.

(١) أي : لفظ النوع أو الصنف. وقوله : «كان» جواب الشرط في قوله : «إذا قصد به». فمعنى العبارة : إذا قصد باللفظ حكاية النوع وجعل عنوانا ومرآة له ؛ كان اللفظ لفظه أي : النوع «المستعمل» في النوع ، وكان حينئذ من باب الاستعمال ؛ كما إذا قصد به فرد مثله.

وعلى هذا يمكن أن يجعل اللفظ من باب استعمال اللفظ في المعنى ، ويمكن أن لا يجعل كذلك ، وذلك تابع للقصد.

(٢) أي : محصل ما ذكرناه في إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه.

توضيح ذلك : أنّ المصنف قد قال أولا : إن إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه كإرادة شخصه ليس من باب استعمال اللفظ في المعنى ، ثم تنزّل عن هذا بقوله : «اللهم إلّا إن يقال ...» إلخ فقد قال بكون ذلك من باب الاستعمال ، وصحّحه بقياس ذلك بإطلاق اللفظ وإرادة المثل بمعنى : أنه كما إذا أطلق اللفظ وأريد به المثل كان الإطلاق من باب استعمال اللفظ في المعنى ؛ كذلك إطلاق اللفظ وإرادة النوع أو الصنف ؛ إذا قصد به الحكاية.

ثم يبيّن بقوله : «وبالجملة» نتيجة التنزّل عما سبق وهي جريان كلا الوجهين في إطلاق اللفظ وإرادة النوع أو الصنف ؛ وذلك لوجود ملاك كلا الوجهين ، فإن الملاك في كون الإطلاق من باب الاستعمال أن يقصد به الحكاية ، كما في إرادة المثل ، كما أن

٥٤

استعمال اللفظ في المعنى ، وإن كان فردا منه وقد حكم في القضية بما يعمّه وإن أطلق ليحكم عليه بما هو فرد كليه ومصداقه لا بما هو لفظه (١) وبه حكايته ، فليس من هذا الباب ؛ لكن (٢) الإطلاقات المتعارفة ظاهرا ليست كذلك كما لا يخفى. وفيها ما لا يكاد يصح أن يراد منه ذلك مما كان الحكم في القضية لا يكاد يعم شخص اللفظ ، كما في مثل ـ ضرب فعل ماض (٣) ـ.

______________________________________________________

الملاك في عدم كونه من باب الاستعمال أن لا يقصد به الحكاية ، كما في إرادة الشخص.

فإذا كانت إرادة النوع بملاك إرادة المثل كان الإطلاق من باب الاستعمال ، وإن كانت بملاك إرادة الشخص لم يكن من باب الاستعمال ، بل كان من باب إيجاد الموضوع في الخارج ، كما عرفت.

وإن في قوله : «وإن كان فردا منه» وصلية ، وضمير «منه» يرجع إلى النوع ، وضمير المفعول في قوله : «يعمّه» عائد إلى الفرد. فالمعنى : أنّه إذا أطلق اللفظ وأريد به نوعه كان من باب الاستعمال وإن كان اللفظ فردا من النوع وهو الكلي ، ولكن لما قصد به الحكاية عن النوع كان من باب استعمال اللفظ في المعنى.

(١) أي : إن أطلق اللفظ «ليحكم عليه بما هو فرد كليه ومصداقه لا بما هو لفظه وبه حكايته ، فليس من هذا الباب» أي : من باب استعمال اللفظ في المعنى كما عرفت.

(٢) استدراك على قوله : «وإن أطلق ليحكم عليه بما هو فرد كليه ...» إلخ وحاصله : أنّ في إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه وإن جاز جريان الوجهين أي : كونه من باب الاستعمال وعدم كونه كذلك ، ولكن الإطلاقات المتعارفة ليست من القسم الثاني وهو عدم كون الإطلاق من باب الاستعمال ، بل الإطلاقات المتعارفة تكون ظاهرا من باب الاستعمال ، بل فيها ما لا يمكن أن يكون من غير الاستعمال ، كما إذا لم يكن محمول القضية شاملا لشخص اللفظ لعدم انطباق الطبيعة عليه ، كقولنا : «ضرب فعل ماض» فإن المحمول وهو ـ فعل ماض ـ لا يشمل شخص «ضرب» لكونه مبتدأ فيكون اسما. وليس فعلا ، فلا بد من كونه من باب الاستعمال والحكاية عن النوع. وضمير «فيها» يرجع إلى الإطلاقات المتعارفة.

(٣) أي : لأنّ ضرب في مثل هذا التركيب مبتدأ ، لا فعل ماض ، فلا يعمه الحكم في القضية ، بل إنما يكون اسما حاكيا عما يكون محكوما به نعم ؛ يعمّه الحكم في مثل : «ضرب لفظ» ، فإن اللفظ شامل له وان كان اسما لكونه مبتدأ.

٥٥

الخامس (١)

لا ريب في كون الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي ، لا من حيث هي

______________________________________________________

خلاصة البحث في إطلاق اللفظ على اللفظ

إنّ لإطلاق اللفظ وإرادة شخصه أو مثله أو نوعه أو صنفه مقامات :

المقام الأول : أن ملاك صحة استعمال اللفظ في اللفظ هو الطبع دون الوضع ، والدليل على ذلك : أنّه لو كان بالوضع لزم أن يكون للألفاظ المهملة وضع ؛ وهو باطل قطعا إذ كونها موضوعة ينافي إهمالها.

المقام الثاني : أنّه لا إشكال في إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله ، ولكن لا يصح إطلاق اللفظ وإرادة شخصه إلّا مع تأويل ، لأنّه مستلزم لاتحاد الدال والمدلول ؛ مع الالتزام بدلالة اللفظ على شخصه ، ولتركّب القضية من جزءين مع عدم الدلالة. وقد أجاب عن المحذور الأوّل : بكفاية التعدد والتغاير الاعتباري بين الدال والمدلول ، وهذا نوع من التأويل.

وعن الثاني : بأن ذلك يلزم لو لم يكن الموضوع نفس اللفظ وشخصه ، وأمّا لو كان الموضوع شخصه فلا يلزم تركّب القضية من جزءين ، بل أجزاؤها الثلاثة تامة.

المقام الثالث : أن إطلاق اللفظ وإرادة شخصه ليس من باب استعمال اللفظ في المعنى ، بل هو إيجاد الموضوع بإلقاء اللفظ ، كما أنّ إطلاق اللفظ وإرادة مثله يكون من باب استعمال اللفظ في المعنى لا غير.

وأمّا إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه : فيصح فيه كلا الوجهين ، ولكن الأرجح عند المصنف : أنّه من باب استعمال اللفظ في المعنى ؛ نظرا إلى كون الإطلاقات المتعارفة من هذا القبيل.

تبعية الدلالة للإرادة

(١) وقبل البحث ينبغي بيان ما يمكن أن يكون محلا للكلام بين الأعلام. توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن للإرادة كالدلالة أقسام :

١ ـ مفهوم الإرادة الذي وضع له لفظ الإرادة.

٢ ـ مصداقها ، وهو على قسمين : ١ ـ الإرادة الحقيقية التي هي الصفات القائمة بالنفس ؛ وهي سبب لتحريك العضلات نحو المطلوب. ٢ ـ الإرادة الإنشائية المنشأة بصيغة الأمر مثلا ، ثم لا خلاف في عدم جزئية مفهوم الإرادة لمعنى اللفظ الموضوع ،

٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

كما لا خلاف في عدم جزئية الإرادة الإنشائية ؛ وإنّما الخلاف في دخول الإرادة الحقيقية ، ثم الخلاف في مدخلية إرادة المستعمل في الدلالة لا إرادة الواضع.

ثم الدلالة كالإرادة على أقسام ثلاثة : ١ ـ الدلالة التصورية. ٢ ـ الدلالة التفهيمية. ٣ ـ الدلالة التصديقية.

الفرق بين هذه الأقسام : أنّ الأولى : عبارة عن الانتقال إلى المعنى بمجرد سماع اللفظ ، وهذه الدلالة لا تتوقف على غير العلم بالوضع ، وليس للإرادة دخل عليها فتكون تابعة للوضع فقط.

الثانية : أعني : الدلالة التفهيمية المعبر عنها بالدلالة التصديقية أيضا ؛ فهي تتوقف زائدا على العلم بالوضع على إحراز أن المتكلم في مقام التفهيم ، ولم ينصب قرينة متصلة على الخلاف.

الثالثة : أي : الدلالة التصديقية وهي دلالة اللفظ على مطابقة المراد الجدي للمراد الاستعمالي وهي ثابتة ببناء العقلاء ، وتتوقف زائدا على ما مر على إحراز عدم قرينة منفصلة على الخلاف.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن محل الكلام هي الدلالة التصديقية دون الدلالة التصورية ؛ إذ قد عرفت : أنها غير تابعة للإرادة أصلا ، فوقع الخلاف في أن الدلالة التصديقية هل هي تابعة للإرادة أم لا؟ ومنشأ هذا الخلاف هو الخلاف في الدلالة الوضعية هل هي الدلالة التصورية أو أنها الدلالة التصديقية؟.

والمعروف والمشهور هو الأول ؛ بتقريب : أن الانتقال إلى المعنى عند تصور اللفظ لا بد أن يستند إلى سبب وذلك السبب هو الوضع ، فالدلالة التصورية هي الدلالة الوضعية ، فإنكار صاحب الكفاية ناظر إلى عدم كون الدلالة التصورية تابعة للإرادة ، بل لا يمكن أن تكون تابعة للإرادة بأن تكون الإرادة مأخوذة في معنى المفردات التي تكون دلالتها تصورية.

نعم ؛ من قال : بأن الدلالة الوضعية هي الدلالة التصديقية لا التصورية كما هو ظاهر أستاذنا الإمام الخوئي «قدس‌سره» ؛ فعليه القول : بأن الدلالة تابعة للإرادة.

وكيف كان ؛ فالغرض من هذا الأمر الخامس هو دفع توهم كون الدلالة تابعة للإرادة ، وقد ردّ المصنف هذا التوهم بوجوه : الوجه الأول : هو ما أشار إليه بقوله :

«من أن قصد المعنى على أنحائه من مقومات الاستعمال».

٥٧

مرادة للافظها ، لما عرفت بما لا مزيد عليه ، من أن قصد المعنى على أنحائه (١) من مقومات الاستعمال ، فلا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه.

هذا مضافا (٢) إلى ضرورة : صحة الحمل والإسناد في الجمل بلا تصرف (٣) في

______________________________________________________

(١) أي : من كونه على نحو الاستقلالية أو الآلية ، أو كونه مرادا للمتكلم من لوازم ومقومات الاستعمال المتأخر بالطبع عن المستعمل فيه ، «فلا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه» ، إذ لو أخذ قيدا من قيوده لزم تقدم ما هو متأخر وهو مستحيل ، ثم ما لا يكون قيدا للمستعمل فيه لا يكاد أن يكون قيدا للموضوع له بطريق أولى ، بل يلزم الدور.

بيانه : أن قصد المعنى وإرادته يتوقف على استعمال اللفظ في معناه ، فلو أخذ قصد المعنى قيدا له لزم توقف استعمال اللفظ فيه على قصده وإرادته وهو الدور. فقوله : «لا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه» إشارة إلى هذا المحذور. والحاصل : أنّ قصد المعنى على أنحائه من شئون الاستعمال ؛ فلا يؤخذ قيدا في المستعمل فيه.

(٢) أي : هذا إشارة إلى الوجه الثاني وهو المحذور الثاني.

(٣) أي : كتجريد ألفاظ الأطراف أي : الموضوع والمحمول عن الإرادة ، فصحة الحمل والإسناد في الجمل ـ من دون التصرف بتجريد ألفاظ الأطراف ـ دليل على عدم أخذ الإرادة جزءا أو شرطا للمعاني.

أمّا تقريب هذا الوجه الثاني بالقياس الاستثنائي فيقال : إنّه لو كان للإرادة دخل في المعاني جزءا أو شرطا لما صح الحمل والإسناد في مثل «زيد قائم» ، ـ و «ضرب زيد» إلّا بالتجريد أي : تجريد ألفاظ الأطراف عن الإرادة ، والتالي باطل فالمقدم مثله ، ثم القياس الاستثنائي لا يتم الاستدلال به إلّا بعد ثبوت الملازمة بين المقدم والتالي فنقول : إن الملازمة في المقام ثابتة ضرورة : إنه مع دخل الإرادة في المعاني لا يصح الحمل أو الإسناد إلّا بالتجريد ؛ لوضوح : أن المحمول في مثال «زيد قائم» ، والمسند في مثال : «ضرب زيد» هو نفس القيام والضرب لا بما هما مرادان ، فلا محيص عن التصرف فيهما بالتجريد وإلغاء الإرادة عنهما. هذا ملخص بيان الملازمة.

وأمّا بطلان التالي ، فلأن الالتزام بالتجريد مع كونه موجبا للمجازية ، ولغوية أخذ الإرادة قيدا للموضوع له مخالف للوجدان.

هذا مضافا إلى أنّ أخذ الإرادة قيدا للمعاني مستلزم لإنكار عموم الموضوع له في عامة الألفاظ ـ حتى في أسماء الأجناس ـ ضرورة : أن أخذ مصداق الإرادة قيدا لمعنى يستدعي جزئية المعنى دائما. هذا هو الوجه الثالث الذي أشار إليه بقوله : «مع إنّه يلزم

٥٨

ألفاظ الأطراف ؛ مع إنه لو كانت موضوعة لها بما هي مرادة لما صح بدونه (١) ؛ بداهة (٢) : أن المحمول على زيد في «زيد قائم» ، والمسند (٣) إليه في «ضرب زيد» ـ مثلا ـ هو نفس القيام والضرب ، لا بما هما مرادان.

مع إنه (٤) يلزم كون وضع عامة الألفاظ عاما والموضوع له خاصا ، لمكان اعتبار خصوص إرادة اللافظين فيما وضع له اللفظ ، فإنّه لا مجال لتوهم أخذ مفهوم الإرادة فيه (٥) ، كما لا يخفى. وهكذا الحال في طرف الموضوع.

______________________________________________________

كون وضع عامة الألفاظ عاما والموضوع له خاصا» ، وهو باطل بالضرورة.

(١) أي : بدون التصرف وهو تجريد ألفاظ الأطراف عن الإرادة.

(٢) تعليل لعدم صحة الحمل والإسناد بدون التصرف ، لأنّه بعد كون المحمول والمسند إليه في المثالين هو نفس القيام والضرب ، فلا بد من التصرف بالتجريد فيهما كما عرفت.

(٣) قوله : والمسند إليه عطف على قوله : المحمول ، وضمير «إليه» عائد إلى زيد. فالمسند إليه ليس بمعنى : ما أسند إليه الفعل ، كي يتوهم أن المسند إليه دائما اسم وليس فعلا ، بل المسند إليه في المقام بمعنى : المسند الذي أسند إلى زيد ؛ فيكون فعلا وهو قوله : «ضرب» في «ضرب زيد».

وخلاصة الكلام : أنه لو كان اللفظ موضوعا للمعنى بقيد الإرادة لكان الاستعمال هنا مجازيا ؛ لأنّه من استعمال اللفظ الموضوع للكل في الجزء ، مع إنّ الاستعمال لا يكون على نحو المجاز فنكشف من ذلك : أن اللفظ موضوع للمعنى وليس للإرادة دخل في ذلك.

(٤) أي : مع التسليم بأن الألفاظ موضوعة للمعاني مع الإرادة ؛ يلزم كون وضع عامة الألفاظ من الاسم والفعل والحرف عاما ، والموضوع له خاصا ، وهذا هو الوجه الثالث ، وقد قررناه سابقا وقلنا : إنه باطل بالضرورة ، لأنّ الوضع والموضوع له يختلفان باختلاف الموارد ، فتارة يكون الوضع عاما والموضوع له عاما ، كأسماء الأجناس ، وأخرى كل منهما خاص كالأعلام ، وثالثة يكون الوضع عاما والموضوع له خاصا كالمبهمات على المشهور.

(٥) أي : فيما وضع له. فإذا كان مفهوم الإرادة مأخوذا في المعنى لكان الموضوع له عاما لعمومية مفهوم الإرادة ، فلا يلزم إنكار عمومية الموضوع له ، ولكن لا مجال لهذا التوهم لما ذكرنا في أول البحث من : إن محل الكلام ليس في المفهوم ، بل في مصداق الإرادة ، لأن المتبادر هي الإرادة الحقيقية القائمة بالنفس. وعليه : فيلزم إنكار عمومية

٥٩

وأمّا ما (١) حكي عن العلمين الشيخ الرئيس ، والمحقق الطوسي (*) من مصيرهما إلى أن الدلالة تتبع الإرادة فليس ناظرا إلى كون الألفاظ موضوعة للمعاني بما هي مرادة ، كما توهمه بعض الأفاضل (٢) ، (**) بل ناظر إلى أن دلالة الألفاظ على معانيها بالدلالة التصديقية (٣) ، أي : دلالتها (٤) على كونها مرادة للافظها تتبع إرادتها منها.

وتتفرع (٥) عليها تبعية مقام الإثبات للثبوت ، وتفرع الكشف على الواقع

______________________________________________________

الموضوع له في عامة الألفاظ ، وهو باطل بالضرورة.

(١) قوله : «وأمّا ما حكي عن العلمين» دفع للتوهم أي : أما توهم صاحب الفصول فيما ـ «حكي عن العلمين من مصيرهما إلى أن الدلالة تتبع الإرادة» ـ ففهم من كلامهما أن الألفاظ موضوعة لخصوص المعاني المقيدة بالإرادة فليس بشيء ، لأن المحكي عنهما ليس ناظرا إلى القول بكون الألفاظ موضوعة للمعاني المقيّدة بالإرادة ، بل إنّه ناظر إلى الدلالة التصديقية وهي دلالة الكلام على إرادة المتكلم تفهيم المعنى وقصده له ، لا الدلالة التصورية التي هي محل الكلام وهي مجرد خطور المعنى في الذهن من سماع اللفظ.

فالحاصل : أن مراد العلمين ليس هو أخذ الإرادة في المعنى وتبعية الدلالة لها تصورا ، بل مرادهما تبعية الدلالة التصديقية لها وهو مما لا شبهة فيه كتبعية مقام الإثبات عن مقام الثبوت ، والكاشف عن المنكشف ؛ لأن كشف الكلام عن تحقق الإرادة متفرع على أصل تحققها وثبوتها ، إلّا إن هذا ليس من محل النزاع ، فلا ينافي ما التزمنا به من عدم الوضع للمعاني بما هي مرادة.

(٢) أي : صاحب الفصول. وقد عرفت دفع هذا التوهم.

(٣) أي : وهي دلالة الكلام على إرادة المتكلم مدلول الكلام بالإرادة الجدية ولا شك في أنها تابعة للإرادة أي : تابعة لإرادة المتكلم للمعاني من الألفاظ ، ولكن كون دلالة الألفاظ على معانيها بالدلالة التصديقية تابعة للإرادة ليس محل الكلام وما هو محل الكلام من دلالة الألفاظ على معانيها بالدلالة التصورية ليس تابعا للإرادة ، لأنها قهرية بعد العلم بالوضع ؛ فلا تتوقف على غير العلم بالوضع.

(٤) أي : دلالة الألفاظ على كون المعاني «مرادة» للافظ الألفاظ تتبع إرادة المعاني من الألفاظ.

(٥) أي : تتفرع الدلالة التصديقية على الإرادة «تبعية مقام الإثبات للثبوت» أي : كما

__________________

(*) الإشارات والتنبيهات ، ج ١ ، ص ٢٨ ـ ٢٩.

(**) الفصول الغروية ، ص ١٧ ، س ٤٠.

٦٠