دروس في الكفاية - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

وإن لم يكن له دخل في متعلق أمره ، ومعه سكت في المقام ، ولم ينصب دلالة على دخل قصد الامتثال في حصوله ؛ كان هذا قرينة على عدم دخله في غرضه ، وإلّا لكان سكوته نقضا له وخلاف الحكمة ، فلا بد عند الشك وعدم إحراز هذا المقام من الرجوع إلى ما يقتضيه الأصل ، ويستقل به العقل.

فاعلم : أنه لا مجال ـ هاهنا (١) ـ إلّا لأصالة الاشتغال ، ولو قيل بأصالة البراءة فيما إذا دار الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين ؛ وذلك (٢) لأن الشك هاهنا في الخروج

______________________________________________________

المتكلم قرينة على دخل قصد امتثال الأمر في حصول غرضه كان عدم النصب قرينة على عدم دخله في غرضه ؛ وإلّا لكان سكوته نقضا لغرضه وخلاف الحكمة فلا بد حينئذ عند الشك وعند عدم إحراز هذا المقام من الرجوع إلى ما يقتضيه العقل ، ويستقل به ، إذ المفروض : فقدان الدليل الاجتهادي من الإطلاق اللفظي أو الإطلاق المقامي ، ولكن الأصل الذي يرجع إليه عند الشك في تعبدية الواجب وتوصليته هو الاشتغال العقلي ؛ لأن الشك فيهما يرجع إلى الشك في سقوط أمر المولى وامتثال أمره بعد العلم بثبوت الأمر ؛ لا إلى الشك في أصل التكليف وثبوت أمر المولى وعدم ثبوته ؛ كي يرجع إلى أصالة البراءة ، وليس الشك فيهما من قبيل الشك في المأمور به أو شرطه ، كي تندرج مسألة التعبدية والتوصلية في الأقل والأكثر الارتباطيين ؛ لما تقدم من عدم إمكان أخذ قصد القربة في المأمور به شرطا أو شطرا كي يرجع فيه إلى الاشتغال أو البراءة على اختلاف الرأيين ، بل قصد القربة من كيفيات الإطاعة للمولى ، ولا تناله يد الجعل أبدا حتى يكون الشك مجرى لأصالة البراءة.

فلا بد حينئذ من الالتزام بجريان قاعدة الاشتغال هنا ، وإن قلنا بجريان البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين لوجود شرط البراءة في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ؛ وهو الشك في التكليف بالنسبة إلى الأكثر ، وفقدانه هنا كما لا يخفى. هذا ما أشار إليه بقوله : «فاعلم : أنه لا مجال هاهنا إلّا لأصالة الاشتغال ...» إلخ.

(١) أي : في اعتبار قصد الامتثال.

(٢) أي : إشارة إلى الفرق بين المقام وبين الأقل والأكثر الارتباطيين ، وقد عرفت الفرق بين المقامين ضمنا.

وتوضيح ذلك تفصيلا يتوقف على مقدمة ، وهي : أن الشك على قسمين :

«الأول» : أن يكون الشك في نفس التكليف : كأن يتردد أمر الصلاة بين كونها مع الاستعاذة أو بدونها.

«الثاني» : أن يكون الشك في الامتثال : كأن يعلم بوجوب الصلاة وخصوصياتها من

٣٦١

عن عهدة التكليف المعلوم ، مع استقلال العقل بلزوم الخروج عنها ، فلا يكون العقاب ـ مع الشك وعدم إحراز الخروج ـ عقابا بلا بيان ، والمؤاخذة عليه بلا برهان ، ضرورة (١) : أنه بالعلم بالتكليف تصح المؤاخذة على المخالفة ، وعدم الخروج عن العهدة ، لو اتفق عدم الخروج عنها بمجرد الموافقة بلا قصد القربة ، وهكذا الحال (٢)

______________________________________________________

حيث الأجزاء والشرائط ، ثم يشك في أنه هل حصل الامتثال أم لا؟

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الأول مجرى البراءة ؛ لأن الشك في الحقيقة راجع إلى الشك في أصل التكليف أي : وجوب الجزء المشكوك ؛ كالاستعاذة في المثال المتقدم.

والثاني مجرى الاحتياط ؛ لأن التكليف معلوم ، وإنما الشك في سقوطه والمقام من القسم الثاني ، كما أشار إليه بقوله : «لأن الشك هاهنا في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم ، مع استقلال العقل بلزوم الخروج عنها» أي : عن عهدة التكليف ، وليس الشك في أصل ثبوت التكليف ؛ لأنه يعلم بأنه مكلف بالصلاة مثلا ، ولا يدري أنه لو صلى بغير قصد الوجه خرج عن عهدة التكليف أم لا؟ فلا بد من الرجوع إلى الاحتياط ؛ لأن الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية. «فلا يكون العقاب مع الشك» في حصول الامتثال ، «وعدم إحراز الخروج» عن عهدة التكليف «عقابا بلا بيان والمؤاخذة عليه بلا برهان» ، حتى يكون موردا لأدلة البراءة ؛ على ما في «الوصول إلى كفاية الأصول».

(١) قوله : «ضرورة» تعليل لعدم كون المؤاخذة بلا برهان ؛ لأن المصحح للمؤاخذة وهو العلم بالتكليف موجود هنا ، فما لم يعلم بالخروج عن العهدة لا يخرج عن الخطر العقابي ولو كان عدم الخروج عن العهدة لأجل الإخلال بقصد القربة ؛ لأن المفروض : توقف حصول الغرض عليه.

وحاصل الكلام في وجه أصالة الاشتغال في المقام : أن الشك في المقام واقع في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم ، والعقل يستقل بلزوم الخروج عن عهدته ، فإنّا إذا علمنا أن شيئا خاصا ـ كالعتق مثلا ـ واجب قطعا ، ولم نعلم أنه تعبدي يعتبر فيه قصد القربة أم توصلي ، لا يعتبر فيه ذلك ، فما لم يأت به بقصد القربة لم يعلم بالخروج عن عهدة التكليف المعلوم تعلقه به ، فإذا لم يأت به كذلك وقد صادف كونه تعبديا يعتبر فيه قصد القربة ، فلا يكون العقاب حينئذ عقابا بلا بيان ، والمؤاخذة عليه بلا برهان.

(٢) أي : لا يختص ما ذكرناه ـ من كون الأصل في الشك في التعبدية والتوصلية هو الاشتغال لا البراءة ـ بقصد القربة ، بل هكذا الحال في الوجه والتمييز ، بل يجري في كل ما لا يمكن دخله في متعلق الأمر لا شطرا ولا شرطا ؛ لترتبه على الأمر ، وترشحه منه كقصد الوجه والتمييز ؛ كما أشار إليه بقوله : «مما لا يمكن اعتباره في المأمور به ...» إلخ ؛

٣٦٢

في كل ما شك دخله في الطاعة والخروج به عن العهدة ، مما لا يمكن اعتباره في المأمور به كالوجه والتمييز.

نعم (١) ؛ يمكن أن يقال : إن كل ما ربما يحتمل بدوا دخله في الامتثال «في نسخة :

______________________________________________________

وذلك لتأخره عن الأمر وتولده منه ، فيمتنع دخله فيما قبل الأمر ؛ من دون فرق بين قصد امتثال الأمر أو قصد الوجه والتمييز ، فكما إنه إذا شك في واجب أنه تعبدي أو توصلي فلا مجال إلّا لأصالة الاشتغال ، فكذلك إذا شك في اعتبار الوجه والتمييز في العبادات ، فلا مجال إلّا لأصالة الاشتغال.

(١) هذا استدراك عما سبق ؛ من كون الأصل في جميع قيود المأمور به الناشئة من أمر المولى كقصد القربة ، وقصد الوجه والتمييز هو الاحتياط.

وحاصل الاستدراك هو : التفصيل بين تلك القيود في وجوب الاحتياط ؛ بمعنى : أن ما يحتمل دخله في كيفية الإطاعة كان على قسمين :

الأول : أن يكون مما يغفل عنه عامة الناس غالبا نحو : قصد الوجه وقصد التمييز.

والثاني : أن يكون مما يلتفت إليه عامة الناس ولا يغفلون عنه.

فإن كان من القسم الأول : فلا محيص عن بيانه في مقام التشريع وفي مقام الإثبات ؛ إذ ليس هنا ارتكاز يعتمد عليه الشارع في مقام البيان ، فلو لم يبيّنه ولم ينصب قرينة على دخله في غرضه واقعا لأخلّ بما هو همه وغرضه ، وهو قبيح لا يصدر من المولى الحكيم ، فعدم البيان كاشف كشفا إنيّا عن عدم دخله في الغرض ، وعن عدم كونه محصلا للغرض ، فلا يكون الشك حينئذ شكّا في المحصل حتى يرجع إلى الاحتياط ، فلا يرجع إلى الاحتياط ؛ بل يرجع إلى البراءة بمقتضى الإطلاق المقامي.

وأما لو كان من القسم الثاني : لوجب الاحتياط ، لصحة اعتماد المتكلم على التفات عامة الناس إليه وتنبههم له ، فيجب مراعاة المشكوك دخله في الغرض ؛ لعدم تمامية عدم البيان المتوقف عليه الإطلاق المقامي ، إذ المفروض : كون التفات العامة بيانا.

وخلاصة الكلام في التفصيل : أن مرجعية الاحتياط في القيود الدخيلة في الإطاعة المتأخرة عن الأمر تختص بالقسم الثاني الذي لا يغفل عنه العامة ، وأما في غيره ـ وهو القسم الذي يغفل عامة الناس عنه ـ فيرجع إلى الإطلاق ؛ القاضي بعدم وجوب الاحتياط لتمامية مقدماته التي منها عدم البيان على دخل المشكوك فيه.

ومن هنا يتجه التمسك بالأخبار البيانية كصحيحة حماد المبيّنة لأجزاء الصلاة وشرائطها ، فإن سكوتها عن بيان دخل ما شك في دخله في الغرض ، مع كونه مما يغفل عنه العامة دليل على عدم دخله فيه.

٣٦٣

امتثال أمر» ، وكان مما يغفل عنه غالبا العامة ؛ كان على الآمر بيانه ونصب قرينة على دخله واقعا ، وإلّا لأخلّ بما هو همه وغرضه.

أما إذا لم ينصّب دلالة على دخله ، كشف عن عدم دخله ، وبذلك يمكن القطع بعدم دخل الوجه والتمييز في الطاعة بالعبادة ؛ حيث ليس منهما عين ولا أثر في الأخبار والآثار ، وكانا مما يغفل عنه العامة ، وإن احتمل اعتباره بعض الخاصة (١) فتدبر جيدا (٢).

ثم إنه لا أظنك أن تتوهم (٣) وتقول : إن أدلة البراءة الشرعية مقتضية لعدم

______________________________________________________

(١) أي : السيد الأجل علم الهدى «قدس‌سره» على ما في بعض الشروح.

(٢) أي : فتدبر جيدا حتى تعرف ما تغفل عنه عما لا تغفل عنه. فقوله : «فتدبر جيدا» إشارة إلى التحقيق لا إلى التمريض ؛ وذلك أولا : أن لفظ فتدبر ظاهر في التحقيق. وثانيا : أن لفظ جيد ظاهر فيه أيضا.

(٣) أي : يمكن أن يتوهم المتوهم في هذا المقام فيقول : إن مقتضى حكم العقل في الشك في تعبدية الواجب وتوصليته ، وإن كان هو الرجوع إلى قاعدة الاشتغال ؛ إلّا إن أدلة البراءة الشرعية حاكمة على الاشتغال العقلي ؛ لأن مثل : «رفع ما لا يعلمون» (١) و «الناس في سعة ما لا يعلمون» (٢) و «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (٣) وغيرها ؛ «مقتضية لعدم الاعتبار» ، فلا يلزم الإتيان بمشكوك الاعتبار وترفع احتمال العقاب الذي ينشأ من حكم العقل ، فلا يبقى موضوع لحكم العقل بالاشتغال دفعا لاحتمال العقاب ـ وذلك لعدم احتمال العقاب بعد جريان البراءة الشرعية ـ إذ لا مانع من جريان البراءة الشرعية في المقام نظير الشك في جزئية شيء أو في شرطيته

__________________

(١) التوحيد ، ص ٣٥٣ ، ج ٤ / تحف العقول ، ص ٥٠ / الوسائل ، ج ٥ ، ص ٣٦٩. في حديث «رفع عن أمتي تسعة : الخطأ والنسيان ، وما أكرهوا عليها ، وما لا يطيقون ، وما اضطروا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكر في الوسوسة في الخلق ، ما لم ينطق بشفة.

وفي الاختصاص ، ص ٣١ ، عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» : «رفع عن أمتي ستة ... إلى قوله : وما اضطروا إليه».

وفي كشف الخفاء ، ج ١ ، ص ٥٢٢ ، ح ١٣٩٣ : «رفع الله عن هذه الأمة ثلاثا : الخطأ ، والنسيان ، والأمر يكرهون عليه».

(٢) في غوالي اللآلي ، ج ١ ، ص ٤٠٤ ، ح ١٠٩ : «إن الناس في سعة ما لم يعلموا».

(٣) الوسائل ، ج ٢٧ ، ص ١٦٣ ، باب ١٢.

٣٦٤

الاعتبار ، وإن كان قضية الاشتغال عقلا هو الاعتبار لوضوح : أنه لا بد في عمومها من شيء قابل للرفع والوضع شرعا ، وليس هاهنا ؛ فإن دخل قصد القربة ونحوها في الغرض ليس بشرعي ، بل واقعي ، ودخل الجزء والشرط فيه وإن كان كذلك إلّا إنهما قابلان للوضع والرفع شرعا ، فبدليل الرفع (١) ـ ولو كان أصلا ـ يكشف أنه ليس

______________________________________________________

للمأمور به ، فكما تجري البراءة فيهما فكذلك في المقام أي : في قصد القربة.

فالحاصل أن غرضه : دفع ما يتوهم في المقام من قياس الشك في اعتبار قصد الأمر ؛ بالشك في جزئية شيء أو شرطيته في جريان البراءة الشرعية الرافعة لخطر العقاب.

وحاصل الدفع لهذا التوهم : أن قياس المقام ـ بما إذا كان الشك في جزئية شيء أو شرطيته ـ قياس مع الفارق فيكون باطلا.

وتوضيح الفرق يتوقف على مقدمة وهي : أن أدلة البراءة تجري في الأشياء التي تكون قابلة للوضع.

إذ كل ما قابل للوضع قابل للرفع بأدلة البراءة ، وكل ما لا يكون قابلا للوضع لا يكون قابلا للرفع فلا تجري فيه البراءة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الفرق بين الأجزاء والشرائط وبين قصد القربة أظهر من الشمس وهو أنهما قابلان للوضع ، فيكونان قابلين للرفع.

هذا بخلاف قصد القربة بمعنى : الداعي إلى الأمر ، إذ قد عرفت غير مرة أنه غير قابل للوضع حتى يمكن رفعه شرعا ، فلا تجري فيه البراءة ؛ لما تقدم من أن أدلة البراءة تجري في الأشياء القابلة للوضع في متعلق الأمر ؛ حتى يمكن رفعها بأدلة البراءة بعد تمامية مقدمات الإطلاق المقامي.

ومن هنا يعلم : أن مقدمات الإطلاق المقامي تامة في الجزء والشرط المشكوكين ، ولا تتم في قصد القربة بالمعنى المذكور ؛ إذ لا تناله يد الجعل فكيف يمكن رفعه بأدلة البراءة؟ فلهذا يرجع إلى الاحتياط والاشتغال.

(١) أي : بدليل الرفع سواء كان اجتهاديا كإطلاق مقالي أو مقامي ، أو كان أصلا عمليا ، كما أشار إليه بقوله : «ولو كان أصلا» مثل : أصالة البراءة حيث يستكشف بها عن عدم تعلق أمر فعلي بالمركب المشتمل على المشكوك فيه أو المقيد به ، فلا يجب الخروج عنه ولو كان ثابتا واقعا ، وهذا بخلاف قصد القربة ؛ فإن حكم العقل بلزوم الخروج عن عهدة التكليف المعلوم يقتضي إتيان الواجب بقصدها ، لتوقف الفراغ عليه ، وهذا الحكم العقلي يوجب فعلية وجوب الإتيان كذلك.

٣٦٥

هناك أمر فعلي بما يعتبر فيه المشكوك يجب الخروج عن عهدته عقلا بخلاف المقام ، فإنه علم بثبوت الأمر الفعلي (١) ، كما عرفت (٢) ، فافهم (٣).

______________________________________________________

(١) أي : وهو حكم العقل بلزوم تحصيل العلم بالفراغ بعد العلم بالاشتغال.

(٢) أي : كما عرفت في تأسيس الأصل حيث قال : «فاعلم : أنه لا مجال هاهنا إلّا لأصالة الاشتغال».

(٣) لعله إشارة إلى كون الإطلاق المقامي رافعا لاحتمال دخل قصد القربة في الغرض ، ومعه لا مجال لأصالة الاشتغال ؛ لعدم جريان الأصل مع وجود الدليل الاجتهادي ؛ وهو الإطلاق المقامي.

أو إشارة إلى : أن مجرد الدخل في الغرض ـ مع عدم تعلق التكليف به ـ لا يقتضي الاحتياط. قال : في «منتهى الدراية» ما هذا لفظه : «ولا يخفى : أن المصنف «قدس‌سره» لم يتعرض لسائر الوجوه التي استدل بها على اعتبار التعبدية ؛ إذا شك فيها واقتصر منها على البحث عن إطلاق الصيغة. ووجهه : أن البحث عن اعتبار قصد القربة من المسائل الفقهية ، والذي يكون مرتبطا بالأصول هو البحث عن دلالة الصيغة ، وعدمها على ذلك.

خلاصة البحث في المبحث الخامس مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ المقدمة الأولى : في بيان الفرق بين الوجوب التوصلي والتعبدي هو :

أن الأول : ما يحصل الغرض منه بمجرد حصول الواجب ، ويسقط الأمر به بمجرد وجوده ، هذا بخلاف الثاني : أعني : الوجوب التعبدي ؛ حيث لا يحصل الغرض منه بمجرد وجوده ، بل لا بد في حصول الغرض منه وسقوط أمره من الإتيان به بقصد التقرب منه تعالى.

٢ ـ المقدمة الثانية : في بيان معنى التقرب : والمستفاد من كلام العلماء الأعلام أن للتقرب أربعة معان :

١ ـ قصد الامتثال والإتيان بالواجب بداعي أمره.

٢ ـ الإتيان بالفعل بداعي حسنه.

٣ ـ الإتيان بالفعل لكونه ذا مصلحة.

٤ ـ الإتيان بالفعل لله تعالى.

ثم التقرب بالمعنى الأول ـ المعتبر في الواجب التعبدي ـ مما لا يمكن أن يؤخذ في

٣٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

متعلق التكليف شرعا ؛ لاستلزمه الدور ، أو التكليف بغير المقدور ، فهو مما يعتبر عقلا في حصول الطاعة ، ويستحيل اعتباره شرعا للمحذور المذكور.

٣ ـ توهم اعتبار التقرب بالمعنى الأول شرعا ؛ من دون لزوم الدور أو التكليف بغير المقدور ، بمعنى : أن الدور يتوقف على وجود المتعلق خارجا ، فيقال : إنه لا حاجة في التقرب بمعنى : قصد امتثال الأمر إلى وجود المتعلق خارجا ؛ حتى يلزم الدور ، بل يكفي وجوده تصورا ، وحينئذ لا يلزم الدور ؛ إذ يمكن أن يتصور الآمر موضوع الحكم أعني : الصلاة المقيدة بداعي طبيعة الأمر ، ثم يأمر به.

ولا محذور في دخل قصد القربة في المتعلق ؛ لأن تصور الآمر الطبيعة الكلية المقيدة بامتثال أمرها لا يتوقف على وجود الأمر في الخارج حتى يلزم الدور.

هذا خلاصة تقريب التوهم ، وقد أجاب عنه بقوله : «واضح الفساد» أي : التوهم المذكور واضح الفساد ؛ ضرورة : أن ما ذكره المتوهم من أن الآمر يتصور الصلاة مقيدة بداعي الأمر وإن كان بمكان من الإمكان ؛ إلّا إنه يمنع الإتيان بها بداعي أمرها ؛ وذلك لعدم الأمر بالصلاة فقط ، فإن الأمر ـ حسب الفرض ـ تعلق بالصلاة مقيدة بداعي الأمر لا بذات الصلاة. ومن البديهي : أن الأمر لا يدعو إلى ما تعلق به ـ وهو الصلاة المقيدة بداعي الأمر ـ ولا يدعو إلى غيره ـ وهو ذات الصلاة ـ دون داعي الأمر ؛ لأن الصلاة دون داعي الأمر غير واجبة على الفرض.

٤ ـ إن قلت : ـ في دفع محذور عدم القدرة على الامتثال ـ إن الأمر إذا تعلق بالمقيد ينحل إلى أمرين ضمنيين ؛ أحدهما : تعلق بالذات التي كانت معروضة للتقييد.

وثانيهما : تعلق بالتقييد وهو داعي الأمر ، فحينئذ يتمكن المكلف من إتيان الصلاة بداعي أمرها الضمني ، فاندفع به إشكال تعذر الامتثال إلى الأبد.

«قلت : كلا». وحاصل الجواب : أن انحلال الأمر إلى أمرين ضمنيين إنما هو في الأجزاء الخارجية ، لا في الأجزاء التحليلية والمقام من قبيل الثاني ، فإن الأجزاء التحليلية لا تتصف بالوجوب لعدم وجود لها في الخارج ، فلا ينحل الأمر بالمقيد إلى أمرين حتى يصح إتيان المقيد بداعي أمره الضمني.

٥ ـ إن قلت : إن عدم الانحلال إلى أمرين ضمنيين إنما يتم فيما إذا أخذ قصد القربة شرطا ، حيث يكون الشرط من الأجزاء التحليلية العقلية.

٣٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وأما إذا أخذ جزءا فلا محالة ينحل الأمر إلى أمرين أو أكثر بقدر عدد الأجزاء ، فللصلاة حينئذ أمر ضمنيّ ويتمكن المكلف من إتيانها بداعي هذا الأمر الضمني.

قلت : أولا : يمتنع اعتبار قصد القربة جزءا للواجب ؛ لاستلزامه التكليف بغير المقدور وبأمر غير اختياري ؛ لأن قصد امتثال الأمر عبارة عن إرادة الفعل عن أمره ؛ بحيث يكون الداعي إلى الإرادة ذلك الأمر. ثم نفس الإرادة ليست اختيارية حتى يصح أن تقع في حيز الأمر ؛ إذ لو كانت اختيارية لكانت متوقفة على إرادة أخرى ، فيلزم تسلسل الإرادات ؛ وعليه : فلا يمكن أن يكون قصد القربة دخيلا على نحو الجزئية للمأمور به ؛ حتى يقال بانحلال الأمر إلى أمرين ضمنيين.

وثانيا : أن لازم ذلك أن يكون الأمر داعيا إلى نفسه ؛ لأن المفروض : وحدة الأمر ، فإذا كان الواجب مركبا من أجزاء ، وكان من جملتها الإتيان بداعي الأمر ؛ فالأمر بالكل هو بعينه أمر بالجزء فيلزم أن يكون الأمر داعيا إلى نفسه وهو مستحيل للزوم توقف الشيء على نفسه.

٦ ـ إن قلت : إن ما تقدم من لزوم المحذور إنما يصح فيما إذا كان اعتبار قصد الامتثال في المأمور بأمر واحد ، وأما إذا كان بأمرين ـ بمعنى : أن يكون هناك أمر متعلق بذات الصلاة مثلا ، وأمر آخر يتعلق بإتيانها بداعي أمرها الأول ـ فلا يلزم المحذور أصلا ؛ لا الدور ، ولا عدم القدرة على الامتثال.

وحاصل ما أفاد المصنف في الجواب : منع تعدد الأمر صغرى وكبرى.

أما صغرى : فلأننا نعلم بعدم تعدد الأمر أصلا.

وأمّا كبرى : فلعدم الحاجة إلى تعدد الأمر ؛ وذلك لأن الأمر في المقام لا يخلو عن أحد احتمالين.

أحدهما : حصول الغرض الداعي إليه بمجرد إتيان متعلقه ، بدون قصد الامتثال بأن يكون متعلقه واجبا توصليا.

وثانيها : بقاء الغرض على حاله ، وعدم حصوله بإتيان الفعل مجردا عن قصد الامتثال ؛ بأن يكون تعبديا ، فعلى الاحتمال الأول : يسقط الأمر بمجرد الإتيان بالفعل ولو بغير بداعي أمره ، فلا يبقى مجال لموافقة الأمر الثاني فيكون لغوا.

وأما على الاحتمال الثاني : فلا حاجة إلى الأمر الثاني المولوي شرعا ؛ وذلك لكفاية حكم العقل بذلك ، فإنه يستقل بإتيان المأمور به على وجه يحصل القطع بحصول

٣٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الغرض من الأمر وهو إتيانه بداعي الأمر ، فعلى كلا الاحتمالين لا حاجة إلى الأمر الثاني.

هذا كله فيما إذا كان التقرب المعتبر في العبادة بمعنى : قصد امتثال الأمر. وأما إذا كان بمعنى آخر من المعاني التي عرفتها سابقا ، فأمكن أخذه في المأمور به من دون لزوم محذور أصلا.

٧ ـ المقدمة الثالثة : في بيان التمسك بالإطلاق لإثبات التوصلية عند الشك في اعتبار قصد الامتثال ؛ فنقول : إنه لا مجال للاستدلال بالإطلاق على عدم اعتبار قصد الامتثال ؛ وذلك لما عرفت من : أن التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل العدم والملكة ، فيعتبر في الإطلاق : أن يكون قابلا للتقييد و ـ قد عرفت عدم إمكان التقييد ـ فحينئذ لا إطلاق حتى يتمسك به لنفي التعبدية.

ثم مقتضى القاعدة عند الشك في اعتبار شيء في المأمور به هو : الرجوع إلى أصالة الاشتغال دون البراءة ، ولو قيل بالبراءة في مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين ؛ وذلك للفرق بين المقامين ؛ لأن الشك في المقام يرجع إلى الشك في سقوط أمر المولى ؛ بعد العلم به .. هذا بخلاف مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر ؛ حيث يكون الشك فيها شكا في أصل التكليف بالنسبة إلى الزائد ، فيكون مرجعا للبراءة.

٨ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» : هو اعتبار قصد القربة ؛ بمعنى : قصد امتثال الأمر عقلي ، ولا يمكن أن يكون شرعيا ؛ لما عرفت : من استلزامه الدور أو التكليف بغير المقدور ؛ ولازم ذلك : عدم صحة التمسك بالإطلاق على عدم اعتبار قصد الامتثال عند الشك في اعتباره ، فلا وجه أيضا لاستظهار التوصلية من إطلاق الصيغة ، ولا لاستظهار عدم اعتبار الوجه ونحوه مما هو ناشئ من قبل الأمر من إطلاق المادة ؛ وذلك لما عرفت : من عدم تحقق الإطلاق أصلا ، فلا بد من الرجوع إلى الأصل العملي وهو أصالة الاشتغال دون البراءة ، وقد فصل في آخر البحث بين كون ما يحتمل دخله في كيفية الإطاعة مما يغفل عنه عامة الناس غالبا مثل قصد الوجه ، وبين ما يلتفت إليه العامة فيرجع إلى البراءة في الأول ؛ بمعنى : عدم اعتبار ما شك في اعتباره بمقتضى الإطلاق المقامي ، وإلى الاحتياط في الثاني لكون الالتفات بيانا.

هذا تمام الكلام في خلاصة البحث.

٣٦٩

المبحث السادس :

قضية إطلاق الصيغة (١) كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا ؛ لكون كل واحد مما يقابلها يكون فيه تقييد الوجوب وتضييق دائرته ، فإذا كان في مقام البيان ، ولم ينصب

______________________________________________________

مقتضى إطلاق الصيغة

(١) الغرض من عقد هذا المبحث : بيان ما هو مقتضى إطلاق الصيغة. يقول المصنف : إن قضية إطلاق الصيغة كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : الفرق بين كل من الوجوب النفسي والتعييني والعيني ، وما يقابل كل واحد منها.

وخلاصة الفرق : أن الوجوب الغيري المقابل للنفسي هو وجوب شيء لوجوب غيره ، كوجوب الوضوء الذي يقيد بوجوب الصلاة.

والوجوب التخييري المقابل للوجوب التعييني هو : وجوب شيء مع بدل ، فهو مقيد بما إذا لم يأت بالعدل والبدل ؛ نحو : خصال الكفارة.

والوجوب الكفائي المقابل للوجوب العيني هو : وجوب شيء يسقط بفعل الغير ، فهو مقيد بعدم إتيان المكلف الآخر ؛ كدفن الميت المسلم.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن مقتضى إطلاق الصيغة هو كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا ، وذلك لأن لكلّ ما يقابلها قيد وجودي. وأما الوجوب النفسي التعييني العيني : فكان وجوب شيء بلا أحد القيود ، فإذا تمت مقدمات الحكمة فإطلاق الصيغة يقتضي كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا ، لأن كل ما يقابلها يحتاج إلى مئونة زائدة كما عرفت ، هذا من دون فرق بين القول بأن مفاد هيئة الصيغة هو إنشاء مفهوم الطلب ، وبين القول بأن هيئة الصيغة لإنشاء النسبة وإيجاد مصداق الطلب ؛ بناء على إيجادية المعاني الحرفية.

وأما على الأول : فلأن الطلب المنشأ بالصيغة لما كان هو المفهوم ، فإطلاقه يقتضي عدم تقيده بقيد ؛ من كون الطلب مقيدا بطلب آخر ومترشحا منه ليكون الوجوب غيريا ، ومن وجوب غيره عدلا له ليكون تخييريا ، ومن عدم إتيان غيره به ليكون كفائيا ، فإن كل واحد من هذه الأمور قيد له يرتفع بالإطلاق.

وأما على الثاني : فلكفاية الإطلاق المقامي في استظهار النفسية وغيرها من الصيغة ، فعلى كل حال يصح أن يقال : إن إطلاق الصيغة يقتضي النفسية والعينية والتعيينية ، فإن الغيرية تقييد في الوجوب لكونه منوطا ـ بوجوب غيره ، والتخييرية ـ التي هي جعل

٣٧٠

قرينة عليه فالحكمة تقتضي كونه مطلقا ، وجب هناك شيء آخر أو لا (١) ، أتى بشيء أو لا (٢) ، أتى به آخر أو لا (٣) ، كما هو واضح لا يخفى.

المبحث السابع :

أنه اختلف القائلون بظهور صيغة الأمر في الوجوب وضعا أو إطلاقا ؛ فيما إذا وقع عقيب الحظر (٤) ، أو في مقام توهمه على أقوال : ...

______________________________________________________

العدل ـ تقييد للوجوب بقاء ، وكذا الكفائية فإنها تقييد للوجوب بقاء بعدم إتيان الغير ، فكل منها قيد ينفيه الإطلاق.

(١) كما في الوجوب الغيري ؛ حيث وجب لو كان هناك واجب آخر.

(٢) كما في الوجوب التخييري ؛ حيث لا يجب لو أتى بعدله وبدله.

(٣) كما في الوجوب الكفائي ؛ حيث إن الوجوب فيه مقيد بعدم إتيان الغير.

فحاصل البحث : أن مقتضى الإطلاق نفي القيود المذكورة. ولازم ذلك : كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا. هذا هو مختار المصنف في المقام ، ولا حاجة إلى تلخيص البحث.

في الأمر الواقع عقيب الحظر

(٤) الغرض من عقد هذا المبحث هو : بيان حكم الأمر الواقع عقيب الحظر. وقبل الدخول في البحث ينبغي بيان ما هو محل الكلام والنزاع فنقول : إن محل النزاع يتوقف على أمرين :

الأول : أن تكون صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب وضعا أو إطلاقا ؛ كما أشار إليه بقوله : «اختلف القائلون بظهور صيغة الأمر في الوجوب وضعا أو إطلاقا ...» إلخ.

الثاني : ما إذا وقع الأمر عقيب الحظر والمنع ، أو في مقام توهم الحظر. المراد بالتوهم : ما يكون جامعا بين الظن والاحتمال ؛ وهو : الشك المساوي والمرجوح أعني الوهم.

فلا يجري النزاع على القول بأن صيغة الأمر ليست ظاهرة في الوجوب ، بل ظاهرة في الاستحباب ، ولا فيما لم يقع الأمر عقيب الحظر. ومن مثال وقوع الأمر عقيب الحظر والنهي قوله تعالى في سورة المائدة آية ٢ : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) بعد قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) المائدة : ٩٥ ؛ حيث إن الأمر بالاصطياد واقع عقيب حرمة الاصطياد حال الإحرام. ومن مثال وقوع الأمر في مقام توهم الحظر أمر المولى عبده بالخروج من الدار ؛ في حال توهم العبد حرمة خروجه عن الدار.

٣٧١

نسب (١) إلى المشهور ظهورها في الإباحة. وإلى بعض العامة ظهورها في الوجوب. وإلى بعض تبعيتها لما قبل النهي ؛ إن علق الأمر بزوال علة النهي ، إلى غير ذلك (٢).

______________________________________________________

إذا عرفت محل النزاع فاعلم : أنه وقع البحث في أنه هل وقوع صيغة الأمر عقيب الحظر يكون موجبا لارتفاع ظهورها في الوجوب ، فلا تدل على الوجوب أم لا؟ بل كانت ظاهرة فيه كظهورها فيه قبل الحظر.

وبعبارة أخرى : هل يكون وقوع الصيغة عقيب الحظر من القرائن العامة النوعية الرافعة لظهورها في الوجوب أم لا؟ وفي المسألة أقوال قد أشار المصنف إلى بعض تلك الأقوال.

(١) هذا هو القول الأول : أي : «نسب إلى المشهور ظهورها في الإباحة» بمعناها الخاص ؛ كما هو المنسوب إلى صريح بعض كالمحقق القمّي «قدس‌سره» ، أو معناها العام. أي : القدر الجامع بين الأحكام الثلاثة ؛ وذلك لأن وقوع صيغة الأمر عقيب الحظر ، أو في مقام توهم الحظر قرينة عامة صارفة عن معناها الحقيقي الذي هو الوجوب ، وهذه القرينة تعيّن أحد المجازات وهو الإباحة.

والقول الثاني : ما أشار إليه بقوله : «إلى بعض العامة» أي : «نسب إلى بعض العامة» ؛ كالرازي والبيضاوي «ظهورها في الوجوب» ، واستدل عليه : بأن الأصل أن تحمل صيغة الأمر على معناها الحقيقي ؛ ما دام لم يوجد مانع يمنعها عنه ، والمانع هنا هو : الحظر المرتفع بالفرض ، فليس هناك مانع آخر لجواز الانتقال إلى الوجوب السابق بعد رفع الحظر.

والقول الثالث : ما أشار إليه بقوله : «وإلى بعض تبعيتها لما قبل النهي» أي : حاصل ما أفاده البعض كالعضدي من التفصيل ؛ بين ما إذا كان الأمر الواقع بعد الحظر معلقا بزوال علة النهي ، وبين ما إذا لم يكن كذلك.

فعلى الأول : يكون الحكم بعد النهي والحظر تابعا لما قبل النهي بمعنى : إن كان الحكم قبل الحظر هو الوجوب ، كان بعده أيضا هو الوجوب. وإن كان الإباحة فكذلك بعد الحظر. هذا بخلاف ما إذا لم يكن معلقا على زوال علة النهي فهو ظاهر في الوجوب بعد الحظر كما كان ظاهرا فيه قبله ، ومثال كون الأمر معلقا على زوال علة النهي قوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) فإن الأمر بالاصطياد معلق على الإحلال المضاد للإحرام ؛ الذي هو علّة عروض النهي عن الصيد ، فيفيد الاباحة التي هي حكم الصيد قبل النهي. وقوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) التوبة : ١٥ ؛ حيث إن الانسلاخ الذي هو : عبارة عن انقضاء الأشهر الحرم ؛ التي هي علة النهي ؛ فيفيد الوجوب الذي كان قبل الحظر والنهي.

(٢) أي : غير ما ذكر من التفاصيل المذكورة في المسألة.

٣٧٢

والتحقيق (١) : أنه لا مجال للتشبث بموارد الاستعمال ، فإنه قل مورد منها يكون خاليا عن قرينة على الوجوب أو الاباحة أو التبعيّة ، ومع فرض التجريد عنها ، لم يظهر بعد كون عقيب الحظر موجبا لظهورها في غير ما تكون ظاهرة فيه. غاية الأمر : يكون موجبا لإجمالها ، غير ظاهر في واحد منها إلّا بقرينة أخرى ، كما أشرنا (٢).

______________________________________________________

(١) التحقيق عند المصنف عدم صحة الأقوال التي ذكرها.

وحاصل ما أفاده المصنف في المقام : أنه لا دليل للقائلين بالإباحة والوجوب والتبعية إلّا موارد الاستعمال ؛ حيث تشبث كل واحد من أصحاب الأقوال المذكورة بجملة من موارد الاستعمال ، ولا مجال للتشبث بموارد الاستعمال ؛ لأن المدعى هو : كون نفس الوقوع عقيب الحظر قرينة على الاباحة أو التبعية أو غيرهما ، وليس الأمر في موارد الاستعمال كذلك لاحتفافها بالقرائن الخاصة كما أشار إليه بقوله : «فإنه قلّ مورد منها يكون خاليا عن قرينة على الوجوب ...» إلخ ، فلم تثبت دلالتها على كون مجرد وقوع الأمر بعد الحظر قرينة على ما ادعوه من الأقوال المذكورة.

فالاستدلال بموارد الاستعمال على تلك الأقوال ضعيف جدا ، فلا بد حينئذ إما من الالتزام بظهور الصيغة فيما كانت ظاهرة فيه قبل وقوعها عقيب الحظر أو الالتزام بإجمالها ، وعدم الحمل على شيء من المعاني المذكورة إلّا بقرينة خاصة ؛ كما أشار إليه بقوله : «إلّا بقرينة أخرى» أي : غير وقوعها عقيب الحظر ، فالقرينة الأخرى هي التي تعيّن المراد.

فإرادة أحد المعاني المذكورة منوطة بقرينة معيّنة له.

(٢) أي : أشرنا إلى وجود القرينة الخاصة في موارد الاستعمال.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

١ ـ محل النزاع هو ورود الأمر الظاهر في الوجوب عقيب الحظر.

٢ ـ والأقوال في هذا المورد وإن كانت كثيرة إلّا إن المصنف ذكر المهم منها وهي ثلاثة :

الأول : أن الأمر الواقع عقيب الحظر ظاهر في الاباحة.

الثاني : أنه ظاهر في الوجوب.

الثالث : أنه ظاهر في الحكم السابق على التحريم من وجوب أو إباحة أو غيرهما ؛ إن علق الأمر على زوال علة النهي.

٣ ـ والتحقيق في المقام : أنه لا دليل على تلك الأقوال ؛ بل كل مورد لا يكون خاليا

٣٧٣

المبحث الثامن :

الحق : أن صيغة الأمر مطلقا لا دلالة لها على المرة ولا التكرار ، فإن (١) المنصرف عنها ليس إلّا طلب إيجاد الطبيعة المأمور بها ، فلا دلالة لها على أحدهما ، لا بهيئتها ولا بمادتها ، والاكتفاء (٢) بالمرة ...

______________________________________________________

عن القرينة الخاصة ؛ على ما هو المراد من الوجوب أو الإباحة أو التبعية. وعدم القرينة الخاصة على تعيين المراد موجب لإجمالها.

٤ ـ رأي المصنف : هو قيام القرينة الخاصة على تعيين ما هو المراد ، وعلى فرض التجريد عنها تصبح صيغة الأمر مجملة ، فلا بد حينئذ من الرجوع إلى الأصل العملي من البراءة أو الاستصحاب.

في المرة والتكرار

ومحل الكلام : ما إذا لم تكن صيغة الأمر مقيدة بمرة أو تكرار ؛ فاختلفوا على أقوال ، وقد ذهب جمع من المحققين إلى عدم دلالة الصيغة على أحدهما. وآخرون : إلى أنها تفيد التكرار. وثالث : إلى المرة ، ورابع : إلى اشتراكها بينهما ، وخامس : إلى الوقف. وحيث إن هذه الأقوال الأربعة الأخيرة بمعزل عن التحقيق أضرب المصنف عنها ، وبيّن ما هو الحق عنده بقوله : «الحق : أن صيغة الأمر مطلقا» أي : حال كونها غير مقيدة بمرة أو تكرار «لا دلالة لها» أي : لصيغة الأمر «على المرة ولا التكرار».

(١) قوله : «فإن المنصرف عنها» ؛ تعليل لعدم دلالة صيغة الأمر على المرة والتكرار.

وحاصل التعليل : أن لصيغة الأمر هيئة ومادة ، ومفاد الهيئة هو : التكليف. ومفاد المادة هو : المكلف به ، فهي لا تدل بشيء من هيئتها ومادتها على المرّة والتكرار لأن مدلولها المادي هو : نفس الصلاة بلا قيد أصلا ، ومدلولها الهيئتي هو : طلب إيجاد الصلاة فقط ، فلا بد في استفادة المرة أو التكرار من قرينة خارجية.

(٢) هذا دفع للتوهم بتقريب : أن تحقق الامتثال بالمرة دليل على دلالة الصيغة عليها.

وحاصل الدفع : أن الاكتفاء بالمرة في تحقق الامتثال ليس لأجل دلالة الصيغة عليها ؛ بل لحكم العقل حيث إن انطباق الطبيعي على فرده قهري ، فيوجد الطبيعي المأمور به بفرده جزما ، فيحكم العقل بالإجزاء ، لأن المطلوب بالصيغة إيجاد الطبيعة الواقعة في حيّز الطلب ، وقد حصل ذلك بأوّل وجودها ، فلا بد حينئذ من الالتزام بالإجزاء وإلّا فلا

٣٧٤

فإنما هو (١) لحصول الامتثال بها في الأمر بالطبيعة ، كما لا يخفى.

ثم لا يذهب عليك (٢) : أن الاتفاق على أن المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا يدل إلّا على الماهية ـ على ما حكاه السكاكي (*) ـ لا يوجب كون النزاع هاهنا في الهيئة ـ كما في الفصول (**) ـ فإنه غفلة وذهول عن كون المصدر كذلك لا يوجب الاتفاق على أنّ مادة الصيغة لا تدل إلّا على الماهية.

______________________________________________________

يحصل الإجزاء بسائر الأفراد أيضا ؛ لاتحاد حكم الامثال فيما يجوز ولا يجوز.

وبالجملة : أن صيغة الأمر تنصرف بمادتها إلى مطلق الطبيعة ، وبهيئتها إلى مطلق الطلب ، فلا دلالة لها على المرة أو التكرار. نعم ؛ حيث إن الطبيعة تتحقق بفرد من أفرادها يكتفى بالمرة.

(١) أي : الاكتفاء بالمرة لتحقق الامتثال بالمرة ؛ لا لأجل دلالة الصيغة عليها.

(٢) هذا الكلام من المصنف ردّ على صاحب الفصول ؛ حيث خصّ مصبّ النزاع بالهيئة ، فلا بد من نقل كلامه قبل تقريب إشكال المصنف عليه فنقول : «إنه قال في الفصول ما لفظه : «الحق : أن هيئة الأمر لا دلالة لها على المرة ولا التكرار ...» إلى أن قال : «وإنما حررنا النزاع في الهيئة ، لنص جماعة عليه ، ولأن الأكثر حرروا النزاع في الصيغة ، وهي ظاهرة بل صريحة فيها ، ولأنه لا كلام لنا في أن المادة ـ وهي : المصدر المجرد عن اللام والتنوين ـ لا تدل إلّا على الماهية من حيث هي على ما حكى السكاكي وفاقهم عليه». انتهى موضع الحاجة من كلامه «رحمه‌الله».

وخلاصة الفصول هو : اختصاص النزاع بالهيئة ؛ بدعوى : أن مادة المشتقات هي المصدر ، ودلالته على مطلق الحدث من دون المرة والتكرار اتفاقي بين النحاة على ما حكاه السكاكي ، فنزاع المرة والتكرار يختص بالهيئة ، ولا يجري في المادة.

وحاصل ردّ المصنف عليه هو : أن الاتفاق على أن المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا يدل إلّا على الماهية ـ وإن كان صحيحا على ما حكاه السكاكي وفاقهم عليه ـ إلّا إنه مما لا يوجب حصر النزاع هاهنا في خصوص الهيئة ؛ وذلك لأن المصدر ليس مادة للمشتقات ؛ كي يوجب اتفاقهم على عدم دلالته إلّا على الماهية اتفاقهم على عدم دلالة صيغة الأمر أيضا إلّا على الماهية. واستدل المصنف «قدس‌سره» على عدم كون المصدر مادة لسائر المشتقات ـ بل امتناع كونه مادة لها ـ بمباينته معها بحسب المعنى كما تقدم

__________________

(*) مفتاح العلوم ، ص ٩٣.

(**) الفصول الغروية ، ص ٧١ ، س ١٧.

٣٧٥

ضرورة (١) : أن المصدر ليس مادة لسائر المشتقات ، بل هو (٢) صيغة مثلها ، كيف (٣)؟ وقد عرفت في باب المشتق : مباينة المصدر وسائر المشتقات بحسب المعنى (٤) ، فكيف بمعناه يكون مادة لها (٥)؟ فعليه (٦) : يمكن دعوى اعتبار المرة أو

______________________________________________________

في باب المشتق من إبائه عن الحمل ؛ بخلاف المشتق فإنه غير آب عن الحمل ، فكيف يكون المصدر بما له من المعنى مادة لسائر المشتقات مع إنه مباين لها؟

فالمصدر بهيئته ومادته أحد المشتقات ؛ إذ للهيئة المصدرية دخل في المعنى ، فحينئذ يمكن تصوير النزاع في دلالة الصيغة على المرة والتكرار في ناحية المادة كناحية الهيئة ، فلا معنى لقول الفصول باختصاص النزاع في هيئة صيغة الأمر. قوله : «لا يوجب» خبر ـ إن ـ في قوله : «إن الاتفاق» ، وردّ لكلام الفصول ؛ وقد عرفت ذلك.

(١) هذا تعليل لقوله : «لا يوجب الاتفاق».

(٢) أي : بل المصدر صيغة برأسها مثل المشتقات ، فله مادة وهيئة كالمشتقات.

(٣) أي : كيف يعقل أن يكون المصدر مادة للمشتقات؟ والحال : أن معناه مباين لمعنى المشتق كما عرفت ، ومع المباينة كيف يصح أن يكون مادة للمشتقات؟ أي : لا يصح ذلك.

(٤) أي : معنى المشتق اعتبر على نحو اللابشرط ، ومعنى المصدر اعتبر على نحو بشرط لا ، والمباينة بينهما أظهر من الشمس ؛ حيث إن اللابشرطية مقوّمة لمعنى المشتق ، وبشرط اللائية مقوّمة لمفهوم المصدر.

(٥) أي : فكيف يكون المصدر بمعناه المتباين على نحو البشرط اللائي مادة للمشتقات؟

(٦) أي : فبناء على ما ذكر ـ من عدم كون المصدر مادة للمشتقات ـ يمكن اعتبار المرة والتكرار في مادة الصيغة لا في هيئتها ، فلا معنى لما زعمه صاحب الفصول من اختصاص النزاع بالهيئة ، بل يمكن أن يقال : إن النزاع في المرة والتكرار يختص بمادة الصيغة على عكس ما زعمه صاحب الفصول.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن صيغة الأمر مشتملة على الجهتين وهما الهيئة والمادة ، ومفاد الهيئة هو : الحكم المتعلق بالمادة أعني : المأمور به ، فإذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الحكم وكل ما يكون من خصوصيات الحكم لا بد من أن يكون الدال عليهما الهيئة ، وكل ما يكون من خصوصيات المأمور به لا بد من أن يكون الدال عليها المادة. ومن المعلوم : أن المرة والتكرار هما من خصوصيات المأمور به ؛ لأن المرة والتكرار عبارة عن كمية الفعل المأمور به من حيث الكثرة والقلة ، ولازم ذلك : أنه لا بد أن يكون

٣٧٦

التكرار في مادتها كما لا يخفى.

إن قلت : (١) فما معنى ما اشتهر من كون المصدر أصلا في الكلام؟

قلت : (٢) مع إنه محل الخلاف معناه : أن الذي وضع أولا بالوضع الشخصي ؛ ثم

______________________________________________________

البحث في الدلالة على المرة والتكرار من ناحية المادة.

(١) هذا الإشكال متفرع على إنكار كون المصدر مادة للمشتقات وأصلا لها ؛ بتقريب : أن هذا الإنكار ينافي ما اشتهر بين أهل العربية من أن المصدر أصل في الكلام ؛ إذ معنى كون المصدر أصلا في الكلام أنه مادة لجميع ما يتركب منه من المشتقات.

(٢) قد أجاب المصنف عن هذا الإشكال بوجهين :

الأول : ما أشار إليه بقوله : «مع إنه محل الخلاف». والثاني : ما أشار إليه بقوله : «معناه : أن الذي وضع أولا بالوضع الشخصي».

وحاصل الوجه الأول : هو عدم تسالمهم على ذلك ؛ لذهاب الكوفيين إلى أن الأصل في الكلام هو الفعل ؛ وذلك لوجهين :

الأول : أن الفعل يقع مؤكدا ـ بالفتح ـ والمصدر مؤكدا ـ بالكسر ـ نحو : «ضربت ضربا» ؛ لأنه بمنزلة «ضربت ضربت» وهو أصل بالنسبة إليه ؛ إذ هو عامل ، والمصدر معمول ؛ مضافا إلى كون الفعل متبوعا والمصدر تابعا. ومن البديهي : أن العامل أصل والمعمول فرع ، كما أن المتبوع أصل والتابع فرع.

الثاني : أن إعلال المصدر يدور مدار إعلال الفعل وجودا وعدما ، ومن الواضح : أن المدار عليه أصل ، والمدار فرع. هذا ما ذهب إليه الكوفيون.

وأما البصريون فيقولون : بأن المصدر هو أصل الكلام ، واستدلوا بوجهين :

الأول : أن مفهوم المصدر واحد وهو الحدث ؛ ومفهوم الفعل متعدد وهو الحدث والزمان والواحد قبل المتعدد فيكون أصلا له.

الثاني : أن المصدر بمعنى : محل الصدور ؛ لأنه اسم مكان صيغة ، والفعل مأخوذ عنه فهو فرع له. فالحاصل : أن كون المصدر أصلا في الكلام ليس أمرا موردا للاتفاق ؛ بل هو محل الخلاف كما عرفت.

وأما الجواب الثاني : ـ وهو العمدة ـ فحاصله : أن المراد بكون المصدر أصلا ليس كونه مشتقا منه ومادة للمشتقات ؛ بل معنى كونه أصلا في الكلام : أن الذي وضعه الواضع أولا هو المصدر ثم بملاحظته وضع غيره من الهيئات الخاصة التي تناسب المصدر مادة ومعنى وضعا شخصيا أو نوعيا.

٣٧٧

بملاحظته وضع نوعيا أو شخصيا سائر الصيغ التي تناسبه ؛ مما جمعه معه مادة لفظ متصورة في كل منها ومنه بصورة ومعنى ؛ كذلك هو المصدر أو الفعل ، فافهم (١).

ثم المراد (٢) بالمرة والتكرار هل هو الدفعة والدفعات؟ أو الفرد والأفراد؟

______________________________________________________

مثلا وضع الواضع كلمة ـ الضرب ـ للحدث المنسوب إلى فاعل ما شخصيا ، ثم بملاحظته وضع هيئة ـ ضرب ـ نوعيا للفعل الماضي من كل مادة ؛ وإن كانت مؤلفة من حروف أخرى مثل ـ ن ص ر ـ فمعنى كون المصدر أصلا هو : إن ما يتصور أولا من مادة ـ ض ر ب ـ أو ـ ن ص ر ـ مثلا بصورة ، ثم تتصور بصور أخرى هو المصدر كما عليه البصريون ، أو الفعل كما عليه الكوفيون ، وليس معناه : كون المصدر بمادته وهيئته مادة للمشتقات ، وذلك من الأغلاط الواضحة ؛ وذلك لعدم انحفاظ المصدر لا بهيئته ولا بمعناه في المشتقات لمباينته لها هيئة ومعنى.

وكيف كان ؛ فوضع المصدر شخصي مطلقا ووضع المشتقات شخصي باعتبار مادتها. ونوعي بلحاظ هيئتها.

قوله : «سائر الصيغ» نائب فاعل عن «وضع» مبني للمفعول ، و «مما جمعه» بيان «سائر الصيغ».

قوله : «مادة لفظ ...» إلخ فاعل جمعه أي : كانت الجهة الجامعة بين الموضوع أولا وسائر الصيغ مادة اللفظ ، فهما مشتركان فيها ، كما في «الوصول ، ج ١ ، ص ٤٧٥».

(١) لعله إشارة إلى وجوب حمل كلامهم على ما ذكر من : أن المراد بالأصل هو الأصل بمعنى : المقيس عليه في مقام الوضع ؛ بمعنى : أن الواضع وضع أولا المصدر ، ثم قاس سائر المشتقات عليه وذلك بقرينة دعوى الكوفيين بأن الفعل هو الأصل ؛ إذ لا يمكن أن يراد منه : أن الفعل مادة للمشتقات بالمعنى الحقيقي.

وكيف كان ؛ فإنه لا بد من توجيه كلامهم : بأن المصدر أصل في الكلام بما ذكر ؛ لامتناع أن يكون المصدر بمادته وهيئته مادة للمشتقات ، كما يمتنع أن يكون الفعل كذلك.

(٢) أي : المراد بالمرّة والتكرار هل هو المرّة بمعنى الدفعة أو الفرد ، والتكرار بمعنى الدفعات أو الأفراد.

وبعبارة أخرى : أنه فرق بين الفرد والأفراد ، وبين الدفعة والدفعات ؛ إذ الفرد : عبارة عن وقوع الفعل غير متعدد ـ سواء كان في زمان واحد أو في أزمنة متعددة كما في الفرد الممتد ـ والأفراد : عبارة عن وقوع الفعل متعددا ؛ من غير فرق في الزمان بين الواحد والمتعدد أيضا ، والدفعة : عبارة عن وقوع الفعل في زمان واحد متعددا كان الفعل أو غير

٣٧٨

والتحقيق : (١) أن يقعا بكلا المعنيين محل النزاع ؛ وإن كان لفظهما ظاهرا في المعنى الأول. وتوهم : أنه لو أريد بالمرة الفرد لكان الأنسب ، بل اللازم أن يجعل

______________________________________________________

متعدد ، والدفعات : عبارة عن وقوع الفعل في أزمنة متعددة سواء كان فعلا واحدا أم متعددا.

وعلى هذا يتحقق : أن بين كل من الدفعة والفرد ، وكل من الأفراد والدفعات عموما من وجه ، فلو جاء بإناءين في زمانين تحقق الفردان والدفعتان ، ولو جاء بإناءين في زمان واحد تحقق الفردان دون الدفعتين ، ولو جاء بإناء واحد في زمان ممتد تحقق الدفعتان دون الفردين ، كما في «الوصول إلى كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٤٧٦».

هل هناك ثمرة فقهية أم لا؟ الجواب نعم ؛ تظهر الثمرة بين الدفعات والأفراد فيما إذا قال المولى لعبده : «أعتق رقبة» ، وهو أعتق رقابا متعددة دفعة واحدة ، فعلى الدفعات لا يجزي ، وعلى الأفراد يجزي ، لأن عتق الأفراد يتحقق في ضمن عتق الرقاب ، ولا تتحقق الدفعات في ضمن دفعة وتظهر الثمرة بين الدفعة والفرد أيضا في المثال المذكور فعلى القول بالدفعة يقع الجميع على صفة المطلوبية ، وعلى القول بالفرد لا يكون المطلوب إلّا واحد منها ، والباقي زائد على المطلوب.

(١) هذا الكلام من المصنف ردّ لصاحب الفصول والقوانين ؛ وذلك أن فيما هو المراد بالمرة والتكرار هنا احتمالات ، بل أقوال :

الأول : أن المرة بمعنى : الدفعة. والتكرار بمعنى الدفعات هو محل الكلام.

الثاني : أن المراد بالمرة : الفرد. وبالتكرار : الأفراد.

الثالث : أن يكون كلاهما محل النزاع.

والأول : ما استظهره صاحب الفصول.

والثاني : ما استظهره صاحب القوانين.

والثالث : هو مختار المصنف ، فيكون ما اختاره المصنف ردّا للفاضلين.

قال في الفصول : إن المراد هنا بالمرة والتكرار هل هو الفرد والأفراد أو الدفعة والدفعات؟ ما لفظه : «والتحقيق عندي هو الثاني ؛ لمساعدة ظاهر اللفظين عليه». إلى أن قال : «مع إنهم لو أرادوا بالمرة الفرد لكان الأنسب ؛ بل اللازم أن يجعل هذا المبحث تتمة للمبحث الآتي» يعني بالمبحث الآتي : بحث تعلق الأوامر بالطبائع أو بالأفراد ، فكان المبحوث عنه فيه هكذا هل الأمر متعلق بالطبيعة أو الفرد؟ وعلى القول بتعلقه بالفرد هل هو يقتضي الفرد الواحد أو الأفراد فيكون نزاعنا هذا جاريا على قول واحد من قولي تلك المسألة لا على قوليها جميعا أي : حتى على القول بتعلقه بالطبيعة؟

٣٧٩

هذا المبحث تتمة للمبحث الآتي ؛ من أن الأمر هل يتعلق بالطبيعة أو بالفرد؟. فيقال عند ذلك وعلى تقدير تعلقه بالفرد : هل يقتضى التعلق بالفرد الواحد أو المتعدد ، أو لا يقتضي شيئا منهما؟ ولم يحتج إلى إفراد كل منهما بالبحث كما فعلوه ، وأما لو أريد بها (١) الدفعة ، فلا علقة بين المسألتين ـ كما لا يخفى ؛

______________________________________________________

وحاصل كلام الفصول في المقام : أنه استدل على ما استظهره بوجهين :

الأول : ظهور المرة والتكرار في الدفعة والدفعات وهذا ما أشار إليه بقوله : «وإن كان لفظهما ظاهرا في المعنى الأول» أي : في الدفعة.

الثاني : أن كل مسألة لا بد من أن تجري على جميع تقادير المسألة الأخرى ؛ بأن يكون بينهما عموم من وجه ، وبين الدفعة والمسألة الآتية كذلك ؛ إذ كل من القائل بالدفعة والدفعات يمكن أن يقول بتعلق الأوامر بالطبيعة وبالفرد وبالعكس ، وليس كذلك لو كان المراد من هذه المسألة الفرد ؛ إذ على تقدير أن يقال في هذه المسألة بالفرد ؛ لا يمكن أن يقال في المسألة الآتية بالطبيعة.

هذا ما أشار إليه بقوله : «وتوهم أنه لو أريد بالمرة الفرد ...» إلخ.

وحاصل هذا التوهم من الفصول : أنه ـ بناء على إرادة الفرد من المرة ـ يلزم جعل هذا البحث تتمة للمبحث الآتي من أن الأمر متعلق بالطبيعة أو الفرد ؛ بأن يقال : إنه على القول بتعلق الأمر بالفرد هل تدل صيغة الأمر على كون المطلوب فردا واحدا أم أفرادا متعددة؟ ومنشأ هذا التوهم هو : وحدة العنوان أعني : الفرد في المسألتين ، وظهور كونه في كلتيهما بمعنى واحد ، وهو ما يقابل الطبيعة ، كما في «منتهى الدراية ، ج ١ ، ص ٥٠٧».

(١) أي : وأما لو أريد بالمرة الدفعة «فلا علقة بين المسألتين» أي : مسألة المرة والتكرار ، ومسألة تعلق الأوامر بالطبائع أو الأفراد.

ووجه عدم العلقة بينهما بحيث يصحّح تعدد البحث هو : أنه بناء على إرادة الدفعة والدفعات من المرة والتكرار يجري هذا البحث على كلا القولين في تلك المسألة ؛ بأن يقال بناء على تعلق الأمر بالطبيعة : هل تقتضي الصيغة مطلوبية الطبيعة دفعة أو دفعات ، وفي وقت أو أوقات؟ وعلى القول بتعلقه بالفرد : هل تقتضي الصيغة اعتبار الدفعة في مطلوبية الفرد أو الدفعات في مطلوبية الأفراد ، أم لا تقتضي شيئا منهما؟

وهذا بخلاف تفسير المرة بالفرد ؛ فإنه لا يكون تتمة لتلك المسألة ؛ بناء على تعلق الأمر بالطبيعة ، إذ لا يصح أن يقال حينئذ : هل الصيغة تدل على مطلوبية الفرد أو

٣٨٠