دروس في الكفاية - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

أكثر للفظ واحد ؛ وإن أحاله (١) بعض ، لإخلاله (٢) بالتفهم المقصود من الوضع ؛

______________________________________________________

الثاني : الاشتراك اللفظي وهو : مقابل الترادف ؛ بمعنى : أن الترادف ما يكون لفظين لمعنى واحد ؛ كالأسد والليث للحيوان المفترس. والاشتراك ما يكون معنيين للفظ واحد بأن يكون اللفظ موضوعا لكل معنى بوضع مستقلّ ؛ مثل : لفظ جون للأبيض والأسود مثلا.

ومن هنا ظهر الفرق بين المشترك المعنوي واللفظي ، حيث يكون الوضع في الثاني متعددا دون الأول.

الثاني : أن الامكان على قسمين :

الأول : الإمكان الذاتي. والثاني : الإمكان الوقوعي.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن محل الكلام هو القسم الثاني من القسمين أي : الاشتراك اللفظي والامكان الوقوعي.

إذا عرفت محل الكلام فنقول : إنهم قد اختلفوا في المشترك اللفظي على أقوال :

فذهب بعض إلى استحالته وقوعا مطلقا ، وبعض آخر : إلى استحالته في القرآن الكريم دون غيره. وثالث : إلى وجوبه ، ورابع : إلى إمكانه وقوعا. وهذا الأخير هو مختار المصنف «قدس‌سره».

ثم معنى الإمكان الوقوعي هو : ما لا يلزم من وقوعه محال ، فوقوعه أقوى دليل عليه ، ولهذا قال المصنف «قدس‌سره» : «الحق وقوع الاشتراك» وقد استدل عليه بوجوه :

الأول : النقل بمعنى : أنه قد نقل في اللغة الاشتراك في ألفاظ كثيرة كالعين للباكية والنابعة ، والمولى للعبد والسيد ، وجون للأبيض والأسود ، والقرء للطهر والحيض ، وغيرها من الألفاظ المشتركة بين المعنيين أو المعاني ، وهذا النقل مما يوجب الاطمئنان ، بل القطع على وقوع الاشتراك.

الثاني : التبادر بمعنى : أنه يتبادر كلّ من الطهر والحيض مثلا من القرء إذا استعمل بدون قرينة معيّنة لأحدهما.

الثالث : عدم صحة السلب أي : عدم صحة سلب لفظ القرء عن الطهر والحيض.

(١) أي : وإن قال باستحالة الاشتراك بعض. هذا هو القول الأول حسب ما ذكرناه من الترتيب.

(٢) هذا تعليل ودليل على الاستحالة.

وتوضيحه يتوقف على مقدمة وهي : أن الوضع تابع للحكمة ، وهي : التفهيم وإبراز ما في الضمير من جانب المتكلم ، والتفهّم من جانب السامع ، فعند انتفاء تلك الحكمة يكون الوضع لغوا ، فصدوره مستحيل عادة عن العاقل.

١٤١

لخفاء (١) القرائن لمنع الإخلال (٢) أولا ؛ لإمكان الاتكال على القرائن الواضحة ، ومنع كونه مخلا بالحكمة ثانيا ؛ لتعلق الغرض بالإجمال أحيانا.

كما إنّ استعمال المشترك في القرآن ليس بمحال (٣) كما توهم ؛ لأجل لزوم التطويل بلا طائل (٤) ، مع الاتكال على القرائن والإجمال في المقال لو لا الاتكال

______________________________________________________

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الاشتراك يوجب الإجمال فتبطل حكمة الوضع. ولازم ذلك : عدم إمكانه الوقوعي المسبب عن تنافي الاشتراك لحكمة الوضع ، وليس المقصود بالاستحالة من القائل بها إلّا هذا.

(١) هذا تعليل للاخلال بالتفهّم. فمعنى العبارة : أن الاشتراك مخلّ بالتفهم المقصود لأجل خفاء القرائن المعينة للمراد ، فيكون صدوره محالا من الواضع الحكيم لكونه لغوا.

(٢) قد أجاب صاحب الكفاية «قدس‌سره» عن استدلال القائل بالاستحالة بوجهين :

الأول : ما أشار إليه بقوله : «لمنع الإخلال أولا» ، لأن إمكان التفهيم والتفهّم من اللفظ المشترك بواسطة القرائن الواضحة الدلالة على المقصود من البديهيات ؛ حيث إن اللفظ قد يدل على المقصود بنفسه ، وقد يدل عليه بواسطة القرائن الواضحة ، فلا يلزم التنافي بين الاشتراك وحكمة الوضع.

فاللفظ المشترك وإن لم يدل عليه بنفسه ؛ ولكنه يدل عليه بواسطة ضم قرينة فلا يكون مخلا بغرض الوضع ، فهذا التعليل ـ أعني ـ لخفاء القرائن ـ أخص من المدعى لاختصاصه بصورة خفاء القرائن ، فلا يصلح لأن يكون دليلا على منع الاشتراك مطلقا.

الثاني : ما أشار إليه بقوله : «ومنع كونه مخلا بالحكمة ثانيا». وملخص هذا الوجه الثاني : أنّا نمنع كون الاشتراك يوجب الإخلال بغرض الواضع فإن الغرض كما يتعلق بالتفهيم والتفهم ، كذلك قد يتعلق بالإهمال والإجمال ، فلا بد من الاشتراك لتحصيل هذا الغرض.

(٣) هذا إشارة إلى القول الثاني وهو التفصيل بين القرآن وغيره ، فتوهم : أن الاشتراك في القرآن الكريم محال دون غيره.

(٤) أي : هذا إشارة إلى دليل من توهم استحالة الاشتراك في القرآن وملخصه : أن الاشتراك في القرآن يقتضي أحد أمرين :

أحدهما : لزوم التطويل بلا طائل :

ثانيهما : الإهمال والإجمال ، وكلاهما غير لائق بكلامه تعالى فيكون باطلا.

١٤٢

عليها ، وكلاهما غير لائق بكلامه تعالى جلّ شأنه ، كما لا يخفى ، وذلك (١) لعدم لزوم التطويل ، فيما كان الاتكال على حال أو مقال أتى به لغرض آخر ، ومنع كون الإجمال غير لائق بكلامه تعالى مع كونه مما يتعلق به الغرض ، وإلّا لما وقع المشتبه في كلامه ، وقد أخبر في كتابه الكريم بوقوعه فيه ، قال الله تعالى : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) (٢) ، وربما توهم : وجوب وقوع الاشتراك في اللغات (٣) ، لأجل عدم تناهي المعاني (٤) وتناهي الألفاظ المركبات ، فلا بد من الاشتراك

______________________________________________________

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة : وهي : أن المفروض : إمكان التفهيم بلفظ متحد معناه من دون حاجة إلى استعمال اللفظ المشترك.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إن الله تعالى حينما يستعمل اللفظ المشترك إمّا أن يعتمد في بيان المراد منه على القرائن الدالة على ذلك ؛ فيلزم التطويل بلا طائل. وإمّا أن لا يعتمد على شيء في ذلك فيلزم الإهمال والإجمال ، وكلاهما باطل. فيكون استعمال اللفظ المشترك في القرآن باطلا ومستحيلا منه تعالى.

(١) هذا من المصنف «قدس‌سره» بيان لرد القول بالتفصيل بين القرآن وغيره وحاصله : أنّنا نختار الاعتماد على القرينة ، وما ذكرتم من لزوم التطويل بلا طائل إنما يصح لو كانت القرينة لغرض تعيين المراد من المشترك ، وأمّا لو كانت لغرض آخر ؛ لكن كانت تلك القرينة دالة بالدلالة الالتزامية على المعنى المراد من اللفظ المشترك ؛ فلا يلزم التطويل بلا طائل ، فيكون الدليل أخص من المدعى ؛ لاختصاصه بصورة كون القرينة لتعيين ما هو المراد من المشترك لا لغرض آخر زائد على بيان المراد. هذا أولا.

وثانيا : نختار عدم الاعتماد على القرينة ، وما ذكرتم من لزوم الإجمال ـ وهو غير لائق بكلامه تعالى ـ : إنما يتم لو لم يتعلق الغرض بالإجمال ، وهو قد يتعلق بالإجمال كما أخبر «سبحانه وتعالى» بوقوعه في كلامه عزّ من قائل : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ،) فالمتشابه هو المجمل ، وقد وقع في القرآن الكريم في غير مورد ، ولا مانع منه أصلا إذا تعلق الغرض به ، ودعت الحاجة إلى الإتيان بذلك.

(٢) آل عمران : ٧.

(٣) هذا إشارة إلى القول الثالث وهو وجوب الاشتراك في اللغات ، في مقابل القول بامتناعه.

(٤) هذا تعليل لوجوب الاشتراك في اللغات.

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة مركبة من أمرين :

١٤٣

فيها ، وهو (١) فاسد ؛ لوضوح : امتناع الاشتراك في هذه المعاني ، لاستدعائه الأوضاع الغير المتناهية ، ولو سلّم لم يكد يجدي إلّا في مقدار متناه ، مضافا إلى تناهي المعاني الكلية وجزئياتها وإن كانت غير متناهية ؛ إلّا إن وضع الألفاظ بإزاء كلياتها يغني عن وضع لفظ بإزائها كما لا يخفى ؛ مع إن المجاز باب واسع ، فافهم (٢).

______________________________________________________

أحدهما : تناهي الألفاظ لأنها مركبة من الحروف الهجائية المتناهية ، ومن البديهي : أن المركب من المتناهي متناه.

وثانيهما : أن المعاني غير متناهية ، ومن المعلوم : عدم وفاء المتناهي بغير المتناهي.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه لا بد من الالتزام بالاشتراك لتكون الألفاظ وافية بالمعاني ؛ إذ لولاه لما كانت الألفاظ وافية بالمعاني.

(١) أي : توهم وجوب الاشتراك في اللغات فاسد بوجوه : منها : ما أشار إليه بقوله «لاستدعائه الأوضاع الغير المتناهية» وحاصله : إن الوضع بإزاء المعاني الغير المتناهية غير معقول لأنه يستلزم أوضاعا غير متناهية وصدورها من واضع متناه محال.

ومنها : ما أشار إليه بقوله : «ولو سلم لم يكد يجدي إلّا في مقدار متناه».

وحاصله : أنه لو سلّم إمكان الاشتراك حينئذ ؛ كما إذا كان الواضع هو الله تعالى إلّا إنه لا يجدي ، لأن الوضع مقدمة للاستعمال ، وهو إنما هو بمقدار الحاجة وهو متناه لصدوره عن البشر ، وهو غير قادر إلّا على استعمال متناه ، فلا بد حينئذ من أن تكون المعاني التي تستعمل فيها الألفاظ بحسب الأوضاع متناهية ؛ إذ وضع الألفاظ بإزاء المعاني غير المتناهية يصبح لغوا محضا ، لأنه زائد على مقدار الحاجة إلى الاستعمالات المتناهية.

ومنها : ما أشار إليه بقوله : «مضافا إلى تناهي المعاني الكلية» وحاصله : أن المعاني الجزئية وإن لم تكن متناهية إلّا إن المعاني الكلية متناهية كالألفاظ ، فلا مانع من وضع الألفاظ بإزاء كليات المعاني ، وهو يغني عن وضعها بإزاء الجزئيات.

ومنها : ما أشار إليه بقوله : «مع إن المجاز باب واسع» وملخصه : أن المحذور المزبور إنما يلزم لو كان اللفظ موضوعا بإزاء جميع المعاني ، ويكون استعماله في الجميع على نحو الحقيقة ، وأما إذا كان موضوعا بإزاء بعض منها وكان استعماله في الباقي مجازا فلا يلزم المحذور ؛ إذ لا مانع من أن يكون لمعنى واحد حقيقي معان متعددة مجازية ، فإن باب المجاز واسع.

(٢) لعله إشارة إلى عدم العلاقة أو المناسبة المصححة للاستعمال المجازي في جميع المعاني ، فلا يغني المجاز عن الاشتراك. أو إشارة إلى أنّ مواد الألفاظ وإن كانت متناهية

١٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

إلّا إن هيئاتها غير متناهية ؛ لأجل تركبها بهيئات متفرقة غير متناهية ، فلا حاجة إلى الاشتراك بعد كون الألفاظ كالمعاني غير متناهية.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره».

يتلخص البحث في أمور تالية :

١ ـ أن محل الكلام في الاشتراك اللفظي دون المعنوي ، وفي الإمكان الوقوعي دون الذاتي.

٢ ـ أن الأقوال في المسألة هي أربعة :

١ ـ الاستحالة مطلقا. ٢ ـ الاستحالة في القرآن دون غيره. ٣ ـ وجوبه مطلقا. ٤ ـ إمكان وقوعه مطلقا.

هذا هو مختار المصنف «قدس‌سره» ، والدليل على ذلك هو : النقل ، والتبادر ، وعدم صحة السلب بالنسبة إلى معنيين أو أكثر للفظ واحد.

والقول بالاستحالة مطلقا لمنافاة الاشتراك لحكمة الوضع مردود ؛ لعدم اختصاص حكمة الوضع بالتفهيم والتفهم ، بل قد يتعلق الغرض بالإجمال والإهمال.

والقول بالاستحالة في القرآن فقط لاستلزامه إمّا التطويل بلا طائل وإمّا الإجمال ـ وكلاهما غير لائق بكلامه تعالى ـ مردود أولا : بعدم لزوم التطويل بلا طائل. وثانيا : بتعلق الغرض بالإجمال لوجود آيات متشابهة في القرآن ، والقول بوجوب الاشتراك لعدم وفاء الألفاظ المتناهية بالمعاني الغير المتناهية مردود بوجوه :

الأول : لاستدعائه الأوضاع الغير المتناهية وصدورها محال من البشر ولغو من الله لو كان هو الواضع.

الثاني : أن الألفاظ المتناهية قد وضعت للمعاني المتناهية ؛ وهي المعاني الكلية ، فلا حاجة إلى الاشتراك.

الثالث : أن الألفاظ يمكن وضعها لبعض المعاني ، واستعمالها في الباقي يكون مجازا ؛ فإن باب المجاز واسع فلا حاجة أيضا إلى الاشتراك.

رأي المصنف :

وهو وقوع الاشتراك للنقل والتبادر وعدم صحة السلب بالنسبة إلى معنيين أو أكثر للفظ واحد.

١٤٥

الثاني عشر (١)

أنه قد اختلفوا في جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى على سبيل الانفراد والاستقلال ، بأن يراد منه كل واحد ، كما إذا لم يستعمل إلّا فيه على أقوال :

أظهرها (٢) : عدم جواز الاستعمال في الأكثر عقلا. بيانه : إن حقيقة الاستعمال ليس (٣) مجرد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى ، بل جعله وجها وعنوانا له ، بل بوجه نفسه كأنّه الملقى.

______________________________________________________

استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد

(١) قبل الخوض في البحث ينبغي بيان ما هو محل الكلام ، وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن ما يستعمل فيه لفظ واحد من المعنيين أو المعاني تارة : مما يمكن الجمع بينهما ؛ كأن يقال : رأيت عينا وأراد منه البصر والذهب ، وأخرى : مما لا يمكن الجمع بينهما كأن يقال : هذه المرأة ذات قرء ويراد بالقرء : الحيض والطهر.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن محل الكلام ما إذا كان الجمع بين المعنيين ممكنا ؛ سواء كان كلا المعنيين من المعاني الحقيقية كالاشتراك اللفظي ، أو أحدهما من المعاني الحقيقية والآخر من المعاني المجازية ، وكان الاستعمال في كل منهما على نحو الانفراد ؛ بحيث يكون كل من المعنيين مرادا على انفراده واستقلاله بأن يكون الاستعمال الواحد في حكم الاستعمالين.

ومن هنا ظهر : أن استعمال اللفظ الواحد في مجموع المعنيين بما هو كذلك خارج عن محل البحث ، لأنه في حكم الاستعمال الواحد في المعنى الواحد.

وكيف كان ؛ فقد اختلفوا على أقوال وعمدتها :

١ ـ القول : بالجواز مطلقا. ٢ ـ عدم الجواز لغة. ٣ ـ والامتناع عقلا.

وهذا الأخير هو مختار المصنف «قدس‌سره» حيث قال : «أظهرها عدم جواز الاستعمال في الأكثر عقلا» ، والقول الأول اختاره صاحب المعالم ، والقول الثاني لصاحب القوانين.

(٢) أي : أظهر الأقوال عدم جواز الاستعمال في الأكثر عقلا مطلقا أي : من دون فرق بين المفرد والتثنية والجمع.

(٣) أي : ليس الاستعمال مجرد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى. هذا منه بيان لعدم جواز الاستعمال في أكثر من معنى.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : بيان حقيقة الاستعمال. وقيل : إن حقيقة

١٤٦

ولذا (١) يسري إليه قبحه وحسنه كما لا يخفى. ولا يكاد يمكن جعل اللفظ كذلك (٢) ، إلّا لمعنى واحد (٣) ضرورة (٤) : أن لحاظه (٤) هكذا في إرادة معنى ينافي لحاظه (٥) كذلك في إرادة الآخر ، حيث إن لحاظه كذلك لا يكاد يكون إلّا بتبع لحاظ المعنى فانيا فيه فناء الوجه في ذي الوجه ، والعنوان في المعنون ، ومعه (٦) كيف يمكن

______________________________________________________

الاستعمال عبارة عن جعل اللفظ علامة للمعنى ، وحينئذ يجوز استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى ؛ إذ لا يمتنع أن يكون الشيء الواحد علامة وكاشفا عن أمرين ، فإنه من الممكن نصب علامة واحدة لبيان جهتين كرأس الفرسخ ، ومقام صالح من الصلحاء ، وأما لو كان الاستعمال إفناء اللفظ في المعنى بجعله مرآة ووجها له بحيث يكون كأنه هو الملقى رأسا ؛ كان الاستعمال في المتعدد ممتنعا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن حقيقة الاستعمال عند المصنف «قدس‌سره» هو : إفناء اللفظ في المعنى ، فيكون الاستعمال في المتعدد ممتنعا ، وذلك لأن الاستعمال إذا كان كذلك يستدعي أن يلحظ اللفظ آلة وطريقا إلى المعنى لفنائه فيه فناء الوجه في ذي الوجه ، وعليه : فاستعماله في معنيين يستلزم إفناءه مرتين ، وهو يقتضي أن يلحظ اللفظ بلحاظين آليين وهو ممتنع ـ لاستحالة اجتماع المثلين في شيء واحد في آن واحد ـ كما تحقق في محله.

(١) أي : لكون اللفظ وجها للمعنى ، بل نفسه بوجه يسري إلى اللفظ حسن المعنى وقبحه.

(٢) أي : وجها وعنوانا للمعنى.

(٣) أي : يمكن جعل اللفظ وجها وعنوانا لمعنى واحد.

(٤) تعليل لقوله «لا يكاد يمكن ...» إلخ وحاصله : أن لحاظ اللفظ وجها للمعنى وفانيا فيه ينافي لحاظه وجها لمعنى آخر ؛ لما عرفت : من استلزامه جمعا بين المثلين ، وقيل لتقريب ذلك إلى الذهن : إن اللفظ الواحد بالنسبة إلى معنيين كالقلنسوة الواحدة بالنسبة إلى رأسين ؛ فكما لا يمكن جعلها في آن واحد على رأسين بحيث تكون محيطة بتمام كل منهما ، فكذلك لا يمكن جعل لفظ واحد في آن واحد فانيا في معنيين ووجودا ووجها لهما معا ، فالمتحصل من الجميع هو : امتناع استعمال لفظ واحد في أكثر من معنى واحد.

(٥) أي : لحاظ اللفظ وجها وعنوانا «في إرادة معنى ينافي لحاظه» أي : اللفظ «كذلك» أي : وجها وعنوانا في إرادة المعنى الآخر.

(٦) أي : ومع لحاظ اللفظ وجها وعنوانا للمعنى ؛ كيف يمكن إرادة معنى آخر مع

١٤٧

إرادة معنى آخر معه كذلك في استعمال واحد. ومع استلزامه (١) للحاظ آخر غير لحاظه كذلك في هذا الحال.

وبالجملة : لا يكاد يمكن في حال استعمال واحد لحاظه وجها لمعنيين ، وفانيا في الاثنين ، إلّا أن يكون اللاحظ أحول العينين (٢).

فانقدح بذلك (٣) : امتناع استعمال اللفظ مطلقا ـ مفردا كان أو غيره ـ في أكثر

______________________________________________________

المعنى الأول على نحو يكون اللفظ فانيا في المعنى الآخر كفنائه في المعنى الأوّل في استعمال واحد؟ أي : لا يمكن ذلك فإن الاستفهام للإنكار.

(١) أي : مع استلزام الاستعمال أي : استعمال اللفظ في المعنى الثاني «للحاظ آخر غير لحاظه» أي : لحاظ اللفظ أولا «كذلك» فانيا ووجها للمعنى الأول «في هذا الحال» أي : في حال وحدة الاستعمال ، فقوله : «ومع استلزامه» بيان وتقريب لاستحالة استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى.

(٢) أي : لا يمكن جعل اللفظ الواحد وجها لمعنيين ؛ إلّا إن يكون اللاحظ والمستعمل أحول العينين ، لأن الأحوال من يرى الواحد اثنين فيلاحظ كلّا منهما فانيا في معنى.

وقد ذكر المحقق الأصفهاني وجها آخر لامتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى توضيحه : على ما في «منتقى الأصول» : «أن الاستعمال عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ بوجود تنزيلي ، بمعنى : أن يكون اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى ، وبما أن الإيجاد متحد مع الوجود حقيقة وذاتا ـ وإن اختلف بحسب الاعتبار ـ امتنع استعمال اللفظ في معنيين ؛ إذ يستحيل أن يكون الوجود الواحد إيجادا لكل من المعنيين بنحو يكون إيجادين للمعنيين ، لأنه إذا كان إيجادا لهذا المعنى فقد امتنع أن يكون في نفس الوقت إيجادا آخر للمعنى الآخر». انتهى.

(٣) أي : بما ذكرناه من امتناع إرادة معنيين من لفظ واحد في استعمال واحد. وهذا من المصنف إشارة إلى تفصيل صاحب المعالم في المقام ؛ حيث فصل بين المفرد وغيره بعد القول بجواز استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى. وقال : إن استعماله فيه بنحو الحقيقة في التثنية والجمع ، وبنحو المجاز في المفرد ، وعلله في المعالم : بأن اللفظ موضوع للمعنى بقيد الوحدة ، فاستعماله في أكثر من معنى فيه إلغاء للقيد المذكور فيكون استعمالا في غير ما وضع له ، ويكون مجازيا بعلاقة الجزء والكل ، إذ اللفظ الموضوع للكل استعمل في الجزء ولا يجيء هذا البيان في غير المفرد ، لأن التثنية والجمع في قوة

١٤٨

من معنى بنحو الحقيقة أو المجاز ، ولو لا امتناعه فلا وجه لعدم جوازه.

فإن اعتبار الوحدة في الموضوع له واضح المنع (١) ، وكون الوضع في حال وحدة المعنى (٢) وتوقيفيّته لا يقتضي عدم الجواز ، بعد ما لم تكن الوحدة قيدا للوضع ولا للموضوع له ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

تكرار اللفظ ، فيكون لهما حكم التكرار ، فكما يصح إرادة معنى معين من لفظ «عين» وإرادة غيره من لفظ «عين» آخر ، فكذلك يصح إرادة المعنيين معا من لفظ «عينين» بلا تجوّز لأنهما في قوة قولك : «عين وعين».

(١) قوله : «فإن اعتبار الوحدة في الموضوع له واضح المنع» ردّ على صاحب المعالم ، وحاصله : أنه لا دليل لنا على اعتبار الواضع قيد الوحدة في المعنى ؛ لأن المتبادر هو ذات المعنى لا الذات المقيدة بقيد الوحدة ، فيكون اللفظ موضوعا للمعنى على نحو كونه لا بشرط.

وأما قيد الوحدة وغيره من العوارض : فخارج عن المعنى الموضوع له وليس من مقوّماته ، بل اعتباره ممتنع لو كان المراد بالوحدة وحدة المعنى حال الاستعمال ؛ لما تقدم غير مرة من امتناع دخل ما هو الناشئ من الاستعمال في الموضوع له.

(٢) قوله : «وكون الوضع في حال وحدة المعنى ...» إلخ إشارة إلى ردّ صاحب القوانين القائل بعدم الجواز لغة لا عقلا.

وحاصل ما استدل به على عدم الجواز : أن الوضع قد حصل في حال وحدة المعنى وانفراده ، فلا بد من أن يكون الاستعمال على طبق الوضع أعني : استعمال اللفظ في المعنى حال وحدته وانفراده ، فلا يجوز الاستعمال في أكثر من معنى لكونه على خلاف قانون الوضع.

وملخص ردّ المصنف عليه : هو أن تحقّق الوضع حال وحدة المعنى ، وكونه توقيفيا لا يمنع عن استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، «بعد ما لم تكن الوحدة قيدا للوضع ولا للموضوع له» وذلك لإن كون انفراد المعنى ووحدته من حالات الوضع لا يوجب متابعته والالتزام به حتى يجب استعمال اللفظ في المعنى المنفرد ، وإلّا وجب متابعة سائر الحالات المقارنة للوضع كوقوعه في الليل أو النهار ، أو حال شباب الواضع أو هرمه إلى غير ذلك من الخصوصيات المقارنة ، وكان فقدان خصوصية من الخصوصيات المقارنة له مانعا عن صحة الاستعمال وهو باطل قطعا.

فالمتحصل : أن انفراد المعنى حال الوضع غير مانع عن استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

١٤٩

ثم لو تنزلنا عن ذلك (١) ، فلا وجه للتفصيل بالجواز على نحو الحقيقة في التثنية والجمع ، وعلى نحو المجاز في المفرد ، مستدلا على كونه بنحو الحقيقة فيهما ، لكونهما بمنزلة تكرار اللفظ ، وبنحو المجاز فيه لكونه موضوعا للمعنى بقيد الوحدة ، فإذا استعمل في الأكثر لزم إلغاء قيد الوحدة ، فيكون مستعملا في جزء المعنى ، بعلاقة الكلّ والجزء ، فيكون مجازا وذلك لوضوح : أنّ الألفاظ لا تكون موضوعة إلّا لنفس المعاني (٢) ، بلا ملاحظة قيد الوحدة ، وإلّا لما جاز الاستعمال في الأكثر ؛ لأنّ الأكثر

______________________________________________________

(١) أي : تنزلنا عن منع اعتبار قيد الوحدة أي : سلّمنا قيد الوحدة إلّا إن مقتضاه المنع مطلقا ، وبطلان كلا شقي التفصيل أعني : المجازية في المفرد ، والحقيقة في التثنية والجمع.

أما بطلان المجازية في المفرد : فلأنه لو كانت الوحدة قيدا كان استعمال اللفظ الموضوع للمعنى بقيد الوحدة في معنيين من استعمال المباين في المباين ؛ فيكون غلطا لا مجازا.

وأما بطلان كون الاستعمال حقيقة في التثنية والجمع : فلأنهما في قوة تكرار ما أريد من مفردهما ، وليس المراد بمفردهما إلّا العين بمعنى : البصر أو الذهب كما يأتي تفصيله في كلام المصنف.

هذا ملخص الكلام فيما إذا كان المشار إليه بقوله : «ذلك» منع اعتبار قيد الوحدة كما في بعض الحواشي ؛ إلّا إن معه لا وجه للاعتراض بأن الألفاظ «لا تكون موضوعة إلّا لنفس المعاني بلا ملاحظة قيد الوحدة». إذ المفروض : تسليم ملاحظة قيد الوحدة.

فيكون المشار إليه بقوله : «ذلك» : الامتناع العقلي الذي قال به المصنف «قدس‌سره» ، فمعنى العبارة حينئذ : ثم لو تنزلنا عن الامتناع العقلي الناشئ من اجتماع اللحاظين المتضادين في استعمال واحد ، وقلنا : بإمكان الاستعمال في أكثر من معنى فلا وجه لتفصيل صاحب المعالم من الجواز على نحو الحقيقة في التثنية والجمع ، وعلى نحو المجاز في المفرد ، استنادا في المفرد إلى أن الاستعمال في أكثر من معنى يستلزم إلغاء قيد الوحدة ، وصيرورة المستعمل فيه جزء المعنى الموضوع له ؛ فيكون هذا الاستعمال مجازا بعلاقة الكل والجزء ، وفي التثنية والجمع إلى أنهما بمنزلة تكرار اللفظ ، ولا مانع من استعمال أحد اللفظين أو الألفاظ في معنى غير ما استعمل فيه اللفظ الآخر أو الألفاظ الأخرى ، فيكون استعمال التثنية والجمع في المعنيين المختلفين أو المعاني المختلفة على نحو الحقيقة ، بخلاف المفرد ، فإنه على نحو المجاز كما تقدم.

(٢) قوله : «وذلك لوضوح ...» إلخ تعليل لقوله : «فلا وجه للتفصيل بالجواز على نحو

١٥٠

ليس جزء المقيد بالوحدة ، بل يباينه مباينة الشيء بشرط شيء ، والشيء بشرط لا ، كما لا يخفى ، والتثنية والجمع (١) وإن كانا بمنزلة التكرار في اللفظ ؛ إلّا إن الظاهر :

______________________________________________________

الحقيقة ...» إلخ. وقد ردّ المصنف الشّق الأول من التفصيل ـ وهو المجازية في المفرد ـ بوجهين :

الأول : أن اللفظ لم يوضع إلّا لنفس المعنى بلا لحاظ قيد الوحدة ، فاستعمال اللفظ فيه ليس مجازا ، بل حقيقة لكونه استعمالا في تمام ما وضع له. هذا ما أشار إليه «أن الألفاظ لا تكون موضوعة إلّا لنفس المعاني بلا ملاحظة قيد الوحدة».

الثاني : ما أشار إليه بقوله : «وإلّا لما جاز الاستعمال في الأكثر».

وملخص ما إفادة المصنف من أنه بعد تسليم اعتبار الوحدة في المعنى لا يجوز استعمال اللفظ المفرد في أكثر من معنى ولو مجازا ؛ إذ الأكثر يباين المعنى الموضوع له مباينة الشيء بشرط لا ، والشيء بشرط الشيء ، إذ الموضوع له هو المعنى بشرط لا أي : بشرط أن لا يكون معه غيره ، والمستعمل فيه هو الشيء بشرط شيء ؛ أي : بشرط أن يكون معه غيره ، فلا علاقة بينهما كما ادعي كي يصحح الاستعمال المجازي ، بل بينهما المباينة المانعة من الاستعمال.

(١) هذا منه رد للشق الثاني من تفصيل صاحب المعالم ، وقد ردّه المصنف بوجهين :

الأول : أن التثنية والجمع وإن كانا بمنزلة تكرار اللفظ المفرد مثلا : قولنا عينان وإن كان بمنزلة قولنا : عين وعين ؛ إلّا إن ظاهر التثنية تكرار أفراد الماهية الواحدة لا تكرار الماهية أعني : ذهب وفضة ، فيراد من المثنى فردان من أفراد طبيعة واحدة لا معينان مختلفان ، مثلا : لو أريد من لفظ «عين» في قولنا : «جئني بعين» الذهب ؛ لأريد من «عينين» في قولنا : «جئني بعينين» فردان من الذهب ، فأين هذا من استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى؟ فوزان التثنية والجمع وزان المفرد في عدم جواز استعمالهما في أكثر من معنى على نحو الحقيقة.

والإيراد على ذلك بتثنية الأعلام ـ كما أشار إليه بقوله : «والتثنية والجمع في الأعلام» ـ حيث إن المراد من المثنى فيها معنيان ، مثلا : المراد من قولنا : زيدان معنيان لا فردان من طبيعة واحدة ، فنفرض المقام كذلك. هذا الإيراد مدفوع بالتزام التأويل بورود التثنية على المسمى بزيد ، فيكون المراد من «زيدين» فردين من المسمى بزيد والمسمى بزيد طبيعة كلية لها أفراد. هذا تمام الكلام في الوجه الأوّل.

الثاني : أنه لو قلنا بكفاية الاتحاد في اللفظ في التثنية والجمع من غير حاجة إلى التأويل ؛ لم يكن استعمال التثنية والجمع في المعنيين أو المعاني من استعمالهما في أكثر

١٥١

أن اللفظ فيهما كأنه كرر وأريد من كل لفظ فرد من أفراد معناه ، لا أنه أريد منه معنى من معانيه ، فإذا قيل مثلا : «جئني بعينين» أريد فردان من العين الجارية لا العين الجارية ، والعين الباكية ، والتثنية ، والجمع في الأعلام إنما هو بتأويل المفرد إلى المسمى بها (١) ، مع إنه (٢) لو قيل بعدم التأويل وكفاية الاتحاد في اللفظ في استعمالهما حقيقة ، بحيث جاز إرادة عين جارية وعين باكية من تثنية العين حقيقة ، لما كان هذا من باب استعمال اللفظ في الأكثر ، لأن هيئتهما (٣) إنما تدل على إرادة المتعدد مما يراد من مفردهما ، فيكون استعمالهما وإرادة المتعدد من معانيه (٤) استعمالهما في معنى واحد ، كما إذا استعملا وأريد المتعدد من معنى واحد منهما كما لا يخفى.

______________________________________________________

من معنى ؛ إذ معنى التثنية والجمع نظرا إلى هيئتهما هو المتعدد ؛ سواء كان المتعدد من معنى واحد أو من معنيين ؛ فيكون استعمال التثنية في المعنيين المختلفين من استعمال اللفظ في معنى واحد لا في أكثر من معنى واحد ، كي ينازع في كونه على نحو الحقيقة أو المجاز.

(١) أي : بالأعلام. وقد ذكرنا أن قوله : «والتثنية والجمع في الأعلام» دفع للإيراد.

(٢) هذا هو الوجه الثاني من الرد على الشق الثاني من تفصيل صاحب المعالم ، وقد عرفت ملخصه ؛ وحاصله بعبارة أخرى على ما في «منتهى الدارية ، ج ١ ، ص ١٨٩» : أنه بناء على دلالة علامة التثنية والجمع على مطلق التعدد ؛ لا تعدد خصوص مصداق المعنى المراد من المفرد يلزم خروج التثنية والجمع عن حريم النزاع ؛ وهو استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، ضرورة : أن التثنية والجمع بعد أن كانا بمنزلة تكرار المفرد ، فلا بأس بأن يراد من كل لفظ معنى غير المعنى الذي أريد من لفظ آخر ، ومن المعلوم : أن هذا ليس من استعمال اللفظ في أكثر من معنى حتى ينازع في كونه على نحو الحقيقة أو المجاز ، فإرادة العين الجارية من لفظ «عين» ، وإرادة العين الباكية من لفظ عين آخر ؛ ليست من استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، وكذا إرادة العين الباكية والجارية من العينين ليست من استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

(٣) أي : التثنية والجمع ، فقوله : «لأن» تعليل لعدم كون استعمال التثنية والجمع في المعنيين أو المعاني من باب استعمال اللفظ في أكثر من معنى ؛ لما عرفت : من أن التثنية والجمع وضعا للمتعدد من المعنى الذي أريد من المفرد ، فإذا أريد بالعين مثلا ـ الباكية ـ فيراد بالتثنية اثنان من العين الباكية.

(٤) أي : من معاني المفرد ، والضمائر في قوله : «استعمالهما» ، «ومنهما» ترجع إلى التثنية والجمع ، وقوله : منهما ليس متعلقا بقوله : «أريد» بل متعلق بالمتعدد ، فالمعنى :

١٥٢

نعم ؛ لو أريد مثلا من عينين فردان من الجارية ، وفردان من الباكية كان من استعمال العينين في المعنيين ؛ إلّا إن حديث التكرار لا يكاد يجدي في ذلك (١) أصلا ، فإن فيه (٢) إلغاء قيد الوحدة المعتبرة أيضا (٣) ، ضرورة : أن التثنية عنده إنما يكون لمعنيين ، أو لفردين بقيد الوحدة ، والفرق بينهما (٤) وبين المفرد إنما يكون في أنه موضوع للطبيعة ، وهي (٥) موضوعة لفردين منها أو معنيين كما هو أوضح من أن يخفى.

______________________________________________________

أريد المتعدد من التثنية والجمع ، ولكن ذلك المتعدد إنما هو من معنى واحد لا من معنيين.

(١) أي : في كون الاستعمال على نحو الحقيقة كما قال صاحب المعالم ؛ لأن في استعمال التثنية في أفراد أربعة ـ بأن يكون كل فردين منها من طبيعة واحدة ـ إلغاء لقيد الوحدة ، فيكون الاستعمال على نحو المجاز ؛ لأن الموضوع له هو المتعدد من معنيين أو فردين مع قيد الوحدة.

(٢) أي : في استعمال التثنية في أكثر من معنى أعني : أفراد أربعة ؛ إلغاء قيد الوحدة في التثنية ؛ إذ معناها فردان أو معنيان لا أفراد أربعة.

(٣) أي : كإلغاء قيد الوحدة في المفرد.

(٤) أي : بين التثنية والإفراد. ملخص الفرق بينهما : أن المفرد موضوع للطبيعة بقيد الوحدة ، والتثنية موضوعة لفردين من تلك الطبيعة المقيدة بالوحدة أعني : فردين من الطبيعة أو لمعنيين مع تقيد كل من المعنيين بالوحدة حتى يكون معنى ـ عينين ـ العين الجارية الواحدة والعين الباكية الواحدة ، أو فردين من الجارية أو الباكية.

فالاستعمال في الأكثر أي : أفراد أربعة أعني فردين من الجارية وفردين من الباكية يستدعي إلغاء قيد الوحدة ، فيكون الاستعمال مجازا لا على نحو الحقيقة كما توهمه صاحب المعالم.

(٥) أي : التثنية ، وهي من باب المثال ، وإلّا فالجمع أيضا كذلك كما في «منتهى الدراية ، ج ١ ، ص ١٩٣».

والمتحصل من الجميع : أنه لو أريد من «عينين» فردان من الذهب وفردان من الفضة كان الاستعمال من استعمال اللفظ الواحد في المعينين ؛ ولكن كان مجازا على مذهب صاحب المعالم ، إذ كان معنى عين بزعمه الماهية بقيد الوحدة ؛ كذلك معنى عينين أمران بقيد الوحدة.

١٥٣

وهم ودفع :

لعلك تتوهم (١) : أن الأخبار الدالة على أن للقرآن بطونا ـ سبعة أو سبعين ـ تدل على وقوع استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، فضلا عن جوازه ؛ ولكنك غفلت عن أنه لا دلالة لها (٢) أصلا على أن إرادتها كان من باب إرادة المعنى من اللفظ ، فلعله كان بإرادتها في أنفسها حال الاستعمال في المعنى لا من اللفظ ، كما إذا استعمل فيها ، أو كان المراد من البطون لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ ، وإن كان أفهامنا قاصرة عن إدراكها (٣).

______________________________________________________

(١) ملخص التوهم : أنه ورد في الحديث : أن للقرآن سبعة بطون أو سبعين بطنا ، فقد يتوهم منافاة ذلك لما تقدم من امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى ؛ إذ ظاهره وقوع استعمال اللفظ في تلك البطون ، وليس ذلك إلّا من باب استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، وهو لا يجتمع مع ما تقدم من الامتناع العقلي ومحالية إرادة المعاني المتعددة من اللفظ الواحد ، لأنه يدل على وقوعه فضلا عن جوازه.

(٢) أي : لا دلالة لتلك الأخبار أصلا على أن إرادة البطون كان من باب إرادة المعنى من اللفظ ، وقد أجاب المصنف عن التوهم المذكور بما حاصله : أن في تلك الأخبار احتمالين :

الأول : ما أشار إليه بقوله : «فلعله كان ...» إلخ وحاصله : أن يراد منها إرادة هذه المعاني في أنفسها حال الاستعمال في المعنى الواحد لا أنها مرادة من اللفظ.

الثاني : ما أشار إليه بقوله : «أو كان المراد من البطون لوازم معناه ...» إلخ وحاصله : أن يكون المراد من البطون لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ وإن كانت تلك اللوازم المتعددة خفية ؛ بحيث لا تصل إليها أذهاننا لقصورها. فلا يكون اللفظ مستعملا فيها حتى يقال باستعماله في أكثر من معنى واحد.

(٣) أي : إدراك لوازم المعنى ، ومع تطرق الاحتمالين المذكورين لا يتمّ الاستدلال بتلك الأخبار على استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى ؛ نظرا إلى ما هو المشهور ـ بين أهل الاستدلال ـ إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث فيما يلي :

١ ـ أن محل الكلام ما إذا كان الجمع بين معنيين ممكنا ، وكان كل منهما مرادا على انفراده ومستقلا.

١٥٤

٢ ـ عمدة الأقوال :

١ ـ الامتناع العقلي.

٢ ـ عدم الجواز لغة.

٣ ـ الجواز مطلقا.

الأول : هو مختار المصنف «قدس‌سره» ، واستدل عليه : بأن حقيقة الاستعمال عبارة عن جعل اللفظ وجها وعنوانا للمعنى ، فلا يمكن أن يجعل اللفظ الواحد وجها وعنوانا لمعنيين ؛ لاستلزامه الجمع بين اللحاظين الآليين ، وإفناء اللفظ الواحد مرتين وهو محال عقلا.

وأما عدم الجواز لغة ـ كما عن صاحب القوانين ـ فغاية ما قيل في وجهه : إن الوضع حصل حال وحدة المعنى ، فلا يجوز الاستعمال إلّا في حال وحدة المعنى.

وردّ المصنف عليه : أن كون الوضع في حال وحدة المعنى لا يقتضي عدم الجواز بعد ما لم تكن الوحدة قيدا للوضع ، ولا للموضوع له.

وأما الجواز مطلقا ـ ثم التفصيل بين المفرد والتثنية والجمع حيث يكون الاستعمال في الأكثر في الأوّل مجازا ؛ لاستلزامه إلغاء قيد الوحدة ، فيكون استعمال اللفظ في غير ما وضع له بعلاقة الجزء والكل. وفي الثاني على نحو الحقيقة ، لأن كل واحد من التثنية والجمع بمنزلة تكرار اللفظ كما قال به صاحب المعالم ـ فدفعه المصنف أولا : بأن اللفظ لم يوضع إلّا لنفس المعنى بلا لحاظ قيد الوحدة حتى يقال : إن الاستعمال في الأكثر في المفرد مجاز لاستلزامه إلغاء قيد الوحدة.

وثانيا : إن التثنية والجمع وان كانا بمنزلة تكرار اللفظ ؛ ولكن ليس المراد منهما إلّا ما يراد من مفردهما ، فلا يلزم استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى.

٣ ـ دفع توهم وقوع استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى في القرآن الكريم نظرا إلى الأخبار الدالة على أن للقرآن بطون «سبعة وسبعين» ، وظاهرها : استعمال اللفظ الواحد في تلك البطون من باب استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

وحاصل الدفع : أولا : أن تلك البطون مرادة في أنفسها حال استعمال اللفظ ، ولكن لا من اللفظ. وثانيا : كان المراد من البطون لوازم معناه المستعمل فيه ، فالأخبار المذكورة أجنبية عن استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.

١٥٥

الثالث عشر (١)

أنه اختلفوا في أن المشتق حقيقة في خصوص ما تلبس بالمبدإ في الحال ، أو فيما

______________________________________________________

مبحث المشتق

(١) وقبل تفصيل الكلام في محل النزاع ينبغي ذكره على نحو الإجمال والاختصار ، وبيانه يتوقف على تقديم أمور لها دخل في تعيين محل النزاع :

١ ـ لا ريب في صحة إطلاق المشتق على المتلبس بالمبدإ فعلا ، وعلى من انقضى عنه المبدأ ، وعلى من لم يتلبس به بعد ولكنه سيتلبس به في المستقبل ، ولا إشكال أيضا في أن إطلاق المشتق على المتلبس بالمبدإ فعلا إطلاق حقيقيّ ، كما إنه لا إشكال في أن إطلاقه على من يتلبس بالمبدإ في المستقبل إطلاق مجازيّ ، والإشكال والنزاع إنما هو في إطلاق المشتق على من انقضى عنه المبدأ هل هو مجاز أو حقيقة؟

٢ ـ أن المراد بالحال هو حال النسبة والجري ؛ لا الحال بمعنى : الزمان الحاضر المقابل للماضي والمستقبل كما سيأتي في كلام المصنف «قدس‌سره».

٣ ـ المشتق في مقابل الجامد هو : ما كان لكل واحد من مادته وهيئته وضع خاص مستقل ، والجامد : ما كان لمجموع من مادته وهيئته وضع واحد.

وكل منهما على قسمين :

القسم الأول من المشتق : ما يكون موضوعا لمعنى يجري على الذات المتصفة بالمبدإ بنحو من أنحاء الاتصاف ويصدق عليها خارجا مثل : اسم «الفاعل والمفعول والصفة المشبهة مثلا».

القسم الثاني : ما يكون موضوعا لمعنى لا يجري على الذات ولا يصدق عليها خارجا ، كالأفعال جميعا ، والمصادر المزيدة ، بل المصادر المجردة بناء على القول الصحيح من اشتقاقها أيضا.

القسم الأول من الجامد : ما يكون موضوعا لمعنى منتزع عن مقام الذات مثل الإنسان والحيوان والشجر ما شابهها.

القسم الثاني : ما يكون موضوعا لمعنى منتزع عن أمر خارج عن مقام الذات ؛ مثل :

عنوان «الزوج والرق والحر» وما شاكلها ، لأن عنوان الزوجية والرقية والحرية خارج عن مقام ذات الزوج والرق والحر.

وكان محل النزاع من هذه الأقسام الأربعة : القسم الأوّل من المشتق والقسم الثاني

١٥٦

يعمه وما انقضى عنه على أقوال ؛ بعد الاتفاق على كونه مجازا فيما يتلبس به في الاستقبال ، وقبل الخوض في المسألة ، وتفصيل الأقوال فيها ، وبيان الاستدلال عليها ، ينبغي تقديم أمور (١):

أحدها : إن المراد بالمشتق هاهنا (٢) ليس مطلق المشتقات ، بل خصوص ما يجري منها (٣) على الذوات (٤) ، مما يكون مفهومه منتزعا عن الذات بملاحظة اتصافها بالمبدإ ،

______________________________________________________

من الجامد لوجود الملاك فيهما وهو : كون الشيء جاريا على الذات المتلبسة بالمبدإ ، وأن تكون الذات باقية بعد انقضاء المبدأ.

(١) وهي ستة : ١ ـ بيان ما هو المراد من المشتق في المقام.

٢ ـ عدم اختصاص النزاع ببعض المشتقات الجارية على الذوات.

٣ ـ خروج الأفعال والمصادر المزيدة عن حريم النزاع في المقام.

٤ ـ اختلاف المشتقات في المبادئ قوة وملكة وحرفة وصناعة.

٥ ـ بيان ما هو المراد بالحال.

٦ ـ لا أصل في نفس المسألة عند الشك ؛ حتى يتعيّن به ما هو الموضوع له في المشتق بأنه خصوص المتلبس بالمبدإ ، أو الأعم منه وممن انقضى عنه المبدأ.

(٢) أي : في مبحث المشتق. هذا إشارة إلى الأمر الثالث الذي ذكرناه من : أن بعض ما هو مشتق لغة واصطلاحا ؛ كالأفعال ، وبعض المصادر خارج عن حريم النزاع ، وبعض الجوامد داخل في محل الكلام.

(٣) المراد بالمشتق في المقام : خصوص ما يجري من المشتقات على الذوات مثل : اسم الفاعل ، والمفعول ونحوهما.

(٤) المراد بالذوات هنا ليس الجوهر فقط ؛ بل مطلق ما يقع موضوعا سواء كان جوهرا أو عرضا. قوله : «مما يكون ...» إلخ بيان ل ما الموصولة في «ما يجري» يعني : من المشتقات التي يكون مفهومها منتزعا عن الذات كالعالم مثلا ؛ حيث يكون مفهومه منتزعا عن ذات من اتصف بالعلم ؛ فيتحد معها نحو اتحاد.

والمراد بالاتحاد هو : الاتحاد الوجودي بين المبدأ والذات ، لأن المراد بجريان المشتق على الذات هو حمله عليها بالحمل الشائع الصناعي المنوط باتحادهما وجودا.

وقد ظهر مما ذكرناه : النسبة بين المشتق في محل الكلام ، وكل من المشتق المصطلح والجامد : عموم من وجه.

مادة الاجتماع هي : أسماء الفاعلين والمفعولين. مادة الافتراق من جانب المشتقات

١٥٧

واتحادها معه بنحو من الاتحاد كان بنحو الحلول (١) ، أو الانتزاع (٢) ، أو الصدور (٣) ، والإيجاد ؛ كأسماء الفاعلين (٤) ، والمفعولين ، والصفات المشبهات ، بل وصيغ المبالغة ، وأسماء الأزمنة والأمكنة والآلات ، كما هو ظاهر (٥) العنوانات ، وصريح بعض المحققين (٦) ، مع عدم صلاحية ما يوجب اختصاص النزاع بالبعض (٧) إلّا التمثيل به ، وهو غير صالح ، كما هو واضح.

______________________________________________________

المصطلحة هي : الأفعال والمصادر المزيدة ، ومن جانب المشتق في المقام : بعض الجوامد كعنوان الزوج والحرّ والرقّ. وهذا هو مادة الاجتماع بين المشتق في المقام وبين الجوامد ، ومادة الافتراق من جانب المشتق ؛ كأسماء الفاعلين والمفعولين ، ومن جانب الجوامد ؛ كالإنسان والشجر والحجر مثلا.

(١) أي : كالمرض ، والحسن والقبح ، والسواد والبياض وما شاكلها ، فإن اتصاف الذوات بها واتحادها معها إنما هو على نحو الحلول.

(٢) أي : كالفوقية المنتزعة من الفوق ؛ فإن اتصاف الذات بها إنما هو على نحو الانتزاع.

(٣) أي : كالضارب والآكل ؛ فإن الفعل الصادر إن كان قائما بالفاعل كالأكل ، يسمى إيجادا ، وإن كان قائما بغيره كالضرب يسمى صدورا. كما في «منتهى الدراية».

(٤) أي : الأمثلة المذكورة كلها أمثلة لما ذكره بقوله : «بل خصوص ما يجري».

وملخص الكلام : أنه لا فرق بين ما يجري على الذات سواء كان من أسماء الفاعلين كقولنا : «زيد ضارب» ، أو المفعولين كقولنا : «زيد مضروب» ، أو الصفات المشبهات كقولنا : «زيد شريف» ، أو أسماء الأزمنة كقولنا : هذا اليوم «مقتل زيد» ، أو الأمكنة كقولنا : هذا المكان «مقتل زيد» ، أو أسماء الآلات كقولنا : هذا مفتاح ، وصيغ المبالغة كقولنا : «زيد ضراب».

(٥) أي : كما أن عدم الفرق بين ما يجري على الذات من المشتقات «ظاهر العنوانات» التي ذكرها القوم ، فإن لفظ المشتق المأخوذ في العنوان يشمل جميع هذه الأقسام.

(٦) أي : صاحب البدائع حيث صرح بالعموم وقال في البدائع : «قضية ظاهر العنوانات عموم النزاع لسائر المشتقات ، لعدم صلاحية الأمثلة الممثل بها للتخصيص». انتهى مورد الحاجة من كلامه.

(٧) أي : اسم الفاعل وما يلحق به ؛ مثل : صيغ المبالغة ، والمصادر المستعملة بمعنى : اسم الفاعل أي : توهم بعض اختصاص النزاع باسم الفاعل ، وما ألحق به ، واستدل

١٥٨

فلا وجه لما زعمه بعض الأجلّة (١) من الاختصاص باسم الفاعل ، وما بمعناه من

______________________________________________________

المتوهم على الاختصاص بوجهين : الأول : التمثيل باسم الفاعل في أثناء احتجاجاتهم كقولهم : (المشتق كاسم الفاعل ...) إلخ.

الثاني : احتجاج بعضهم على الأعم بإطلاق اسم الفاعل دون اطلاق بقية الأسماء ، فتخيّل أن التمثيل باسم الفاعل وما ألحق به يستدعي اختصاص النزاع بالبعض.

وحاصل الجواب عن التوهم المذكور : أن ظاهر العنوانات هو العموم ، ومجرد التمثيل ببعض المشتقات لا يصلح قرينة على الاختصاص بذلك البعض ، وقد أشار إليه بقوله : «وهو غير صالح ...» إلخ أي : التمثيل غير صالح للاختصاص ، إذ قد جرى ديدنهم على التمثيل ببعض المصاديق من دون قصد الاختصاص.

(١) أي : صاحب الفصول ، وقد زعم اختصاص النزاع (باسم الفاعل وما بمعناه ...) إلخ حيث قال فيما أفاده في المقام ما هذا لفظه : «لا خفاء في أن المشتق المبحوث عنه هنا لا يعم الأفعال والمصادر المزيدة» ـ إلى أن قال : «وحينئذ فهل المراد به ما يعم بقية المشتقات من اسمي الفاعل ، والمفعول ، والصفة المشبهة وما بمعناها ، وأسماء الزمان والمكان والآلة ، وصيغ المبالغة ، كما يدل عليه إطلاق عناوين كثير منهم كالحاجبي وغيره ، أو يختص باسم الفاعل وما بمعناه كما يدل عليه تمثيلهم به ، واحتجاج بعضهم بإطلاق اسم الفاعل عليه دون إطلاق بقية الأسماء على البواقي ؛ مع إمكان التمسك به أيضا؟ وجهان أظهرهما الثاني :». انتهى مورد الحاجة من كلامه.

ومفاده : أنه استظهر الاحتمال الثاني وهو اختصاص النزاع باسم الفاعل وما بمعناه ، واستدل عليه بوجهين :

الأول : تمثيلهم باسم الفاعل في مقام الاحتجاجات.

الثاني : احتجاج بعضهم على الأعم بإطلاق اسم الفاعل دون إطلاق بقية الأسماء ، وقد رفض المصنف ما زعمه صاحب الفصول بقوله : «فلا وجه لما زعمه بعض الأجلّة».

وقد أشار إلى ردّ الوجه الأول بقوله : «وهو غير صالح» أي : التمثيل باسم الفاعل في مقام الاحتجاج غير صالح للاختصاص ؛ وذلك لما عرفت : من أنه قد جرى ديدنهم على التمثيل ببعض المصاديق من دون قصد الاختصاص به.

ويرد على الوجه الثاني : بأن الاحتجاج المذكور لا دلالة له على الاختصاص ، وعلى فرض الدلالة لا يكون حجة ، إذ لا حجة في قول هذا البعض ، فالمتحصل من الجميع : أن ما زعمه صاحب الفصول من اختصاص النزاع باسم الفاعل وما بمعناه لا يرجع إلى محصل صحيح.

١٥٩

الصفات المشبهة ، وما يلحق بها ، وخروج سائر الصفات. ولعل منشأه (١) توهم كون ما ذكره لكل منها من المعنى مما اتفق عليه الكل ، وهو كما ترى.

______________________________________________________

والضمير في قوله : «بها» يرجع إلى الصفات المشبهة ، والمراد بما يلحق بها : الأوصاف اللازمة كظاهر ، وقائم ، وجالس ، وصيغ المبالغة والمصادر المستعملة بمعنى : اسم الفاعل ، والأسماء المنسوبة كالبغدادي والدمشقي مثلا ، والمراد بسائر الصفات الجارية على الذوات الخارجة عن النزاع هي : كاسم المفعول ، واسم الزمان والمكان والآلة وغيرها.

(١) أي : منشأ الاختصاص «توهم كون ما ذكره» أي : صاحب الفصول «لكل منها» أي : من الصفات التي أخرجها عن كونها محل النزاع «من المعنى» أي : بيان «ما» في قوله : «ما ذكره» «مما اتفق عليه الكل» أي : فلا نزاع في تلك الصفات ، «وهو كما ترى» أي : زعم الاتفاق ونفي النزاع كما ترى ؛ إذ كلها محل النزاع كاسم الفاعل وما بمعناه.

توضيح ذلك : أنه قال في الفصول فيما أفاده في المقام ما هذا محصله : «ثم اعلم أنهم أرادوا بالمشتق الذي تشاجروا على دلالته في المقام اسم الفاعل وما بمعناه من الصفات المشبهة ، وما يلحق بها على ما سنحققه» ثم شرع في بيان معنى سائر المشتقات أعني : صفات خمس : اسم المفعول ، وصيغة المبالغة ، واسم الزمان ، واسم المكان ، واسم الآلة ؛ وهي الصفات التي وقع الخلاف بين صاحب الفصول وغيره ، وقال صاحب الفصول بخروجها عن محل النزاع ، وذكر لكل منها معنى من دون نقل خلاف في ذلك.

وقال في تقريب خروجها عن محل النزاع : «إن من اسم المفعول ما يطلق على الأعم كقولك : «هذا مقتول زيد» ، أو «مصنوعه» ، أو «مكتوبه». ومنه ما يطلق على خصوص المتلبس نحو : «هذا مملوك زيد» ، أو «مسكونه» ، أو «مقدوره».

إلى أن قال : «واسم الزمان حقيقة في الأعم ، وكذلك اسم المكان. واسم الآلة حقيقة فيما أعدّ للآلية أو اختص بها ، حصل المبدأ أو لم يحصل بعد» ، فيكون حقيقة في الأعم إذ لا شبهة في إطلاق اللفظ الموضوع للآلة كلفظ المفتاح على الآلة المخصوصة في حال انقضاء المبدأ وهو الفتح.

إلى أن قال : «وصيغة المبالغة فيما كثر اتصافه بالمبدإ عرفا» انتهى حاصله.

ومفاد ما أفاده في المقام هو : أن تلك المعاني كأنّ بنظره مما اتفق عليه الكل لوجهين :

أحدهما : مقابلتها للمشتق الذي تشاجروا في دلالته.

ثانيهما : عدم نقل خلاف في تلك المعاني.

ومع زعم الاتفاق المذكور على خروج سائر المشتقات عن محل النزاع ؛ ينحصر

١٦٠